#1
|
||||
|
||||
الموريسكيون أربعون ألف ليلة وليلة
تسعة قرون كاملة قضاها الإسلام في إسبانيا منذ دخلها الفاتحون الأوائل بقيادة طارق بن زياد في يوليو عام 711 وحتى خروج آخر مسلميها عام 1614 بعد صدور مرسوم بطردهم في أبريل 1609، تسعمائة عام بنى فيها المسلمون حضارة ملأت شهرتها الآفاق وفاقت نظيراتها في أوروبا، بل وربما في المشرق. لكن هذه الحضارة لم تشفع لهم عند عديمي الإنسانية الذين ما لبثت أن سقطت غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس حتى سارعوا إلى محاولة محو تاريخها والتخلص من كل ما يربطها بماضيها العطر، هكذا قامت إيزابيلا وفرناندو ملكا قشتالة بعد عشر سنوات فقط من توقيعهم على معاهدة تسليم غرناطة في نوفمبر 1491م بإصدار مرسوم يقضي بالتنصير الإجباري لمسلمي الأندلس… منذ هذه اللحظات أطلق القشتاليون عليهم اسم الموريسكيين.
لم تكن مأساة الموريسكيين كامنة في مجرد تغيير اسمهم من “الأندلسيين” إلى “الموريسكيين”، لم تكن تحويلهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية بعد أن كانوا هم أصحاب الأرض، فطالما حدث ذلك مرات عديدة مع كل فتح أو احتلال. تحدثنا الإسكندرية عن ذلك حين دخلها عمرو بن العاص فاتحا ومن قبله فعلها الفاروق حين دخل القدس، وحين فتح العثمانيون البوسنة وصربيا والمجر أبقوا على كنائسهم وسمحوا لأهلها بممارسة دينهم. لكن أزمة الموريسكيين الحقيقية كانت في رفض القشتاليين للتعامل مع المسلمين حتى كمواطنين درجة عاشرة، كانت المعركة بالنسبة لهم معركة وجود، معركة بدت منذ الوهلة الأولى معركة صفرية. “يستحيل علينا أن نقرأ دون أن ترتعد فرائصنا من قصص ال***** والاضطهاد التي قام بها المسيحيون المنتصرون على المسلمين المنهزمين، فلقد عمدوهم عنوة، وسلموهم لدواوين التفتيش التي أحرقت منهم ما استطاعت من الجموع”. جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب. أربعون ألف ليلة قضاها المسلمون في جحيم حقيقي، أربعون ألف ليلة عانوا فيها من ظلم محاكم التفتيش وباتوا والخوف والرعب يقضان مضاجعهم. وبالرغم من استجابة الكثير منهم للتنصر ظاهريّا فإن إضمارهم للإسلام لم يخف على القشتاليين، تلك الهوية الإسلامية التي مثلت لإيزابيلا وفرناندو رعبا لا مثيل له وكانت دائما مصدرا يدعوهم للقلق، ولما لا وقد ظلت هذه الهوية دائما هي المحرك الرئيسي لثورات المسلمين في غرناطة بدءا من الثورة الأندلسية الأولى في البيازين (1499) وصولا لثورة البشرات (1568) أهم ثورات الموريسكيين في الأندلس؛ لذلك كانت محاكم التفتيش هي الحل أو هكذا ظنوا. فقد قامت هذه المحاكم بكل ما أوتيت من قوة وسلطة بإذاقتهم شتى ألوان العذاب لتصرفهم عن الإسلام أو هكذا أدعت، لكنها في الحقيقة كانت تهدف إلى القضاء عليهم بعد أن حاولت طمس هويتهم دون جدوى. تقول سجلات محاكم التفتيش أن أكثر من 150 ألفا قد عرضوا عليها بتهم مختلفة وهو ما قد يبدو طبيعيا في فترة زمنية تجاوزت القرنين، لكن وبالنظر إلى التهم التي حوكم الموريسكيون من أجلها يبدو جليّا حقارة هذه المحاكم وعِظم ما تعرض له مسلمو الأندلس بعد سقوطها؛ فقد قامت الكنيسة بحظر كل الشعائر الدينية الإسلامية بل والعربية بدءا من ارتداء الملابس العربية ومرورا بالختان والاحتفال بيوم العيد والصيام في رمضان والامتناع عن شرب الخمر وأكل الخنزيروانتهاء بأفعال تبدو هامشية تماما مثل أكل “الكو***”، واستخدام الحناء. وصار الإتيان بأي فعل من هذه الأفعال جريمة تستوجب الخضوع لعقوبة المحكمة، تلك العقوبة التي لم تقل حقارة عن قائمة التهم نفسها، بل لقد تجاوزتها لتصبح هذه العقوبات كابوسا يجثم على صدر كل مسلم أخفى إسلامه وأبدى تنصره خصوصا في ظل تشجيع القشتاليين وحثهم لمواطنيهم على الوشاية بأي مسلم يمارس إسلامه سرّا. وقد أجبرت محاكم التفتيش الموريسكيين على حضور قداسات يوم الأحد وعلى تعميد أطفالهم، ووصل الأمر بهم أن منعوهم من إغلاق أبواب منازلهم حتى يتسنى مراقبتهم ومتابعة أفعالهم. أما الحديث عن وسائل ال***** التي استخدمتها هذه المحاكم فلا يكفيه مجلدات كاملة، تلك الوسائل التي تبارت فيما بينها لنيل لقب الأكثر بشاعة، فمن كرسي ال***** المغطى بمئات المسامير إلى آلة تهشيم الرأس وعجلة كاترين وغيرها من أدوات ال***** المبتكرة التي تعرض من خلالها الموريسكيون لأقسى درجات العذاب، بل إن الأمر وصل بالكنيسة أن نظمت ما يطلق عليه موكب الحريق والذي يساق فيها الموريسكيون المذنبون -من وجهة نظر محاكم التفتيش- إلى أكبر ساحات المدينة وهم مقيدون بالأغلال ثم يتم إضرام النار فيهم بلا أدنى شفقة. لكن ثبات الموريسكيين كان مذهلا، ذلك الثبات الذي حمل الملك الإسباني فيليب الثالث في النهاية على إصدار مرسومه القاضي بطردهم تماما من أراضي الأندلس في التاسع من أبريل عام 1609. ذلك القرار الذي قضى على الوجود الإسلامي بعد رحلة طويلة استمرت قرونا عدة وبعد معاناة دامت قرابة القرن. وكما سيطرت السفن على مشهد البداية كاملا، جاءت النهاية لتحمل صورة شبيهة كانت للسفن فيها أيضا الكلمة العليا، مئات الآلاف من المسلمين تحملهم مئات المراكب في مشهد حزين، لوحة كئيبة لو جاز لنا أن نطلق عليها اسم لكان هذا الاسم هو رحلة إلى المجهول. رحلة قضى فيه إفريقيا ومدن المغرب العربي. رحلة أنهت أربعون ألف ليلة من عذاب الغربة في الوطن لتبدأ غربة أكثر وحشة لم يكتب لها النهاية حتى الآن أيمن حويرة ساسة بوست 30/12/2015 |
العلامات المرجعية |
|
|