#1
|
|||
|
|||
قصة ذي القرنين والمنهج القرآني في استعمار البلدان
الاستعمار هو مصطلح عربي فصيح يُستخدم للبناء والإعمار والنهوض؛ قال تعالى: ﴿ وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحًا قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾ [هود: 61]؛ ومعنى الاستعمار في الآية هو: طَلَبُ العِمارة.
* أما الاستخدامُ المعاصرُ له فهو يعني: احتلالَ الدول القوية للدول الضعيفة، و*** أهلها وتشريدَ مَن لم يُ*** منهم، وتدميرَ بلادهم وسرقةَ خيراتهم وإبقاءَهم تحت طائلة الذُّلِّ والفقر والمرض، وعرقلةَ نهوضهم علميًّا وأدبيًّا وطبيًّا... وغير ذلك. فتبقى الدولُ المستعمَرَةُ تتمضَّخ في مستنقعات التخلُّف، وما إنْ تفكر في التحرر والنهوض إلا يسارع مستعمروها (محتلوها) إلى إخضاعها بشتى الطرق مِن تخويفٍ وتجويعٍ وتقتيلٍ وتفريق. * وهنالك من الأدلة التاريخيَّة الكثير من الأمثلة المخزية والمشينة التي نجد عفنها يتطاير إن قَلَبْنَا مزابل التاريخ، وتكاد آذاننا تُصَمُّ من صيحات أهلها واستغاثاتهم التي بقي صداها يدوي بالرغم من مرور السنين عليها. فما فعله هولاكو ومن جاء بعده من طواغيت الدول الغربية التي حكمت بالحديد والنار نماذج حيَّة للاستعمار (الاحتلال)، والتاريخ يعيدُ نفسَه، وما زال الحكم للأقوى. * والاستعمار (الاحتلال) مستمرٌّ، ولكنه يبدأ بخبثٍ تحت مسميات مختلفة مِن: تحريرٍ، أو قضاءٍ على أسلحةٍ فتاكةٍ، أو ردعٍ للمعتدين من الدول الصغيرة على جيرانها، ولكن السببَ الحقيقيَّ وراءَ كلِّ هذه الاستعمارات لا يتعدَّى سببين: دينيًّا، ودنيويًّا. كانت الحال هكذا، واستمرت وستبقى إلى قيام الساعة، حتى إن ملكةَ سبأ سَطَّرَتْ بكلامها ديدنَ الملوك والجبابرة إذا أرادوا أن يحتلوا بلدة حين قالت: ﴿ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ [النمل: 34]، وهذا هو السائد في كلِّ زمان ومكان، ولكن هل يُعقلُ أنْ يسكت القرآن عن حقيقة كهذه؟ وألا يسلط الضوء عليها؟ ولا يجعل لها منهجًا منظمًا كحاله مع جميع شؤون الحياة الأخرى. * حين تُمعنُ النظر في سورة الكهف تجد الكثير من العِبَر، ولكن ما يهمنا هنا يبدأ من الآية الثالثة والثمانين حين تبدأ قصة ذي القرنين، فتبدأُ القصةُ بالتساؤل عنه، وسرعان ما يأتي الجواب الربانيُّ ببيان شأنه: ﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ﴾ [الكهف: 84]؛ أي إنه بلغةِ زماننا: أعطاه الله أسبابَ السيطرةِ والسَّطوةِ على البلدان واستعمارِها، فهل استعمرها كما تُستعمر البلدان الآن؟ لننظر في الآيات الجليلات بُغية العثور على جوابٍ لهذا السؤال. * الاستعمار في قصة ذي القرنين على ثلاثِ مراحل، في كل مرحلة منها دروس مختلفةٌ، واستعمارٌ من نوع فريدٍ. الاستعمار الأول: كان حين تَوَجَّه نحو مغرب الشمس؛ أي: نحو أقصى نقطة في الأرض من الممكن أن يصلها، فبلغها وَوَجَدَ أن الشمسَ تَغرُبَ في منطقة طينية يخال للناظر كأنَّ الشمس تدخل عينًا حمئة فتغيب. * وهذه المنطقة مما سبق أن استولى عليها الظلمة، فَأَلْهَمَ اللهُ ذا القرنين بأنَّه مخوَّلٌ في تصرفه، إمَا أنْ يعذبهم، وإمَّا أنْ يَعفوَ عنهم، فصدر الحكم من المستعمِر العادل: ﴿ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ﴾ [الكهف: 87 - 88]. * وهكذا نجد أَرِيجَ العدالةِ وعبيرها يفوحان من كلماته، فهو مستعمِرٌ حقيقيٌّ، يُريدُ أنْ يَنشر العدلَ في البلد المظلوم، ويُزيحَ الظلمة، ويُعطيَ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، وماذا بعد ذلك؟ هل يبقى ذو القرنين حاكمًا في هذه البلاد التي حررها من العبودية والطغيان، يحكمهم بنفسه، ويتمتع بخيراتهم؟ * كلا، لم يفعل ذلك، بل تركهم يَحكمون أنفسَهم بأنفسهم بعد أنْ بيَّنَ لهم أُسَسَ العدالةِ في الحُكم من غير أن يمدَّ يده إلى ثرواتهم وخيراتهم، ومِن ثمَّ شدَّ الرِّحال بما آتاه الله مِن أسباب القوة والمَنعَة والعلم وحبِّ الاستكشاف للدنيا، وبرفقته قوةٌ عسكريةٌ ذاتُ عِدة وعُدَدٍ، فاستمرَّ بالمَسير يَنشُر الخيرَ حيثما حلَّ، حتى بلغ مطلع الشمس، وهو محل الاستعمار الثاني الذي نروم تأخير الكلام عنه. * الاستعمار الثالث: بين السدين: استعمر ذو القرنين في رحلته الثالثة بلادَ ما بين السدين، ووجد هنالك أناسًا يتكلمون لغتهم الخاصة ولا يفهمون لغة غيرهم، ولكن ذا القرنين بما آتاه الله من علم وحكمة استطاع أن يفهمهم، وعلم أنهم مظلومون، وظُلَّامُهم قومٌ ينتظرون خَلف الجبال حتى يأتي موسمُ الحصاد فيهجمون عليهم ويأخذون جميع ما زرعوا، في***ون ويحرقون ثم يرحلون، وهذا ديدنهم في كل عام، حتى أجهدوا القوم، فرأى الضعفاء في ذي القرنين الملاذ الآمن، والفرج المنتظر، فعرضوا على ذي القرنين المال مقابل أن يخلصهم من ظلم يأجوج ومأجوج. * وهنا تظهر شخصية ذي القرنين الرجل المؤمن الصالح الذي اختاره الله من بين عباده وأكرمه غاية الإكرام بكل ما يحتاجه وتشتهيه نفسه، فلم يتكبَّر ولم يتجبَّر ولم يطمع في سفاسف الدنيا، بل بقي همُّه الأكبر إسعادَ الناس وإزالةَ المشقةِ من حياتهم، فعمل لهم ذو القرنين ما أرادوا، ولكن بأيديهم ليعلِّمَهم كيف يَعملون، وكيف يمكن أن يتخلصوا من الظلم؛ ﴿ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ﴾ [الكهف: 96]. * ثم كان يضعُ اللمسات الأخيرة بيديه ليكمل لهم العمل على أتمِّ وجه، فكان السدُّ معجزةً في البناء والإتقان، ونحن هنا لسنا بصدد معرفة كيفية بناء السدِّ ومواده وطبقاته وغير ذلك، لكن ما يهمنا هنا هو أن نتعلم من ذي القرنين أن من آتاه الله القوة الجسدية والعسكرية والعلم والحكمة والحُكم والمال، يجب أن يكون هذا ديدنَه فيبحث في البلدان عن المظلومين والفقراء والمعدمين ليكون لهم عونًا، وأن يدبِّرَ لهم أمور حياتهم ويعلمهم كيف يعيشون، وأن يأخذ حقَّ المظلوم من الظالم، ثم يغادرهم إلى غيرهم، وكما قيل قديمًا: بَدَلَ أن يصطاد لهم سَمَكَةً يُعَلِّمُهُمْ كيف يصطادونها، وهذا ما فعله ذو القرنين معهم. * وبعد الرحلة الأخيرة لذي القرنين آن لنا أن نعود إلى الاستعمار الثاني والمحطة الثانية التي وقفنا عندها، والتي تركنا الحديث عنها لنعود إليها بعد أن فهمنا شخصية هذا البطل أكثر، وتدبرنا صنيعه مع الأمم. قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 90، 91]. * والحديث القرآني عن هذه المرحلة جاء مقتضبًا وتلميحًا فقط، وبالرغم من كلِّ ما قيل ونقل من أحاديث وحكايات، وأحيانًا خرافات، فإنَّ كلَّ ما ذكر لا يتعدَّى كونه تخمينات واجتهادات، فالحقيقة القرآنية هي أنهم قوم لم يجعلِ الله لهم من دون الشمس سترًا، فهل كان انعدام الستر لانعدام الملابس أو الأشجار أو البناء أو الجبال؟ هذا ما لا يمكن الجزم به. أما ما يمكن الجزم به هو أن هؤلاء القوم كانوا يتأذون بالشمس، وأن ذا القرنين أعانهم في ذلك، وفكَّ كُربَتَهُم، وهذا يُعلم قياسًا على عمله في المرحلة الأولى والأخيرة. * أما حقيقةُ عمله وكيفيته فهذا ما لا يعلمه إلا الله، ولو كثرت فيه الأقاويل؛ لأن الله تعالى قد نسب علم ذلك إلى نفسه بقوله: ﴿ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 91]؛ أي: إن علمه محيط به، ولا ينفذ منه إلى أحد من العالمين، فلا داعيَ أن نستعين بالخرافات والأساطير؛ لأنها لا تهمنا، ما يهمنا هو أن الاستعمار يكون بمساعدة كلِّ محتاج، وقضاء حاجته له دون أجر أو منة عليه، فالأعمال لله ومن أجل رضاه. * بهذا الاستعراض السريع يتبيَّن أن منهج القرآن في استعمار البلدان هو أن تُغِيثَ الدولُ القوية ذات العدة والعدد الدول المنكوبة والمستضعفة، وأن تمدَّها بكل ما تحتاجه من مال ومؤنة، وأن تدرب أبناءَهم على طُرق العيش القويم، ومن ثم تتركهم لكي يُكملوا مسيرةَ حياتهم بأنفسهم. وفي الختامِ نسألُ الله أن يهدينا رشدنا، وأن يهدي الحكام من أولي القوة إلى استعمار البلدان، وعدم استدمارها وسرقتها، إنه على ما يشاء قدير. * وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم د. شيلان محمد علي القرداغي
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|