#1
|
||||
|
||||
عقول خلدت صفحات التاريخ
عقول خلدت صفحات التاريخ
عبير بن حمد علي العباد مدخل: أحببتُ أن أُقدِّم لأُمَّتي هذا المقال المتواضع؛ ليكون - بإذن الله - سِراجًا يُنير لها طريقَ نهضتها، بسبب رَوَاج كثيرٍ من الأفكار حول مَن يخلد التاريخ؟ فاختلاف الأفكار ووِجْهات النظر في تخليد التاريخ أصبحتْ قضيَّة فكرية رائجة في عصرنا الحالي، ونجد دعاياتها على مسارح الإعلام. وأكثر مَن يفكِّر فيها شباب المُسلمين الذين اندفَع البعضُ منهم - بغَرَضِ البَحْث عن الشُّهرة - إلى أفكار انحلَّتْ بها الحضارة الإسلاميَّة. لقد هيَّأ الله لهذه الحياة أن تكون غَمْرة صراعٍ بين الحق والباطل، وذلك منذ سنوات غابرة؛ حيث احتَدَم الصراع بينهما، ومن قسوة ذلك الصراع تلك الهموم التي تكالَبَتْ على الأمة، والمآسي التي تلطَّختْ بها الحضارة؛ مما أدَّى إلى ضَعفها وانهيارها، وتَجَسَّد ذلك فيما دوَّنته كُتب التاريخ؛ لأن البشر الذين سخَّرهم الله - سبحانه وتعالى - خلفاء في الأرض؛ حيث قال - تعالى -: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 30]. ومن هذه الآية الكريمة تجدر الإشارة بنا إلى أن البشر يختلفون باختلاف معادنهم وجوهراهم، ففي هذه الحياة انقسمَتْ عقول البشرية التي ذكَرها مصطفى سباعي في كتابه: "هكذا علَّمتني الحياة" إلى شطْرين؛ الشطر الأول: إلى علماء صامدين، ومفكِّرين صادقين، وأُدباء إنسانيين، والشطر الثاني: مَن كرَّسوا حياتهم للباطل، وأشبَعوا رغبات الجماهير بالغناء، والرقْص، والإثارة، والانْحِلال الأخلاقي، فسَلك البشر عديدًا من دروب الحياة؛ لأنهم يختلفون في تفكيرهم وغاياتهم، ونتيجة ذلك الصراع بين البشرية نجدها عندما نُقلِّب صفحات التاريخ. إنَّ الصِّراع يَكْمن في العقول، فمَن كان عقله نيِّرًا، ويحمل كلَّ مواطن العِلم والمعرفة، فهو يسعى إلى كشْف الحقائق والإبداع في حياته، فيستحق بأن يرسِّخ التاريخ ذكراهم، مثلاً: عمر بن الخطاب وإنجازاته التي ما زال يحمل كلٌّ منَّا في قلبه له المحبة والإجلال على الرغم من البُعد الزماني بينه وبيننا، ولا أنسى كلَّ العلماء المسلمين الذين أبْهروا العالم باكتشافاتهم، منهم: الرازي، والزهراوي، وابن البيطار، والخوارزمي، وغيرهم. وبالعكس فمن هؤلاء مَن سخَّر عقله لتلبية مطامعه الشخصية، وتلهُّفه وراء الشُّهرة والغِنى، فمثل هذا التاريخ منه بَرَاء. فمنهم العازفون على قيثارة الحياة، والمتلهفون إلى المُجون، والبحث عن الشهرة، فأعمالهم كسرابٍ لا يَبقى لها أثرٌ؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً)[النور: 39]، بل يعتبرهم التاريخ الفؤوسَ التي حطَّمت وهدَّمت كِيان الحضارة. فلنعلمْ جميعًا أنَّ الأخلاق هي: الدعامة المتينة التي ترتكز عليها الجماعة في حِفْظ كِيانها وسيرتها، وفي المقدمة قافلة التقدُّم والازْدِهار، وهي الحجر الأساس في تشييد حضارة الأُمم، وإحاطتها بسياج العزَّة والكرامة في الحياة. حيث قال الشاعر: قَدْ وَلَجْنَا الْحَيَاةَ مِنْ كُلِّ بَابٍ *** فَوَجَدْنَا الأَخْلاَقَ بَابَ النَّجَاةِ فلم نسمعْ أن حضارةً قامتْ ركائزها على المجون والطرَب؛ لأن الحضارة الإسلامية عندما كانت متمسِّكة بأهداب الأخلاق، ولابسة رِداء الفضيلة، ومُتحلية بالخِصال الحميدة، استطاعتْ أن تتربَّع على منصَّة التتويج، كما أنها طأطأتْ هامات العالم بأَسْره أمام عَظَمتها؛ إجلالاً وتَقْديسًا لها. ولكن عندما غُلَّتْ قيودُ الأخلاق، وجاءتْ مناهل اللهو والفساد، ضاعتْ مكانتها، وتبعْثَرت قُوَاها، وخَيَّم الظلم فوق ربوعها، وخبَا نورُها، فخارتْ قُوَاها. إذًا نتساءل: مَن خلَّده التاريخ؟ الذين خلَّدهم التاريخ هم الذين لَم يَهنوا ولَم يَضعفوا، بل تضاعَفَتْ عزيمتُهم، وتزايدَتْ إرادتهم في بذْل كلِّ ما يَخدم بناء ونهضة الحضارة. فهم رسالة كُتِب لها من بعد بأن تكون منارةً للعالم، فرسَّخ ذِكراها التاريخ منذ قرون فنَيِت؛ لأنهم قدَّموا النية الخالصة لوجْه الله - تعالى - وتجلَّت لهم الدنيا بأنها عملٌ مِنْ أجْل الآخرة، وأن الحياة لها ركائز؛ "عبادة الله، وطاعة نبيِّه، واحترام الإنسان، والنظام، والتعارُف، والرغبة المخلصة"، وهذه هي القواعد الراسخة التي وقَف عليها بُناة الحضارة الحديثة. فالرجال الخالدون هم الذين يتميَّزون بالشجاعة المعنوية، ويبلغون بها أعلى المراتب - النُّضج والقيادة - وهم مَن مُدَّتْ أيديهم للمجد، وصنعوا هيبةً للأُمَّة. والتاريخ هو حضارة الإنسان، والذي وهَبتْه الشجاعة المعنوية رُوحًا ومادةً معًا هو التاريخ. وفي النهاية أرى أن مَن صنَع لنفسه تاريخًا، استحقَّ أن يخلِّد التاريخ ذِكْراه. والفكر الخالد هو الفكر الذي يُشَيِّد قواعد النهضة عند ابتدائها، ويستحقُّ أصحابه خلود التاريخ، والفكر الذي يَهدم بُنيان الحضارة في أوْجِ عَظَمتها، يستحقُّ أصحابه مسْخَ التاريخ ذِكْراهم[1]. أرجو من الله العلي القدير أن تنهضَ الأمة الإسلامية من سُباتها، وتعود لمجدها وحضارتها. _____________ [1] مُقْتَبس من كتاب: "هكذا علَّمتني الحياة" |
العلامات المرجعية |
|
|