#331
|
||||
|
||||
أقسام السَّكِينَة 1- عامَّة: وهى التى تخصُّ عامَّة الخَلْق، وهى التي يجدها العبد عند القيام بوظائف العبوديَّة، وهي التي تورث الخشوع والخضوع، وجمعيَّة القلب على الله، بحيث يؤدِّي عبوديَّته بقلبه وبدنه قانتًا لله عزَّ وجلَّ .
2- خاصَّة: وهى التي تخصُّ أتباع الرُّسل بحسب متابعتهم، وهي سَكِينة الإيمان، وهي سَكِينةٌ تُسَكِّن القلوب عن الرَّيب والشَّك، ولهذا أنزلها الله على المؤمنين في أصعب المواطن، أحوج ما كانوا إليها، هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [الفتح: 4]. فذكر نعمته عليهم بالجنود الخارجة عنهم، والجنود الدَّاخلة فيهم، وهي السَّكِينَة عند القلق والاضطراب . أعلى مراتبها وأخصُّ أقسامها: أعلى مراتب السَّكِينَة وأخصُّ أقسامها هي: سَكِينة الأنبياء، وقد ذكر ذلك ابن القيِّم وأورد لها أمثلة، فقال: ومن أمثلتها: - السَّكِينَة التي حصلت لإبراهيم الخليل، وقد أُلْقي في المنْجَنِيق مسافرًا إلى ما أَضْرَم له أعداء الله من النَّار، فللَّه تلك السَّكِينَة التي كانت في قلبه حين ذلك السَّفر. - السَّكِينَة التي حصلت لموسى، وقد غشيه فرعون وجنوده من ورائهم، والبحر أمامهم، وقد استغاث بنو إسرائيل: يا موسى إلى أين تذهب بنا؟! هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون خلفنا. - وكذلك السَّكِينَة التي حصلت له وقت تكليم الله له نداءً ونجاءً، كلامًا حقيقةً، سمعه حقيقةً بأذنه. - وكذلك السَّكِينَة التي حصلت له، وقد رأى العصا ثعبانًا مبينًا. - وكذلك السَّكِينَة التي نزلت عليه، وقد رأى حبال القوم وعِصِيَّهم كأنَّها تسعى، فأوجس في نفسه خِيفةً. - وكذلك السَّكِينَة التي حصلت لنبينا صلى الله عليه وسلم وقد أشرف عليه وعلى صاحبه عدوُّهما، وهما في الغار، فلو نظر أحدهم إلى تحت قدميه لرآهما. - وكذلك السَّكِينَة التي نزلت عليه في مواقفه العظيمة، وأعداء الله قد أحاطوا به، كيوم بدر، ويوم حُنين، ويوم الخندَّق وغيره. فهذه السَّكِينَة أمر فوق عقول البَشَر، وهي من أعظم معجزاته عند أرباب البصائر، فإنَّ الكذَّاب -ولا سيَّما على الله- أَمْلَق ما يكون، وأخوف ما يكون، وأشدُّه اضطرابًا في مثل هذه المواطن، فلو لم يكن للرُّسل -صلوات الله وسلامه عليهم- من الآيات إلَّا هذه وحدها لكفتهم . صور السَّكِينَة ودرجاتها: قال صاحب ((المنازل)): (السَّكِينَة: اسم لثلاثة أشياء: أوَّلها: سَكِينة بني إسرائيل التي أعطوها في التَّابوت. السَّكِينَة الثَّانية: هي التي تَنْطِق على لسان المحدَّثين، ليست هي شيئًا يُملك، إنَّما هي شيء من لطائف صنع الحقِّ، تُلقى على لسان المحدَّث الحِكْمة، كما يُلقي الملَك الوحي على قلوب الأنبياء، وتنطق بنُكَت الحقائق مع ترويح الأسرار، وكشف الشُّبه. السَّكِينَة الثَّالثة: هي التي نزلت على قلب النَّبي، وقلوب المؤمنين، وهي شيء يجمع قوَّةً وروحًا، يَسْكن إليه الخائف، ويتسلَّى به الحزين والضَّجِر، ويَسْكن إليه العَصِيُّ والجريء والأَبِيُّ. وأمَّا سَكِينة الوَقَار التي نزَّلها نعتًا لأربابها: فإنَّها ضياء. تلك السَّكِينَة الثَّالثة التي ذكرناها، وهي على ثلاث درجات: الدَّرجة الأولى: سكينة الخشوع عند القيام للخدمة: رعاية وتعظيمًا وحضورًا. الدَّرجة الثَّانية: السَّكِينَة عند المعاملة بمحاسبة النفوس، وملاطفة الخلق، ومراقبة الحق. الدَّرجة الثَّالثة: السَّكِينَة التي تثبِّت الرِّضَى بالقَسْم، وتمنع من الشَّطْح الفاحش، وتوقِّف صاحبها على حدِّ الرُّتبة، والسَّكِينَة لا تَنْزل إلَّا في قلب نبيٍّ أو وليٍّ) . |
#332
|
||||
|
||||
الوسائل المعينة على التَّخلُّق بخُلق السَّكِينَة
1- الامتثال لقول الرَّسول صلى الله عليه وسلم ((عليكم بالسَّكِينَة)) . 2- مصاحبة ذوي الطَّبع الهادئ، وأصحاب السكينة فـــ((المرء على دين خليله)) . 3- القراءة في كتب السِّيرة النَّبويِّة. 4- معرفة فوائد وآثار السَّكِينَة. 5- التَّحلِّي بالصَّبر: فالصَّبر من الفضائل الخُلقية، التي تُعَوِّد الإنسان السَّكِينَة والاطمئنان، وتكون بلسَمًا لجراحه، ودواءً لمرضه وبلائه، فالصَّابر يتلقَّى المكاره بالقبول، فيحبس نَفْسه عن السَّخط، فيتحلَّى بالسَّكِينَة والوَقَار . |
#333
|
||||
|
||||
المواطن التي تطلب عندها السكينة (والمقصود أنَّ العبد محتاج إلى السَّكِينَة عند الوساوس المعترضة في أصل الإيمان؛ ليثبت قلبه ولا يزيغ، وعند الوساوس والخطرات القادحة في أعمال الإيمان؛ لئلَّا تقوى وتصير همومًا، وغمومًا، وإرادات ينقص بها إيمانه، وعند أسباب المخاوف على اختلافها، ليثبت قلبه، ويسكن جَأْشه، وعند أسباب الفرح؛ لئلَّا يطمح به مركبه، فيجاوز الحدَّ الذي لا يُعْبَر، فينقلب ترحًا وحزنًا، وكم ممَّن أنعم الله عليه بما يُفْرِحه، فجمح به مركب الفرح، وتجاوز الحدَّ، فانقلب ترحًا عاجلًا.
ولو أُعِين بسَكِينة تعدل فرحه، لأُرِيد به الخير، وبالله التوفيق. وعند هجوم الأسباب المؤلمة، على اختلافها: الظَّاهرة والباطنة، فما أحوجه إلى السَّكِينَة حينئذ، وما أنفعها له وأجْدَاها عليه، وأحْسَن عاقبتها. والسَّكِينَة في هذه المواطن، علامة على الظَّفَر، وحصول المحبوب، واندِّفاع المكروه، وفقدها علامة على ضدِّ ذلك، لا يخطئ هذا ولا هذا. والله المستعان) . |
#334
|
||||
|
||||
نماذج في السَّكِينَة
الرَّسول صلى الله عليه وسلم: كان صلى الله عليه وسلم من خُلُقِه السَّكِينَة الباعثة على الهيبة والتَّعظيم، الدَّاعية إلى التَّقديم والتَّسليم، وكان من أعظم مَهِيب في النُّفوس، حتَّى ارْتَاعت رُسُل كسرى من هيبته حين أتوه، مع ارتياضهم بصَوْلة الأكَاسِرة، ومكاثرة الملوك الجبابرة، فكان في نفوسهم أهيب، وفي أعينهم أعظم، وإن لم يتعاظم بأهبة، ولم يتطاول بسطوة، بل كان بالتَّواضع موصوفًا، وبالوِطاء معروفًا . نماذج من العلماء: أحمد بن حنبل: عن المروذي، قال: لم أرَ الفقير في مجلس أعزَّ منه في مجلس أحمد، كان مائلًا إليهم، مُقْصرًا عن أهل الدُّنيا، وكان فيه حلم، ولم يكن بالعَجُول، وكان كثير التَّواضع، تعلوه السَّكِينَة والوَقَار، وإذا جلس في مجلسه بعد العصر للفُتيا، لا يتكلَّم حتَّى يُسْأل، وإذا خرج إلى مسجده، لم يتصدَّر . |
#335
|
||||
|
||||
آيات السَّكِينَة ومقتضى السَّكِينَة هدوء النَّفس وسُكُونها. وفي ذلك يقول ابن القيِّم:
(كان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إذا اشتدَّت عليه الأمور قرأ آيات السَّكِينَة. وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه تعجز العقول عن حملها من محاربة أرواح شيطانيَّة ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوَّة، قال: فلمَّا اشتدَّ عليَّ الأمر، قلت لأقاربي ومن حولي: اقرؤوا آيات السَّكِينَة. قال: ثمَّ أقلع عنِّي ذلك الحال، وجلست وما بي قَلَبةٌ . وقال ابن القيِّم أيضًا: (قد جرَّبت -أنا أيضًا- قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه، فرأيت لها تأثيرًا عظيمًا في سكونه وطمأنينته) . |
#336
|
||||
|
||||
السَّكِينَة في واحة الشِّعر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب يرتجز برَجَز عبد الله بن رواحة، ويقول: اللهمَّ لولا أنت ما اهتدينا***ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا فأَنْزِلَنْ سَكِينةً علينا***وثبِّت الأقدام إن لاقينا إنَّ الأعداءَ قد بغوا علينا***إذا أرادوا فتنةً أبينا وقال ابن المبارك في مسعر بن كدام: من كان ملتمسًا جليسًا صالحًا***فليأتِ حلقةَ مِسْعرِ بنِ كِدَامِ فيها السَّكِينَةُ والوَقَارُ، وأهلُها***أهلُ العفافِ وعِلْيَةُ الأقوامِ وقال آخر: أهلًا بقوم صالحين ذوي تُقَى***خير الرجال وزَيْن ملاءِ يسعون في طلب الحديث بعفَّة***وتوقُّر وسَكِينة وحياءِ لهم المهابة والجلالة والتقى***وفضائل جلَّت عن الإحصاءِ آخر تعديل بواسطة محمد رافع 52 ، 03-05-2013 الساعة 11:24 PM |
#337
|
||||
|
||||
سلامة الصَّدر معنى سلامة الصَّدر لغةً واصطلاحًا معنى السلامة لغةً:
السلامة مصدر: سلم يسلَم بسلامة، يقال: سلم المسافر أي خلص ونجا من الآفات فهو سالم. ومعظم باب هذه المادة من الصِّحة والعافية؛ فالسلامة: أن يَسْلَم الإنسان من العاهة والأذى. قال أهل العلم: الله -جلَّ ثناؤه- هو السَّلام؛ لسلامته مما يَلْحق المخلوقين من العيب والنقص والفناء، والسَّلام والسَلَامة: البَرَاءة . معنى الصَّدر لغةً: الصَّدر: أعلى مُقَدَّمِ كُلِّ شيءٍ، وكلُّ ما واجَهَكَ صَدْرٌ، وصَدْرُ القَناةِ أعلاها، وصَدْرُ الأمر أوَّلُه، كصَدْرُ النَّهارِ واللَّيْلِ، وصَدْرُ الشِّتاءِ والصَّيفِ، وما أشْبَه ذلك. وصَدْرُ الإِنسانِ: الجزء الممتدُّ من أسفل العنق إلى فضاء الجوف، وجمعُه: صُدورٌ، وسمِّي القلب صَدْرًا لحلوله به، وفي التَّنزيل العزيز: قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ [آل عمران: 29] . معنى سلامة الصَّدر اصطلاحًا: قال الشَّوكاني: (وأما سَلَامة الصَّدر، فالمراد به: عدم الحقد والغل والبغضاء) . فسليم القلب والصَّدر هو من سَلِم وعُوِفي فؤاده من جميع أمراض القلوب وأَدْوَائها، ومن كلِّ آفة تبعده عن الله تبارك وتعالى. |
#338
|
||||
|
||||
الفرق بين سلامة الصَّدر والبَلَه والتَّغَفُّل
يقول ابن القيِّم: (والفرق بين سَلَامة القلب والـبَلَه والتَّغَفُّل: أنَّ سَلَامة القلب تكون من عدم إرادة الشرِّ بعد معرفته، فيَسْلَم قلبه من إرادته وقصده، لا من معرفته والعلم به، وهذا بخلاف الـبَلَه والغَفْلة، فإنَّها جهل وقلَّة معرفة، وهذا لا يُحْمد؛ إذ هو نقص، وإنَّما يَحْمد النَّاس من هو كذلك؛ لسَلَامتهم منه، والكمال أن يكون القلب عارفًا بتفاصيل الشَّرِّ، سليمًا من إرادته، قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: (لست بِخِبٍّ ولا يخدعني الخِبُّ) . وكان عمر أعقل من أن يُخْدع، وأورع من أن يَخْدع، وقال تعالى: يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشُّعراء: 88-89] فهذا هو السَّليم من الآفات التي تعتري القلوب المريضة، من مرض الشُّبهة التي توجب اتِّباع الظَّنِّ، ومرض الشَّهوة التي توجب اتِّباع ما تهوى الأنفس، فالقلب السَّليم الذي سَلِم من هذا وهذا) . |
#339
|
||||
|
||||
أولًا: في القرآن الكريم
- قال الله -تبارك وتعالى-: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10]. قال ابن رجب: (أفضل الأعمال سَلَامة الصَّدر من أنواع الشَّحْناء كلِّها، وأفضلها السَّلَامة من شحناء أهل الأهواء والبدع، التي تقتضي الطَّعن على سلف الأمَّة، وبغضهم والحقد عليهم، واعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم، ثمَّ يلي ذلك سَلَامة القلب من الشَّحْناء لعموم المسلمين، وإرادة الخير لهم، ونصيحتهم، وأن يحبَّ لهم ما يحبُّ لنفسه، وقد وصف الله تعالى المؤمنين عمومًا بأنَّهم يقولون: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10]) . - وقال -تبارك وتعالى-: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 43]. ففي هذه الآية الكريمة، يبيِّن الله -تبارك وتعالى- أنَّ سَلَامة الصَّدر، ونقاء القلب من أمراضه -والتي منها الغِلُّ- صفة من صفات أهل الجنَّة، وميزة من ميزاتهم، ونعيم يتنعمون به يوم القيامة. وقال -تبارك وتعالى- في موضع آخر من كتابه الكريم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر: 47]. قال ابن عطية: (هذا إخبار من الله عزَّ وجلَّ أنَّه ينقِّي قلوب ساكني الجنَّة من الغلِّ والحقد، وذلك أنَّ صاحب الغلِّ متعذِّب به، ولا عذاب في الجنَّة) . وقال القشيري: (طهَّرنا قلوبهم من كلِّ غش، واستخلصنا أسرارهم عن كلِّ آفة. وطهَّر قلوب العارفين من كلِّ حظٍّ وعلاقة، كما طهَّر قلوب الزَّاهدين عن كلِّ رغبة ومُنية، وطهَّر قلوب العابدين عن كلِّ تهمة وشهوة، وطهَّر قلوب المحبِّين عن محبَّة كلِّ مخلوق، وعن غلِّ الصَّدر- كلُّ واحد على قدر رتبته) . |
#340
|
||||
|
||||
ثانيًا: في السُّنَّة النَّبويِّة - عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يُبَلِّغُنِي أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإنِّي أحبُّ أن أخرج إليكم وأنا سَلِيم الصَّدر)) .
هذا الحديث يكشف عن مدى اهتمام المصطفى صلى الله عليه وسلم بسَلَامة صدره، فهو ينهى ويحذِّر من أن يُنْقَل إليه ما يُوغِر صَدْره، ويغيِّر قلبه تجاه أصحابه الكرام، رضوان الله عليهم أجمعين. قال المباركفوري شارحًا لهذا الحديث: (قوله: ((لا يُبَلِّغُنِي)). أي: لا يوصلني. ((من أحد)). أي: من قبل أحد. ((شيئًا)). أي: مما أكرهه وأغضب عليه، وهو عامٌّ في الأفعال والأقوال، بأن شتم أحدًا وآذاه، قال فيه خصلة سوء. ((فإنِّي أحبُّ أن أخرج إليهم)). أي: من البيت وأُلَاقيهم. ((وأنا سليم الصَّدر)). أي: من مساويهم. قال ابن الملَك: والمعنى: أنَّه صلى الله عليه وسلم يتمنَّى أن يخرج من الدُّنيا وقلبه راض عن أصحابه، من غير سخط على أحد منهم) . - وعن محمَّد بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أوَّل من يدخل من هذا الباب، رجل من أهل الجنَّة، فدخل عبد الله بن سَلاَمِ، فقام إليه ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك، وقالوا: أخْبِرْنا بأوثق عملٍ في نفسك ترجو به. فقال: إنِّي لضعيف، وإنَّ أوثق ما أرجو به الله سَلَامة الصَّدر، وترك ما لا يعنيني)) . وهنا يذكر عبد الله بن سَلَام رضي الله عنه أنَّه لم يكن له كثير عمل استحق علية شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنَّة، إلَّا أنَّ أرجى عمل وأوثقه لديه هو: أنَّه كان سليم الصَّدر مشتغل عما لا يعنيه. - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن غِرٌّ كريم، والفاجر خبٌّ لئيم)) . قال المناوي: (... ((المؤمن غِرٌّ)). أي: يغُرُّه كلُّ أحد، و يغُرُّه كلُّ شيء، ولا يعرف الشَّرَّ، وليس بذي مَكْر ولا فطنة للشَّرِّ، فهو يَنْخَدع لسَلَامة صَدْره، وحسن ظنِّه، وينخَدع لانقياده ولينه. ((كريم)). أي: شريف الأخلاق. ((والفاجر)). أي: الفاسق. ((خبٌّ لئيم)). أي: جريء، فيسعى في الأرض بالفساد، فالمؤمن المحمود: من كان طبعه الغَرَارة، وقلَّة الفِطْنة للشَّرِّ، وترك البحث عنه، وليس ذلك منه جهلًا، والفاجر من عادته الخُبث والدَّهاء والتَّوغل في معرفة الشَّرِّ، وليس ذا منه عقلًا) . - وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي النَّاس أفضل؟ قال: كلُّ مَخْموم القلب، صدوق اللِّسان. قالوا: صدوق اللِّسان نعرفه، فما مَخْموم القلب؟ قال: هو النَّقيُّ التَّقيُّ، لا إثم عليه، ولا بَغْي ولا غلٌّ ولا حسد)) . قال علي القاري: (أي: سليم القلب، لقوله تعالى: إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشُّعراء: 89]، من خَمَمْت البيت، إذا كنسته، على ما في ((القاموس)) وغيره، فالمعنى: أن يكون قلبه مكنوسًا من غبار الأغيار، ومُنَظَّفًا من أخلاق الأقذار) . |
#341
|
||||
|
||||
أقوال السَّلف والعلماء في سلامة الصَّدر
- قال ابن العربي: (لا يكون القلب سليمًا إذا كان حقودًا حسودًا معجبًا متكبرًا، وقد شرط النَّبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان، أن يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه) . - وسئل ابن سيرين -رحمه الله تعالى- ما القلب السَّليم؟ فقال: النَّاصح لله في خلقه . - وقيل: القلب السَّليم الذي يحبُّ للنَّاس ما يحبُّه لنفسه، قد سَلِم جميع النَّاس من غشِّه وظلمه، وأسْلَم لله بقلبه ولسانه، ولا يعدل به غيره . - وقال ابن تيمية: (فالقلب السَّليم المحمود، هو الذي يريد الخير لا الشَّر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشَّر، فأمَّا من لا يعرف الشَّر، فذاك نقص فيه لا يُمدح به) . - وقال الأكفاني وعبد الكريم: (وأصل العبادة مكابدة اللَّيل، وأقصر طرق الجنَّة سَلَامة الصَّدر) . - ولما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة، جمع ولده، وفيهم مَسْلمة، وكان سيِّدهم، فقال: أوصيكم بتقوى الله، فإنَّها عِصْمة باقية، وجُنَّة واقية، وهي أحصن كهف، وأزْيَن حِلْية، ليعطف الكبير منكم على الصَّغير، وليعرف الصَّغير منكم حقَّ الكبير، مع سَلَامة الصَّدر، والأخذ بجميل الأمور... . - وقال سفيان بن دينار: قلت لأبي بشير -وكان من أصحاب علي-: أخبرني عن أعمال من كان قَبْلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيرًا، ويُؤْجَرون كثيرًا. قلت: ولم ذاك؟ قال: لسَلَامة صدورهم . - وقيل: أَنَّه لَا طَرِيق أقرب من الصِّدْق، وَلَا دَلِيل أنجح من العِلم، ولَا زَاد أبلغ من الـتَّقْوَى، وما رأيت أَنْفَى للوسواس من ترك الفضول، ولَا أنور للقلب من سَلَامة الصَّدر . - ويقال: أخلاق الأبدال عشرة أشياء، سَلَامة الصَّدر، وسخاوة المال، وصدق اللِّسان، وتواضع النَّفس، والصَّبر في الشِّدة، والبكاء في الخُلوة، والنَّصيحة للخَلْق، والرَّحمة للمؤمنين، والتَّفكُّر في الفناء، والعبرة في الأشياء . - وقال قاسم الجوعي: أصل الدِّين الورع، وأفضل العبادة مكابدة اللَّيل، وأفضل طرق الجنَّة سَلَامة الصَّدر . - وقال بدر الدِّين الغزي: (فمن آداب العِشْرة... سَلَامة قلبه للإخوان، والنَّصحية لهم، وقبولها منهم، لقوله تعالى: إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشُّعراء: 89]، وقال السقطي رحمه الله: (من أجلِّ أخلاق الأبرار: سَلَامة الصَّدر للإخوان، والنَّصيحة لهم) . |
#342
|
||||
|
||||
فوائد سلامة الصَّدر 1- من أعظم فوائد سَلَامة الصَّدر: أنَّها سبيل لدخول الجنَّة، فهي صفة من صفات أهلها، ونعت من نعوتهم، قال تعالى: يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشُّعراء 88-89].
2- أنَّها تكسو صاحبها بحلَّة الخيريَّة، وتلبسه لباس الأفضلية، كما في حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((خير النَّاس ذو القلب المخْمُوم واللِّسان الصَّادق، قيل: ما القلب المخْمُوم؟ قال: هو التَّقِيُّ النَّقِيُّ الذي لَا إثم فيه، ولَا بَغْي ولَا حسد، قيل: فمن على أَثَــرِه؟ قال: الذي يَشْنَأُ الدُّنيا ويحبُّ الآخرة قيل: فمن على أَثَرِهِ؟ قال: مؤمن في خُلُق حسن)). 3- أنَّها تجمع القلب على الخير والبِرِّ والطَّاعة والصَّلاح، فلا يجد القلب راحة إلا فيها، ولا تقرُّ عين المؤمن إلا بها. 4- أنَّها تزيل العيوب، وتقطع أسباب الذُّنوب، فمن سَلِم صدره، وطَهُر قلبه عن الإرادات الفاسدة، والظُّنون السَّيئة، عفَّ لسانه وجوارحه عن كلِّ قبيح. 5- ومن الفوائد أيضًا: أنَّ فيها اقتداء بالنَّبي صلى الله عليه وسلم وتأسِّيًا به، فهو -بأبي هو وأمي صلَّى الله عليه وسلم- أسلم النَّاس صدرًا، وأطيبهم قلبًا، وأصفاهم سريرة. |
#343
|
||||
|
||||
صور سلامة الصَّدر 1- سَلَامة الصَّدر مع عامَّة النَّاس، فلا يحمل لهم في قلبه غلًّا ولا حسدًا، ولا غيرها من الأمراض والأَدْواء القلبيَّة، التي تقضي على أواصر المحبَّة، وتقطع صلات المودَّة.
2- سَلَامة الصَّدر مع خاصَّة إخوانه ومقرَّبيه. 3- سَلَامة الصَّدر مع وُلاة الأمر، فلا يحمل عليهم الحقد، ولا يثير عليهم العامَّة، ولا يذكر مثالبهم عند النَّاس، ويكون نصوحًا لهم، مُشْفِقًا عليهم، غاضًّا الطرف عن أخطائهم التي يُتَجَاوز عنها، وينشر الخير عنهم، ويذكرهم بخير أعمالهم وصفاتهم. 4- سَلَامة صدور الوُلاة للرَّعيَّة، فلا يُكثر من الشُّكوك فيهم، ولا يتربَّص بهم أو يتجسَّس عليهم، أو يؤذيهم في أموالهم أو ممتلكاتهم، ويكون مُشْفِقًا عليهم، ساعيًا وراء راحتهم. 5- سَلَامة صدور العلماء وطلبة العلم بعضهم مع بعض، فــ(أحقُّ النَّاس -بعد العلماء- بسَلَامة الصَّدر طلَّاب العلم، فطالب العلم غدًا يقف أمام النَّاس يفتيهم ويعلِّمهم ويرشدهم، فلا بدَّ من أن يُـرَبِّي نفسه على سَلَامة الصَّدر، ونقاء السَّريرة، التي هي صفة من صفات أهل الجنَّة: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر: 47]) . |
#344
|
||||
|
||||
موانع اكتساب سَلَامة الصَّدر 1- نزغات الشَّيطان، ووساوسه، فالشَّيطان حريص على إيغار الصُّدور، وإفساد القلوب، لذا حذَّر الله -تبارك وتعالى- منه، وأمر عباده بانتقاء القول الحسن، قال -تبارك وتعالى-: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا [الإسراء: 53] وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الشَّيطان قد أَيِس أن يعبده المصلُّون في جزيرة العرب، ولكن في التَّحريش بينهم)) . 2- إصابة القلب ببعض الأمراض الخُلُقيَّة، والتي تُفسد القلب، كالحسد والغلِّ والحقد، وإذا اشتمل القلب على هذه الأدواء لم يُعْتبر سليمًا، فهي تضادُّ سَلَامة القلب. 3- التَّنافس على الدُّنيا فعن عمرو بن عوف رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكنِّي أخشى أَنْ تُبْسَط عليكم الدُّنيا كما بُسِطَتْ على من كان قبلكم، فتَنَافَسُوها كما تَنَافَسُوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) . 4- حبُّ الشُّهرة والرِّياسة، وهي داء عضال ومرض خطير، وشرٌّ مُستطير، قال الفضيل بن عياض رحمه الله: (ما من أحدٍ أحبَّ الرِّياسة إلا حَسد وبَغى، وتَتبَّع عيوب النَّاس، وكره أن يُذكر أحد بخير) . وقال ابن عبد البر -رحمه الله- تعالى: حبُّ الرِّياسة داء يخلق الدُّنيا***ويجعل الحبَّ حربًا للمحبينا يَفْرِي الحلاقم والأرحام يقطعها***فلا مروءة يُبقي لا ولا دينًا 5- الاتِّصاف ببعض الصِّفات، والتي من شأنها أن تُوغر الصُّدور، وتؤثر في سلامتها، ككثرة المزاح، وكثرة المراء والجدال، والعُجب وغيرها.
|
#345
|
||||
|
||||
الوسائل المعينة على اكتساب سَلَامة الصَّدر
1- الإخلاص لله -تبارك وتعالى- وهذا تصديقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((ثلاث لا يَغِلُّ عليهنَّ قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمَّة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإنَّ الدَّعوة تحيط من ورائهم)) . قال ابن الأثير: (إنَّ هذه الخِلال الثَّلاث تُسْتَصلح بها القلوب، فمن تمسَّك بها طَهُر قلبه منالخيانة والدَّخل والشَّر) . 2- الإقبال على كتاب الله تعالى قراءةً وتعلُّمًا وتعليمًا، فهو شفاء لما في الصُّدور، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57]. 3- الدُّعاء، فهو العلاج النَّاجع والدَّواء النَّافع، فيدعو العبد مولاه أن يجعل قلبه سليمًا من الضغائن والأحقاد على إخوانه المؤمنين، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10]. 4- التَّخلُّق بالأخلاق التي تزيد من المحبَّة والألفة بين المؤمنين، كالبَشَاشة والتَّبَسُّم، وإفشاء السَّلام، وإهداء الهديَّة وغيرها، فإنَّ هذه الأخلاق كفيلة بانتزاع سخيمة القلوب، وأعْلَاق الصُّدور، فتصبح نقيَّة صافية. 5- الابتعاد عن كلِّ ما من شأنه أن يفسد الوُدَّ، ويعكِّر صفو الصُّدور، فيبتعد المؤمن عن الأخلاق الرَّديَّة، كالحسد والغلِّ والحقد والظَّنِّ السَّيئ وغيرها. 6- رضا العبد بما قسمه الله تعالى: (قال ابن القيِّم: إنَّ الرِّضا يفتح له باب السَّلَامة، فيجعل قلبه سليمًا نقيًّا من الغشِّ والدَّغل والغلِّ، ولا ينجو من عذاب الله إلَّا من أتى الله بقلب سَلِيم، كذلك وتستحيل سَلَامة القلب مع السَّخط وعدم الرِّضا، وكلَّما كان العبد أشدَّ رضى، كان قلبه أسلم) . |
العلامات المرجعية |
الكلمات الدلالية (Tags) |
موسوعة, الاخلاق, الاسلامية, الشاملة |
|
|