|
محمد ﷺ نبينا .. للخير ينادينا سيرة سيد البشر بكل لغات العالم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
أخلاق الرسول في هدنة صلح الحديبية .. د/ راغب السرجاني
وإذا كانت المعاهدات السابقة لمعاهدة صلح الحديبية وغيرها تتشابه مع بعضها البعض من حيث النصوص والأهداف والنتائج المترتبة عليها، فإن هناك معاهدة هامة تختلف عن تلك المعاهدات جميعًا، وتحتاج منا إلى وقفة وتحليل، تلك هي معاهدة "الحديبية". وهذه المعاهدة تُعد من أهم المعاهدات، ليس في تاريخ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، وإنما في كل التاريخ الإسلامي، بل والإنساني بصفة عامة؛ وذلك للآثار الهائلة التي ترتبت على هذه المعاهدة.. ولشدة أهميتها فسنفصل فيها قليلاً، وذلك من خلال النقاط الآتية: الطريق إلى صلح الحديبية لسنا في هذا البحث بصدد تحليل كل جزئيات المعاهدة ولا آثارها، ولكنا سنقف فقط على ما يشير إلى فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم التصالحي، ورغبته الأكيدة في العيش في سلام مع كل البشر، حتى مع من أذاقوه وأذاقوا أصحابه العذاب ألوانًا.. ولكي نفهم مدى سماحة الفكر الإسلامي وحبه للسلام.. ولكي نقدر مدى عظمة الخُلُق النبوي وسموِّه لابد من مراجعة سريعة لقصة قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين.. إن القصة - حقيقةً - ليست بخافية على أحد.. إنها قصة الظلم والقهر في أبشع صوره.. إنها قصة مصادرة الآراء، والفتنة في الدين والعقيدة.. إنها قصة البطش واستكبار القوة.. تسعة عشر عامًا كاملة من التعامل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش سبقت صلح الحديبية، والذي كان في أواخر العام السادس من الهجرة .. وهذه السنوات الطويلة انقسمت في الأساس إلى مرحلتين رئيسيتين، هما: مرحلة مكة ومرحلة المدينة.. أما مرحلة مكة فلم يكن للمسلمين فيها دولة، بل لم يكن مشروعًا لهم أصلاً أن يدافعوا عن أنفسهم بالسلاح أو بالقتال.. فكان العدوان من جانب واحد، وكان القهر والبطش وال***** في كل لحظات فترة مكة تقريبًا، وتعددت صور هذا البطش من إيذاء باللسان إلى إيذاء بالسياط والسنان، ومن حصار في الشعب إلى طرد من الديار، ومن سرقة للأموال إلى إزهاق للأرواح.. لقد كانت فترة أليمة حقًّا في تاريخ الإنسانية.. ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم -مضطرًا- إلى المدينة المنورة. وهاجر أصحابه معه، وتركوا كل شيء وراء ظهورهم.. تركوا الأهل والعشيرة، وتركوا الأموال والثروات، وتركوا الديار والأعمال، وتركوا الذكريات والعلاقات.. لقد تركوا كل شيء، ويمَّموا شطر المدينة المنورة.. ولم يكن هذا الخروج من مكة ليصرف قريشًا عن متابعة الأذى والاضطهاد للمسلمين، فقد توالت المراسلات بين مشركي قريش ومشركي المدينة، وكذلك بين مشركي قريش ويهود المدينة، كما تم ذلك أيضًا مع الأعراب حول المدينة.. كل هذا بهدف حصار المسلمين والتضييق عليهم في أعمالهم ومعاشهم وإقامتهم.. ودارت مناوشات عديدة بين الطرفين الكافر والمسلم، ليس المجال يسمح بتتبعها، غير أن الصدام كان في أقصى وأقسى درجاته في ثلاث مواقع متتالية.. بدر وأحد والأحزاب.. وكما قال ربنا: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]، فكانت غزوة بدر للمسلمين، وكانت غزوة أحد للمشركين، والحرب سجال.. ثم كانت غزوة الأحزاب الفاصلة، حيث استطاعت قريش أن تجمع عشرة آلاف مقاتل من أبنائها، ومن القبائل المتحالفة معها وعلى رأسها "غطفان"، وذلك بهدف استئصال المسلمين من جذورهم، وتدمير المدينة المنورة على رءوس أهلها.. لقد كان أخطر تجمع عرفته الجزيرة العربية حتى هذه اللحظة.. وترك هذا التجمع آثارًا شتى في نفوس الصحابة –رضي الله عنهم-، فهم مع شدة إيمانهم بالله، وقوة يقينهم في النصر إلا أن الخوف الفطري تسلل إلى قلوبهم، وإن لم يكن مانعًا لهم عن الصمود والمواجهة. يوضح ذلك رب العالمين، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فيقول: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10، 11]. واستمرت تلك الأزمة شهرًا كاملاً ، والمسلمون في أشد حالات الخوف والجوع والبرد كما يصور حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- في روايته لقصة الأحزاب، وازدادت الكارثة ضراوة بخيانة بني قريظة كما هو معروف، وكان المسلمون قاب قوسين أو أدنى من النهاية والفناء.. ثم أذن الله تعالى للغمة أن تنكشف، وللأحزاب أن يرحلوا، وللمسلمين أن يخرجوا من أزمتهم فائزين منتصرين.. وبدأت كفة الصراع تميل بوضوح لصالح المسلمين، وعبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله الموفق والعميق: «الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلا يَغْزُونَنَا، نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ». لقد ضعفت شوكة المشركين بعد هذه الموقعة، وزالت هيبتها في الجزيرة العربية، وتضاءل عدد حلفائها، ومن ثَمَّ أخذ نجمها في الأفول، وبدأت دورتها في الحياة تتجه إلى السقوط.. والمسلمون على الجانب الآخر قويت شوكتهم، وعزَّ جانبهم، وقدَّرَ قُوَّتَهُمْ وشأنَهُمُ القاصي والداني.. وقد ساعد على تأكيد هذه الصورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخرج (بعد غزوة الأحزاب في أواخر العام الخامس من الهجرة، وكذلك في العام السادس الهجري) عدَّةَ بُعُوثٍ وسرايا تهدف إلى توطيد الأمن في الجزيرة، وعقاب من تعدَّى على المسلمين، حنى وصلت غزواته وسراياه إلى مشارف العراق والشام كما حدث في دومة الجندل. كان هذا هو الوضع في أواخر العام السادس من الهجرة. في هذه الأجواء سيتم صلح الحديبية، ولن تَسْتَوْعِبَ عظمة أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وحُبَّه للسلام، إلا بدراسة الخلفية التي مررنا بها، فلا ينكر أحد أن نفسية المسلمين تجاه المشركين في مكة لابد أن تكون قد بلغت أشد حالات الحنق والغيظ والكراهية، فهذه تسعَ عشرةَ سنةً كاملة من الظلم والعداوة كما رأينا، كما أن مشاعر الانتقام لا بد أن تكون متأججة الآن، وبخاصة بعد توفر القوة في أيدي المسلمين، وانسحاب البساط من تحت أقدام المشركين. هذا هو الوضع المتوقع. لكننا مع كل ذلك سنشاهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم سلوكًا وأداءً لا يمكن تفسيره إلا بأنه سلوك رسولٍ من عند الله تعالى.. وإلا بأنه صلى الله عليه وسلم قد بُعِثَ رحمةً للعالمين.. إذ كيف يكون اتساع الصدر إلى هذه الدرجة مع كل ما مر بنا من آلام سببها المشركون للمسلمين؟! وما لم نذكره - ولا شك - أكثر وأعظم!! لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤيا أنه يذهب إلى مكة هو وأصحابه معتمرين.. ومكة الآن في أيدي المشركين، والمشركون الآن ضعفاء نسبيًا، والمسلمون في قوة متزايدة، فهل يجهِّز جيشًا، ويذهب إلى مكة ليقوم بالعمرة تحت حماية السلاح؟ أم هل يغزو مكة في***َ مَن ي***ُ، ويَأسِرَ مَن يَأسِرُ، ويردَّ الأموال المسلوبة، والديار المنهوبة؟ هل يستعدي القبائل المختلفة، والحلفاء من هنا وهناك على القرشيين، وينزل فيستبيح بيضتهم ، ويُذهب هيبتهم، ويُشَتِّتَ شَمْلَهُمْ، ويُفَرِّقَ جَمْعَهُمْ؟! إن شيئًا من هذا لم يخطر على بال رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنما فَكَّرَ أن يذهب إلى عقر دار المشركين في سكينة وسلام ليؤدي مناسك العمرة التي أُرِيَهَا في الرؤيا، ثم يعود إلى المدينة المنورة دون قتال ولا نزال.. هذا ما فَكَّرَ فيه حقيقةً، وطبَّقه على أرض الواقع بكل وسيلة ممكنة، ولم ينظر مطلقًا إلى أن ميزان القوى أصبح يميل لصالح المسلمين، ولم ينظر إلى أن المسلمين مظلومون سنوات وسنوات، ولم ينظر إلى التاريخ الحربي الطويل الذي دفع فيه المسلمون أثمانًا غالية وتضحيات هائلة، ولم ينظر إلى عشرات الشهداء الأحباب الذين سقطوا بسيوف ورماح القرشيين. لم ينظر إلى كل ذلك، إنما نظر فقط إلى أنه من "المحتمل" أن توجد فرصة - ولو ضئيلة - لإقامة جسور التفاهم والتعايش والتصالح مع مشركي مكة، حتى وهم على شركهم!! نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمر بأرقى نظرة حضارية يمكن أن يتخيلها إنسان. إنه لا يريد لعدوِّه أن يفنى أو ينهار، ولا يريد لعدوِّه أن تسيل دماؤه، أو أن تُدَمَّرَ دياره.. إنما يريد أن يتعايش معه في سلام ووئام.. {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]. فلنتصالح، ولنتفق على حسن الجوار، حتى وإن اختلفت العقائد، وصار الفرق بينها كما بين السماء والأرض، أو أبعد.. ولأجل تطبيق هذا المعنى النبيل، فإنه صلى الله عليه وسلم قد أخذ من التدابير والاحتياطات ما يضمن له وصول هذا الشعور السلمي إلى القرشيين. فهو لا يريد القتال فعلاً، ولا يوجد مكان في قلبه لما يسمِّيه الناس "الانتقام"! ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لقد خرج صلى الله عليه وسلم من المدينة على رأس ألف وأربعمائة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ولم يَخرُج بكل طاقة المدينة المنورة، والتي كانت تزيد على ثلاثة آلاف يوم الأحزاب، ثم إنه لم يخرج إلا بسيف المسافر فقط، وساق أمامه الهَدْيَ الكثير ليثبت للجميع أنه ما ذهب إلا للعمرة، وعند ذي الحليفة أحرم، وأحرم معه كل الصحابة، وانطلقوا في التلبية طوال الطريق . إنها مظاهرة إيمانية رائعة لا تخطئها عين، ولا تخفى على جاسوس.. إن الغرض أن تعرف قريش وحلفاؤها أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد الحرب، وإنما جاء للعمرة، وقد تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأمر في منتهى سلامة النية، وحسن المقصد، فلم يرسل من صحابته إلى مكة مَن يفاوض، أو مَن يهدد أو يتوعد، إنما سار على القانون العام للجزيرة العربية، بل القانون الحاكم لقريش ذاتها، والذي يعطي الحق لأي إنسان أن يَحُجَّ البيت الحرام أو يعتمر، بل كانت قريش تتيه على غيرها من القبائل أنها ترعى زوار البيت الحرام وتخدمهم وتسقيهم. وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عينًا له تكشف الطريق، وتعرف هل ستتفهَّم قريش موقف المسلمين السلمي، ورغبتهم الشرعية والطبيعية في زيارة البيت الحرام، أم أنها ستتكبر وتطغى، وتخالف أعرافها وأعراف الجزيرة العربية فتمنع المسلمين من العمرة؟! وكان هذا العين هو بشر بن سفيان الخزاعي .. الذي ما لبث أن عاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل الأخبار السيئة! قال بشر: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك، خرجت على العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عُنْوَةً أبدًا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قدموا إلى "كراع الغميم ". إن قريشًا - وكذلك طلاب الدنيا - لا يريدون في الأرض سلامًا ولا أمنًا.. وإن وصل الأمر إلى أن يكسروا هم بأنفسهم قوانينهم وشرائعهم!! لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُسْتَفَزَّ بذلك، إنما قال في هدوء: «يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ! لَقَدْ أَكَلَتْهُمُ الْحَرْبُ.. مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ؛ فَإِنْ أَصَابُونِي كَانَ الَّذِي أَرَادُوا، وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللَّهُ عَلَيْهِمْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَهُمْ وَافِرُونَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوَّةٌ». انظر إلى المنطق الرائع، والسلاسة في العرض والوضوح في الرؤية.. إنه يعيب على قريش تشوقها المستمر للحرب، وعنادها الذي لا ينقطع، ثم يقول في حكمة بالغة: إنها لو رضيت بمسالمتي وترك الحرب معي، والاكتفاء فقط بانتظار ما تسفر عنه حرب بقية العرب لي لكانت النتيجة إحدى ثلاث: إما أن ينتصر عليّ العرب، ويتحقق مراد قريش دون جهد تبذله، وإما أن تكتشف قريش عظمة الإسلام فتُسلم دون حرب، ودون فقد ***ى أو أموال، وإما أن يستمر القرشيون على كفرهم فيقاتلوني بعد ذلك وقد أنهكتني الحرب، وما زالت بهم قوة! إن الرأي السليم، والمنطق الحكيم لابد وأن يدفع قريشًا للتصالح مع ابنها البارِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قريشًا في ذلك الوقت كانت تتبع هواها وشياطينها، ومِن ثَمَّ آثرت الحرب على السلام، وهذه قمة السفاهة والحماقة.. ومع كل هذه الرغبة المكية في الحرب واستمرار العداء؛ إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تغب عنه الرؤية السِلْميَّة، لقد اكتشف مكان خالد بن الوليد، ومِنَّ ثم أشار على المسلمين باتخاذ طريق آخر وعر أشار عليه به رجل من أسلم ، وبذلك تجنب - ولو مؤقتًا - الصدام مع المشركين، ولم يكن هذا من خوف ألَمَّ به صلى الله عليه وسلم فالذي يخاف من جيش لا يقترب من قاعدته الأصلية - وهي مكة - إنما كان ذلك ليتفادى الحرب قدر استطاعته . ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعتمرين إلى الحديبية ، وأسرع خالد بن الوليد بفرقته إلى أهل مكة ليحذرهم.. وعند الحديبية حدث أمر عجيب.. لقد وقفت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتنعت عن السير، فحاول الناس زجرها بقولهم: "حل.. حل.." إلا أنها أصرت على الوقوف! فقال الناس: "خلأت القصواء!" ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ» ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا» . لقد أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهجه السلمي، وتوجهه التصالحي بأوضح صورة ممكنة.. لقد أقسم أنه سيقبل بأي خطة تُعظَّم فيها حرمات الله، ويقصد بذلك أي خطة تحفظ البلد الحرام، وتحفظ الدماء، وتحفظ الأعراض، حتى لو كان فيها شيء من التنازل، كما سيتبين بعد ذلك من الأحداث.. هذا هو منهجه صلى الله عليه وسلم، وهذا هو فكره بخصوص التعايش مع المخالفين له في العقيدة، بل والمحاربين له، والمانعين إياه من دخول البيت.. وقريش ما زالت في غَيِّهَا تَعْمَهُ!! مفاوضات صلح الحديبية لقد بعثت قريش الرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تترى، وهدفهم جميعًا هو التخويف والإرهاب، ومحاولة الصد عن البيت الحرام دون قيد أو شرط.. لكن كل ذلك ما كان ليَسْتَفِزَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إنه في صراحة أعلن لبديل بن ورقاء الخزاعي - وهو أول الرسل الذين جاءوه من قريش - أنه يريد الصلح والمعاهدة.. فقال: «إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا ، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ». إنه يستخدم أكثر من وسيلة لِتَجَنُّبِ القتال، ولِطَلَبِ الصُّلح والموادعة.. فهو يصرح بذلك في البداية: «إنا لم نجيء لقتال أحد».. ثم يوضح السبب الشرعي والقانوني للقدوم: «ولكنا جئنا معتمرين». ثم ينصح قريشًا ألا تُبَدِّدَ طاقتها في حروب متكررة: «وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ». ثم يطلب الصلح صراحةً: «فإن شاءوا مادَدْتُهُمْ مُدَّةً». وهو عرض صريح منه صلى الله عليه وسلم للصلح مع قريش.. ومن هنا أجاز الفقهاء أن يبدأ المسلم بعرض الصلح، حتى إن ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم "زاد المعاد" أحصى من الفوائد الفقهية لصلح الحديبية: "جواز ابتداء الإمام بطلب صلح العدو إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه" . ثم توالت الرسل، وجاء عروة بن مسعود الثقفي، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوًا مما قاله لبديل، وبعد حوار طويل عاد إلى أهل مكة مقتنعًا برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمور، فقال لهم: "وإنه - أي رسول الله صلى الله عليه وسلم - عرض عليكم خطة رُشْدٍ فاقْبَلُوهَا" . لكن قريشًا رفضت اقتراح عروة، وأرسلت رسولاً ثالثًا هو الحليس بن علقمة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه الهَدْيَ، وقد كان من قوم يعظِّمُونَها، واستقبله المسلمون بالتلبية، فعاد متأثِّرًا بما رآه، ناصحًا قريش أن تترك المسلمين يعتمرون.. ولكن قريشًا رفضت للمرة الثالثة، وأرسلت "مكرز بن حفص" ، فلم يصل إلى نتيجة أخرى.. ثم حاولت مجموعة من شباب مكة أن يوقفوا هذه المباحثات، كرهًا منهم للصلح ورفضًا لدخول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمرًا، فقامت هذه المجموعة، وعددها ثمانون بالإغارة على المسلمين في الحديبية لإشعال الحرب الفعلية، فماذا حدث؟! يروي أنس بن مالك رضي الله عنه أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على الرسول صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غِرَّةَ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم سِلْمًا، فاستحياهم ، فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح: 24]، فهؤلاء ثمانون مغامرًا أرادوا إفساد أي محاولة للصلح، فماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لقد أطلقهم جميعًا بغير فداء؛ وذلك إثباتًا لحسن النوايا، وسلامة الصدر. ثم قرر صلى الله عليه وسلم أن يُرسل رسولاً إلى قريش؛ لعرض وجهة النظر الإسلامية، وبعد محاورات بين المسلمين تم اختيار عثمان بن عفان رضي الله عنه ليكون سفيرًا للمسلمين إلى داخل مكة، وبالفعل دخل عثمان رضي الله عنه إلى البلد الحرام، ودارت بينه وبينهم مفاوضات، ولكن هذه المفاوضات طالت دون نتيجة حتى مرت عدة أيام، وأشيع أن عثمان رضي الله عنه قد قُتِل، و*** السفراء جريمة لا تغتفر، وهو إعلان حرب رسمي، وهنا اضْطُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرارًا إلى القيام بما عُرِفَ في التاريخ ببيعة الرضوان حيث بايع الصحابة على عدم الفرار ، ومِنْ ثَمَّ أصبح القتال وشيكًا جدًا، لولا أن عثمان ظهر في هذه اللحظة، وثبت أن الأمر كان مجرد إشاعة، فهدأت النفوس واستراحت، ثم ظهر رسول جديد من قِبَل قريش هو سهيل بن عمرو. لقد أصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلح بكل طريقة، وقريش - كما نرى - تأبى، إلا أن قريشًا في النهاية بدأت تتراجع، وكان بداية هذا التراجع هو إرسال سهيل بن عمرو، وهو قياديٌّ كبير في مكة، ومشهور بالدبلوماسية والقدرة على التحاور، وليس حادًا في طباعه كبقية الزعماء الآخرين، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رآه قال: "قد سَهُلَ لكم مِنْ أَمْرِكُمْ" ، وبالفعل.. وكما توقع صلى الله عليه وسلم، فقد أراد سهيل أن يُتم الصلح بين قريش والمسلمين، ولكنه أظهر في أثناء الصلح تشددًا وتعنتًا، بينما ظهرت في بنود الصلح وطريقة كتابته مرونة الرسول صلى الله عليه وسلم ورغبته الأكيدة في الصلح. ولنراجع الرواية التي شرحت موقف كتابة المعاهدة لندرك مدى رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقرار المعاهدة.. فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْكَاتِبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لا نَكْتُبُهَا إِلاَّ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكْتُبْ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ..» ثُمَّ قَالَ: «هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ..» فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ الْبَيْتِ وَلا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي.. اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ..» (قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا.) فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَطُوفَ بِهِ» فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا. قَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟! فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ». قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَأَجِزْهُ لِي» قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ، قَالَ: «بَلَى فَافْعَلْ» قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ... قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا؟! أَلا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟! وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللَّهِ" . فالرسول صلى الله عليه وسلم - كما رأينا - يتنازل عن كتابة البسملة كاملة في أول العهد، ويتنازل عن كتابة وصف نفسه بالرسالة، ويَقْبَلُ أن يعود من هذا العام فلا يطوف بالبيت، ويقبل أن يَرُدَّ من جاءه مسلمًا من أهل مكة إذا طلب أولياؤه ذلك.. بل ويتفاقم الأمر جدًا عندما يأتي أبو جندل بن سهيل بن عمرو >، وهو في حالة شديدة من الإعياء والإجهاد والمعاناة يطلب النصرة من المسلمين، فيطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم من سهيل بن عمرو - وهو أبو أبي جندل - فيرفض سهيل، ويُعَلِّقُ نجاح المفاوضات بكاملها على أخذه لهذا الفتى المسلم المعذَّب، وأمام مخاطر فشل المعاهدة يوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أجل أن يتم الصلح برغم كل ما نراه من أزمات ومعوقات، وبرغم اعتراض كثير من الصحابة، وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. ويتحقق ما يريده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوقع المعاهدة من نسختين يحتفظ كل من الطرفين بنسخة عنده . ومن الجدير بالذكر أن بنود المعاهدة شملت أيضًا: وضع الحرب بين الفريقين لمدة عشر سنين ، وأن القبيلة التي تريد الانضمام إلى طرف من الطرفين فلها ذلك، وتجرى عليها أحكام المعاهدة، وقد انضمت قبيلة خزاعة إلى حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما انضمت قبيلة بني بكر إلى حلف قريش. وبعد أن تمت المعاهدة، ورضي الطرفان، أرادت من جديد مجموعة من شباب قريش المتحمسين أن يفسدوا هذا الصلح، فقاموا بعملية إغارة جديدة على المسلمين، ولكن المسلمين استطاعوا بفضل الله أن يمسكوا بسبعين منهم على رأسهم رجل يقال له: مكرز، كما أمسك سلمة بن الأكوع رضي الله عنه بأربعة آخرين، ومع ذلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عفا عنهم جميعًا بغير فداء! خلاصة القول في هذه النقطة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تغلب على معوقات كثيرة جدًا لكي يتم الصلح في النهاية، ولكي يُمَهِّدَ لفترة تعايش سلمي في الجزيرة العربية، تنعم فيها الأطراف المسلمة والمشركة بالأمان والسلام. التطبيقات العملية لبنود صلح الحديبية: يأتي في تحليلنا لهذه المعاهدات مع المشركين ما هو أَهَمُّ من بنودها وكيفية صياغتها.. وهو التطبيق الفعلي لهذه المعاهدات، فكم من المعاهدات كُتِبَتْ في التاريخ، وكم من المواثيق عُقِدَت، ثم صارت مع مرور الأيام حبرًا على ورق، ولم يعد هناك أي معنى لوجودها أو لعقدها.. إن أروع ما في معاهدات رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الجانب العملي التطبيقي الذي تلا كتابة هذه المعاهدات.. إنك سترى في حياته صلى الله عليه وسلم مع من عاهدهم كل معاني التآلف والعدل والتراحم والبر والعدل والوفاء.. إنه يكفي للدلالة على هذا الوفاء في التعاهد أن نذكر قصة أبي بصير رضي الله عنه.. فقد جاء أبو بصير - وهو رجل من قريش دخل في الإسلام - إلى المدينة المنورة بعد فترة وجيزة من كتابة صلح الحديبية، وكان يريد أن ينضم إلى الصف المسلم فرارًا بدينه من أهل الكفر بمكة، ولكن القرشيين أرسلوا في طلبه رجلين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا له: العهد الذي جَعَلْتَ لنا، فدفعه إلى الرجلين .. أرأيت مثل هذا الوفاء؟! إنه يردُّ مسلمًا جاءه إلى المدينة المنورة، والمدينة أحوج ما تكون إلى الرجال والجند، والرجل مسلم قد يُفْتَنُ في دينه ويُعَذَّب، ومع ذلك يردُّهُ لأن بنود المعاهدة نصت على ذلك، وليس له إلا الوفاء.. وقد تعجب أبو بصير رضي الله عنه نفسه من رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال متسائلاً: يا رسول الله، أتردني إلى المشركين يفتنوني في ديني؟! قال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بصير، انطلق فإن الله تعالى سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فَرَجًا ومَخرَجًا». إن الوفاء بالعهد ليس اختيارًا من الاختيارات عند المسلمين.. إنه واجب لازم، وفريضة حتمية.. واستلم الرجلان القرشيان أبا بصير رضي الله عنه بالفعل، وفي الطريق إلى مكة استطاع أن يحتال عليهما، ف*** واحدًا منهما، وفَرَّ الآخر!! تُرى.. إلى أين يفر المشرك الآخر؟! لقد فر إلى المسجد النبوي!! فر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فر إلى الرجل الذي يعلم أنه سيجد عنده الأمان والسلام، حتى ولو كان الذي يطارده مسلمًا، وحتى ولو كان هو من الكافرين! إنها آية من الآيات!! دخل الرجل المشرك المسجد النبوي يعدو، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشفق عليه، وقال: «لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا»، فلما انتهى الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قُتل صاحبي، وإني لمقتول!! فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله، قد - والله - أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ أُمِّهِ! مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ» . أي أن هذا الرجل سيشعل حربًا لو كان معه رجال.. فلما سمع أبو بصير رضي الله عنه هذه الكلمات أدرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيردُّه إلى المشركين لكي لا تشتعل الحرب، فخرج من المدينة مسرعًا، حتى أتى منطقة سِيف البحر ، وعسكر هناك، وبدأ يقطع الطريق على قوافل قريش، وقريش لا تقدر عليه، ولا تستطيع أن تلوم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس تحت سيطرته، وسمع بمكانه مسلمون آخرون في مكة، فقرروا أن يلتحقوا به ليكونوا له عونًا على قطع الطريق على قوافل مكة، فلحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرو، ولحق به سبعون آخرون من المسلمين الذين لا يستطيعون اللحاق بالمدينة لشروط المعاهدة، ولا يستطيعون البقاء في مكة ل***** الكفار لهم، وازدادت حدة الصدام بشدة بين هذه المجموعة المسلمة وبين قوافل قريش.. حتى اضطُرَّت قريش أخيرًا إلى أن تذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجوه أن يُلْحِقَ هؤلاء به، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد حقيقةً أن يتعايش في سلام مع مَنْ حوله من المشركين فإنه قبل بذلك، وضمَّهم إليه، ولو شاء لتركهم يُنَغِّصون على قريش حياتها، ويُضعفون قوتها، ويستنْزِفون ثرواتها، ولكنه كان يتعامل مع قريش في صفاء نفس لا يدركه إلا من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد إلغاء هذا البند من المعاهدة نعمت المنطقة بسلام حقيقي، وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تجنُّب إيذاء قريش بأي صورة من الصور؛ حتى يضمن استمرار المعاهدة لأطول فترة ممكنة، ولعل ما يُثْبِتُ هذا الأمان الفعلي ما رواه البخاري ومسلم أن أبا سفيان كان في تجارة إلى الشام بعد زمان الحديبية، ودار بينه وبين هرقل حوار طويل سأله فيه هرقلُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن صفته وعن أخلاقه .. فهذا أبو سفيان وتجار معه يسافرون في أمان إلى الشام مع أن طرق التجارة تمر بالمدينة، وتخوض في أعماق الصحراء في أماكن كثيرة تحت سيطرة المسلمين، لكنه الوفاء الذي لا حَدَّ له.. وقد كان من أسئلة هرقل المباشرة لأبي سفيان وهو يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: هل يغدر؟ قال أبو سفيان: لا، ونحن منه في مُدَّةٍ، لا ندري ما هو صانع فيها . فأبو سفيان مع كونه مشركًا في ذلك الوقت، ومعاديًا للرسول صلى الله عليه وسلم، وكارهًا له، وغير مقتنع بنبوته إلا أنه في هذا الجانب لا يستطيع أن يقول غير الحقيقة، فوفاء الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهر لا جدال فيه، كما يتضح من حوار أبي سفيان مع هرقل.. لقد دار هذا الحوار في أعقاب صلح الحديبية وقُبَيْلَ فتح مكة، مما يؤكد مدى الأمن الذي توفَّر لقوافل قريش، ومدى الوفاء الذي كان عليه المسلمون.. وعلى الرغم من تصاعد قوة المسلمين العسكرية بشكل لافت للنظر، وعلى الرغم من الانتصارات المتكررة هنا هناك، وبخاصة انتصار المسلمين على يهود خيبر، وعلى الرغم من عالمية الإسلام في تلك الفترة، ومراسلة زعماء وملوك العالم ودعوتهم للإسلام، على الرغم من كل هذا التقدم والتفوق إلا أن المسلمين ما فكَّروا في غزو مكة أو إيذاء أهلها، وما فكَّروا حتى في استرداد أموالهم المسلوبة هناك لأنهم ملتزمون تمامًا بعهدهم. ولقد مرت الأيام سريعًا، وجاء الوقت المحدد للعمرة المتفق عليها في صلح الحديبية، وهي العمرة التي تمت في أواخر العام السابع من الهجرة وعُرِفَتْ بعمرة القضاء . وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألفين من أصحابه، وحمل معه سلاحًا كثيفًا، لكنه وضع كل هذا السلاح خارج مكة، وفاءً لعهده مع قريش، وترك معه محمد بن مسلمة في مائتي فارس لحمايته، ودخل هو وبقية الصحابة لأداء العمرة بالسيوف في أغمادها كما وَعَدَ.. وكان الاتفاق على أن تُخْلِيَ قريشٌ مكة بكاملها للمسلمين مدة ثلاثة أيام كاملة لأداء مناسك العمرة، وقد تم ذلك، ووقف المشركون على رءوس الجبال المحيطة يشاهدون مناسك العمرة طِبْقًا للشرع الإسلامي.. وتمت العمرة المباركة، ومرَّت الأيام الثلاثة بسرعة، وفي آخرها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من ميمونة بنت الحارث العامرية الهلالية رضي الله عنها، وهي خالة خالد بن الوليد من كبار زعماء قريش وأخت أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا الزواج بُعْدٌ سياسي واضح؛ فخالد بن الوليد ليس قائدًا هامشيًا في مكة، بل هو أعظم قُوَّادها العسكريين مُطلقًا، وكان من الواضح أن حدَّة طباع خالد قد خَفَّتْ مع المسلمين جدًّا بعد وقعة الحديبية، لما رآه من أحوالهم، ومن إحساسه أنهم مؤيدون بقوة خارقة لا يعرفها، حتى إنه يوم الحديبية يصف جيش المسلمين بقوله: «إن القوم ممنوعون» . لقد غَيَّرَت الأحداث نفسية وسلوك خالد بن الوليد، وزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خالته سوف يُقَرِّبُ منه أكثر وأكثر، ولو حدث وأسلم خالد فإن هذه ستكون إحدى الضربات القاضية للكفر وللكافرين، وسبحان الله! فقد أسلم خالد رضي الله عنه بعد شهور قليلة من عمرة القضاء مُثْبِتًا بذلك عمق نظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد انتهاء الأيام الثلاثة المحددة للعمرة جاء سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى موفدين من قِبَل قريش لحث الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الخروج؛ فقالوا له بغلظة: إنه قد انقضى أجلك؛ فاخرج عنا، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يتلطف معهم بالرغم من جفائهم، فقال لهم: «وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم، وصنعنا لكم طعامًا فحضرتموه؟» . لقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون طبيعيًا تمامًا في تعامله معهم، بل أراد أن يكون ودودًا كريمًا مضيافًا يدعوهم إلى طعامه وشرابه واحتفاله بعُرسه، متناسيًا تمامًا تاريخهم الأسود معه.. أراد كل ذلك، وأرادوا هم غير ذلك!! لقد رَدُّوا عليه في جفاء الأعراب: لا حاجة لنا في طعامك، فاخرج عنا! ورغم هذه المعاملة الجافة، ورغم قوة المسلمين وضعف الكافرين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم احترم عهده وميثاقه، وخرج دون مماطلة، وانطلق دون تباطؤ إلى المدينة المنورة.. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهى المسلمين عن استقبال ذويهم من المشركين، واستضافتهم في المدينة، وقبول هداياهم، كما حدث مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه عندما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلة أمها المشركة، فقال لها صلى الله عليه وسلم بإيجاز بليغ: "صِلِيهَا ". بل حدث منه صلى الله عليه وسلم ما هو أعظم وأجَلُّ مِن هَذا!! فعندما أسلم ثمامة بن أثال رضي الله عنه - وكان من سادات بني حنيفة، ومن كبار تجار القمح فيها - أقسم ألا تصل حبة حنطة منه إلى المشركين في مكة؛ لأنهم آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثمامة: لا وَاللَّهِ لا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم . وبلغ الجهد بقريش، فمكة - كما هو معروف - بلاد جبلية صحراوية ليس فيها إمكانيات الزراعة، وتعتمد اعتمادًا كليًا على ما كان يأتيها من ثمامة بن أثال رضي الله عنه. وصمدت مكة حينًا، ولكنها ما لبثت أن انهارت، وأسرعت تجري إلى المدينة المنورة، متنازلة عن كبريائها وغطرستها، راجية من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن لثمامة بن أثال في أن يبيع لهم الحنطة. قال زعماء مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك تأمر بصلة الرحم". فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثمامة أن يُخَلِّيَ بينهم وبين الحمل إليهم! وهذا والله من عجائب السيرة النبوية!! إن الذي فعله ثمامة بن أثال رضي الله عنه ليس فيه خطأ شرعي حتى يُنهَى عنه، وليس مخالفًا للأعراف حتى يُمنع منه، فمن ذا الذي يبيع ويشتري بنفس راضية مع مَن ظلَمه وقهَره وبطش به وحاربه الأعوام تلو الأعوام؟!! وما فعله ثمامة تضحية كبيرة بثروات عظيمة كدليل على صدق إيمانه، وما فعله ثمامة سيؤثر سلبًا على كفار مكة فتخف حدة جيوشهم، وتضعف قوتهم، بل قد يفكرون في الإسلام.. هذا الدين الذي دخله الآن القاصي والداني، وهذا الدين الذي أعزَّه الله، وكثَّر أتباعَه، وبسط له الأرض هنا وهناك.. كل ذلك كان من الممكن أن يحدث نتيجة المقاطعة الاقتصادية التي قام بها ثمامة بن أثال ، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى كل هذه المصالح، إنه لم ينظر بعين السياسي الذي ينتهز الفرص، إنما ينظر بعين الداعية الذي يرجو الهُدى للعالمين، ونظر بعين الواصل الذي يريد أن يصل رحمه، حتى وإن كانت هذه الرحم تقطعه. لقد قال صلى الله عليه وسلم من قبل كلامًا أغلى من الذهب، وكانت حياته تطبيقًا واقعيًا لكل كلمة قالها.. لقد قال قبل ذلك: «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا» . لقد كانت حاله كذلك مع مشركي مكة في أثناء عهده لهم.. ولمَّا جاءه فرسان مكة وقوادها ليعلنوا إسلامهم بين يديه، استقبلهم أعظم استقبال، ورحَّب بهم أجمل ترحيب.. لقد جاءه خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة ليعلنوا إسلامهم بعد شهور قليلة من عمرة القضاء، وقيل في شهر صفر من السنة الثامنة من الهجرة ، فما ذكَّرهم أبدًا بتاريخهم العدائي معه، بل قال صلى الله عليه وسلم لصحابته يُعلِي من شأن هؤلاء العظماء: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها" . ولما جلسوا إليه صلى الله عليه وسلم ترك فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم انطباعًا جميلاً لا يُنْسَى، وانظروا إلى كلمات خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو يصف هذه اللحظة الرائعة.. يقول خالد: "فأُخْبِرَ بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَسُرَّ بِنَا، فَلَبِسْتُ من صالح ثيابي، ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيني أخي؛ فقال: أسرع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُخْبِرَ بك، فَسُرَّ بقدومك، وهو ينتظركم، فأسرعت المشي، فطلعت عليه، فما زال يتبسم إليَّ، حتى وقفت عليه، فسلَّمت عليه بالنبوة، فقال: «الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يُسْلِمَكَ إلا إلى الخير»، قلت: يا رسول الله، قد رأيتَ ما كنتُ أشهد من تلك المواطن عليك معاندًا عن الحق، فادعُ الله أن يغفرها لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله»، قلت: يا رسول الله، على ذلك؟ قال: «اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صدٍّ عن سبيل الله» قال خالد: وتقدم عثمان وعمرو، فبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قدومنا في صفر سنة ثمان، فوالله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم أسلمت يعدل بي أحدًا من أصحابه فيما حَزَبه .والموقف أروع من أي تعليق!! فهذا سرور، وهذا ابتسام، وهذا ثناء على خالد، وهذا دعاء بالمغفرة على كل ما كان منه، وهذا تقديم وتعظيم وتكريم لزعيم طالما حاربه وقاد الجيوش ضده!! هذا هو سلوكه الراقي صلى الله عليه وسلم، وهو سلوك ملازم له في كل أحواله مهما كانت الظروف والملابسات. المصدر: كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية) للدكتور راغب السرجاني.
__________________
قلب لايحتوي حُبَّ الجهاد ، قلبٌ فارغ .! فبالجهاد كنا أعزة .. حتى ولو كنا لانحمل سيوفا .. |
#2
|
||||
|
||||
صلــــ الله عليه وسلم
__________________
إذا دعتك قدرتك علي ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك
|
#3
|
||||
|
||||
بجد بارك اللة فى اعمالكم الحسنة
|
#4
|
||||
|
||||
جزاك الله كل الخير وبارك فيك
وصلى الله وسلم على خير خلقه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
__________________
نحن في خدمتكم للاجابة علي اسئلتكم فيما يخص اللغة العربية أشرف الصواف ت/ 191 35 35 0100 -.6000 54 50 015 أو على موقعنا في موقع بوابة الثانوية العامة
|
العلامات المرجعية |
|
|