#1
|
|||
|
|||
مثل الحياة الدنيا كمثل الماء المنزل من السماء
وهذا المثل جاء في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24].
المثَل المضروب: إنَّ الحياةَ الدُّنيا كماءٍ أنزله الله جل جلاله من السَّماء. الفئة المستهدفة: عامة الناس لأجل التفكُّر. نوع المثل: قياسي تشبيهي مركَّب. * شرح الكلمات[1]: • مثل الحياة الدنيا؛ أي: صفتها المنطبقة عليها المُتَّفِقة معها. • ماء؛ أي: مطر. • فاختلط به؛ أي: بسببه، نبات الأرض؛ أي: اشتبك بعضه ببعض. • مما يأكل الناس: كالبُرِّ وسائر الحبوب والفواكه والخضر. • والأنعام؛ أي: مِن الكَلأ والعُشب عادة، وإلَّا قد يعلف الحيوان الشعير. • زخرفها؛ أي: نَضرتها وبهجتها. • وازَّيَّنتْ؛ أي: تجمَّلتْ بالزهور. • وظنَّ أهلها أنهم قادرون عليها؛ أي: متمكِّنون مِن تحصيل حاصلاتها الزراعية. • أتاها أمرنا؛ أي: قضاؤنا بإهلاكها وتدميرها عقوبة لأصحابها. • حصيدًا؛ أي: كأنها محصودة بالمنجل ليس فيها شيء قائم. • كأن لم تَغنَ بالأمس؛ أي: كأن لم تكن موجودة غانية بالأمس. • نفصِّل الآيات؛ أي: نبيِّنها. * والحياة الدنيا هنا هي كل ما في عُمر البشريَّة من أمور معنوية أو مادية أو زمنيَّة؛ فهي تشمل عمر الإنسان، وطبيعة حياته، وغناه وفقره، وكل ما خلق الله في هذا الكون؛ مِن بشر ونباتات، وحيوانات وجمادات، وكواكب ونجوم، وكل الأشياء الأخرى؛ كالشَّهوات والملذَّات والملك، وهكذا. * إلا أنَّ الآية التي اشتملت على المثَل اختصَّت بعلاقة الماء بالنَّبات، والذي لا يمكنه أن يعيش إلَّا على الماء، جاء في "التبيان في إعراب القرآن": "قوله تعالى: ﴿ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ﴾ [يونس: 24] الباء للسبب؛ أي: اختلط النبات بسبَب اتِّصال الماء به، وقيل: المعنى: خالطه نبات الأرض؛ أي: اتَّصل به فربَّاه، و﴿ مِمَّا يَأْكُلُ ﴾ [يونس: 24] حال مِن النبات"[2]، ولأنَّ كل المخلوقات متعلِّقة بالنبات؛ لأنها تتغذَّى عليه، فلو قسمنا المخلوقات الحيَّة إلى عوالم؛ كعالم الحيوان، وعالم الحشرات، وعالم الإنس، وعالم النباتات، فأيُّ عالم مِن هذه العوالم إن فقدناه فإنَّ الحياة يمكنها أن تستمر بدونه ولا مشكلة، إلا عالم النبات إن فُقد فلا يمكن للحياة أن تستمر، ثم إن عالم النبات هذا لا يمكنه البقاء إلا بالماء، وهذا سر من أسرار ضرب هذا المثل. * يقول فخر الدين الرازي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما قال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [يونس: 23]، أتبعه بهذا المثَل العجيب الذي ضربه لِمن يبغي في الأرض ويغتر بالدنيا، ويشتد تمسُّكه بها، ويقوى إعراضه عن أمر الآخرة والتأهب لها، فقال: ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ﴾ [يونس: 24]، وهذا الكلام يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المعنى: فاختلط به نبات الأرض بسبب هذا الماء النازِل مِن السماء؛ وذلك لأنه إذا نزل المطر ينبت بسببه أنواعٌ كثيرة مِن النبات، وتكون تلك الأنواع مختلطة، وهذا فيما لم يكن نابتًا قبل نزول المطر. * والثاني: أن يكون المراد منه الذي نبت، ولكنه لم يترعرع ولم يهتز، وإنَّما هو في أول بروزه من الأرض ومبدأ حدوثه، فإذا نزَل المطر عليه واختلط بذلك المطر؛ أي: اتَّصل كلُّ واحد منهما بالآخر، اهتزَّ ذلك النبات ورَبا، وحسُن وكمل، واكتسى كمالَ الرَّونق والزينة، وهو المراد من قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ ﴾ [يونس: 24]؛ وذلك لأنَّ التزخرف عبارة عن كمال حُسن الشيء، فجعلت الأرض آخذة زُخرفها على التشبيه بالعروس إذا لبست الثيابَ الفاخرة مِن كل لون، وتزيَّنتْ بجميع الألوان الممكنة في الزينة؛ مِن حمرة وخضرة وصفرة وذهبية وبياض، ولا شك أنَّه متى صار البستان على هذا الوجه وبهذه الصِّفة فإنه يفرح به المالك، ويعظُم رجاؤه في الانتفاع به، ويصير قلبه مستغرقًا فيه، ثمَّ إنه تعالى يرسل على هذا البستان العجيب آفةً عظيمة دَفعةً واحدة في ليلٍ أو نهار؛ مِن برد أو ريح أو سَيل، فصارت تلك الأشجار والزروع باطِلة هالكة كأنَّها ما حصلت ألبتة، فلا شك أنَّه تعظُم حسرةُ مالك ذلك البستان ويشتد حزنه، فكذلك مَن وضع قلبَه على لذَّات الدنيا وطيباتها، فإذا فاتته تلك الأشياء يعظم حزنُه وتلهفه عليها، واعلم أنَّ تشبيه الحياة الدنيا بهذا النَّبات يحتمل وجوهًا، لخَّصها القاضي رحمه الله تعالى: الوجه الأول: أنَّ عاقبة هذه الحياة الدنيا التي ينفقها المرء في باب الدنيا كعاقبة هذا النبات، الذي حين عظم الرَّجاءُ في الانتفاع به وقع اليأس منه؛ لأنَّ الغالب أن المتمسِّك بالدنيا إذا وضع عليها قلبَه وعظمتْ رغبتُه فيها يأتيه الموت، وهو معنى قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44]، خاسرون الدنيا وقد أنفَقوا أعمارهم فيها، وخاسرون مِن الآخرة مع أنهم متوجِّهون إليها. * والوجه الثاني: في التشبيه: أنَّه تعالى بيَّن أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبةٌ تُحمد، فكذلك المغترُّ بالدنيا المحبُّ لها لا يحصل له عاقبةٌ تُحمد. * والوجه الثالث: أن يكون وجه التشبيه مثل قوله سبحانه: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]، فلمَّا صار سعي هذا الزَّارع باطلًا بسبب حدوث الأسباب المهلكة، فكذلك سعي المغتر بالدنيا. * والوجه الرابع: أنَّ مالك ذلك البستان لما عمَّره بإتعاب النَّفس، وكدِّ الروح، وعلَّق قلبه على الانتفاع به، فإذا حدَث ذلك السبب المهلك، صار العَناء الشديد الذي تَحمَّله في الماضي سببًا لحصول الشَّقاء الشديد له في المستقبل، وهو ما يحصل له في قلبه مِن الحسرات، فكذلك حال مَن وضَع قلبَه على الدنيا، وأتعب نفسه في تحصيلها، فإذا مات وفاته كلُّ ما نال، صار العَناء الذي تحمَّله في تحصيل أسباب الدنيا سببًا لحصول الشقاء العظيم له في الآخرة. * والوجه الخامس: لعلَّه تعالى إنَّما ضرب هذا المثل لِمن لا يؤمن بالمعاد؛ وذلك لأنَّا نرى الزرعَ الذي قد انتهى إلى الغاية القُصوى في التربية قد بلغ الغاية في الزينة والحُسن، ثم يعرض للأرض المتزينة به آفَة فيزول ذلك الحُسن بالكلِّية، ثمَّ تصير تلك الأرض موصوفة بتلك الزِّينة مرة أخرى، فذكر هذا المثال ليدلَّ على أنَّ مَن قَدرَ على ذلك كان قادرًا على إعادة الأحياء في الآخرة؛ ليجازيهم على أعمالهم إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشرٌّ. * المسألة الثانية: المثل قولٌ يشبه به حال الثاني بالأول، ويجوز أن يكون المراد مِن المثل الصفة والتقدير: إنما صفة الحياة الدنيا. وأما قوله جل جلاله: ﴿ وَازَّيَّنَتْ ﴾ [يونس: 24] فقال الزَّجاج: يعني تزيَّنتْ، فأدغمت التاء في الزاي وسُكِّنت الزاي، فاجتلب لها ألف الوصل، وهذا مثل ما ذكرنا في قوله جلَّ جلاله: ﴿ ادَّارَأْتُمْ ﴾ [البقرة: 72]، ﴿ إِذَا ادَّارَكُوا ﴾ [الأعراف: 38]. * وأمَّا قوله جل جلاله: ﴿ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ﴾ [يونس: 24]، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أنَّ أهل تلك الأرض قادرون على حَصادها وتحصيلِ ثمراتها، والتحقيق: أنَّ الضمير وإنْ كان في الظَّاهر عائدًا إلى الأرض، إلَّا أنه عائد إلى النبات الموجود في الأرض. * وأمَّا قوله جلَّ جلاله: ﴿ أَتَاهَا أَمْرُنَا ﴾ [يونس: 24]، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد عذابنا، والتحقيق: أنَّ المعنى أتاها أمرنا بهلاكها. وقوله جل جلاله: ﴿ فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا ﴾ [يونس: 24]، قال ابن عباس: لا شيء فيها، وقال الضحاك: يعني المحصود، وعلى هذا المراد بالحَصيد: الأرض التي حُصد نبتها، ويجوز أن يكون المراد بالحصيد النَّبات، قال أبو عبيدة: الحصيد: المستأصَل، وقال غيره: الحصيد المقطوع والمقلوع. * وقوله جل جلاله: ﴿ كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾ [يونس: 24]، قال الليث: يُقال للشيء إذا فني: كأنْ لم يغنَ بالأمس؛ أي: كأن لم يكن، من قولهم: غني القوم في دارهم؛ إذا أقاموا بها، وعلى هذا الوجه يكون هذا صِفة للنبات، وقال الزَّجاج: معناه كأن لم تُعمَّر بالأمس، وعلى هذا الوجه فالمراد هو الأرض. وقوله جل جلاله: ﴿ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ ﴾ [يونس: 24]، أي؛ نذكر واحدة منها بعدَ الأخرى على الترتيب، ليكون تواليها وكثرتها سببًا لقوَّة اليقين، وموجبًا لزوال الشك والشبهة"[3]. * ومِن حكمة الله جلَّ جلاله البالغة وتقديره أنه جعل مِن الماء كلَّ شيءٍ حيٍّ، فكل المخلوقات التي فيها حياة يكون الماء جزءًا من تكوينها؛ قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنبياء: 30]. * والماء بذاته إعجازٌ إلهي؛ فهو بحسب النظريَّة الكيميائية يتكوَّن من ذرَّتَي هيدروجين H2 مع ذرة أوكسجين O2 فيكون رمز الماء H2O. فالأوكسجين ورمزه O2 غاز يَشتعل ويساعد على الاشتعال، وما مِن حريق في الكون إلَّا وكان الأوكسجين هو سببه، ولولا وجود نِسبة عالية من النتروجين N2 في الهواء الجوي مع الأوكسجين لاحترق العالم. * وأمَّا الهيدروجين ورمزه H2 فهو غاز سام، إضافة لكونه متفجرًا، والقنبلة الهيدروجينية معروفة بشدَّة انفجارها، ومِن هذين الغازين الخطيرين المميتين خلَق الله جلَّ جلاله الماءَ الذي فيه سرُّ الحياة، وخلق منه كلَّ الدواب؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ﴾ [النور: 45]. * وإنَّ (الماء يمتلك خواصَّ فريدة، وفي بعض الحالات غير متوقَّعة؛ فالأبحاث في خواص الماء متعدِّدة ومتسارعة في جميع الاتجاهات، ومع ذلك لم يتم بعدُ اكتشاف جميع خباياه: 1 - الماء يتميَّز بأنه المادَّة الوحيدة التي توجد بصفة طبيعية على الأرض على حالاتها الثلاث: صلب وسائل وبخار. 2 - القاعدة العلمية العامَّة تقول بزيادة كثافة المادة الصلبة على المادة السائلة مِن نفس النوع، ولكن الماء على خلاف هذه القاعدة؛ فالماء عندما يكون في الحالة الصلبة هو أقل كثافة من الماء السائل: [4]ρ lq. w = 1. 0 g/ cm3 ، ρice = 0. 920 g/ cm3 وهكذا يبدأ الماء بالتجمُّد على السطح فيطفو الثلج على الماء السائل، فيكون حاجزًا حراريًّا يمنع تجمد الماء في الأعماق، فيحافظ على الحياة في أعماق البحيرات والمحيطات. * 3 - الماء سائل كثير السيلان؛ فمن المستحيل الحفاظ على الماء في كفِّ اليد لمدة طويلة، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ﴾ [الرعد: 14]، وفسَّر العلماء: ﴿ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ﴾ [الرعد: 14] بالقابض الماء باليد؛ فإنَّه لا يحكم منه على شيء لكثرة سيولته، والعرب تَضرب لِمن سعى فيما لا يدركه مثلًا بالقابض الماء باليد، كقول الشاعر: فأصبحْتُ مما كانَ بَيني وبينَها ♦♦♦ مِنَ الوُدِّ مثلَ القابضِ الماء باليدِ وخلافًا للقاعدة العامَّة، كلَّما ضغطت على الماء ازدادت سيولته؛ لهذا لا يمكن إنتاج الثلج بالضغط على الماء. * 4 - يمتاز الماء بشَدِّه السطحي المرتفع، وهو الأعلى بالنِّسبة لجميع المواد عدا الزئبق، وهذا مهم لتكوين قطرات ماء المطر؛ بحيث إنَّ الشدَّ السطحي المرتفع هو الذي يحافِظ على تماسك قطرة الماء في الهواء، على شكل كرة، ويمنع تشتُّتها، وهذا الشد السطحي المرتفع يساعد على إيصال الطاقة الهوائيَّة إلى ماء البحر فيحدث تموُّجات على سطحه، والموج بانكساره يشحن الماءَ بالأوكسجين، الذي هو ضروريٌّ للحياة داخل البحر. * 5 - أكبر خاصيَّة للماء قدرتُه الفائقة على تَحليل جميع المعادن والمواد العضويَّة، ويكاد لا توجد مادَّة على الأرض غير مذابة داخل الماء؛ لهذا مِن شبه المستحيل أن تجد ماءً خالصًا مائة في المائة؛ فالماء من بين المواد المطهرة، بل هو الأساس في التطهير، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ﴾ [الفرقان: 48][5]. * 6 - هناك أنواع عديدة من المياه، وكل نوع له استخداماته؛ فهناك مياه للشرب، وهناك مياه صناعية، وهناك مياه ثقيلة تُستخدم في تبريد المفاعلات النوويَّة، وهناك ماء مقطر خالٍ مِن الأيونات المختلفة، وأنواع أخرى، وكل نوع مِن هذه الأنواع له مواصفاته الخاصة. * وفي عودة على ما جاء في هذا المثل، فإنَّ المفسِّرين والعلماء ركزوا على الجانب الظاهر من المثل، وإنَّ في المثل أمورًا إعجازية مهمَّة لا بد مِن الوقوف عندها، فليس أن تأخذ الأرض زخرفَها متعلِّقًا بالنبات والزهور وجمال الطبيعة الخضراء فحسب؛ لأنَّ من معاني الزخرف هو الذهب، والذهب معدِن كما هو معلوم؛ فقد جاء في الصَّحاح للجوهري قوله: ([زخرف] الزخرف: الذهب، ثم يُشبَّه به كل مموَّهٍ مزوَّر)[6]. * فالزينة التي ستكون في الأرض ربَّما تكون زينة أخرى غير زينة الخضرة، ولعلَّها زينة الصناعات والمنشآت، والأدوات والأجهزة، والإلكترونيات والاتصالات، وغيرها من التقدم الصناعي في شتَّى الميادين، إضافة للتقدُّم في نوعية وكمية البناء والعمران، وفي علم الفضاء وما يعرف بحرب النجوم، فالأرض بالفعل تتزيَّن، ومَن ينظر لصور مِن السماء إلى الأرض في الليل ينظر الزينة على حقيقتها؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم السَّاعة حتى يبني الناس بيوتًا يوشونها وشي المراحل))[7]، وهذه إشارة إلى الزخرفة؛ فقد جاء في لسان العرب لابن منظور: (ومِرْطٌ مُرَحَّل: عليه تصاوير الرحال، وفي الحديث: أن رسولًا خرج ذات يوم وعليه مِرْطٌ مُرَحَّل الذي قد نُقِش فيه تصاوير الرِّحال، وفي حديث عائشة، وذكرت نساء الأَنصار: فقامت كُلُّ واحدة إلى مِرْطِها المُرَحَّل، ومنه الحديث: كان يصلِّي وعليه من هذه المُرَحَّلات؛ يعني: المُروط المُرَحَّلة، وتجمع على المَرَاحِل)[8]. * وقبل القيامة لن يكتفي الناس بزَخرفة البناء؛ بل يتباهَون ويُزخرفون حتى مساجد العبادة، فيقول أبو هريرة رضي الله عنه: "إذا زوَّقتُم مساجدَكم، وحلَّيتم مصاحفكم، فالدمار عليكم"[9]. وهكذا نعلم أنَّ في المَثل إعجازًا غيبيًّا في أنَّ الناس ستباشر زخرفة كل ما يتعلَّق بحياتهم، واليوم وبعد هذا التقدُّم في العلم الحسِّي والمعروف اليوم (بالتكنولوجي)، فإنَّ كثيرًا من الدول المتقدمة ترى أنَّ الأمور مسيطر عليها تمامًا، فصاروا يَستقرئون حوادثَ الأنواء الجويَّة من الرياح والعواصف والأمطار والثلوج؛ بل وحتى الزلازل أحيانًا. * وصاروا يتجسَّسون بعضهم على بعض بشكلٍ يثير العجب، فيتسمَّعون بعضهم على بعض في بيوتهم ومنتدياتهم وأماكن عملهم وشوارعهم وأسواقهم، ورغم كل ذلك سيأتي أمرُ الله تعالى بَغتة وهم لا يَشعرون. وفي المثل إشارة أخرى في قوله تعالى: ﴿ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ﴾ [يونس: 24]؛ لأنَّ القيامة ستقوم على الأرض في ساعة واحدة، ولأنَّ الأرض نصفها ليل ونصفها نَهار؛ ففي ذلك إشارة إلى أنَّها ستقوم على البعض ليلًا، وعلى البعض الآخر نهارًا. [1] أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير؛ أبو بكر الجزائري، ج2، ص463. [2] التبيان في إعراب القرآن؛ أبو البقاء العكبري، ج2، ص671. [3] مفاتيح الغيب؛ فخر الدين الرازي، ج17، ص 59 - 60. [4] ρ وهي رمز للكثافة في الكيمياء، والتي هي القيمة الرقمية لنسبة وزن الجسم إلى حجمه، وتساوي: الوزن/ الحجم، ووحدة قياسها؛ كغم/ متر3، أو غم/ سم3. [5] مظاهر الإعجاز العلمي في الماء (مقالة)، شريا محمد، موقع إلكتروني: بتصرف. [6] الصحاح؛ تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حماد الجوهري، ج5، ص55، وفي العباب الزاخر للصاغاني: (الزُّخْرُفُ: الذهَبُ؛ قال الله تعالى: ﴿ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ﴾ [الإسراء: 93]، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لم يدخُل الكعبة يوم الفتح حتى أمر بالزُّخْرُفِ فَمُحيَ، وأمر بالأصنام فَكُسِرتْ؛ أراد النقوش والتصاوير التي زُيِّنَتْ بها الكعبة وكانت بالذهب). [7] الأدب المفرد؛ البخاري، ص 564. [8] لسان العرب؛ ابن منظور، ج11، ص265. [9] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء؛ أبو نعيم الأصبهاني، ص383. عبدالستار المرسومي
__________________
|
العلامات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|