اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > التاريخ والحضارة الإسلامية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 23-07-2017, 02:56 PM
abomokhtar abomokhtar غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,687
معدل تقييم المستوى: 28
abomokhtar is just really nice
Impp التوحيد والحضارة الإسلامية

التوحيد والحضارة الإسلامية
العقيدة الإسلامية والإيمان بالله وبأركان العقيدة الإسلامية
المصدر الثالث للحضارة الإسلامية

يقصد بالعقيدة الإسلامية: الإيمان؛ أي التصديق الجازم بالله وبوحدانيته، وبما يجب له في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وبكل ما جاءت به النصوص من أمور الغيب وأخباره (والبعث والحساب والجنة والنار)؛ مع التسليم له تعالى في الحكم والأمر والقدر والشرع... وللرسول بالطاعة والتحكيم والاتباع في كل ما أمر به أو نهى عنه عليه الصلاة والسلام... اتباعاً بالقلب والقول والعمل.
*
وتتلخَّص عقيدة المسلم الإيمانية في مبادئ بسيطة واضحة لا غموض فيها ولا التواء، وهي:
أولاً: لا إله إلا الله؛ أي الوحدانية المطلقة المنزهة عن كل مظاهر الشرك.
ثانياً: محمد رسول الله وخاتم النبيين، عليه الصلاة والسلام.
ثالثاً: الاعتقاد في نبوة كل من ورد ذكرهم في القرآن من الأنبياء والمرسلين وفي نبوة غيرهم ممن لم يرد ذكرهم وصحت نبوتهم: أو بتعبير وجيز (الإيمان بمبدأ الوحي والنبوة) من ناحيتي القوة (الإمكان) والفعل (الوجود).
رابعاً: الإيمان بالكتب السماوية من ناحية أصل التنزيل ونبذ ما حرف منها؛ مما لا يستقيم مع منطق العقل وقيم الدين وشرف الأنبياء وتنزيه الله سبحانه وتعالى.
خامساً: الإيمان بالملائكة، على النحو الذي وصفهم الله به في القرآن الكريم، ووصفتهم به السنة النبوية الصحيحة.
سادساً: الإيمان بالبعث والحساب والثواب والعقاب والجنة والنار والقضاء والقدر: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾ [البقرة: 285].
*
الله... الواحد:
إن الله في عقيدة المسلم لا يشبهه البشر في شيء ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]. ﴿ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص].
إنه سبحانه وتعالى: خالق كل شيء: ﴿ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ [الزمر: 62، 63].
والعليم بكل شيء: ﴿ اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴾ [الرعد: 8، 9] ﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 59].
والمنعم بكل شيء: ﴿ اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾ [غافر: 64].
ومبدع كل شيء: ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لاَ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 101- 103].
*
وتنزيه الله عن كل شبهة تجسيم أو تشبيه حقيقة (أساسية) من حقائق التصور الإسلامي. كما أن تفرد الله - سبحانه - بكل حقوق الربوبية الواحدة حقيقة أساسية في هذا التصور كذلك.
فهو - سبحانه - بريء من كل ما تنسبه إليه التوراة من أنه كان يتعب ويستريح، أو كان يصارع عبده يعقوب، أو تمثل في صورة بشر، أو يظلم جنسا من البشر لحساب *** آخر... أو يحزن أو يندم... إلى آخر هذا الزيف من التصورات الساذجة التي لا تليق بجلال الله... تعالى - سبحانه - عن ذلك علواً كبيراً.
*
كما أنه - سبحانه - بريء من الولد وما يتبعه، قبل وبعد من مشاعر وأعمال؛ فالخلق كلهم عبيده وعياله، وهو يصطفي منهم من يشاء، ومقياس تفاضلهم جميعاً واحد...
وحاشاه أن يتحد مع أحد، أو أن يقترب إلى درجة ألوهيته أحد، أو أن يتجاوز أحد - مهما كان - درجة عبوديته - سواء كان عيسى أم محمد أم إبراهيم أبا الأنبياء - فكلهم عبيده ورسله، وهذا أكبر فخرهم وشرفهم.
وحاشاه - سبحانه - وهو الواحد الأحد المتفرد أن يرضى بعبودية المشاعر ويتنازل عن عبودية السلوك... أي أن يقبل الأعمال المتصلة بالآخرة، ويتنازل عن أعمال الدنيا... ولأي شيء جاء الدين إذن؟! ألم يأت الدين للدنيا... نظاماً ومشاعر معاً.
وإن مقتضى وحدانيته الحقة - سبحانه - أن يفرد بالعبادة؛ فلا يُركع ولا يُسجد لسواه، ولا يؤله غيره.
وإن مقتضى هذه الوحدانية الحقة، كذلك، أن تخضع أعمال الناس لحكمه - سبحانه - دون شريك من سلطة بابوية أو من (مجلس قانوني) أو (تشريع وضعي)؛ لا يحيط بالبناء الفطري الإنساني؛ فالحكم من مقتضى عبوديته، وصدق القرآن الكريم: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50].
*
وهكذا.. فهو توحيد مطلق ممتد، ومنساب، في عالم المشاعر والسلوك، وليس في هذا التوحيد شركاء ولا أنداد، سواء سموا بهذه الأسماء أم تلفعوا بأردية قانونية أو جدلية أخرى.
والحق أن الإيمان بالله وإفراده - سبحانه - بالوحدانية والربوبية ليس مجرد إيمان قلبي أو تصور فكري بل هو يقين داخلى وتفاعل يجعل التوحيد المطلق والإيمان الكامل هو الروح السارية والقوة الموجهة لكل أعمال الإنسان... فيصبح الإبداع البشري الخير، أيا كانت ميادينه، صلاة خاشعة في محراب الكون لمن خلقه ويرعاه... الله الواحد القادر المهيمن.
*
فإذا غاب هذا المفهوم للتوحيد، أو تغبشت صورته، فلا عاصم للإنسان من عبادة عجل السامري - عبادة الذهب - كما فعل قدماء بني إسرائيل... أو عبادة اللذة والشهوات واللذات والمال والأشياء، كما هو حال الحضارة الغربية (المسيحية) الآن؛ تلك الحضارة التي قال فيها نفر من أبنائها: إن أهلها يعبدون (البنك) ستة أيام في الأسبوع، ثم يذهب نفر منهم إلى الكنيسة في اليوم السابع، وذلك دون أن تغيب صورة (البنك) عنهم أثناء القداس؟
ولقد كان التوحيد الإسلامي - وما يزال - هو سبيل هوية الأمة، ومن ثم توحيد موقفها الفكري في العقائد والشرائع، في الثوابت والأصول والأركان... وتبعاً لذلك، وانطلاقاً منه، السبيل لتوحيد موقفها الفلسفي والمعرفي في خضم الصراعات والتحديات الحضارية التي أحاطت وتحيط بها[1].
*
موقع الإنسان في العقيدة الإسلامية وعلاقته بالكون:
لم يخلق الله الإنسان عبثاً ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ﴾ [المؤمنون: 115]؛ بل كرمه، وحدد له هدفاً يجب أن يسعى إليه بأساليب مختلفة؛ يرضى عنها الله في كل حياته: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56] وذلك انسجاماً مع لغة الكون الذي سخره الله له: ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾ [الإسراء: 44] ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ﴾ [الإسراء: 44]؛ فهو في عبادته متناغم مع لغة الكون كله، مع أنه الأجدر بالعبادة الشاملة؛ لأنه المستخلف عن الله لعمارة الأرض باسم الله.
ولا يفهم مما بسطنا القول فيه عن الإيمان بالله وتوحيده، ونفي كل مظاهر الشرك عنه- سبحانه- نفي الإنسان وأنه مجرد ذرة تافهة في الفضاء - كما يقول بعضهم - فلئن كان الله سبحانه وتعالى هو الواجد الخالق المعبود؛ فإن الإنسان هو عبد الله المصطفى لعمارة هذا الكون؛ اصطفاء كانت تتمناه الملائكة: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30]؛ لكنه مع عبوديته ليس الحقير الذي يكمن خلاصه في الفناء والامِّحاء - كما تقول الهندوسية وغيرها - لأنه سيد في الكون، سخر الله له ظواهره وقواه، لكنه أيضاً ليس سيد هذا الكون - كما تقول المذاهب المادية واللادينية - وإنما هو سيد فيه، وعبد لله فيه أيضا، وليس عبداً لأية قوة أخرى، وسيادته في هذا الكون (نعمة) أنعم بها عليه سيد هذا الوجود، تكريماً له، وتمكيناً له من القيام بمهام الاستخلاف في عمارة الكون وترقيته[2].
*
لقد خلق الله الإنسان وسلَّحه - لتمكينه من القيام بمهام الاستخلاف - بأوامر تكوينية فطرية، وبأوامر تشريعية وعبادية، وترك له في المقابل مساحة لحرية الإنسان؛ هي مناط الثواب والعقاب، في تفاعله - إيجاباً وسلباً - مع القوانين الفطرية والكونية والتشريعية.
وفي ظل هذه الرؤية الإسلامية لعلاقة الإنسان بالكون... والأوامر الإلهية الكونية والتشريعية؛ يتجلى حظ الإنسان المتاح له من الحرية والإرادة، وتتضح (المعادلة) الإنسانية المتوازنة، القائمة على تقنين الحرية من جانب، ورفض نظريات الحتمية الجبرية التاريخية أو القدرية من الجانب الآخر.
*
وليس أروع من القرآن الكريم، وهو يرفض الحتمية الجماعية، أو الجبرية الفردية فيوجه النظر إلى أنه لا حتمية هنا ولا هناك، وإلا انعدم معنى (المسؤولية) وانعدم -بالتالي- معنى الثواب والعقاب، يقول القرآن الكريم: ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 134].
فليس الإنسان - لأنه عبد الله، الخاضع لقدر الله وشرعه - مجبراً أو آلة تحركها أية عوامل، وإنما - هو قبل أي مؤثر - المسئول الأول عن صناعة الحضارة، وهو المحرك الأول للحضارة في مرحلة نموها واستمرارها وازدهارها، وفي مرحلة أفولها أيضاً.
لكن ذلك لا يعني أن يتعامل الإنسان على أنه وحده في هذا الكون، وأنه حر في أن يحطم كل (نظام) ويتمرد على كل أصول عقلية أو قانونية؛ كسائق السيارة المجنون الذي يعتقد أن إشارات المرور إنما هي قيود وأصفاد، ويرى أن تحقيق حريته يقتضي حرية الانفلات من هذه القواعد المرورية.
*
إن هذه الحرية الفردية اللامبالية المستغلة مرفوضة في شرع الله وفطرته؛ لأنها تعني العشوائية التي هي سلب للعقل والقانون، ومن الواضح أن (حرية اللامبالاة الفردية) هذه تقضي على (حرية المجموع) من جانب، وتقضي على المسئولية الخلقية من جانب آخر.
﴿ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ [الزمر: 62، 63].
﴿ وَللهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وكَرْهاً ﴾ [الرعد: 15] ﴿ وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴾ [الروم: 26]
كما ينبغي على الإنسان - كذلك - ألا ينسى أنه محكوم بسنن ونواميس إلهية تفوق طاقاته وقدراته جميعا، وبدونها لا يمضي حق وعدل، ولا يستقيم نظام كوني ولا وجود بشري، ولا تتحقق حكمة الله سبحانه وتعالى من تسيير الكون، والخلائق جميعا وفق طرائق محددة؛ تؤول بهم إلى الأهداف التي رسمها علم الله المطلق، ورفعتهم إليها إرادته التي لا راد لها[3].
*
الكون: صداقة للإنسان ودلالة على الخالق:
وإذا كانت هذه هي طبيعة العلاقة بين قدرة الله وإرادة الإنسان في الفعل الحضاري؛ فما حقيقة العلاقة بين الإنسان والطبيعة التي هي ركن أساسي من أركان العملية الحضارية؟
إن الطبيعة بالنسبة للإنسان هي مجاله، وهي بيئته، وهي مخلوقة من أجله، وإن جمالها وأهميتها وعطاءها الحق لن يتجلى إلا إذا سخرها الإنسان وأعمل فيها عقله ويده منضبطاً بشرع الله... والطبيعة من غيره جماد وفوضى وتدمير أحياناً.
*
لقد رفض القرآن الكريم التصور العبراني للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، وهي علاقة الرهبة والخوف؛ لأن الطبيعة في التصور القرآني قد خلقت من أجل الإنسان، كذلك فإن اللعنة التي تحل بالأرض في العهد القديم بسبب خطيئة آدم وحواء - حين أكلا من الشجرة المحرمة - لا تتفق مع وصف القرآن للأرض بأنها مستقر ومتاع إلى حين، بل إن الإنسان في القرآن هو المحور والغاية في عالم الطبيعة، ومن أجله سخرت الكائنات كلها؛ يقول تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ [لقمان: 20].
*
وكل ما يخيل لبعضهم أنه صراع بين الإنسان والطبيعة، ليس إلا من باب التهذيب؛ مثلما يهذب الإنسان أبناءه لينتجوا ويثمروا، كذلك فإن الإنسان يتولى الطبيعة بالتهذيب، لكي تضع إمكاناتها وطاقاتها تحت تصرفه، ولكي تعطي وتثمر، وتتعاون معه في إنجاز الحضارة الإنسانية...
فالأمر إذن ليس (صراعاً) بل ليس (تحدياً) وإنما هو (تدافع) كريم، لولاه لفسدت الأرض... ﴿ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ﴾ [الرعد: 17].
وكيف يكون الأمر (صراعاً) مع أن (الأرض) في الإسلام إنما جعلت كلها مسجداً؟
وكيف يكون الأمر (صراعا) مع أن الزمن هو الدهر ولا يجوز أن يسب المسلم الدهر؟
*
وعندما أطلق الله للإنسان حريته، أطلقها في حدود الحفاظ على نظام (المرور الكوني) بإشاراته وعلاماته، التي تحول دون الصدام والموت المحقق، فلا جبر ثمة ولا حتمية، وإنما نظام يسمح لكل الحريات - التي قد تتصارع - بالحركة الحرة المأمونة: ﴿ أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [القيامة: 36] من غير أن تنضبط حركته بقوانين وسنن، وأوامر ونواه، كلا... إنه لن يترك هملا يرعى كما ترعى السوائم، بل لا بد له من قيود وضوابط يرعى في حدودها ويتحرك في مجالها.
ولهذا كله كان القرآن الكريم - عندما يتحدث عن سنن الله في المجتمع الإنساني - يتحدث عنها كحلقة في سلسلة النظام الكوني القائم على التناسق بين عناصر الكائنات الوجودية... تناسق يُؤدى به عملها الذي تقتضيه طبيعة وجودها، فلا مندوحة من أن يهيمن الله... الكبير... المتعال... الجبار... المهيمن على الحركة العامة للكون، ولا مندوحة للإنسان - في الوقت نفسه - من أن ينسق خطواته على أساس الانسجام مع هذه الهيمنة الإلهية.
*
الإنسان وعلاقته بالكون:
ومن الجدير بالذكر أن كل حضارة إنسانية تنبثق عن مفهوم للوجود، وتصور للإنسان؛ يحدد موقعه في الوجود وعلاقته بالكون وبما وراء الكون، وتنطلق من عقيدة يؤمن بها الإنسان (صانع الحضارة).
وهكذا في الإسلام، فالعقيدة القائمة على الإيمان بوجود الله وتوحيده هي التي تمد باقي أجزائه بالحياة وتحدد اتجاهاتها ومعالمها؛ فتوجه الإنسان وترشده إلى التصور الحقيقي لوجود الخالق (الواحد الأحد) ووجود الكون ووجود الإنسان، والصلة بين الله والكون والإنسان، وكذلك الحياة وما وراءها من حياة أخرى[4].
وحين خاطب القرآن الكريم الإنسان ودعاه إلى الإيمان بالله، انطلق به من الكون الذي يعيش فيه ومن نفسه، (أي من قراءة الكون والنفس) للإيمان بالله وبقدرة الله وتوحيده ﴿ وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 20، 21] ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53].
*
والإنسان في العقيدة الإسلامية كائن كرمه الله وفضله على سائر المخلوقات؛ بما فيه من صورة كريمة، ومن سمو، ونفحة روحية، وإرادة وقدرة على تحصيل العلم؛ لأن الله منحه الإرادة والعقل وحرية الاختيار وسخر جميع الكائنات - في الأرض - له، بل وأسجد له ملائكته، وبسبب وجود عنصري العقل والروح فيه جعله الله مكلفاً، وجعل حياته اختباراً وابتلاءً: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ [الإنسان: 2] وهذه هي الأمانة الثقيلة التي حملها الإنسان[5]، والتي كلفه الله بها وأرسل له الأنبياء ليساعدوه على معرفة ما يعجز عن معرفته بعقله ووسائله؛ في تعامله مع أخيه الإنسان، ومع الكون الذي سخره الله له تسخيرا يمكنه من الانتفاع به وتطويعه لمنافعه؛ بالإضافة إلى التأمل والتفكير في الكون وما فيه، ومن ثم أخذ دروس الاعتبار وإدراك عظمة الخالق منه.
والإسلام حين ينتقل بالإنسان من مجال التفكير في الكون إلى توجيه تفكيره إلى خالق الكون؛ يقوده في حقيقة الأمر إلى الإيمان الواعي بالله وبقدرته في إبداع الكون والإنسان... وهذا الإيمان يملي عليه الاعتراف بالخالق وقدرته على تجاوز الأسباب، لأنه - سبحانه - مسبب الأسباب وحاكمها، كما يملي عليه الاعتراف بعظيم قدرة الله وعظيم سلطانه، وكذلك الاعتراف بنعم الله عليه، ومن ثم يحمد الله على صفاته الحميدة ويشكره على نعمه العديدة... ﴿ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾ [النحل: 18].
وكل ذلك مع الشعور بمسئولية الإنسان أمام خالقه ومالك أمره، والحاكم عليه وعلى مصيره، والتوجه، بالتالي، إليه بالسؤال والدعاء: ﴿ وَاسْأَلُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ ﴾ [النساء: 32] ﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60] والاستغفار والتوبة إليه ﴿ فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ﴾ [هود: 61].
••••
*
وأخيراً... فقد قدم الإسلام للمسلمين وللحضارة الإسلامية والإنسانية، إطاراً منهجيّاً علمياً لعقيدة التوحيد التي ختمت بها رسالات الأنبياء، وفي هذا الإطار تحددت النظرة التوحيدية للإنسان والحياة والكون، وتحددت نسبة العلاقة بين الوحي والعقل، وبين الغيب والشهادة؛ فيما يتصل بعقيدة إيمانية يقدمها دين سماوي، من خلال كتاب أنزله الله، وبواسطة رسول لا ينطق عن الهوى؛ لكن ذلك لم يحل دون أن يقوم العقل بدوره في اكتشاف ينابيع الإيمان؛ من خلال حركته وسياحته الفكرية العميقة في عوالم الحياة والكون والإنسان؛ مسترشدا في سياحته تلك بالوحي نفسه: ﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ ﴾ [آل عمران: 191] ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28] ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115].
*
دور العقل في العقيدة:
ليس هناك مجال مغلق دون العقل في الإسلام إلا مجال السمعيات (ما وراء المادة... عالم الغيب) الذي لا يستطيع أن يبحر فيه... فالغرق والضلال في انتظاره إن حاول ذلك؛ لأن طاقته دون ذلك بكثير، وحسبه نفسه والكون يعمل في مجالهما؛ ومع أن الإسلام وحي من الله ودين ينقاد المؤمن به لله، فإنه لم ينكر أبداً دور العقل، بل يعده مصدراً أساسياً للمعرفة الكونية والإنسانية، وللاهتداء إلى خالق الكون أيضاً... لكن خروج العقل عن نطاق قدرته، وتجاوزه حده، هو الأمر الذي يرفضه الإسلام ثقة منه في أن للعقل حدوداً... شأنه شأن كل الطاقات البشرية كما أشرنا.
*
وفي مقدمته لكتاب (العلم يدعو للإيمان) لمؤلفه (كريس موريسون) "C. Morrison" يقول: (إن العقل - مهما بلغ من القوة والذكاء - ليس إلا حاسة من الحواس التي تربطنا بعالمنا المحدود، وكما يكون للعين مدى تنتهي عنده مقدرتها عن الإبصار؛ فلا تدرك ما وراء هذا المدى من مرئيات إلا أشباحاً باهتة وصوراً شائهة لا تغنى عن الحق شيئاً... كذلك شأن العقل - وهو حاسة الإدراك - له مجاله المحدود الذي يعمل فيه ويدرك حقائق الأشياء في محيطه؛ فإن أبى إلا أن يركب متن الشطط، ويستوي على ظهر الغرور؛ انزلق إلى ظلمات الضلال، وتقطعت به إلى الحق الأسباب).
ويقول أيضاً (ولسنا نريد أن نمسك العقل عن التفكير والبحث في التعرف على الله، فهو الطريق الطبيعي إليه، وإنما نريد أن ينهج العقل منهجاً قصداً في البحث عن الله؛ فلا يندفع وراء الخيالات والفروض، ولا يشتط في التطلع إلى ما فوق طاقته، وليعترف بقصوره عن إدراك الحقيقة وعجزه عن تناولها، ويرجع إلى القلب يطلب عنده الاطمئنان والسكينة).
*
وفي رسالة التوحيد يقول الشيخ محمد عبده: (إن قدَّرنا عقل البشر قدره وجدنا غاية ما ينتهي إليه كماله... إنما هو الوصل إلى معرفة عوارض بعض الكائنات التي تقع تحت الإدراك الإنساني... أما الوصول إلى كنه حقيقة حقاً فمما لا تبلغه قوته... خذ أظهر الأشياء وأجلاها كالضوء، قرر الناظرون فيه له أحكاماً كثيرة، فصلوها في علم خاص به، لكن لم يستطع ناظر أن يفهم ما هو ولا أن يكتنه معنى الإضاءة نفسه؛ وإنما يعرف من ذلك ما يعرفه كل بصير له عينان، وعلى هذا القياس...) (وليس هذا حال العقل الإنساني مع ما يساويه في الوجود أو ينحط عنه، بل كذلك شأنه فيما يظن من الأفعال أنه صادر عنه كالفكر وارتباطه بالحركة والنطق، فماذا يكون أمره بالنسبة للوجود الأعلى؟ ماذا (تكون دهشته) - بل انقطاعه - إذا وجه نظره إلى مالا يتناهى من الوجود الأزلي الأبدي..؟) وينتهي الإمام محمد عبده إلى القول (أما الفكر في ذات الخالق فهو طلب للاكتناه من جهة، وهو ممتنع على العقول البشرية لما علمت من انقطاع النسبة بين الوجودين، وهو تطاول إلى مالا تبلغه القوى البشرية من جهة أخرى، فهو عبث ومهلكة؛ عبث لأنه سعى إلى مالا يدرك، ومهلكة لأنه يؤدى إلى الخبط في الاعتقاد؛ لأنه تحديد لما لا يجوز تحديده؛ وحصر لما لا يصح حصره)[6].
وقد أثبتت عصور التاريخ أن العقل عاجز وحده عن الوصول للحقيقة، وأنه كثيرا ما يتخبط إذا ابتعد عن وحي الله وحراسة السماء؛ ولهذا أرسل الله الرسل مساعدة للعقل على الانضباط والعمل وفاقاً لموازين قويمة تقوده إلى الخير والحق، ولعلّ التطور الدائم للأفكار والمعارف من أقوى الأدلة على عدم كمال العقل... وأنه آلة قابلة للتطور وزيادة المعرفة في كل العصور... وهذا يعني استمرار عجزه مهما ركبه من غرور.
*
أثر التوحيد على الحضارة الإسلامية مقارناً بالنصرانية في رأي أحد المستشرقين:
في مقال كبير - كان قد ألقي في مؤتمر إفريقية الشمالية الذي عقد في باريس - نشر بالفرنسية، ثم ترجم في بعض الجرائد والمجلات العربية إلى اللغة العربية... أورد (رينيه ميوليه) – عن قضية التوحيد بين المسيحية والإسلام قائلاً -: في اعتقادي أن خطأ المشتغلين منا بالإسلام هو في درس هذا الدين مستقلاً عن الظروف التي كانت محيطة بظهوره؛ فلو عرفنا كيف كان حال العالم حين ظهر لوقفنا على أسباب انتشاره المدهش.
وقال (رينيه ميوليه): إن الذي ساعد الإسلام على الانتشار هو ما قرره الإمبراطور (قسطنطين) في القرن الرابع للمسيح من جعل المسيحية دين الحكومة، وقد جر هذا القرار على الدولة البيزنطية من المشاكل أعقدها، فكم أهرقت من دماء في سبيل كل عقيدة من عقائد المسيحية، وكم من مقاطعة ضيعها الإمبراطور على إثر كل قرار كان يصدر من مجمع (نيقية).. أو من غيره من المجامع.
وإن مسألة طبيعة المسيح، أو مسألة الأقانيم التي نعتقدها الآن (أي يعتقد بها النصارى) بكل سكينة واطمئنان، قد سالت من أجلها دماء غزيرة، ونشأت من الجدال فيها حروب هائلة.
هذا... وإنه قد بلغ من عناية الحكومة بنشر الدين المسيحي أنها غفلت عن احتياجاتها الأولية؛ فاحترمت الصوامع، ورفعت عن أهلها الخدمة العسكرية، وأعفتهم من الضرائب؛ فلم يكد يدخل القرن السادس حتى كانت الدولة في غاية الضعف، وملئت جوانبها بالخلافات الدينية.
*
وعلى الطرف الآخر - كما يقول (رينيه ميوليه) - كان للتوحيد أثره العظيم عند المسلمين... فالإسلام دين جاء بخلاف كل ذلك.
فقد اعتاض عن تعدد درجات الإدارة (المسيحية) بسلطة واحدة يرجع إليها الحل والعقد في كل الأمور. ولم يقرر شيئاً من وساطة القسيسين بين الآلهة والشعب.
ولم يسن نظام الصوامع، وقضى على عادة العزوبة التي كانت متبعة مستفيضة بين المسيحيين في ذلك العصر، وقضى أيضا على عادة التنسك والخروج من الدنيا فقرر الاشتغال بالدنيا والآخرة معاً.
ثم إن الإسلام أرجع الدين إلى حالته الطبيعية، ولم يأت بشيء من تلك العقائد المسيحية الفلسفية، بل قال بكل وضوح: (لا إله إلا الله)، وبذلك خلا الإسلام من ذلك الاعتقاد الذي قسم الدول الأوربية، والذي جعل أهل مصر وآسيا الصغرى في حالة استياء من تسلط الدولة البيزنطية.
وكيف لا تميل هذه الشعوب الساخطة إلى أهل الإسلام وهم يعلنون أنهم أهل التسامح مع مخالفيهم في الدين... لا يطلبون منهم إلا ضريبة يستعينون بها على إصلاح شئونهم وشئون الدولة الإسلامية.
*
ومن هذا الوصف التاريخي الموجز يمكنكم أن تتصوروا كيف نضبت ينابيع الحياة في الدولة البيزنطية، وأنتم تعرفون كيف انتشرت عادة التنسك والتقشف مع أنها لم تقلل من فساد الأخلاق، ويمكنكم أن تدركوا كيف أن سكان البلاد التابعة الآسيوية اعتبرت ظهور الإسلام إيذاناً بنجاتهم وسعادتهم.
بينما جاء المسلمون متشبعين بروح التسامح؛ وذلك هو سر الانقلاب العظيم الذي أعطاهم ملك آسيا وإفريقيا ونصف أسبانيا. وإذا كان ذلك كذلك أدركتم ما تبع هذه النهضة من الأعمال الجلية.
لقد أتى العرب (الإسلام) بعقائد سهلة ملائمة للفطرة، وأعطوا الحياة الدنيا قسطها من الاعتبار؛ فترقت العلوم والفنون والآداب باجتهادهم الذي عجز عنه المسيحيون الذين عاصروهم، وإني ليخيل إليَّ أنه كانت على أبصار مسيحي القرون الوسطى غشاوة من تنسك منعتهم من إدراك الأشياء على حقائقها[7].

[1] محمد عمارة: معالم المنهج الإسلامي، دار الشروق - الطبعة الأولى، مصر، 1411هـ / 1991م ، ص32، 33.
[2] المرجع السابق ص35.
[3] محمد المبارك: نظام الإسلام: العقيدة العبادة، دار الفكر، الطبعة الرابعة 1975م/ 1395هـ بيروت ص28.
[4] المرجع السابق ص36، 37.
[5] المرجع نفسه ص 68- 69، بتصرف.
[6] محمد عقلة: الإسلام حقيقته وموجباته، مكتبة الرسالة الحديثة، الأردن، عمان، الطبعة الأولى 1403هـ / 1982م، ص27، 28 بتصرف.
[7] نقلاً عن: عبد المتعال الجبري: الحضارة والتمدن الإسلامي، طبع مصر ص16.

أ. د. عبدالحليم عويس
__________________
رد مع اقتباس
 

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 01:38 AM.