#1
|
|||
|
|||
أبناء العلماء (ابن الجوزي والصاحب وسبط ابن الجوزي)
ابن الجوزي: جمال الدين أبو الفرج عبدالرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد؛ شيخ الوعَّاظ المشهور بابن الجوزي. ولِد ابن الجوزي ببغداد سنة 508 هـ على الأرجح، ومات أبوه وهو ابن ثلاث سنوات، فتكفَّلت عمتُه بتربيته، وأرسلته إلى مسجد محمد بن ناصر الحافظ؛ ليتلقى جميع العلوم منه ومن غيره من الشيوخ. وقد عاش عيشة مُرفهة، وغلَب على عيشه مع ذلك التديُّن؛ قال ابن الجوزي: "فما أذكر أني لعِبت في طريق الصبيان قط، ولا ضحِكتُ ضَحِكًا عاليًا"؛ (لفتة الكبد إلى نصيحة الولد، ص 46). قال ابن الجوزي: "ولقد وفق لي شيخنا أبو الفضل بن ناصر رحمه الله، وكان يَحملني إلى الشيوخ، فأسمَعني المسند وغيره من الكتب الكبار، وأنا لا أعلم ما يراد مني، وضبَط لي مسموعاتي إلى أن بلغتُ، فناوَلني ثَبَتَها ولازَمته إلى أن توفِّي رحمه الله، فنِلت منه معرفة الحديث والنقل". * وقد رزَقه الله هِمة عالية في الطلب والمطالعة والحفظ؛ قال ابن الجوزي: "ولو قلتُ: إني طالعتُ عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بَعْدُ في الطلب، فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سِيَر القوم وقدْر هِمَمِهم وحِفظهم وعباداتهم، وغرائب علومهم - ما لا يَعرِفه مَن لَم يطالع"؛ (صيد الخاطر، ص 441). * وانتفع من قراءته، فبدأ في التصنيف في فوائد ما قرأه، فكان "لا يضع من زمانه شيئًا، يكتب في اليوم أربع كراريس، ويرتفع له كل سنة من كتابته ما بين خمسين مجلدًا إلى ستين، وله في كل علم مشاركة"؛ (شذرات الذهب في أخبار من ذهب؛ ابن العماد، ص 330). * وقد أورَثه حبُّ المطالعة والتصنيف نبوغًا عجيبًا؛ قال ابن الجوزي عن نفسه: "ثم لم يُحبب إليَّ فنٌّ واحد منه، بل فنونه كلها"، وقد اشتَهر في الوعظ، حتى لقد صار واعظ الآفاق، وتميَّزت مجالسه الوعظية بكثرة عدد حاضريه، "فكان يُحْزَرُ جمعُ مجلسي على الدوام بعشرة آلاف وخمسة عشر ألفًا"، ومِن شدة تأثيره "أسلَم على يده نحو من مائتين من أهل الذمة، وتاب في مجالسه أكثر من مائة ألف، وقد قطَع أكثر من عشرين ألف سالف مما يتعاناه الجُهال"؛ (لفتة الكبد إلى نصيحة الولد، ص 47). * وفي الحديث عُدَّ من الحُفاظ على ضَعفٍ في توثيقه، وقال عن نفسه مادحًا: "ولا يكاد يُذكر لي حديث إلا ويُمكنني أن أقول: إنه صحيح، أو حسن، أو مُحال"؛ (شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ج3، ص 329 - 330). ومصنفاته كثيرة؛ قال ابن كثير: "وله اليد الطُّولى والمشاركات في سائر أنواعها؛ من التفسير والحديث والتاريخ والحساب، والنظر في النجوم والطب والفقه، وغير ذلك من اللغة والنحو، وله من المصنفات في ذلك ما يَضيق هذا المكان عن تَعدادها، وحصْر أفرادها"؛ (البداية والنهاية، ج13، ص 29). قال سبط ابن الجوزي: "سمِعت جَدي يقول على المنبر: كتبتُ بإصبعي (2000) مجلد"، "ومجموع تصانيفه (250) كتابًا". * وقد ذكر ابن الجوزي في مواضع عِدَّة عددَ مصنفاته قائلًا: "قد صنَّفتُ (100) كتاب، فمنها التفسير الكبير عشرون مجلدًا، والتاريخ عشرون مجلدًا، وتهذيب المسند عشرون مجلدًا، وباقي الكتب بين كبار وصغار، يكون خمسة مجلدات، ومجلدين وثلاثة وأربعة، وأقل وأكثر"، وسُئِل عن عدد تصانيفه، فقال: "زيادة على (340) مصنفًا، منها ما هو عشرون مجلدًا وأقل"؛ (لفتة الكبد إلى نصيحة الولد، ص 58). * وقد شهِد له بالعلم والفضل الكثيرُ؛ قال عنه ابن رجب صاحب "ذيل طبقات الحنابلة": إنه "الحافظ المفسر، الفقيه الواعظ، الأديب، شيخ وقته، وإمام عصره". * وقال أيضًا: "قرأت بخط الإمام ناصح الدين ابن الحنبلي الواعظ في حق الشيخ أبي الفرج: اجتمع فيه من العلوم ما لم يجتمع في غيره، وكانت مجالسه الوعظية جامعة للحسن والحسان". * وقال ابن العماد صاحب "شذرات الذهب": "الواعظ المتفنن، صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة في أنواع العلم؛ من التفسير والحديث والفقه، والزهد والوعظ، والأخبار والتاريخ، والطب وغير ذلك". وقال الذهبي عنه: "ما علِمت أحدًا من العلماء صنَّف ما صنَّف هذا الرجل". وقد مدَحه مدحًا طويلًا الرحَّالة ابن جُبير، فقال: "شاهَدنا مجلس الشيخ الفقيه الإمام الأوحد، جمال الدين أبي الفضائل بن علي الجوزي .... فشاهدنا مجلس رجل ليس من عمرو ولا زيد، وفي جوف الفَرَا كل الصيد، آية الزمان، وقُرة عين الإيمان، رئيس الحنبلية، والمخصوص في العلوم بالرُّتب العليَّة، إمام الجماعة، وفارس حَلْبة هذه الصناعة، والمشهود له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة، مالك أزِمَّة الكلام في النظم والنثر، والغائص في بحر فكره على نفائس الدرر، فأما نظمُه فرَضِيُّ الطِّباع، مهياري الانطباع، وأما نثره فيَصدَع بسحرِ البيان، ويُعطِّل المثلَ بِقُسٍّ وسَحبان"؛ (رحلة ابن جبير، ص 196 - 197). * وقال الداودي صاحب "طبقات المفسرين": "الإمام العلامة، حافظ العراق، وواعظ الآفاق، صاحب التصانيف المشهورة في أنواع العلوم". وقد امتُحِن ابن الجوزي في آخر عمره، وذلك سنة 590هـ، وضُيِّق عليه من جانب الرافضة، حتى فُرِّج عنه عام 595 هـ، وعاد إلى التدريس ووعظ الناس. * وفي ليلة الجمعة 12 رمضان 597هـ توفِّي ابن الجوزي وله من العمر 86 عامًا، وحزِن عليه أهل بغداد قاطبةً، وكان يومًا مشهودًا. الصاحب ابن الجوزي: محيي الدين يوسف بن عبدالرحمن بن علي بن الجوزي؛ المعروف بالصاحب ابن الجوزي، ابن الإمام ابن الجوزي. توفِّي والده وعمره سبع عشرة سنة، فكفلتْه والدة الخليفة الناصر. وقد تلقَّى العلم على والده قبل وفاته، وطائفة من العلماء، واشتغل بالفقه والوعظ والأصول، وبرَع في ذلك وكان أمهَر فيه من أبيه، ووعَظ في صِغره على قاعدة أبيه، وعلا أمره، وعظُم شأنه، وولِي الولايات الجليلة. * قال شمس الدين بن الفخر: "أما رياسته وعقله، فتنقل بالتواتر حتى قال السلطان الملك الكامل: كل أحد يُعْوِزُه عقل سوى محيي الدين، فإنه يُعوزه نقص عقل! وذلك لشِدة مسكته وتصميمه، وقوة نفسه". * وقد أنشأ المدرسة الجوزية في دمشق، وصار أستاذ دار الخلافة المستعصمية وسفيرها، وصدرتْ رسائل الديوان إلى مصر والروم والشام والشرق، والموصل والجزيرة عدة مرات من إنشائه. * قال الذهبي: "وكان صدرًا كبيرًا، وافر الجلالة، ذا سَمت وهيبة، وعبارة فصيحة، رُوسِل به إلى الملوك، وبلَغ أعلى المراتب، وكان محمود الطريقة، مُحبَّبًا إلى الرعية، بقِي في الأستاذ دارية سائرَ أيام المستعصم"؛ (سير أعلام النبلاء، ط الرسالة، ج23، ص 373). * قال الدمياطي: "قرأت عليه كتاب (الوفا في فضائل المصطفى) لأبيه، وأنشدنا لنفسه، ووصلني بذهب". وقد أنفَذه الخلفاء في سفاراتهم، فبعَثه المستنصر في رسالة إلى حلب (سنة 634هـ)، فمات ملكها، وإلى الروم فمات سلطانهم، وإلى الملك الأشرف (سنة 635هـ) فمات، وإلى أخيه العادل، فتُوفِّي. * وما زال معظمًا عند الملوك والعوام، حتى ضُرِبَت عُنقه عند هولاكو في صفر سنة ست وخمسين وستمائة - لَما دخل التتار بغداد - وذلك مع سبعين صدرًا من أعيان بغداد، ومنهم أولاده: المحتسب جمال الدين عبدالرحمن، وشرف الدين عبدالله، وتاج الدين عبدالكريم، رحمهم الله جميعًا. * سبط ابن الجوزي: يوسف بن قُزْغُلي بن عبدالله، أبو المظفر، اشتَهر بـ"سبط ابن الجوزي"، وهو ابن بنت الإمام ابن الجوزي وحفيده، وُلِد سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وتتلمذ على يد جده ابن الجوزي، وغيره من العلماء في عصره. وبرَع مثل جده منذ حداثة عهده في الوعظ والتصنيف؛ قال عمر بن الحاجب: "كان بارعًا فِي الوعظ، كيِّس الإيراد، له صِيت في البلاد، وله يدٌ فِي الفقه واللغة والعربية، وكان حُلو الشمائل، كثير المحفوظ، فصيحًا، حسَن الصوت، يُنشئ الخُطب، ويحب الصالحين والعزْلة، وفيه مُروءة ودِين"؛ (تاريخ الإسلام، ت. بشار، ج14، ص 768). وقد رحل من بغداد إلى دمشق، فاستوطنها وتوفِّي فيها. وقد كان حنبليًّا في بداية طلبه، ثم انتقل إلى المذهب الحنفي، ودرس بالمدرسة الشِّبْليَّة مُدة، وبالمدرسة البَدْريَّة التي هي قُبالة الشبلية، وبمدرسته العِزيَّة. * قال الذهبي في "تاريخ الإسلام": "كان إمامًا، فقيهًا، واعظًا، وحيدًا فِي الوعظ، علَّامة فِي التاريخ والسِّير، وافِر الحُرمة، مُحببًا إلى الناس، حُلو الوعظ، لطيف الشمائل، صاحب قَبُول تام". * وقد صنَّف "مناقب أبي حنيفة" في مجلد، و"معادن الإبريز في التفسير" في تسعة وعشرين مجلدًا، و"شرح الجامع الكبير" في مجلدين، وله "إيثار الإنصاف في آثار الخلاف"، وغيرها. * قال الذهبي: "وحدَّثونا أن ابن الصلاح رحمه الله أراد أن يَعِظ، فقال له الملك الأشرف: لا تفعل؛ فإنك لا تَقدِر أن تكون مثل شمس الدين ابن الجَوزي، ودونه فما يُرضَى لك، فترَك الوعظ بعد أن كان قد تهيَّأ له". * وقد توفِّي عام 654هـ بمنزله بجبل قاسيون، ودُفِن هناك، وحضَر جنازته أهلُ دمشق وأعيانُها. محمود ثروت أبو الفضل
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|