#1
|
|||
|
|||
تأملات في بعض الآيات
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 65، 66].
* تتواصل هنا وصايا الله عز وجل لرسولِه صلى الله عليه وسلم، ويخاطبه تعالى بهذا النداء ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ﴾[1]، والذي يحملُ معنى التفضيل والحب والقرب، ويأمره تعالى بتحريض المؤمنين على القتال، وقد جاء الأمر بالتحريض بعد أن أعطاه الله تعالى وثيقةَ أمان واطمئنان، كما أعطاه وعدًا وبشرى بأنه تعالى كافِيه ومؤيِّده وناصره ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 64]؛ أي الله كافيك وكافي أتباعك، فلا تَخَفْ ولا تتردَّد، وحرِّض المؤمنين على القتال، فمهما كان عددهم قليلًا، فالله معهم ناصرهم ومؤيدهم؛ لأنهم مؤمنون وعدوهم كافر؛ ولأنهم صابرون وعدوهم جزوع، ولأنهم يفقهون وعدوهم لا يفقه، وهذا هو الميزان الحقيقي للنصر. * معنى التحريض: التحريض على القتال: الحث والإحماء عليه[2]. ويقول القرطبي: "﴿ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾: أي حثَّهم وحضَّهم، يقال: حارض على الأمر، وواظب وواصب وواكب، بمعنى واحد، والحارض: الذي قارب الهلاك، ومنه قوله عز وجل: ﴿ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا ﴾ [يوسف: 85]؛ أي تذوب غمًّا، فتقارب الهلاك فتكون من الهالكين[3]. * ويقول الشيخ محمد متولي الشعراوي: (إن كلمة ﴿ حَرِّضِ ﴾ تحمل معنى الطلب بشدة؛ أي: حثَّهم وحضَّهم وحمِّسْهم، ومادة هذه الكلمة معناها: القرب من الهلاك، قال تعالى: ﴿ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ﴾ [يوسف: 85]؛ أي: إنك ستستمرُّ في ذكر يوسفَ حتى تقترب من الهلاك أو تَهلِكَ بالفعل، ولكن هل معنى ﴿ حَرِّضِ ﴾ هنا يعني قَرِّب المؤمنين من الهلاك؟ نقول: لا؛ لأن ما يسمونه الإزالة، وهو أن يأتي بالفعل على صورة تزيل أصل اشتقاقه، فقولنا: مرَّض الطبيب فلانًا؛ أي أزال عنه المرض، إذًا فهناك أفعال تأتي وفيها معنى الإزالة، ويأتي معنى الإزالة مرة بتضعيف الحرف الأوسط مثل: ﴿ حَرِّضِ ﴾، ومرة تأتي بهمزة، مثل: (أعجم الكتاب)؛ أي: أزال عجمتَه، فيكون معنى الآية: اطلب منهم يا محمد، أن يزيلوا قربهم من الهلاك بالقتال، فكأنهم إن لم يحاربوا أهل الكفر سوف يحيط بهم الهلاك)[4]. * ومن هنا تتضح أهمية هذه الوصية ومكانة الأمر بالتحريض من جوانب متعددة: الأولى: مجيء هذا الأمر بعد الأمر بإعداد العُدَّة... الثاني: التضعيف في راء التحريض ﴿ حَرِّضِ ﴾، وفيه معنى التحذير من ترك القتال؛ لأن في تركه الهلاك، فكأنه تحذيرٌ من هلاك المؤمنين وتسلط الكافرين عليهم، فإن ترك الجهاد تهلُكة، كما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]. * قال ابن كثير في تفسير الآية: (وقال الليث بن سعد[5] عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجلٌ من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري[6]، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلُكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا، صحِبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهِدنا معه المشاهد، ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهَر، اجتمعنا معشر الأنصار، فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره حتى فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضَعَتِ الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا، فنقيم فيها، فنزل فينا: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195]، فكانت التهلُكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد)[7]. * وذكر ابن كثير أيضًا أن رجلًا قال للبراءِ بن عازب: إن حملتُ على العدو وَحْدي ف***وني، أكنتُ ألقيتُ بيدي إلى التهلُكة؟ قال: لا، قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ﴾ [النساء: 84]، ومضمون الآية: الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوَى به المسلمون على عدوهم، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمَن لزمه واعتاده)[8]. * الثالث: الحث الشديد والترغيب المستمرُّ في الجهاد في القرآن الكريم والسُّنة المطهَّرة، أما في القرآن الكريم، فقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الصف: 10 - 13]، وغيرها من الآيات كثير. * أما السنة المطهرة، ففي باب "أفضل الناس مؤمنٌ يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله"، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الصف: 10] - روى البخاري عن أبي سعيد الخدري[9] قال: قيل: يا رسول الله: أي الناس أفضل؟ فقال: ((مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله))، قالوا: ثم من؟ قال: ((مؤمن في شِعب من الشِّعاب، يتَّقي الله ويدع الناس من شره))[10]. * وروى أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَثَل المجاهد في سبيل الله - واللهُ أعلمُ بمَن يُجاهِد في سبيله - كمَثَلِ الصائم القائم، وتوكَّل اللهُ للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالمًا مع أجر أو غنيمة))[11]. * الرابع: الحث الشديد والترغيب في الشهادة في سبيل الله، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 169 - 171]. * وقد روى البخاري في باب "تمنِّي الشهادة"، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((والذي نفسي بيده، لولا أن رجالًا من المؤمنين لا تطيب أنفسُهم أن يتخلَّفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سريةٍ تغدو في سبيل الله، والذي نفسي بيده، لوددت أني أُقتَل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أ***، ثم أحيا، ثم أ***، ثم أحيا، ثم أ***))[12]. * يقول ابن حجر: (المعنى أن نفوسهم لا تطيب بالتخلُّف، ولا يقدرون على التأهب، لعجزهم عن آلة السفر مِن مركوب وغيره، وتعذر وجوده عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي لا يجد النبي صلى الله عليه وسلم سَعَة فيحملهم، ولا يجدون سَعَة فيتَّبِعوه، وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد المبالغةَ في بيان فضل الجهاد وتحريض المسلمين عليه)[13]. * ويوم اختار المسلمون طريقَ الجهاد، واستجابوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ونداء الحياة حياة العزة - مكَّن الله تعالى لهم في الأرض وأقاموا فيها العدل، وأذلَّ الله تعالى الكفر وأزال دولته، فقد ذهبت دولة قريش، وسقطت دولة الفرس، وانهارت دولة الروم، أمام رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وحرَصوا على لقاء الله تعالى والفوز بالجنة. * ومما يذكر هنا - لاستعادة الهمم، وبعث روح الثقة ولإحياء القلوب الموات - ما جاء في المستطرف (أن ألب أرسلان ملك الترك قهر ملك الروم وقمعه و*** رجاله وأباد جمعه، وكانتِ الروم قد جمعت جيوشًا بلغ عددُهم ستمائة ألف، كتائب متواصلة وعساكر مترادفة، لا يدركهم الطَّرْفُ، ولا يحصيهم العدد، وقد استعدوا من الكراع والسلاح والمجانيق، والآلات المعدة للحرب وفتح الحصون، بما لا يحصى، ثم استقبلوا بلاد المسلمين، فتواترت أخبارهم إلى بلاد المسلمين، واضطربت لها ممالك أهل الإسلام، فاحتشد للقائهم الملك ألب أرسلان - وهو الذي يسمى الملك العادل - وجمع جموعه، واستعدَّ بما قدر عليه، ثم خرج يؤمُّهم، فبات المسلمون ليلة الجمعة، والروم في عدد لا يحصيهم إلا الله الذي خلقهم، وما المسلمون فيهم إلا أكلة جائع، فبقي المسلمون وَجِلِين لما دهمهم، فهال المسلمين ما رأَوا من كثرة العدو، فأمر ألب أرسلان أن يُعَدَّ المسلمون، فبلغوا اثني عشر ألفًا، فكانوا كالشامة البيضاء في الثور الأسود، فجمع ذوي الرأي من أهل الحرب والتدبير والشفقة على المسلمين، واستشارهم، ثم اجتمع رأيهم على اللقاء، فتوادع القوم، وتأهَّبوا أهبة اللقاء، وقالوا لألب أرسلان: بسم الله نحمل عليهم، فقال ألب: يا معشر أهل الإسلام، أمهلوا، فإن هذا يوم الجمعة، والمسلمون يخطبون على المنابر، ويدعون لنا في شرق البلاد وغربها، فإذا زالت الشمس، وعلمنا أن المسلمين قد صلَّوا ودعَوا الله أن ينصر دينه، حملنا عليهم إذ ذاك، وكان ألب قد عرَف خيمة ملك الروم وعلامته وزيَّه وزينته وحرسه، ثم قال لرجاله، لا يتخلف رجل منكم أن يفعل كفعلي ويتبع أثري، ويضرب بسيفه، ويرمي سهمه حيث أضرب بسيفي وأرمي بسهمي، ثم حمل برجاله حملةَ رجل واحد إلى خيمة ملك الروم، ف***وا مَن كان دونها، ووصلوا إلى الملك، ف***وا مَن كان دونه، وجعلوا ينادون بلسان الروم: *** الملك، *** الملك، فسمعت الروم أن ملكهم قد *** فتبدَّدوا، وتمزَّقوا كل ممزق، وعمِل السيف فيهم أيامًا، وأخذ المسلمون أموالهم، وأتَوا بالملك أسيرًا بين يدي ألب أرسلان، والحبل في عنقه، فقال ألب: ماذا كنت تصنع بي لو أسرتَني؟ قال: وهل تشك أنني كنت أ***ُك؟ فقال له ألب: أنت أقل في عيني من أن أ***ك، اذهبوا به فبِيعوه لمَن يزيد فيه، فكان يقاد والحبل في عنقه، وينادى عليه: مَن يشتري ملك الروم؟ وما زالوا كذلك يطوفون به على الخيام، وينادون عليه بالدراهم والفِلس، فلم يدفع فيه أحد شيئًا، حتى باعوه من إنسان بكلبٍ، فأخذه الذي كان ينادي عليه، وأخذ الكلب، وأتى بهما إلى ألب أرسلان، وقال: قد طفتُ به جميع العسكر، وناديت عليه، فلم يبذل أحد فيه شيئًا، سوى رجل واحد دفع فيه هذا الكلب، فقال: قد أنصفك، إن الكلب خير منه، ثم أمر ألب بعد ذلك بإطلاقه وذهب إلى القسطنطينية، فعزَلَتْه الروم، وكحلوه بالنار، اللهم انصر جيوش المسلمين وعساكر الموحدين، وأهلكِ الكفر والمشركين، وانصر المسلمين نصرًا عزيزًا برحمتك يا أرحم الراحمين)[14]. * إن مِن شأن التحريض على القتال رفعَ الروح المعنوية وتقوية العقيدة القتالية، فلا تقف أمام المجاهدين المؤمنين الصابرين قُوى الأرض ولو اجتمعت عليهم، ومهما كانت عُدَّتهم وأعدادهم، فإن تحقق الإيمان والصبر يصنع المعجزات ويغيِّر موازين القوى؛ ولهذا كان قولُه تعالى بعد الأمر بالتحريض: ﴿ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنفال: 65]. * وتجدر الإشارة إلى عدة أمور؛ منها: 1- ذكر العلماء في قوله تعالى: ﴿ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ﴾ [الأنفال: 65]، أنها جملة خبرية، ومنهم مَن قال إنها إنشائية، تتضمن تشريعًا وحكمًا[15]، وعلى قول الفريق الأول، فإنها ليست بمنسوخة؛ لأنه لا نسخَ في الأخبار، وعلى قول الفريق الثاني، فإنها منسوخة بالآية التالية لها، والتي جاء فيها التخفيف عن المؤمنين في معيار المواجهة والنسبة العددية، والقائلون بالنسخ يتَّفِق قولهم مع قاعدة التدرج في الأحكام، وهنا نجد أن التدرج من الأعلى إلى الأدنى، ومن الشاق إلى الأيسر والأقل مشقة، والذي أميل إليه أنها خبرية "تحريضية"؛ كما سيتبين. * 2- إن قوله تعالى: ﴿ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ﴾، قد سبقه قولُه تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾ [الأنفال: 65]، فكأنَّ الذي بعدها هو أيضًا لونٌ من التحريض، كأن المعنى: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ولا يهمك العدد، فمهما كنتُم قلةً، وعدوكم كثرة، فإن الله كافيكم وناصركم، فقد أمدَّكم في بدر بألف مِن الملائكة، وهم وغيرهم جاهزون للقتال معكم ومع المؤمنين إلى يوم القيامة، ثم إن هناك عاملًا آخر يفرق بينكم وبينهم، ويرجح الكِفَّة لصالحكم ألا وهو أن الكافرين لا يفقهون وأنتم تفقهون، وعلى هذا فإن قوله تعالى: ﴿ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ﴾، وهي نسبة الواحد إلى عشرة، قد جاءت على سبيل الخبر والتحريض والتطمين، وليس على سبيل الحكم والتشريع والله تعالى أعلم، (خصوصًا أن النسبة العددية في بدر كانت واحدًا إلى ثلاثة تقريبًا). * 3- النسبة العددية في القتال: وهو ما جاء في قوله تعالى: ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 66]، إن مِن خصائص الشريعة الإسلامية أنها تقوم على التيسير والتخفيف، ورفع الحرج والمشقة، والله تعالى هو العليم الخبير بأحوال عباده، مِن أجل ذلك كان التخفيفُ في التشريع ليُطِيقه الناس، فإن الله تعالى لا يُكلِّف إلا بما يُطاق، ولم يأمر سبحانه بقتال أو مواجهة إلا بعد الإعداد وتوافر القدرة على المواجهة؛ لذا فلا تصح مواجهة دون قدرة، ويقول الدكتور علي جريشة: (إن المواجهة دونَ قدرة، تساوي القعود عن الجهاد مع القدرة، بل إن المواجهة دون قدرة قد تكون أخطر؛ لأن الثانية إثمها عند الله، أما الأولى، فإثمها عند الله وعند الناس، وأن ما يترتب على المواجهة دون قدرة، فضلًا عن إمكان اجتثاث القوة الإسلامية، فإنه يورث (ارتدادًا) في نفوس المسلمين واستيئاسًا، قد لا يمكن علاجه إلا بعد زمن طويل، ولقد كانت ثمة اجتهادات كثيرة في معيار القدرة العددية، فالبعض قال: عدد كعَدَد بدر، والبعض الآخر قال: عدد كالذي جاء في قوله تعالى: ﴿ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ﴾ [الأنفال: 65]؛ أي: عُشر عدد الكفار، ونقول: إن هذا نسخ بقوله تعالى: ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ﴾، ونحسب هذه النسبة هي التي صارت لازمة - والله أعلم - إن كان لا بد من النسبة العددية)[16]. * ومِن هنا يتبين أن القدرة شرطٌ في المواجهة بين المسلمين وأعدائهم، وأن المعيار العددي - وهو الحد الأدنى الذي لا يجوز معه الفرار أو ترك المواجهة - هو أن يكون المسلمون نصف عدد المشركين؛ إذ إن الثبات واجبٌ مُقدَّم، والتولي إثم وعار، وقد جاء في "المُغني" بعض الأحكام المتعلقة بذلك؛ منها: أ- لا يحل لمسلم أن يهربَ مِن كافرَين، ومباحٌ له أن يهرب من ثلاثة، فإن خشِي الأَسْر قاتَلَ حتى يُقتَل، وجملته: أنه إذا التقى المسلمون والكفار وجب الثبات وحرم الفرار، وإنما يجب الثبات بشرطين: الأول: أن يكون الكفار لا يزيدون على ضعف المسلمين، فإن زادوا عليه جاز الفرار؛ لقول الله تعالى: ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ﴾ [الأنفال: 66]. * الثاني: ألا يقصد بفراره التحيُّز إلى فئة ولا التحرف لقتال، فإن قصد أحدٌ هذين، فهو مباح له؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ ﴾ [الأنفال: 16]، ومعنى التحرُّف للقتال: أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن؛ مثل أن ينحاز مِن مواجهة الشمس أو الريح إلى استدبارهما، أو مِن نزلة إلى علو، أو مِن معطشة إلى موضع ماء، أو غير ذلك. * ب- وإذا كان العدو أكثرَ من ضعف المسلمين، فغلب على الظن الظفر، فالأَولى الثبات، وإن غلب على ظنِّهم الهلاك في الإقامة، والنجاة في الانصراف فالأولى الانصراف، وإن ثبتوا جاز؛ لأن لهم غرضًا في الشهادة، ويجوز أن يغلبوا أيضًا. * ت- فإن جاء العدو بلدًا، فلأهله التحصين منهم، وإن كانوا أكثر مِن نصفهم ليلحقهم مدد أو قوة، ولا يكون ذلك توليًا ولا فرارًا، إنما التولي بعد لقاء العدو[17]. * 4-* معيار الفقه: ﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾، وهو معيارٌ حاسم، وأساس في تحقيق النصر للمؤمنين والهزيمة للكافرين؛ فالمؤمنون يفقهون ما يقاتلون عليه، ويضحون من أجله، فهم قد خرَجوا لإحقاق الحق وإبطال الباطل، ولكيلا تكون فتنةٌ، ويكون الدين كله لله، ولتأديب المعتَدين الصادِّين عن الدعوة، وهم يعلمون علم اليقين أنهم يقاتلون لنصرة دين الله أو لنَيْل الشهادة في سبيل الله، جاء في ظلال القرآن: (فما صلة الفقه بالغلب في ظاهر الأمر؟ إنها صِلةٌ حقيقية وصلة قوية، إن الفئة المؤمنة إنما تمتازُ بأنها تعرف طريقها، وتفقه منهجها، وتُدرك حقيقة وجودها وحقيقة غايتِها، إنها تفقهُ حقيقةَ الألوهية، وحقيقةَ العبودية، فتفقهُ أن الألوهية لا بد أن تنفردَ وتستعلي، وأن العبودية يجب أن تكون لله وحدَه بلا شريك، وتفقه أنها هي الأمة المسلمة المهتدية بهُدى الله، المنطلقة في الأرض بإذن الله لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، كل ذلك فقه يسكب في قلوب العُصبة المسلمة النورَ والثقة والقوة واليقين، ويدفع بها إلى الجهاد في سبيل الله في قوة وفي طمأنينة للعاقبة تضاعف القوة، بينما أعداؤها ﴿ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾، قلوبهم مغلقة، وبصائرهم مطموسة، وقوَّتهم كَلِيلةٌ عاجزة، مهما تكن متفوقة ظاهرة، إنها قوة منقطعة معزولة عن الأصل الكبير)[18]. * إن الكافرين يقاتلون ومعهم الشيطان، وهو سندٌ ضعيف ومُعِين خادع، والمؤمنون يقاتلون، ومعهم الله عز وجل، الذي بيده مقاليد الأمور وخالق الأسباب والقُوى والقدر، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76]. * ليتَ أهل الإسلام يعودون إلى حقيقة الإيمان، فيكونوا أهل فقه، فيُدركوا أن القوة بيدِ الله وحدَه، وأن حياتهم في جهاد أعدائهم لا في استجدائهم وطلب العون والقوة منهم، لكن عليهم أن يجاهدوا أنفسهم، ويعدُّوا عدتهم، ويعتمدوا على الله وحده؛ فهو الناصر والمؤيد. [1] يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي: "﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ﴾ حين يكون الأمر متعلقًا بالأسوة السلوكية، أما إذا كان الأمر متعلقًا بتنزيل تشريع فالخطاب ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ﴾"؛ تفسير الشعراوي، ص 4789. [2] مختار الصحاح مادة ح ر ض. [3] تفسير القرطبي، ج4، ص 2883. [4] تفسير الشعراوي ص 4791 باختصار. [5] الليث بن سعد: يكنى أبا الحارث، ولد سنة 93هـ، واشتغل بالفتوى بمصر، أسند الليث عن خلق كثير من التابعين؛ كعطاء، ونافع، وأبي الزبير، والزهري، وقيل: إنه أدرك نيفًا وخمسين تابعيًّا، وتوفي يوم الجمعة 16 شعبان سنة 175هـ. [6] هو أبو أيوب، خالد بن زيد بن كليب الأنصاري، (سبقت ترجمته). [7] تفسير ابن كثير، ج1، ص 228 وفي سنن الترمذي، باب ومن سورة البقرة، رقم 2972، ص 733، وقال: حديث حسن صحيح غريب. [8] تفسير ابن كثير، ج1، ص 228. [9] سبقت ترجمته. [10] فتح الباري، ج6، كتاب الجهاد، ص 6 - 4. [11] المرجع السابق. [12] فتح الباري ج6، ص 12. [13] فتح الباري، ج6، ص 12، 13، وانظر كتاب: مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق، ومثير الغرام إلى دار السلام؛ تأليف أبي زكريا أحمد بن إبراهيم بن محمد الدمشقي، ثم الدمياطي، المشهور بابن النحاس، المتوفى سنة 814هـ، دراسة وتحقيق/ محمد علي، ومحمد خالد إسطنبولي، وهو في الجهاد وفضائله. [14] المستطرف في كل فن مستظرف، ص 230، ويوم أن رفعَتْ مصرُ والعرب راية الجهاد وشعار (الله أكبر)، نصرهم الله تعالى على اليهود، وعبروا القناة، وذلك في رمضان، وقد أطلقوا على الخطة الحربية "بدر"، وهي التي دمَّروا بها خط برليف. [15] القرطبي، ج4، ص 3883، وروح المعاني، ج6، ص 43، وسورة الأنفال عرض وتفسير، د. مصطفى زيد، ص 193. [16] مناهج الدعوة وأساليبها، د. على جريشة، ص 98. [17] المغني لابن قدامة، تحقيق د. محمد خليل هراس، مكتبة ابن تيمية، الطالبية، القاهرة، ج8، ص483 - 486، باختصار. [18] في ظلال القرآن، سيد قطب، ج3، ص 1550. د. أمين الدميري
__________________
|
العلامات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|