#1
|
||||
|
||||
أبو بكر والمرتدون
|
#2
|
||||
|
||||
أبو بكر والمرتدون د. أحمد عبدالحميد عبدالحق وأما وصيته للأمراء فجاء فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام، وعهد إليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره كله سره وعلانيته، وأمره بالجد في أمر الله، ومجاهدة من تولى عنه، ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إليهم، فيدعوهم بداعية الإسلام، فإن أجابوه أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يقروا له، ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم، فيأخذ ما عليهم، ويعطيهم الذي لهم، لا ينظرهم ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم، فمن أجاب إلى أمر الله عز وجل وأقر له قبل ذلك منه، وأعانه عليه بالمعروف، وإنما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله، فإذا أجاب الدعوةَ لم يكن عليه سبيل، وكان الله حسيبه بعدُ فيما استسَرَّ به، ومن لم يُجب داعيةَ الله *** وقوتل، حيث كان وحيث بلغ مراغمه، لا يقبل من أحد شيئًا أعطاه إلا الإسلام، فمن أجابه وأقرّ قبل منه وعلمه، ومن أبى قاتله، فإن أظهره الله عليه *** منهم كل ***ة بالسلاح والنيران، ثم قسم ما أفاء الله عليه إلا الخمس، فإنه يبلغناه، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد، وألا يدخل فيهم حشوًا حتى يعرفهم، ويعلم ما هم؛ لا يكونوا عيونًا، ولئلا يُؤتى المسلمون من قِبَلهم، وأن يقتصد بالمسلمين، ويرفق بهم في السير والمنزل، ويتفقدهم، ولا يعجل بعضهم عن بعض، ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول"..... وسار الجيش الأول بقيادة خالد بن الوليد، وقصد طليحة الأسدي، وفي طريقه مر بقبيلة طيء، وكان أفرادها قد انحازوا إلى طليحة عصبية له، ولكن خالدًا لم يبدأ بمهاجمتهم، وإنما أخذ بنصيحة الصديق، وأبطأ في مهاجمتهم، وقد طلب منه عدي بن حاتم أن يمهله ثلاثة أيام يراجعهم فيها ففعل، وماطلوه أولا وقالوا: لا نبايع أبا الفصيل أبدًا (يقصدون أبا بكر)، فقال عدي مهددًا إياهم: لقد أتاكم قوم ليبيحُن حريمكم، ولتكنُنه بالفحل الأكبر، فشأنكم به! فقالوا له: فاستقبل الجيش فنهنهه عنا حتى نستخرج من لحق بالبزاخة (المكان الذي عسكر فيه طليحة) منا، فإنا إن خالفنا طليحة وهم في يديه ***هم، أو ارتهنهم، فأجابهم إلى ذلك، ونجح في فصلهم عن طليحة، وعادوا مقرين بالإسلام، وبما أوجبه الله عليهم.. وأراد خالد أن يقصد قبيلة (جديلة) بعد ذلك، فقال له عدي: إن طيئا كالطائر، وإن جديلة أحد جناحي طيء فأجلني أيامًا لعل الله أن ينقذ جديلة كما أنقذ طيئًا، ففعل فأتاهم عدي فلم يزل بهم حتى بايعوه، فجاءه بإسلامهم، ولحق بالمسلمين منهم ألف راكب.. ثم صار خالد إلى (بُزاخة) فالتقى طليحة الأسدي ومن انحاز إليه من المرتدين، وكان معه عيينة بن حصن في سبعمائة من بني فزارة فقاتل قتالا شديدًا حتى إذا أحس بوطئة الحرب ذهب إلى طليحة، فقال: هل جاءك جبريل؟ فقال: نعم، قال عيينة فماذا قال لك؟ فقال طليحة: قال لي: إن لك رحا كرحاه وحديثا لا تنساه، فقال عيينة: أظن أن قد علم الله أنه سيكون حديث لا تنساه، يا بني فزارة انصرفوا فهذا والله كذاب، فانصرفوا، وانهزم باقي الناس فأتوا طليحة يقولون: ماذا تأمرنا، وقد كان أعد فرسه عنده وهيأ بعيرًا لامرأته، فوثب على فرسه، وحمل امرأته ثم نجا بها، وقال: من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل، ثم تركهم لل*** وفر إلى الشام[1]، وهذا جزاء من يتبع كل ضال.. فاجتمعت بعدَ فرارِه أسد وعامر وغطفان إلى خالد -رضي الله عنه-، وأعلنوا توبتهم، وليس هذا فقط، بل إن بني عامر وسائر القبائل من سليم وهوازن بعد أن رأوا هزيمتهم أقبلوا يقولون: ندخل فيما خرجنا منه، ونؤمن بالله ورسوله، ونسلم لحكمه في أموالنا وأنفسنا... فبايعهم خالد على الإسلام وكانت بيعته: عليكم عهد الله وميثاقه لتؤمنن بالله ورسوله، ولتقيمن الصلاة، ولتؤتن الزكاة، وتبايعون على ذلك أبناءكم ونساءكم.. ولكنه لم يقبل من أحد منهم إلا أن يأتوه بالذين حرقوا ومثلوا وعَدَوْا على أهل الإسلام في حال ردتهم، فأتوه بهم فأوثقهم وأحرقهم بالنيران ورضخهم بالحجارة، ورمى بهم من الجبال، ونكسهم في الآبار؛ جزاء وفاقًا لما فعلوه بالمسلمين من قبل ليكونوا عبرة لغيرهم.. وكان ذلك عن أمر أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فقد كتب إليه يقول: "ليزدك ما أنعم الله به عليك خيرًا، واتقِ الله في أمرك، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، جد في أمر الله،.. ولا تظفرن بأحد ***َ المسلمين إلا ***ته ونكَّلت به غيره.. وبعد انتهاء خالد من بني أسد وأحلافهم اتجه بأمر من الخليفة إلى بني يربوع في تميم وعليهم مالك بن نويرة، وكان قد تحالف من قبل مع سجاح التغلبية على المسلمين، ولكنها تخلت عنه لما شعرت بقوة المسلمين، وعادت إلى موطنها "الجزيرة" فتحير بنو تميم الذين حالفوها من قبل، وندموا على ما كان منهم، ولم يلبثوا طويلاً حتى وصلت إليهم جيوش خالد بن الوليد، فعندما جيء برؤسائهم إلى خالد جادلهم، وشهد جماعة على بني يربوع أنهم لم يؤذنوا ف***هم، و*** ضرار بن الأزور الذي كان على طليعة خالد مالك بن نويرة... وحدثت خلافات في ***ه، وذكر عوام القصاص في ذلك الأعاجيب، من ذلك أنه ***ه وخلفه على امرأته دون أن تعتد، وأنه قطع رأسه وأوقد فيها النار حتى استوت عليها اللحم التي أعدها لطعامه.. ومن العجب أن من يُسمُّون أنفسهم بالتنويريين في عصرنا صاروا يجمعون مثل تلك الروايات ليطعنوا بها في صحابة رسول الله، ولم يكلف الواحدُ منهم نفسَه ليُعمِل عقلَه في مثل تلك القصص، فأيُّ شعرِ رأسٍ هذا الذي تُوضع عليه اللحومُ فينضجها مهما كان كثيفًا؟! إننا لو أحضرنا قنطارًا من الشعر وأشعلنا فيه النار لاحترق قبل أن تنضج اللحوم التي توضع عليه، فما بالنا بفروة رأس؟!.. وعلى كل فإن أبا بكر الصديق قد عاتب خالدًا بعد عوده إلى المدينة؛ لأنه لم يتريث في ***هم، فاعتذر لأبي بكر بأنه لم يصدر عنهم ما يدل على أنهم قد هموا بالإقدام على الإسلام فرضي عنه، ولم يكن أمام أبي بكر غير ذلك في مثل تلك الظروف، فالأمور مضطربة، والأحوال مختلة، والبعض يدعي ما ليس في قلبه، وقد شهد الأكثرية أن مالك بن نويرة ومن معه لم يسلموا، ومن سمعه يقول: صبأنا فسرها بأنه قالها والسيف على رأسه نجاة من الموت، ودرأً للشبهة دفع أبو بكر الصديق ديةَ مالك بن نويرة ومن قُتل معه، ورد على أهلهم سبيهم ومالَهم الذي أُخذ منهم كما ذكر الذهبي في كتابه "تاريخ الإسلام".. وإذا كنا نرى أمريكا بجبروتها تبرّئ جنودها الآن من كل عملية تنسب إليهم ويروح فيها عشرات بل مئات الأبرياء من الأطفال والعجائز وهم آمنون في بيوتهم، فعلامَ يسعى أذيالها لكيل التهم لجيش خالد لأنه *** قائد الجيش المحارب له؟!.. ونعود إلى خالد بن الوليد فنقول: إن أبا بكر قد أمره بالمسير إلى مسيلمة الكذاب بعد الفراغ من مالك بن نويرة، فسار إلى البطاح والتقى جنده هناك، وانتظر حتى جاءه المدد، فقام إلى مسيلمة وأتباعه من بني حنيفة، وكان (عكرمة بن أبي جهل) قد قصده من قبل فُهزم على أيديه، فأمده أبو بكر الصديق بشرحبيل بن حسنة، ولكنه لما علم بهزيمة عكرمة طلب من شرحبيل ألا يتسرع في مصادمته قبل أن يزوده بمدد آخر عوضًا عمن فقد من جيش عكرمة، لكنه تعجل المواجهة، واستعان على قتالهم بمن ثبت على إسلامه من بني حنيفة بإمرة ثمامة بن أثال، فهُزم أيضا أمام مسيلمة لقلة عدد من معه، فلامه خالد عند وصوله على تسرعه؛ حتى حلت به الهزيمة.. أما مسيلمة فإنه استقوى بعد انتصاره على عكرمة وشرحبيل، وعسكر ببني حنيفة في منطقة تسمى "عقرباء" في أعلى وادي حنيفة، فسلك إليه خالد من ثنية في جبل اليمامة (طويق) وعلى مُجَنِّبَتيه زيد بن الخطاب أخو عمر، وأبو حذيفة بن عتبة، وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وراية الأنصار مع ثابت بن قيس، ثم أمر ضرار بن الأزور أن يسير في قسم من الجند من ثنية أخرى من الشمال، وينزلوا من جهة منطقة تسمى (ملهم) إلى عقرباء.. وعند "عقرباء" جرت معركة حامية الوطيس بين الفئتين، تراجع المسلمون في أولها حتى دخل بنو حنيفة على خالد في فسطاطه، ثم حمل المسلمون حملة رجل واحد أزالت المرتدين عن مواقعهم، وأجبرت مسيلمة على الالتجاء إلى حديقة عرفت فيما بعد باسم حديقة الموت، وفيها صُرع مسيلمة الكذاب وعدد كبير من جنده، واستشهد من المسلمين عدد من القراء ووجهاء الناس، منهم زيد بن الخطاب، وثابت بن قيس، وانتهت المعركة بنصرة المسلمين، ثم دعا خالد الناجين من أهل اليمامة إلى الإسلام والبراءة مما كانوا عليه فأسلم سائرهم.. أما عكرمة فقد أمره أبو بكر -رضي الله عنه- أن يلحق بحذيفة بن محصن وعرفجة بن هرثمة لقتال المرتدين في عمان حتى يلتقوا مع المهاجر بن أبي أمية الذي يكون قد فرغ من اليمن وسار إلى حضرموت، وقصد أبو بكر من ذلك ألا يُبقي جيشًا في مكان شعر فيه بالهزيمة فيضعف معنويًا، وألا تكون فكرةُ الهزيمة موجودة في معجم أي مسلم مجاهد. اتجه عكرمة إذن في أثر حذيفة وعرفجة، فأدركهما قبل الوصول إلى عمان، وهناك راسلوا جيفرًا وعبادًا القائدين الذين سيرهما أبو بكر قبلهم لينضموا إليهم، ويقاتلوا المرتدين متحدين تحت لواء واحد، وكان مكان التجمع في منطقة "صحار" حيث جرت معركة بين الطرفين ("لقيط دبا" المرتدين، والمسلمين) كاد ينجح فيها "لقيط دبا" لولا النجدات التي وصلت للمسلمين من البحرين وغيرها، فانتصر المؤمنون.. وبعد الفراغ من المعركة أُرسل عرفجة إلى أبي بكر الصديق مهنئًا ومعه خُمس ما غنموه، وبقي حذيفة يدير شئون عمان، وأما عكرمة فسار بعد النصر إلى منطقة تسمى "مهرة " وكان القوم فيها قد ارتدوا، إلا أنهم اختلفوا فقسم منهم في السواحل مع رجل يسمى (شخريت) وهم أقل عدداً، فبدأ بهم عكرمة فدعاهم للإسلام فوافقوا، وأنابوا إليه مما أضعف القسم الثاني الذين كانوا في المناطق المرتفعة مع رجل يسمى (المصبح)، فهزموا أمام المسلمين، وأرسل عكرمة خبر هزيمتهم مع (شخريت) إلى المدينة المنورة. بعد ذلك تابع عكرمة سيره حتى التقى في مأرب المهاجر بن أبي أمية الذي كان أبو بكر -رضي الله عنه- قد أرسله من قبل إلى اليمن، على أن يمر بمكة فيضم إليه خالد بن أسيد، وبالطائف فيضم إليه عبد الرحمن بن أبي العاص، وبالسراة فيضم إليه جرير بن عبد الله البجلي، وبتهامة فيضم إليه عبد الله بن ثور، وبنجران فيضم إليه فروة بن مسيك، ثم اصطحبهم جميعا إلى اليمن.. وفي اليمن أسر المهاجرُ عمرَو بنَ معد يكرب وقيس بن عبد يغوث المكشوح، وكانا من قادة المرتدين الذين يؤلبون الناس، وأرسلهما إلى أبي بكر -رضي الله عنه- ثم واصل سيره إلى صنعاء فدخلها، ولاحق شُذَّاذ القبائل الذين هربوا إليها، واقتحم هو وعكرمة حضرموت.. وفي تلك الظروف حاول البعض أن يهيج فتنة يروح فيها الصالح والطالح كما يحدث في العراق الآن، فقد جاء رجل يسمى الفجاءة إياس بن عبد ياليل إلى أبي بكر فقال: إني مسلم وقد أردت جهاد من ارتد من الكفار فاحملني وأعني، فحمله أبو بكر على ظهر وأعطاه سلاحًا، فخرج يستعرض الناس المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم ويصيب من امتنع منهم، فلما بلغ أبا بكر خبره كتب إلى طريفة بن حاجز: إن عدو الله الفجاءة أتاني يزعم أنه مسلم، ويسألني أن أقويه على من ارتد عن الإسلام فحملته وسلحته، ثم انتهى إليّ من يقين الخبر أن عدو الله قد استعرض الناس المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم وي*** من خالفه منهم، فسر إليه بمن معك من المسلمين حتى ت***ه أو تأخذه فتأتيني به، فسار طريفة بن حاجز حتى أمسك به وجاء إلى أبي بكر، فأمر بطرحه في النار بمنطقة البقيع اقتصاصًا لمن *** من أبرياء الناس... وهكذا لم يهل شهر ربيع من العام التالي لخلافة الصديق إلا وقد قطع دابر المرتدين تمامًا، ونجح بسياسته الحازمة في أن يطهر الجزيرة العربية من كل رجس، وأن يجمعها على كلمة التوحيد لينطلق بعدها أبناؤها إلى الأقطار الأخرى مخرجين الناس من الظلمات إلى النور، من الشرك إلى التوحيد، من جور الأديان إلى عدل وسماحة الإسلام، من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فليكن لنا في مواقفه رضي الله عنه وأرضاه الأسوة الحسنة. ــــــــــــــــــــــــــــ [1] مضى طليحة إلى كلب على النقع فأسلم ولم يزل مقيما في كلب حتى مات أبو بكر وكان إسلامه هنالك حين بلغه أن أسدًا وغطفان وعامرًا قد أسلموا، ثم خرج نحو مكة معتمرًا في إمارة أبي بكر ومر بجنبات المدينة فقيل لأبي بكر: هذا طليحة، فقال: ما أصنع به خلوا عنه فقد هداه الله للإسلام، ومضى طليحة نحو مكة فقضى عمرته، ثم أتى عمر إلى البيعة حين استخلف، فقال له عمر: أنت قاتل عكاشة وثابت والله لا أحبك أبدًا، فقال يا أمير المؤمنين: ما تهم من رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهني بأيديهما، فبايعه عمر.. |
العلامات المرجعية |
|
|