اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > حي على الفلاح

حي على الفلاح موضوعات وحوارات ومقالات إسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15-11-2012, 12:41 PM
abomokhtar abomokhtar غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,687
معدل تقييم المستوى: 28
abomokhtar is just really nice
New خطبة في وداع العام الهجري و استقبال العام الهجري الجديد


الحمد لله ...
أيها الأخوة المؤمنون : هكذا تمر الأعوام سريعة ، بالأمس نستقبل عاما وها نحن نودعه في هذه الأيام ، ونستقبل عاما جديدا من أعمارنا ، فما أسرع مرور الأعوام والسنين ، تمر كأنها شهور ، فما أحوجنا اليوم ونحن نودع عاما راحلا ونستقبل عاما قادما أن نقف مع أنفسنا لنراجع حساباتنا هل ربحنا أم خسرنا ، فالتاجر الناجح هو الذي يراجع حساباته نهاية كل عام ويحسب الربح والخسارة وما أحوج المسلم كذلك أن يراجع حساباته نهاية كل علم ليعلم ماذا قدم خلال عام مضى لدينه ووطنه ومجتمعه وأمته.
دقــات قلب المــرء قائلــة لــه إن الحيــاة دقـــائق وثـــــوان
ان الوقت من نعم الله العظيمة، يتكرم فيه المولى سبحانه على العباد بفرص العمر، لعلهم يغتنمون الحياة الدنيا الفانية من اجل الفوز بالحياة الأخروية الباقية. فالعمر أوقات ، أيام وشهور وسنوات، والوقت أثمن من الذهب والماس. لأن المال يمكن ان يعوض او يستعاد ، لكن الوقت إذا مضى لا يعود ، فمن اغتنمه فقد اغتنم عمره وحياته، ومن أضاعه خسر الدنيا والآخرة. يقول الحسن البصري عليه رحمة الله : ( أيها الإنسان ، إنما أنت أيام ،كلما ذهب يومك ، ذهب بعضــك ) ، و بلسان الشاعر :
وما المــرء الا راكب ظهـر عمـــره على سفــر يفنيــه باليــوم والشهــــر
يبــيت ويضحـى كل يوم وليــلـــة بعــيدا عن الدنيـــا قريبـــا إلى القبــــر
وفي غفلة من الناس ، وعلى حين غرة ، يأتي الأجل، وحينها يتنبهون من غفلتهم ، ليدركوا قيمة أوقات العمر، ولكن هيهات ، فالجواب القرآني جاهز وصارم : ( ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون) و قوله تعالى : (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت، كلا، إنها كلمة هو قائلها ، ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون). وتزداد الحسرة يوم القيامة، وقد أزلفت الجنة للمتقين ، وبرزت الجحيم للغاوين. هنالك يدعو المضيعون لأوقات أعمارهم الدنيوية بالويل والثبور ، ويستجدون فرصة إضافية لعلهم يتداركون :
( ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل، أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير، فذوقوا فما للظالمين من نكير ) .وليس يتأسف أهل الجنة وهم في النعيم المقيم، إلا على ساعة من الدنيا لم يذكروا الله تعالى فيها.
وهل العمر مهما طال الا لحظات عابرة، ولكنها فرصة غالية ونعمة عظيمة، قد افلح من اغتنمها ، وقد خاب من أضاعها . يذكر في باب الموعظة ان ملك الموت سأل نوحا عند اجله: يا أطول الأنبياء عمرا، كيف وجدت الدنيا ؟ قال: وجدتها كدار لها بابان ، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر ).
أيها الأخوة الكرام الأعزاء :
وانه لمن السفه والغفلة إتلاف الوقت وتبديده، فذلك اشد وأوخم من إتلاف المال وتبذيره . وكل وقت ضائع فهو خسارة لجانب من مطالب الدنيا والآخرة . ومن المؤسف المؤلم أن تجد بعض المسلمين أكثر تبذيرا وتبديدا لاوقاتهم الثمينة، وهم على علم ويقين بما ينتظرهم يوم القيامة. تلك حال كثير من المسلمين الذين بهدرون الساعات الطوال في المقاهي والملاهي وألوان الفرجة في الأفلام والمباريات والسهرات وحول موائد الورق والشطرنج وغيرها .. لاهين عن ذكر الله وعن الصلاة ، متقاعسين عن صالح الأعمال للدنيا والآخرة. نعم لا مانع من قسط الترفيه والترويح بالضرورة وبغير إفراط ولا تفريط ،لكن المسلم العاقل الحازم الذي يجعل غايته الجنة ، يعلم أن طريقها جد وعمل واجتهاد ومثابرة ، واغتنام الأوقات بما يرضي الله تعالى من الصالحات وفعل الخيرات ، فيبادر ويسارع قبل انصرام العمر وحلول الأجل: { سارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين } :
لا دار للمـرء بعد المـوت يسكنهــــا إلا التي كا ن قبـل المـوت يبنيهــــا
فان بناهــا بخيــر طــاب مسكنـــه وان بناهــــا بشــر خــــاب بـانيهـــــا
ومن النعم العظيمة التي يغفل عنها الغافلون، نعمة الصحة والفراغ، يجهلون قدرها ولا يؤدون شكرها، وهي فرص الأوقات التي تخلو من المشاغل والمعوقات المانعة من العمل للدين والدنيا والآخرة. كما في الحديث :( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) رواه البخاري . والغبن في التجارة خسران يبعث على الحسرة ، لكنه مع ضياع فرص العمر الزمنية أشد حسرة وألما. فماذا ينتظر من آتاه الله الصحة والعافية والفرص الزمنية المواتية ، بغير شاغل ولا مانع ، كي يغتنم ذلك في جد العبادة والعلم والعمل وفعل الخيرات . وما أكثر النادمين الذين يعيشون على الحسرة لما ضاع منهم زمن القدرة والاستطاعة ، وقد أصبحوا عاجزين مقعدين بالمرض او الشيخوخة او الموانع العديدة ، ولسان حالهم يقول :
ألا ليت الشبــاب يعود يوما فأخبــره بمـا فعل المشيــب
إن الفراغ لا يبقى فراغا أبدا، فلابد أن يملأ بخير او شر ، ومن لم يشغل نفسه بالحق شغلته بالباطل. وقد كان السلف الصالح يكرهون للمرء ان يكون فارغا ، لا هو في أمر دينه ولا في أمر دنياه ، وبذلك تنقلب نعمة الوقت والفراغ نقمة وندما على كل خامل مضياع. وما اشد خطر الفراغ والشباب والمال على عابدي الأهواء والشهوات :
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفســــدة
أيها الأخوة الفضلاء :
ان المسلم العاقل العامل ، يغتنم فرص عمره ، ويتحرك بجد وحزم وعزم لملء أوقاته بالطاعات والقربات وفعل الخيرات، ويسارع إلى مغفرة من ربه وجنات النعيم ، كما هو مأمور في كتاب الله وسنة رسوله . وهذا حث من النبي على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل حلول الموانع والمعوقات والفتن :
( بادروا بالأعمال سبعا: هل تنتظرون إلا غنى مطغيا، أو فقرا منسيا ، او مرضا مقسدا ، او هرما مفندا، او موتا مجهزا ،او الدجال، فشر غائب ينتظر، او الساعة ، والساعة أدهى وأمر ) رواه الترمذي .
وإن استغلال الأوقات يتطلب التخطيط والتنظيم ومراعاة أنسب الأعمال لأنسب الأوقات، فليست كل الأعمال صالحة لكل وقت. قال ابو بكر لعمر (رضي الله عنهما) لما استخلفه: ( واعلم ان لله عملا بالنهار لا يقبله بالليل ، وعملا بالليل لا يقبله بالنهار).
ومن الآفات القاتلة للأوقات ، المانعة من حسن تدبيره واستغلاله : ـ أولها الغفلة التي تغشى العقول والقلوب والعزائم ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ).ـ وثانيها التسويف ،وهو مرض التأجيل وترك المبادرة .وفي الحكمة المشهورة : ( اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا) ـ وثالثها : طول الأمل بغير عمل ( ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون )..
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وسنة نبيه الكريم واجارنا من عذابه المهين أقول ما قد سمعتم ...
الخطبة الثانية :
أيها الأخوة المؤمنون :
عن ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك ) رواه الترمذي .
توجيه حكيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الى اغتنام النعم الربانية الخمس ، وهي فرص ثمينة في حياة المسلم الحريص على التزود من دنياه لآخرته :ـ نعمة الشباب ، وهي فرصة القوة والحيوية، وطوبى لشاب نشأ في عبادة الله.ـ ونعمة الصحة والعافية ، وهي فرصة القدرة والاستطاعة من اجل العمل قبل عوامل العجز. ـ ونعمة الغنى وهي فرصة الإمكانات المادية لفعل الخيرات. ـ و نعمة الفراغ وهي فرصة الزمن المتاح للعمل قبل المشاغل والفتن . ـ و نعمة الحياة ، وهي الفرصة الكبرى في دار الدنيا فبل الرحيل إلى الآخرة . فطوبى لمن تزود منها بخير الزاد { وتزودوا فان خير الزاد التقوى}.
نعم عظيمة وفرص مواتية وثروة زمنية غالية، جدير بكل عاقل أن يستثمرها بحسن التفكير والتدبير ، والطريق إلى ذلك أربعة أمور : أولها تنظيم الوقت بحسن التخطيط والبرمجة . وثانيها تحديد الأهداف بدقة حتى لا تستهلك الأوقات هباء . وثالثها : تحديد الأولويات حتى لا تضيع الأوقات الثمينة في الأمور الثانوية .ورابعها :المراقبة والمحاسبة بشكل دقيق لما يصرف من الأوقات اليومية.
والأصل في المحاسبة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن ترك لنفسه هواها، وسعى لها في تحقيق مناها وتركها من غير مؤاخذة ولا محاسبة، دامت حسراته وطالت في ***ات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته. فمن أراد أن يخف حسابه غدا بين يدي ربه فليحاسب نفسه الآن. قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني" رواه الترمذي وحسنه.
وقال عمر: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا للعرض الأكبر (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) ، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا.
يقول ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقياً حتى يحاسب نفسه كما يحاسب الشريك الشحيح شريكه: من أين مطعمه وملبسه؟".
وقال الحسن البصري : المؤمن قوام على نفسه يحاسبها لله، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.
فهلموا بنا ونحن في نهاية عامنا نتساءل عن عامنا كيف قضيناه، وعن وقتنا فيه كيف أمضيناه، وعن مالنا من أين اكتسبناه وفيما أنفقناه، وننظر في كتاب أعمالنا لنرى ما فيه سطرناه، فإن كان خيراً حمدنا الله وشكرناه وازددنا منه، وإن كانت الأخرى تبنا إليه واستغفرناه.
واعلموا رحمني الله وإياكم أن من أكثر محاسبة نفسه ملك زمامها وخف حسابه عند الله، ومن ترك نفسه على هواها فوجئ بغدراته وخطيئاته، وكثرة هناته وزلاته .
فيا أيها الإخوة المؤمنون ، اغتنموا فرص أعماركم، واملأوا أوقاتكم بما فيه خير دينكم ودنياكم ، واحذروا آفات التبذير للأوقات ، وتذكروا ان الدنيا مزرعة للآخرة، وليس بعدها من دار الا الجنة او النار . واذكروا قول الله تعالى : (فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فان الجحيم هي المأوى ، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى).
جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ..
وصلوا وسلموا......
__________________
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 15-11-2012, 12:43 PM
abomokhtar abomokhtar غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,687
معدل تقييم المستوى: 28
abomokhtar is just really nice
New

الخطبة الأولى
أيها المسلمون، أيها المُرابِطونَ في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أيُّها الصَّامدون في رحاب المسجد الأقصى تفدونه بالمُهَجِ والأرواح رغم كيد المحاصِرِينَ لهذا المسجد، ورغم إجراءاتهم التعسُّفية للحيلولة بين عباد الله وبيوت الله.
مرَّ بالمسلمين خلال الأسبوع الماضي ذكرى الهجرة النبويَّة الشَّريفة، التي جعل منها الفاروقُ عمر مبدأً للتَّاريخ الهجري للأمَّة الإسلاميَّة، لما لهذه المناسَبة من أَثَرٍ واضحٍ في مجرى الأحداث ومسار الدَّعوة الإسلاميَّة؛ فهل استوعب المحتَفُونَ دروسَ الهجرة، ووقفوا على أهدافها ومراميها، وحقَّقوا التأسِّي بصاحبها عليه الصَّلاة والسَّلام؟! هل أخذوا منها ما يعينُهم على إصلاح أحوالهم وتغيير واقعهم وتحسين أوضاعهم؟!


هذه الأوضاع والأحوال التي نَفَذَ من خلالها أعداء الأمَّة لبسط السَّيطرة على ديار المسلمين، وفرض ثقافة المحتلِّ على شعوبهم، تحت شعارات: تحرير الشعوب، ورعاية حقوق الإنسان، ونشر العدالة السِّياسيَّة والاجتماعيَّة بين هذه الشعوب المقهورة! وكأنَّ قهرَ الاحتلال يقلُّ عن قهر السُّلطان والاستبداد!! إلى غير ذلك من الدَّعاوى العريضة التي تخفي وراءها الأهداف الحقيقيَّة لهذه الحملة الاستعمارية التي تستهدف ديار المسلمين.
ولعلَّ ما تروِّج له أمريكا بما يسمَّى "مشروع الشَّرق الأوسط الكبير للإصلاح" يأتي ضمن هذه الحملة؛ لبثِّ المزيد من السَّيطرة والنُّفوذ الأجنبي، وتعزيز الوجود الاستعماري الذي انتشرت جيوشه المحتلَّة في أقطارٍ كثيرةٍ من دنيا العروبة والإسلام؛ لتنفيذ سياسات المحتلِّين، والتَّمكين للغزو الثقافي الذي يستهدف عقيدة الأمَّة وفكرها ومقوِّمات نهضتها.


أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كلِّ مكان:
لو تمثَّلَتْ أمَّتكم روحَ الهجرة وتضحياتها؛ لما وصلت إلى هذا الحدِّ من استهانة الأمم بها، فروح الهجرة تعني اليقين الجازم بأنَّ الله ينصر دينه ويؤيِّد رسوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40].
ولذلك عاد مَنْ كان يطارِد رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - في الصَّباح، عاد حارسًا له في المساء! بعد أن رأى بأمِّ عينَيْه أنَّ الله يمنع رسوله، ولكنَّه عاد بجائزةٍ عظيمةٍ، إنها سِوَارَيْ كسرى، عاد بسِوَارَيْ كسرى، ليتسلَّمها سُراقَة بن مالك في عهد الفاروق عمر، يوم وصل المسلمون إلى مدائن كسرى، وبادت دولة الأكاسرة.
إنَّها الثِّقة بالله واليقين بنصره، حين لا يتوجَّه المرءُ إلا لله، فلا ضعيفَ مع الله، ولا قويّ بسواه: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56].


أيُّها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كلِّ مكان:
ونقرأ في كتاب الله العزيز قولَه تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]، ومَنْ يتابع مراحل الدَّعوة الإسلاميَّة يرى المسلمين في مكَّة وقد تعرَّضوا لكلِّ أصناف البلاء والاضطهاد من قِبَل كفار مكَّة، ولم يَسْلَم من أذى المشركين رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – نفسه، فصبر هو وأصحابه، وتحمَّل الأذى، وتَسَامَتْ هِمَمُهُم فوق كلِّ بلاءٍ في سبيل الله ونصرة دينه والثَّبات على الإيمان، حتى ضاق المشركون بهم ذَرْعًا، وراحوا يبطشون بأصحاب النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – ويخطِّطون لقتل النبيِّ نفسه: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30].


فأذن النبيُّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - لأصحابه بالهجرة إلى المدينة المنوَّرة حيث دار الهجرة: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
إنَّ المهاجرين في هذه الأيام غرباءُ في ديار الإسلام.


أيُّها المسلمون:
وبالمهاجرين والأنصار قامت دولة الإسلام الأولى في المدينة المنوَّرة، على أُسُس الإيمان والمؤاخاة، وتربية المسجد الذي بناه النبيُّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - أوَّل ما نزل المدينة، وهذا يؤكِّد على دور المسجد في إعداد الأجيال الربَّانية وحَمَلَة الدَّعوة الإسلاميَّة.
وقد نظَّم نبيُّنا - عليه الصَّلاة والسَّلام - حياةَ مجتمع المدينة في وثيقةٍ دستوريَّةٍ تحفظ حقوق المسلمين وغير المسلمين، في سماحةٍ وعدالة لم تعرفها أحدث القوانين الوضعيَّة، ولم تقترب منها، وكيف لا والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُشَرِّعُ من وحي ربِّه، والبَشَر يُشرِّعون من هوى أنفسهم، وينحرفون مع مصالحهم؟!


أيُّها المسلمون:
ولم يَمْضِ طويلُ وقتٍ حتى عاد المهاجرون الذين تركوا الأوطان والأهل والأموال في سبيل الله نصرة لدينه واتِّباعًا لرسوله، عادوا براية الحقِّ التي هاجروا تحت لوائها فاتحين منتصرين، ليعلو نداء التَّوْحيد فوق البيت الحرام، وتنتهي عبادةُ الأوثان والأصنام، وإذا بمكَّة ومَنْ حولها من جزيرة العرب تُذْعِنُ لراية الهجرة، راية الحقِّ، ويُهدي الله - جلَّ في علاه - نصرَهُ لرسوله والذين آمنوا في الحياة الدُّنيا، {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10].


فهلاَّ حقَّق المسلمون في هذه الأيام - وهم يعيشون ذكرى الهجرة النبويَّة - وصفَ الإيمان الذي ينصر الله أهله، كما نصر الصَّحابة الكرام بقيادة النبيِّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - ومَنْ سار على نَهْجِه من الخلفاء الرَّاشدين والأئمَّة المهديِّين؟!.
لقد علَّمَتْنا الهجرةُ الشريفة أنَّ الثِّقة واليقين بالله يقودان إلى نصره الموعود لعبادِه المؤمنين، وصدق الله العظيم: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، جاء في الحديث الشريف عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضيَ الله عنهما - قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المسلم مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر مَنْ هَجَرَ ما نهى الله عنه))، أو كما قال.
((التَّائب من الذَّنب كمَنْ لا ذنب له))؛ فيا فوز المستغفرين. استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.


الخطبة الثَّانية
الحمد الله الهادي إلى الصِّراط المستقيم، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا محمد المبعوث رحمةً للعالمين، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومَنِ اقتدى واهتدى بهداه إلى يوم الدِّين.


وبعد:
أيُّها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، لم تَكْتَفِ سلطات الاحتلال الإسرائيلي بما يقوم به جيشُها من اجتياحٍ للمدن والقرى وقتلٍ للأبرياء وفَرْضٍ للحصار على سائر الأرض الفلسطينيَّة، وترويعِ الآمِنِينَ بهَدْم البيوت وتجريف الأراضي، وقطعِ الأشجار لمواصلة بناء جدار الفَصْل العنصري، إمعانا في تكريس الاحتلال وتقطيع أوصال الأرض الفلسطينيَّة لإعاقة الحياة العاديَّة للمواطن الفلسطيني، بعَزْل المُزارِع عن مزرعته، والطَّالب عن مدرسته وجامعته، والطَّبيب عن عيادته، وأبناء الأسرة والبلدة الواحدة عن بعضهم بعضًا.


لم تكتَفِ هذه السُّلطات بكلِّ هذه الممارسات الظَّالمة؛ بل أضافت إليها سَطْوًا وقرصنةً على أموال البنوك العربية، والعبث في محتوياتها وحساباتها، ومصادرة أموالها؛ مُرَهِّبَةً الموظَّفين والمراجعين، في سابقةٍ خطيرةٍ تستهدف زعزعة الحياة الاقتصاديَّة لأبناء شعبنا التي تزداد حرجًا يومًا بعد يوم؛ جرَّاء الممارسات الإسرائيليَّة، مع أنَّ كلَّ هذه الممارسات التي تهدف إلى إذلال شعبنا والتَّضييق عليه لن تزيد هذا الشعب المُرابِط إلاَّ إصرارًا على البقاء، وتمسُّكا بحقوقه الثَّابتة، مواصلا حياته في رباطٍ وثباتٍ فوق تراب وطنه الطَّهُور.


يا أبناء ديار الإسراء والمعراج:
ومن الممارسات الظالمة: ما تفوَّه به نائب وزير الدِّفاع الإسرائيلي، بوصفه الفِلَسْطِينِيِّين والعرب بأنهم يعانون خللاً في صفاتهم الوراثية، يدفعهم هذا الخلل إلى قتل الآخَرين! إنَّ أقلَّ ما تُوصَف به هذه التفوُّهات: العنصريَّة، والاعتداء على حكمة الله في خَلْقِه وتكريمه لبني الإنسان.
وقريبٌ من هذه التفوُّهات، وفي نفس السِّياق: ما تفوَّه به أحد الحاخاميين اليهود، بوصفه للدِّين الإسلامي بأنَّه دينٌ متخلِّفٌ، ودعا إلى فَصْل المواطنين العرب عن الإسرائيليين؛ لعدم إمكانيَّة التَّعايش بين الإسرائيليين والعرب في الدولة العبرية - على حدِّ قوله وزَعْمه.


إنَّ هذه التفوُّهات التي سبقتها تفوُّهات كثيرة بوصف العرب بالصراصير أو الأفاعي أو الذئاب - تدلُّ بوضوح على العقليَّة السوداويَّة تجاه الدِّين الإسلاميِّ، والعنصريَّة البغيضة ضدَّ المواطنين العرب من أبناء فِلَسْطِين المحتلَّة.
لقد ترك الدِّينُ الإسلاميُّ يهودَ المدينة على دينهم، وحفظ حقوقهم في الوثيقة التي وضعها النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم - لتنظيم حياة مجتمع المدينة في ظلِّ دولة الإسلام الأولى، وعاش غير المسلمين على امتداد التَّاريخ الإسلاميِّ في ظل دولة الإسلام يتمتَّعون بكامل حقوقهم الدينيَّة والمدنيَّة، ولكنها عدالة الإسلام وسماحة المؤمنين.


إنَّه الإسلام - أيُّها النَّاس - الذي كَفَلَ كرامةَ الإنسان دون النَّظر إلى دينه وجِنْسه؛ فلا عزَّة للمسلمين بغير الإسلام، ولا سعادةَ للبشريَّة المنكوبة بعيدًا عن سلطانه وأحكامه.
{رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4]، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم.
__________________
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 15-11-2012, 12:46 PM
abomokhtar abomokhtar غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,687
معدل تقييم المستوى: 28
abomokhtar is just really nice
New

الخطبة الأولى
أمَّا بعد:
فأوصيكم - عباد الله - ونفسي بتقوى الله، فهي أربح المكاسب، وأجزل المواهب، وأسمى المناقِب، وبها تُنال أعلى المراتب، وتتحقَّق أعظم المطالب.
عباد الله:
تعيش الأمَّة الإسلاميَّة هذه الأيام إشراقةَ سنةٍ هجريَّة جديدة، وإطلالةَ عامٍ مباركٍ بإذن الله، بعد أن أَفَلَت شمسُ عامٍ كامل، مضى بأفراحه وأتراحه، فقوِّضت خيامه، وتصرَّمت أيامه، فالله المستعان عباد الله، ما أسرع مرور الليالي والأيام، وتصرُّم الشهور والأعوام! لكن الموفَّق الملهَم مَنْ أخذ من ذلك دروسًا وعِبرًا، واستفاد منه مُدَّكَراًً ومُزدَجَراً، وتزوَّد من المَمَرِّ للمَقَرِّ، فإلى الله - سبحانه - المرجِع والمستقرّ، والكيِّس المُسَدَّد مَنْ حاذَر الغفلة عن الدَّار الآخِرة حتى لا يعيش في غمرة، ويؤخذ على غرَّة، فيكون بعد ذلك عظةً وعبرة، واللهَ نسألُ أن يجعل من هذا العام نُصْرَةً للإسلام والمسلمين، وصلاحًا لأحوالهم في كلِّ مكان، وأن يعيده على الأمَّة الإسلاميَّة بالخير والنَّصر والتَّمكين، إنه جوادٌ كريم.


إخوة الإسلام:
حديث المناسبة في مطلع كلِّ عامٍ هجريٍّ: ما سطَّره تاريخنا الإسلاميّ المجيد من أحداثَ عظيمة، ووقائعَ جسيمة، لها مكانتها الإسلاميَّة، ولها آثارها البليغة في عزِّ هذه الأمَّة وقوَّتها وصلاح شريعتها لكلِّ زمانٍ ومكان، وسعيها في تحقيق مصالح العباد في أمور المعاش والمعاد.


معاشر المسلمين:
ما أجمل أن نشير إشارات عابرة لعدد من القضايا المهمَّة الجديرة بالإشادة والتَّذكير ونحن في بداية هذا العام الجديد، علَّها تكون سببًا في شَحْذ الهِمَم، واستنهاض العزمات للتمسُّك الجادِّ بكتاب الله وسنَّة رسوله – صلَّى الله عليه وسلَّم - وحاملةً على الاتِّعاظ والاعتبار، ووقفاتِ المحاسبة الدقيقة، ونظراتِ المراجعة المستديمةِ في الأمَّة، تجديدًا في المواقف، وإصلاحًا في المناهج، وتقويمًا للمسيرة في كافَّة جوانبها.


إخوة العقيدة:
وأوَّل هذه الإشارات - مع حَدَث السَّاعة وحديثها -: الحدث الذي غيَّر مجرى التاريخ، الحدث الذي يحمل في طياته معاني الشجاعة والتَّضحية والإباء، والصَّبر والنَّصر والفداء، والتوكُّل والقوَّة والإخاء، والاعتزاز بالله وحده مهما بلغ كيد الأعداء، إنَّه حَدَثُ الهجرة النبويَّة، الذي جعله الله - سبحانه - طريقًا للنَّصر والعزَّة، ورفع راية الإسلام، وتشييد دولته، وإقامة صرح حضارته، فما كان لنور الإسلام أن يُشِعَّ في جميع أرجاء المعمورة لو بقيَ حبيسًا في مَهْدِه، ولله الحكمة البالغة في شَرْعِه وكَوْنِه وخَلْقِه.


إنَّ في هذا الحدث العظيم من الآيات البيِّنات والآثار النيِّرات والدروس والعِبَر البالغات ما لو استلهمته أمَّة الإسلام اليوم وعملت على ضوئه وهي تعيش على مفترق الطُّرُق؛ لتحقَّق لها عزُّها وقوَّتها ومكانتها وهيبتها، ولعلمت علم اليقين أنَّه لا حلَّ لمشكلاتها ولا صلاح لأحوالها إلاَّ بالتمسُّك بإسلامها، والتزامها بعقيدتها وإيمانها، فوَالذي بعث محمَّدًا بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا ما قامت الدُّنيا إلا بقيام الدِّين، ولا نال المسلمون العزَّة والكرامة والنَّصر والتَّمكين إلاَّ لما خضعوا لربِّ العالمين، وهيهات أن يحلَّ أمنٌ ورخاءٌ وسلامٌ إلاَّ باتِّباع نهج الأنبياء والمرسلين.


إذا تحقَّق ذلك - أيُّها المسلمون - وتذكَّرتِ الأمَّة هذه الحقائق النَّاصعة، وعملت على تحقيقها في واقع حياتها؛ كانت هي السلاح الفاعل الذي تقاتل به، والدِّرع الحصين الذي تتَّقي به في وجه الهجمات الكاسحة والصراع العالمي العنيف، فالقوة لله جميعًا، والعزَّة لله ولرسوله وللمؤمنين.


أمَّة التَّوحيد والوَحْدة:
لقد أكَّدت دروس الهجرة النبويَّة أنَّ عزَّة الأمَّة تكمن في تحقيق كلمة التَّوحيد، وتوحيد الكلمة عليها، وأنَّ أيَّ تفريطٍ في أمر العقيدة أو تقصيرٍ في أخوَّة الدِّين مآله ضعف الأفراد وتفكُّك المجتمع وهزيمة الأمَّة، وإنَّ المتأمِّل في هزائم الأمم وانتكاسات الشُّعوب عبر التاريخ - يجد أنَّ مَرَدَّ ذلك إلى التفريط في أمر العقيدة والتَّساهل في جانب الثَّوابت المعنويَّة مهما تقدَّمت الوسائل الماديَّة، وقوَّة الإيمان تفعل الأعاجيب، وتجعل المؤمن صادقًا في الثِّقة بالله والاطمئنان إليه والاتكال عليه، لا سيَّما في الشَّدائد.


ينظر أبو بكر الصدِّيق - رضيَ الله عنه - إلى مواضع أقدام المشركين حول الغار فيقول: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصَرَنَا! فيجيبه جواب الواثق بنصر الله: ((يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟!))[1].
الله أكبر! ما أعظم لطف الله بعباده ونصره لأوليائه، وفي هذا درسٌ بليغٌ لدعاة الحقِّ وأهل الإصلاح في الأمَّة: أنه مهما احْلَوْلَكَتِ الظُّلمات فوعد الله آتٍ لا محالة: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110].


أمَّة الإسلام:
ودرسٌ آخَر من دروس الهجرة النبويَّة، يتجلَّى في أنَّ عقيدة التَّوحيد هي الرَّابطة التي تتضاءل أمامها الانتماءات القوميَّة والتمايزات القَبَلِيَّة والعلاقات الحزبيَّة، واستحقاق الأمَّة للتبجيل والتَّكريم مدينٌ بولائها لعقيدتها وارتباطها بمبادئها، يُقال ذلك - أيُّها المسلمون - وفي الأمَّة في أعقاب الزَّمن منهزمون كُثُر، أمام تيَّارات إلحاديَّة وافدة ومبادئ عصريَّة زائفة، ترفع شعارات مصطنَعة وتطلق نداءات خادعة، لم يجنِ أهلها من ورائها إلا الذلَّ والصَّغار، والمهانة والتَّبار، والشَّقاء والبَوَار، فأهواءٌ في الاعتقاد، ومذاهبٌ في السياسة، ومشاربٌ في الاجتماع والاقتصاد، كانت نتيجتها التخلُّف المهين والتمزُّق المشين.
وفي خضمِّ هذا الواقع المُزْرِي يحقُّ لنا أن نتساءل بحرقةٍ وأسى: أين دروس الهجرة في التَّوحيد والوَحْدة؟! أين أخوَّة المهاجرين والأنصار مِن شعارات حقوق الإنسان المعاصِرة ومدنيَّته الزَّائفة؟! فقولوا لي بربِّكم: أيُّ نظامٍ راعَى حقوق الإنسان وكرَّمه أحسن تكريمٍ وكفل حقوقه كهذا الدِّين القويم؟! فلتَصُخَّ منظَّمات حقوق الإنسان العالمية إلى هذه الحقائق، وتطَّرِح الشَّائعات المغرِضة عن الإسلام وأهل الإسلام وبلاد الإسلام، إن أرادت توخِّي الصِّدق والموضوعيَّة.


إنَّ هذه الإلماحة إلى درس الهجرة في التَّضحية والبَذْل والفداء، ومراعاة كرامة الإنسان والحفاظ على حريَّته وحقوقه، يجرُّ - يا رعاكم الله إلى تذكُّر أحوال إخواننا في العقيدة في بقاعٍ شتَّى من العالم؛ حيث حلَّت بهم مصائب وبلايا، ونكبات ورزايا.
سائلوا أرضَ النبوَّات ومهد الحضارات ومنطلَق الرسالات وبلاد المعجزات؛ فلسطين المجاهِدة: ماذا تعاني من صلفٍ يهوديٍّ سافر، ومن حقدٍ صهيونيٍّ أرْعَن؟!
سائلوا الشِّيشانَ وكشميرَ وغيرها عن الأوضاع المأساوية؛ علَّ دروس الهجرة النبويَّة تحرِّك نخوةً وتَشْحَذُ همَّةً وتستَنْهِض عزمًا، وما ذلك على الله بعزيز.


إخوة الإيمان:
وفي مجال تربية الشَّباب والمرأة، وميدان البيت والأسرة - يبرز الأثر العظيم في حدث الهجرة المصطفَوِيَّة، على صاحبها أفضل الصَّلاة وأتمُّ التَّسليم؛ ففي موقف عبدالله بن أبي بكر - رضيَ الله عنهما - في خدمة ونُصْرَة صاحب الهجرة عليه الصَّلاة والسَّلام - بأبي هو وأمي - ما يجلِّي أثرَ الشَّباب في الدَّعوة، ودورهم في الأمَّة ونُصْرة الدِّين والملَّة. أين هذا ممَّا ينادي به بعض المحسوبين على فكر الأمَّة وثقافتها من تخدير الشَّباب بالشَّهوات، وجَعْلِهم فريسةً لمهازل القنوات وشبكات المعلومات، في الوقت الذي يعدُّون فيه للاضطلاع بأغلى المهمَّات؛ في الحفاظ على الدِّين والقِيَم، والثَّبات على الأخلاق والمبادئ، أمام المتغيِّرات المتسارِعة، ودعاوَى العَوْلَمَة المفضوحة؟!


أيُّها الإخوة والأخوات:
وفي موقف أسماء بنت أبي بكر - رضيَ الله عنها، ورضيَ الله عن آل أبي بكر وأرضاهم - ما يجلِّي دورَ المرأة المسلمة في خدمتها لدينها ودعوتها؛ فأين هذا من دعاة المدنيَّة المأفونة، الذين أجلبوا على المرأة بخيلهم ورَجْلِهم، زاعمين - زورًا وبهتانًا - أنَّ تمسُّك المرأة بثوابتها وقِيَمها، واعتزازها بحجابها وعفافِها - تقييدٌ لحريَّتها وفقدٌ لشخصيَّتها، وبئس ما زعموا؟! فخرجت من البيت تبحث عن سعادةٍ موهومة وتقدميَّة مزعومة، لتظنّها في الأسواق والشوارع والملاهي والمصانع، فرجعت مسلوبةَ الشَّرف، مدنَّسةَ العِرْض، مُغتصَبةَ الحقوق، عديمة الحياء، مؤودة الغَيْرَة، وتلك صورةٌ من صور إنسانيَّات العصر المزعومة وحريَّته المأفونة ومدنيَّته المدَّعاة. ألا فليعلم ذلك اللاهثون واللاهثات وراء السَّراب الخادع، والسائرون خلف الأوهام الكاذبة.


أيُّها الأحبَّة في الله:
وإشارةٌ أخرى إلى أمرٍ يتعلَّق بحَدَث الهجرة النبويَّة، في قضيةٍ تعبِّر بجلاءٍ عن اعتزاز هذه الأمَّة بشخصيتها الإسلاميَّة، وتُثبِت للعالم بأسره استقلال هذه الأمَّة بمنهجها المتميِّز المستَقى من عقيدتها وتاريخها وحضارتها، إنها قضيَّةٌ إسلاميَّةٌ، وسنَّةٌ عُمَرِيَّة أجمع عليها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب - رضيَ الله عنه - إنَّها التَّوْقيت والتَّأريخ بالهجرة النبويَّة المبارَكة، وكم لهذه القضيَّة من مغزًى عظيم يَجْدُر بأمَّة الإسلام اليوم تذكُّره والتقيُّد به، كيف وقد فُتِنَ بعض أبنائها بتقليد غير المسلمين والتشبُّه بهم في تاريخهم وأعيادهم، أين عزَّة الإسلام؟! وأين هي شخصية المسلمين؟! هل ذابت في خضمِّ مُغرِيات الحياة؟!


فإلى الذين تنكَّروا لثوابتهم وخدشوا بهاء هُوِيَّتهم، وعملوا على إلغاء ذاكرة أمَّتهم، وتهافتوا تهافتًا مذمومًا، وانساقوا انسياقًا محمومًا خلف خصومهم، وذابوا وتميَّعوا أمام أعدائهم، ننادي نداءَ المحبَّة والإشفاق: رويدكم؛ فنحن أمَّة ذات أمجاد وأصالة، وتاريخ وحضارة، ومنهج متميِّز مُنْبَثِق من كتاب ربِّنا وسنَّة نبيِّنا – صلَّى الله عليه وسلَّم - فلا مساومةَ على شيءٍ من عقيدتنا وثوابتنا وتاريخنا، ولسنا بحاجةٍ إلى تقليد غيرنا؛ بل إن غيرُنا - في الحقيقة - بحاجة إلى أن يستفيد من أصالتنا وحضارتنا، لكنَّه التَّقليد والتَّبعيَّة، والمجاراة والانهزاميَّة، والتَّشبُّه الأعمى من بعض المسلمين - هداهم الله - وقد حذَّر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمَّته من ذلك بقوله فيما أخرجه الإمام أحمد وأهل "السُّنن": ((مَنْ تشبَّه بقومٍ فهو منهم))[2]، والله المستعان.


أيُّها الإخوة المسلمون:
وثالث هذه الإشارات إلى حدث عظيم في شهر الله المحرَّم، فيه درسٌ بليغٌ على نصرة الله لأوليائه وانتقامه من أعدائه مهما تطاولوا، إنَّه حدث قديم، لكنَّه بمغزاه متجدِّدٌ عبر الأمصار والأعصار، إنه يوم انتصار نبيِّ الله وكليمه موسى عليه السَّلام وهلاك فرعون الطاغية، وكم في هذه القصة من الدروس والعِبَر والعظات والفِكَر للدعاة إلى الله في كلِّ زمانٍ ومكان، فمهما بلغ الكَيْد والأذى والظُّلْم والتسلُّط؛ فإن نصر الله قريبٌ، ويا لها من عبرةٍ لكلِّ عدوٍ لله ولرسوله ممَّن مشى على درب فرعون، أنَّ الله منتقمٌ من الطُّغاة الظَّالمين، طال الزمن أو قَصُرَ؛ فيوم الهجرة ويوم عاشوراء يومان من أيام النَّصر الخالدة.
ألا فلتقرَّ بذلك أعين أهل الحقِّ ودُعاته؛ فالعاقبة للمتَّقين، وليتنبَّه لذلك قبل فوات الأوان أهلُ الباطل ودُعاته، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَن يَخْشَى} [النازعات: 26]، {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14].


إنَّ في الحوادث لعِبَرا، وإنَّ في التاريخ لخَبرا، وإنَّ في الآيات لنُذُرا، وإنَّ في القَصَص والأخبار لمُدَّكَرًا ومُزْدَجَرا، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
اللهمَّ اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخِرها، وخير أيَّامنا يوم نلقاكَ.
اللهم اجعل حاضرنا خيرًا من ماضينا، ومستقبلنا خيرًا من حاضرنا، إنَّك خير مسؤولٍ وأكرم مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات، من كلِّ الذنوب والخطايا والسيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه كان توابًا.


الخطبة الثَّانية
الحمد لله الملك القدُّوس السلام، مُجري الليالي والأيام، ومُجدِّد الشهور والأعوام، أحمده تعالى وأشكره على ما هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل شهر المحرَّم فاتحة شهور العام، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله سيد الأنام، وبدر التَّمام، ومِسْك الختام، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله البَرَرَة الكِرام، وصَحْبِه الأئمَّة الأعلام، والتَّابعين ومَنْ تَبِعَهُم بإحسانٍ ما تعاقب النُّور والظَّلام.


أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله - عباد الله - وتمسَّكوا بدينكم، فهو عصمةُ أمركم، وتاج عزِّكم، ورمزُ قوتَّكم، وسبب نصركم، واعلموا أنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهَدْي هَدْيُ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ.


أيُّها الإخوة في الله:
إشارةٌ رابعةٌ إلى فاتحة شهور العام؛ شهر الله المحرَّم، إنه من أعظم شهور الله - جلَّ وعلا - عظيم المكانة، قديم الحُرْمَة، رأس العام، من أشهر الله الحرام، فيه نصَرَ الله موسى وقومه على فرعون وملئه، ومن فضائله: أنَّ الأعمال الصَّالحة فيه لها فضلٌ عظيمٌ، لا سيَّما الصِّيام؛ فقد روى الإمام مسلم في "صحيحه" من حديث أبي هُرَيْرَةَ - رضيَ الله عنه - قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أفضل الصِّيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم، وأفضل الصَّلاة بعد الفريضة صلاة اللَّيل))[3].


وأفضل أيام هذا الشَّهر - يا عباد الله - يوم عاشوراء، وفي "الصحيحَيْن" عن ابن عبَّاسٍ - رضيَ الله عنهما - قال: "قدم النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – المدينة، فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء؛ فقال لهم: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)). قالوا: هذا يومٌ عظيمٌ، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا؛ فنحن نصومه. فقال: ((نحنُ أحقُّ بموسى منكم))؛ فصامه وأمر بصيامه[4].
وفي "صحيح مسلم" عن أبي قَتادة - رضيَ الله عنه - أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - سُئل عن صيام يوم عاشوراء؛ فقال: ((أحتسبُ على الله أن يكفِّر السَّنة التي قبله))[5].


الله أكبر! يا له من فضلٍ عظيم لا يفوِّته إلا محروم.
وقد عزم على أن يصوم يومًا قبله مخالفةً لأهل الكتاب؛ فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: ((لئن بقيتُ إلى قابلٍ لأصومنَّ التَّاسع))؛ أخرجه مسلمٌ في "صحيحه"، من حديث ابن عبَّاس - رضيَ الله عنهما[6].


لذا فيستحبُّ للمسلمين أن يصوموا ذلك اليوم اقتداءً بأنبياء الله، وطلبًا لثواب الله، وأن يصوموا يومًا قبله أو يومًا بعده؛ مخالفةً لليهود، وعملاً بما استقرَّت عليه سنَّة المصطفى – صلَّى الله عليه وسلَّم - فيا له من عملٍ قليلٍ وأجرٍ كبيرٍ وكثيرٍ من المُنعِم المتفضِّل سبحانه!
إنَّ ذلك - أيها الأحبَّة في الله - لمَنْ شكر الله - عزَّ وجلَّ - على نعمه، واستفتاحُ هذا العام بعملٍ من أفضل الأعمال الصَّالحة التي يُرجَى فيها ثواب الله - سبحانه وتعالى - والكَيِّس الواعي والحصيف اللبيب يدركُ أنَّه كَسْبٌ عظيمٌ ينبغي أن يُتَوِّج به صحائف أعماله، فيا لفوز المشمِّرين.
نسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم منهم بمنِّه وكرمه.


هذا، واعلموا - رحمكم الله - أنَّ من أفضل الطَّاعات وأشرف القُربات كثرة صلاتكم وسلامكم على خير البريَّات، صاحب المعجزات الباهرات، والآيات البيِّنات؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم - جلَّ وعلا - فقال تعالى قولاً كريمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا وحبيبنا وقدوتنا محمَّد بن عبدالله، وارضَ اللَّهم عن خلفائه الرَّاشدين ذوي المقام العليّ، أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر الصَّحابة والتَّابعين...
__________________
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 15-11-2012, 12:47 PM
abomokhtar abomokhtar غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,687
معدل تقييم المستوى: 28
abomokhtar is just really nice
New

الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً وأتقن ما شرعه وصنعه حكمة وتدبيراً وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وكان الله على كل شيء قديراً وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أرسله إلى الخلق بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد، أيها الناس: اتقوا ربكم واعلموا ما لله من الحكمة البالغة في تعاقب الشهور والأعوام وتوالي الليالي والأيام فإن الله جعل الليل والنهار خزائن للأعمال ومراحل للآجال يعمرها الناس بما يعملون من خير وشر حتى ينتهي إلى آخر أجلهم ومن رحمته بعباده أن جعل لهم ليلاً ونهاراً وجعل لكل منهما آيتين آية النهار وهي الشمس وآية الليل وهي القمر جعل الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً ليبتغوا فيه فضلاً من الله ويطلبوا فيه معايشهم وجعل كل نهار يتجدد بمنزلة الحياة الجديدة يستجد فيه العبد قوته ويستقبل عمله ولذلك سمى الله النوم بالليل وفاة واليقظة بالنهار بعثاً فقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام:60] ومن رحمته بعباده أن جعل الشمس والقمر حسبانا ففي الشمس معرفة الفصول وفي القمر حسبان الشهور وجعل الله السنة اثني عشر شهراً قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36].


والأربعة الحرم ثلاثة منها متوالية وهي ذو القعدة الفطر التالي وذو الحجة والمحرم والرابع منها مفرد وهو رجب بين جمادى وشعبان وإن من تيسير الله تعالى أن جعل الحساب الشرعي العربي مبنيا على الشهور الهلالية لأن لها علامة حسية يفهمها الخاص والعام وهي رؤية الهلال في المغرب بعد غروب الشمس فمتى رئي الهلال فقد دخل الشهر المستقبل وانتهى الشهر الماضي وبذلك عرفنا أن ابتداء التوقيت اليومي من غروب الشمس لا من زوالها لأن أول الشهر يدخل بغروب الشمس وأول الشهر هو أول الوقت.


ولقد كان ابتداء التاريخ الإسلامي منذ عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حيث جمع الناس ست عشرة أو سبع عشرة من الهجرة فاستشارهم من أين يبدأ التاريخ فقال بعضهم يبدأ من مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم يبدأ من بعثته وقال بعضهم يبدأ من هجرته وقال بعضهم يبدأ من وفاته ولكنه -رضي الله عنه- رجح أن يبدأ من الهجرة لأن الله فرق بها بين الحق والباطل فجعلوا مبتدأ تاريخ السنين في الإسلام سنة الهجرة لأنها هي السنة التي كان فيها قيام كيان مستقل للمسلمين وفيها تكوين أول بلد إسلامي يسيطر عليه المسلمون فاتفق فيه ابتداء الزمن والمكان ثم إن الصحابة الذين جمعهم عمر تشاوروا من أي شهر يبدؤون السنة فقال بعضهم من ربيع الأول؛ لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مهاجراً إلى المدينة، وقال بعضهم: من رمضان؛ لأنه الشهر الذي نزل فيه القرآن واتفق رأي عمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- على ترجيح البداءة بالمحرم لأنه شهر حرام ويلي ذي الحجة الذي فيه أداء الناس حجهم الذي به تمام أركان الإسلام لأن الحج آخر ما فرض من الأركان الخمسة ثم إنه يلي الشهر الذي بايع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم – الأنصار على الهجرة وتلك المبايعة من مقدمات الهجرة فكان أولى الشهور بالأولية شهر المحرم.


عباد الله: إن علينا أن نشكر الله على ما يسره لنا من هذا الحساب البسيط الميسر وإن على الأمة الإسلامية أن تجعل لنفسها وجوداً وكياناً مستقلين مستمدين من روح الدين الإسلامي وأن تكون متميزة عن غيرها في كل ما ينبغي أن تتميز به من الأخلاق والآداب والمعاملات لتبقى أمة بارزة مرموقة لا تابعة لغيرها هاوية في تقليد من سواها تقليداً أعمى لا يجر إليها نفعاً ولا يدفع عنها ضرراً وإنما يظهرها بمظهر الضعف والتبعية وينسيها ما كان عليه أسلافها ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها فالتاريخ اليومي يبدأ من غروب الشمس والشهري يبدأ من الهلال والسنوي يبدأ من الهجرة هذا ما جرى عليه المسلمون وعملوا به واعتبره الفقهاء في كتبهم في حلول آجال الديون وغيرها.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:37-40]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. إلخ.



__________________
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 15-11-2012, 12:49 PM
abomokhtar abomokhtar غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,687
معدل تقييم المستوى: 28
abomokhtar is just really nice
New

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وسلَّم تسليمًا، أما بعد أيها الناس:

ففي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودِّع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله عزوجل، والسمع والطاعة وإن أمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.


فالرسول صلى الله عليه وسلم هنا يأمرنا ويحثنا على التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين بعده وهم أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وعلي ونحن في هذا الأسبوع نستقبل عاماً إسلامياً جديداً، ابتدأ عقد سنواته من أجل مناسبة عظيمة في الإسلام، ألا وهي هجرة النبي صلى الله عليه وسلم التي ابتدأ بها تكوينُ الأمة الإسلامية في بلد إسلامي مستقل يحكمه المسلمون بعد تلك الفترة التي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم في مكة فعانوا فيها وقاسوا أشد أنواع الاضطهاد والبلاء والامتحان؛ من ضرب وتعذيب بصنوف العذاب، وجوع وسخرية واستهزاء. فهذا خباب بن الأرت رضي الله عنه كما في صحيح البخاري وغيره يأتي للرسول صلى الله عليه وسلم في ظل الكعبة فيقول: يا رسول الله ألا تدعوا الله لنا، ألا تستنصر لنا؟! ( وهذا بسبب ما يلاقونه من صنوف العذاب ) فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار في مفرق رأسه فينصف نصفين، ويؤتى بالرجل فيمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، ما يصدُّه ذلك عن دينه، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.


وقد كان بلال رضي الله عنه يوضع على صدره الحجرُ الكبير في الرمضاء في شدة الح، ويقال له: اكفر بمحمد، فما يزيد رضي الله عنه على أن يقول: أحد أحد.

وحصرت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم وبني هاشم في الشعب مدة طويلة أصابهم في أثنائها مجاعة شديدة أكلوا فيها مالايمكن أكله، وهم مع ذلك صابرون على ما من أجله امتحنوا، إلى أن جاء نصر الله وأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة للمدينة، وقريش تحاول منعهم من الهجرة، حتى إنها همّت بأمر عظيم ومكيدة خطيرة، ألا وهي: أن يجتمع من كل قبيلة شاب من الشباب فيهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، ولا يدرى من قتله، فتعجز بنوا هاشم عن مقاتلة تلك القبائل جميعها؛ كما قال تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }، فأطلع الله نبيه على الذي أرادت قريش، فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا علياً رد الله تعالى مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر ثلاث ليال وقريش جادّة في البحث عنهم، ويمرون بالغار فيصرفهم الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه يقول: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، فيقول له صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا، يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟

ثم بعدها هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة تلك الهجرة التي أصبحت فيصلاً بين الحق والباطل، وأصبح المسلمون بها أعزةً بعد الذلة، وأقوياء بعد الضعف، حتى أعلا الله كلمته ونصر عبده وجنده.

أيها الإخوة: إن التاريخ السنوي لم يكن معمولاً به في أول الإسلام، حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففي السنة الثالثة أو الرابعة من خلافته رضي الله عنه كتب إليه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يقول له: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم، فيقال: إن بعضهم قال: أرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكها كلما هلك ملِك أرخوا بولاية من بعده، فكره الصحابة ذلك، فقال بعضهم: أرخوا بتاريخ الروم فكرهوا ذلك أيضاً، فقال بعضهم: أرخوا من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون من مبعثه، وقال آخرون: من مهاجره. فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها فأرخوا من الهجرة، واتفقوا على ذلك. ثم تشاوروا من أي شهر يكون ابتداءً السنة؟ فقال بعضهم: من رمضان لأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن وقال بعضهم: من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً واختار عمر وعثمان وعلي أن يكون من المحرم لأنه شهر حرام يلي ذي الحجة الذي يؤدي فيه المسلمون حجهم الذي به تمام أركان الإسلام والذي كانت فيه بيعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم والعزيمة على الهجرة، فكان ابتداء السنة الإسلامية الهجرية من الشهر الحرام. ووجب على المسلمين الإذعانُ لهذا الأمر لما مر معنا من قوله صلى الله عليه وسلم ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء....)).
جعلني الله وإياكم من المتمسكين بشرعه، المتبعين لسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين من بعده.


الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لاإله إلا هو، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد أيها الناس:
فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن أمته ستتبع سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخله أولئك. ومن تأمل نصوص السنة يلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره الشيء الذي فيه تشبه بأعداء الله ويأمر بمخالفته، حتى إن اليهود لحظوا هذا الأمر فقالوا: ما يُرِيدُ هذا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ من أَمْرِنَا شيئًا إلا خَالَفَنَا فيه ، وكان صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقول: خالفوا اليهود، خالفوا المشركين، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى. وإنه لمن المؤسف حقاً أن يعدل أكثر المسلمين اليوم عن التاريخ الإسلامي الهجري إلى تاريخ النصارى الميلادي الذي لا يمت لدينهم بصلة، ولئن كان لبعضهم شبهة من العذر حين استعمر بلادهم النصارى وأرغموهم على أن نسيان تاريخهم الإسلاميَّ الهجري، فليس لهم الآن أيُّ عذر في البقاء على تاريخ النصارى الميلادي وقد أزال الله عنهم الاستعمار.

أيها المسلمون: لقد أخبر الله سبحانه أن عدة الشهور اثنا عشر شهراً فقال تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ }، وجعل الطريق لمعرفة هذه الشهور رؤية الهلال فقال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَْهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ }؛ مواقيت للناس كلهم بدون تخصيص، لا فرق بين عرب وعجم ذلك لأنها علامات محسوسة ظاهرة لكل أحد يعرف بها دخول الشهر وخروجه، فمتى رؤي الهلال في المغرب بعد غروب الشمس ولو بلحظة يسيرة فقد دخل الشهر المستقبل، وانتهى الشهر الماضي، وبذلك عرفنا أن ابتداء التوقيت اليومي من غروب الشمس لا من زوالها؛ لأن أول الشهر يدخل بغروب الشمس، وأول الشهر هو أول الوقت، وهو الذي عليه مدار الأحكام الشرعية؛ بحيث لو أن طفلاً ولد قبل غروب الشمس بدقيقة واحدة في آخر يوم من أيام رمضان لأوجبنا على وليه صدقة الفطر عنه إن كان الولي قادرًا، ولو أنه ولد بعد غروبها من ذلك اليوم بدقيقة واحدة لما أوجبنا عليه الصدقة. وهكذا لو أن شخصاً أحرم بالعمرة قبل غروب الشمس بدقيقة واحدة في آخر يوم من أيام رمضان وبقي في مكة لم يجب عليه الهديُ إذا أحرم بالحج؛ لأنه أتى بالعمرة في غير أشهر الحج، ولو أنه أحرم بعد غروب الشمس من ذلك اليوم بدقيقة واحدة وبقي في مكة لأوجبنا عليه الهدي لأنه أتى بالعمرة في أشهر الحج؛ بعد رؤية هلال شوال. من هذه القاعدة أيها الإخوة نعلم بأن التبعية لأعداء الله في هذا العصر قد شملت كثيرًا من أمور حياتنا، ومنها التوقيت الإسلامي سواء الهجري أو الغروبي، وما ذاك إلا لأجل الضعف والخور الذي خيَّم على نفوس المسلمين في هذه الأزمان؛ بحيث أصبحوا مقودين بعد أن كانوا قادة، وأذلة بعد أن كانوا أعزة، ومَغْزُوِّين بعد أن كانوا غازين، كل ذلك بسبب ما اقترفته أيديهم من الذنوب، فنسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن ترفع عنا هذا البلاء، وأن تجمع المسلمين على كلمة الحق يا من إليه المشتكى.

اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، يا منان، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم نسألك أن تجعل عامنا هذا وما بعده من أعوامٍ أعوامَ أمن وطمأنينة وعلم نافع وعمل صالح به رشاد الأمة وذلُّ الأعداء في جميع البلاد يا أرحم الراحمين.



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/296/#ixzz2CHsf1SOb
__________________
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 15-11-2012, 12:50 PM
abomokhtar abomokhtar غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,687
معدل تقييم المستوى: 28
abomokhtar is just really nice
New

الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون حق التقوى، فالأعمار تطوى، والآجال تفنى.
قبل أيام ودعنا عامًا هجريًا وبدأنا عامًا آخر، انقضت صفحة من صفحات حياتنا، ولا ندري عما طويناها، هل سودناها بسوء أعمالنا، أم بيضناها بصالح قرباتنا.
المسلم الصالح يا عباد الله، تكون له وقفات دائمة مع نفسه ليحاسبها ويصحح مسيرته ويتدارك خطأه، لاسيما عند انقضاء مرحلة من مراحل عمره.
إن النفس سريعة التقلب، ميالة في كثير من الأحيان إلى الشر، كما قال الله تعالى عنها: إِنَّ ٱلنَّفْسَ لامَّارَةٌ بِٱلسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى [يوسف:53].
ومـن هنــا كـان لزاماً على كل عبدٍ يرجو لقاء ربّه أن يطيل محاسبته لنفسه، وأن يجلس معها جلسات طـِــوالاً؛ فينظر في كل صفحة من عمره مضت: ماذا أودع فيها.
قال أبو حامد الغزالي: "اعلم أن العبد كما (ينبغي أن) يكون له وقت في أوّل النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق، فينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كلّ سنة أو شهر أو يوم، حرصاً منهم على الدنيا، وخوفاً من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيـرة لهم في فواته... فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد؟! ما هذه المساهلة إلا عن الغفلة والخذلان وقلة التوفيق نعوذ بالله من ذلك"[1].
أولاً: معنى المحاسبة:
المحاسبة ياعباد الله كما قال الماوردي: "أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محموداً أمضـاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن، وانتهى عن مثله في الـمستقبل"[2] يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "المحاسبة أن يميز العبد بين ماله وما عليه فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه؛ لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود"[3].
وأما الحارث المحاسبي فقد عرّفها بقوله: "هي التثبّت في جميع الأحوال قبل الفعل والترك من العقد بالضمير، أو الفـعــل بالجارحة؛ حتى يتبيّن له ما يفعل وما يترك، فإن تبيّن له ما كره الله ـ عز وجل ـ جانبه بعقد ضمير قلبه، وكفّ جوارحه عمّا كرهه الله ـ عز وجل ـ ومَنَع نفسه من الإمساك عن ترك الفرض، وسارع إلى أدائه"[4].

ثانياً: أهمية محاسبة النفس:
أيها الإخوة المؤمنون: لمحاسبة النفس فوائد كثيرة متعدّدة:
1- فمنها أن غيابها نذير غرق الأمة في لجج من بحار الفساد والتيه المنتهية بنار وقودها الناس والحجارة، وأن الفساد في الدنيا إنما يكون ظاهراً جلياً حينما لا يتوقع المجتمع أو الفرد حساباً، لا يتوقع حساباً من رب قاهر أو من ولي حاكم أو من مجتمع محكوم أو من نفس لوامة، وحينما لا يتوقع المجتمع و الفرد حساباً على تصرفاتهم فإنهم ينطلقون في حركاتهم كما يحبون ويموجون كما يشتهون وكما تهوى أنفسهم فيتقلبون على الحياة ودروبها بلا زمام ولا خطام فيتشبهون بأهل النار من حيث يشعرون أو لا يشعرون إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَكَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا كِذَّاباً [النبأ:27-28].
2- ومنها –يا عباد الله- الاطلاع على عيوب النفس ونقائصها ومثالبها، ومن اطلع على عيوب نفسه، أنزل نفسه المنزلة الحقيقة لا سيما إن جنحت إلى الكبر والتغطـرس.وما من شك أنّ معرفـة العبد قدر نفسه يورثه تذلّلاً لله وعبودية عظيمة لله عز وجل، فلا يمنّ بعمله مهمـا عظم، ولا يحتقر ذنبه مهما صغر. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (لا يفقه الرجل كلّ الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشدَّ مقتاً)[5].
3-ومنها أيها الإخوة - أن يتعرّف على حق الله ـ تعالى ـ عليه وعظيم فضله ومنّه؛ وذلك عندما يقارن نعمة الله عليه وتفريطه في جنب الله، فيكـون ذلك رادعاً له عـن فعل كل مشين وقبيح؛ وعنـد ذلك يعلـم أن النجـاة لا تحصل إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، ويتيقّن أنه من حقّه ـ سبحانه ـ أن يطاع فلا يعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر.
4-من فوائد المحاسبة كذلك أنها تزكي النفس وتطهرها وتلزمها أمْر الله ـ تعالى ـ. قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـٰهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـٰهَا [الشمس:9-10]. وقال مالك بن دينار: "رحم الله عبداً قال لنفسه: ألستِ صاحبة كذا؟ ألستِ صاحبة كذا؟ ثم ذمّها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله ـ عز وجل ـ فكان لها قائداً"[6].
5-أيها المؤمنون: المحاسبة تربّي عند الإنسان الضمير الحي داخل النفس، وتنمّي في الذات الشعور بالمسؤولية ووزن الأعمال والتصرّفات بميزان دقيق هـو ميزان الـشرع)[7].
6-أيها المسلمون: استمعوا إلى ابـن الـقـيـم ـ رحمـه الله ـ وهو يحذر من إهمال محاسبة النفس فيقول: "أضرّ ما على المكلّف الإهمال وترك المحاسبة، والاسـتـرسال، وتسهيل الأمور وتمشيتُها؛ فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب، ويمشّي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنسَ بها وعسر عليه فطامها"[8].
والنفس كالطفل إن تهمله ش،ب على حب الرضـاع وإن تفطمه ينفطـم
فاحـذر هواها وحـاذر أن توليـه إن إلهـوى ما تولى يعم أو يصـم
وراعها وهي في الأعمـال سائمة وإن هي استحلت المرعى فلا تسم
كـم حسـنت لـذة للمـرء قاتلـة من حيث لم يدر أن السم في الدسم
وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضـاك النصـح فاتهم
أيها الإخوة: إذا كان أرباب الأعمال وأرباب الدنيا يجعلون المحاسبة والتدقيق والمراجعة من أهم مراحل العملية الإدارية، فبدون هذه المراحل تكون المنشأة عرضة لفشل محقق، فما بالكم بهذا الإنسان المسكين الضعيف الذي يقطع مراحل حياته ليلقى ربه، فإما فوز ونجاة، وإما خسارة وعذاب.
عباد الله: يا من تعيشون في هذه الديار التي علا فيها صوت الشيطان، وأجلب على أهلها بخيله ورجله، نحن في حاجة أكبر لمحاسبة النفس، المعاصي تغزونا حتى في دورنا وبين أهلينا، والغفلة رانت على قلوبنا، وطاعة الله بعيدة عنا.

ثالثاً: فضل المحاسبة والآثار الواردة في ذلك:
أيها المؤمنون: يقول الله تبارك وتعالى ـ: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]. قال صاحب الظّلال: "وهو تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه، ومجرّد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله بل صفحة حياته، ويمدّ ببصره في سطورها كلّها يتأمّلها، وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته لينظر ماذا قدّم لغـده في هذه الصفحة. وهذا التأمّل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير مهما يكنْ قد أسلف من خير وبذل من جهد؛ فكيف إذا كان رصيده من الخير قـلـيـلاً ورصيده من البرّ ضئيلاً؟! إنها لمسةٌ لا ينام بعدها القلب أبداً، ولا يكفّ عن النظر والتقليب"[9].
قال الحسن البصري في تفسير قول الله عز وجل: وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ [القيامة:2]. "لا يُلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه: ماذا أردتُ بكلمتي؟ ماذا أردتُ بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والفاجر يمضي قُدُماً لا يعاتب نفسه"[10].
ويقول الله ـ عزّ وجلّ ـ في وصف المؤمنين الذين يحاسبون أنفسهم عند الزلّة والتقصير ويرجعون عمّا كانوا عليه: إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201].
قال الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزيّنوا للعرض الأكبر يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيةٌ [الحاقة:18])[11].
ويصف الحسن البصري المؤمن بقوله: "المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله، وإنّما خفّ الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنّما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة"[12]. ويقول ميمون بن مهران: "إنه لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة شريكه"[13].

رابعاً: كيفية المحاسبة:
فإن قال قائل يا عباد الله: كيف تكون محاسبة النفس؟
فالجواب: محاسبة النفس لها طرائق متعددة، كل يجتهد في الطريقة الأنسب،وهنا نشير إشارات مختصرة.
بين بعض العلماء[14]أن المحاسبة تكون على نوعين:
النوع الأول: محاسبة قبل العمل، وهي: أن يقف عند أوّل همّه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبيّن له رجحانه على تركه.
قال الحسن: "كان أحدهم إذا أراد أن يتصدّق بصدقة تثبّت؛ فإن كانت لله أمضاها، وإن كانت لغيره توقّف"[15]. قيل لنافع بن جبير: ألا تشهد الجنازة؟ فقال: "كما أنت حتى أنوي، ففكر هنيهة، ثم قال: امض"[16].
النوع الثاني من أنواع المحاسبة يا عباد الله: المحاسبة بعد العمل، وهي على أقسام ثلاثة:
أ- محاسبتُها على التقصير في الطاعات في حق الله ـ تعالى ـ وذلك يكون بأن يديم سؤال نفسه: هل أديتُ هذه الفريضة على الوجه الأكمل مخلصاً فيها لله ووفق ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فإن كان مقصّراً ـ وأيّنا يسلم من ذلك؟ ـ فليسدّ الخلل بالنوافل فإنها تُرقّع النقص في الفريضة وتربي لدى العبد جانب العبادة، وبالمجاهدة وكثرة اللّوم يخفّ التقصير في الطاعات إلى درجة كبيرة.
ب – القسم الثاني من المحاسبة بعد العمل محاسبة النفس على معصية ارتكبتها: قال ابن القيم في ذلك: "وبداية المحاسبة أن تقايس بين نعمته - عز وجل - وجنايتك؛ فحينئذٍ يظهـر لك التفاوت، وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمتُه أو الهلاكُ والعطب.
وبهذه المقايسة تعلم أنّ الرّب ربّ والعبدَ عبد، ويتبيّن لك حقيقةُ النفس وصفاتُها وعظمةُ جلال الربوبّية وتفرّدُ الربّ بالكمال والإفضال، وأنّ كل نعمة منه فضل وكلّ نقمة منه عدل... فإذا قايست ظهر لك أنها منبع كلّ شرّ وأساس كلّ نقص وأنّ حدّها: [أنها] الجاهلةُ الظالمةُ، وأنّه لولا فضل الله ورحمتُه بتزكيته لها ما زكت أبداً. ولولا إرشاده وتوفيقه لما كان لها وصولٌ إلى خير البتة؛ فهناك تقول حقاً: أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي"[17].
وبعد أن يحاسب نفسه هذه المحاسبة ويجـلــس معها هذه الجلسة المطوّلة فإنه ينتقل إلى الثمرة والنتيجة ألا وهي العمل على تكفير تـلـك المعصية، فيتدارك نفسه بالتوبة النصوح وبالاستغفار والحسنات الماحيةِ والمذهبة للسيئات. قال ـ سبحانه ـ: إِنَّ ٱلْحَسَنَـٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيّئَـٰتِ ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذكِرِينَ [هود: 114].
فالبدارَ البدارَ يا عبد الله قبل أن يُختم لك بخاتمة سوء وأنت مُصِرّ على تلك المعصية ولم تتبْ منها. وتذكّر الحشرَ والنّشر وهوْلَ جهنّم وما أعدّه الله للعصاة والفسقة من الأغلال والحديد والزقوم والصديد في نارٍ قال فيها رسولنا صلى الله عليه وسلم: ((إن أهون أهل النار عذاباً رجل انتعل نعلين يغلي منهما دماغه)).
فبذلك السبيل وأشباهه من المحاسبة يكون المرء صادقاً في محاسبته نفسه على ارتكاب المعصية والذنب ـ ومن منّا يسلم من معاقرة الذنوب والخطايا؟! نسأل الله اللطف والتخفيف.
ج - محاسبتها على أمرٍ كان تركُه خيراً من فعله، أو على أمرٍ مباح، ما سبب فعلِه له؟ فيُوجّه لنفسه أسئلة متكرّرة: لِمَ فعلتُ هذا الأمر؟ أليس الخير في تركه؟ وما الفائدة التي جنيتها منه؟ هل هذا العمل يزيد من حسناتي؟ ونحو ذلك من الأسئلة التي عـلــى هذه الشاكلة.
وأمّا المباح فينظر: هل أردت به وجه الله والدار الآخرة فيكون ذلك ربحاً لي؟ أو فعلتُه عادةً وتقليداً بلا نيّةٍ صالحة ولا قصدٍ في المثوبة؛ فيكون فعلي له مضيعة للوقت على حساب ما هو أنفع وأنجح؟ ثم ينظر لنفسه بعد عمله لذلك المباح، فيلاحظ أثره على الطاعات الأخرى من تقليلها أو إضعاف روحها، أو كان له أثرٌ في قسوة القلب وزيادة الغفلة؛ فكلّ هذه الأسئلة غايةٌ في الأهمية حتى يسير العبد في طريقه إلى الله على بصيرة ونور.
أورد أبو نعيم بسنده عن الحسن قوله: "إنّ المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبُه فيقول: واللهِ إنّي لأشتهيك، وإنّك لمن حاجتي؛ ولكن ـ واللهِ ـ ما من صلةٍ إليك، هيهات!! حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء (يقع في الخطأ) فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردتُ إلى هذا، وما لي ولهذا؟ ما أردتُ إلى هذا، وما لي ولهذا؟ واللهِ ما لي عذرٌ بها، وواللهِ لا أعود لهذا أبداً ـ إن شاء الله ـ.
إن المؤمنين قومٌ أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله ـ عز وجل ـ يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كلّه"[18].
وبالجملة؛ فلا بُدّ للمسلم من دوام محاسبة النفـس، ومعاتبتهـا وتذكيرهـا كلّما وقعت منها زلّة أو جنحت إلى حطام الدنيا الفاني.
خامساً: نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم:
أيها المؤمنون: سلفنا الصالح ضربوا أروع الأمثلة في محاسبة النفس، مما لو حاولنا أن نستقصيه لطال بنا المقام، ولعجزنا عن ذلك، لأن أولئك القوم ارتبطت قلوبهم بالله؛ فكانوا أجساداً في الأرض وقلوباً في السماء، وما إن يحصل من أحدهم تقصير أو زلّة إلا ويسارع في معالجة خطئه، ومعاقبة نفسه على ذلك؛ حتى لا تكاد تأمره نفسه إلا بخير.
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعتُ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعتُه يقول ـ وبيني وبينه جدار ـ: (عمر!! أمير المؤمنين!! بخٍ بخٍ، واللهِ بُنَيّ الخطاب لتتقينّ الله أو ليعذبنّك) [19].
وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له: أَتَتْركون الخليفة حين يكون فارغاً حتى إذا شُغِل بأمر المسلمين أتيتموه؟ وضربه بالدرّة، فانصرف الرجل حزيناً، فتذكّر عمر أنه ظلمه، فدعا به وأعطاه الدرّة، وقال له: (اضربني كما ضربتُك) فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك. فقال عمر: (إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقّك) فقال الرجل: تركته لله. فانصرف عمر إلى منزله فصلّى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه: (يا بن الخطاب: كنتَ وضيعاً فرفعك الله، وضالاً فهداك الله، وضعيفاً فأعزّك الله، وجعلك خليفةً فأتى رجلٌ يستعين بك على دفع الظلم فظلمتَه؟!! ما تقول لربّك غداً إذا أتيتَه؟ وظلّ يحاسب نفسَه حتى أشفق الناس عليه)[20].
وقال إبراهيم التيمي: "مثّلتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها، ثم مثّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس أيّ شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أُردّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً! قلتُ: فأنتِ في الأمنية فاعملي"[21].
وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال: كنتُ أصحبُه فكان عامةُ صلاته بالليل، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحسّ بالنّار ثم يقول لنفسه: (يا حنيف! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعتَ يومَ كذا؟)[22].
ونُقِل عن توبة بن الصّمة: (أنه جلس يوماً ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم؛ فصرخ وقال: يا ويلتى! ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟!!)[23].
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه غفور رحيم.
__________________
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 15-11-2012, 12:52 PM
abomokhtar abomokhtar غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,687
معدل تقييم المستوى: 28
abomokhtar is just really nice
New

الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حق التقوى، فتقوى الله فوز لكم في الحياة الدنيا وفي الحياة الأخرى.
عباد الله، إن عِظم الواجب وكبر المسؤولية وضخامة الغاية والهدف، كل ذلك يستدعي بذل الجهد والطاقة والوقت والمال، وقد تلْقى النفس الموت في سبيل الواجب العظيم والغاية الكبرى، مع ما يضاف إلى ذلك من فقدان الأصدقاء، وكثرة الأعداء، والتعرض للسخرية والاستهزاء، ومكر الماكرين، وخصومات الألداء، وقلة المستجيبين والأنصار والأولياء. وهذا الحال هو بعينه حال سيد البشر التي بعثه الله لتحقيقها.
لقد أرسل الله خير خلقه إلى البشرية أحوج ما تكون إلى رسالته، وأشدَّ ما تكون ضرورة إلى دينه، بعد أن غير أهل الكتاب وبدلوا، وصار العالم في ظلمات الشرك والجهل، فأرسل الله عبده محمداً إلى الناس جميعاً، قال الله تعالى: قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ٱلَّذِى لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَـئَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِىّ ٱلأمّىّ ٱلَّذِى يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَـٰتِهِ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158].
فوجدهم يعبدون آلهة شتى، منهم من يعبد الأشجار، ومنهم من يعبد الأحجار، والشمس والقمر والملائكة، والجن وعيسى بن مريم عليه السلام، والقبور والأولياء، فيدعونهم من دون الله، ويستغيثون بهم، ويلجؤون إليهم في كشف الشدائد والكربات، ويرغبون إليهم في جلب النفع والخيرات، ويذبحون لهم، وينذرون لهم، ويجعلونهم وسائط يقربونهم إلى الله، ليرفعوا دعاءهم إلى الرب جل وعلا. ووجد الرسول الناس يتحاكمون إلى الكهان والسحرة والعرافين، ويغشون الفواحش والمحرمات، ويسيئون الجوار، ويقطعون الأرحام، ويكسبون الأموال لا يبالون بالحلال أو الحرام، الربا والبيع عندهم سواء، والغصب والميراث قرناء، وتأسس على هذا الدين الجاهلي مصالح ومنافع، واعتبارات مادية ومعنوية، وتراكمت عليه عادات وأعراف، يشق على النفوس الفطامُ عنها، والتخلي عن عوائدها. فجاء رسول الله بدعوة الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، بكل ما تضمنته هذه الشهادة من معنى، بإفراد الله وحده بالدعاء والذبح والنذر والاستعانة والاستعاذة وطلب النفع ودفع الضر والطواف والسجود ونحو ذلك من أنواع العبادة التي هي حق الله وحده، قال الله تعالى: وَأَنَّ ٱلْمَسَـٰجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً [الجن:18]، وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً [الأنعام:151]، وإفراد الرسول بالاتباع، قال تعالى: وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ [الحشر:7].
جاء نبي الرحمة يدعو الناس إلى العفاف والطهر والخلق الكريم والاستقامة وصلة الأرحام وحسن الجوار والكف عن المظالم والمحارم، ويدعوهم إلى التحاكم إلى الكتاب العزيز، لا إلى الكهان وأمر الجاهلية، وكسب المال من وجوه الحلال، وإنفاقه في الطرق المشروعة والمباحة، وجعل الناس كلهم أمام شريعة الله سواء، يتفاضلون بالتقوى، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ٱلْفَوٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْىَ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـٰناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، وقال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.[النحل:90].
وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما مرض أبو طالب، دخل عليه مشيخة من قريش فيهم أبو جهل فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، ويفعل ويفعل، ويقول ويقول، فأنصفنا من ابن أخيك، فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه، فقال أبو طالب: يا ابن أخي، ما بال قومك يشكونك، ويزعمون أنك تشتم آلهتهم؟! قال: ((يا عم، أريد أن يقولوا كلمة تدين لهم بها العرب، وتؤدي لهم بها العجم الجزية))، فقال أبو جهل: نقولها وعشراً، فقال عليه الصلاة والسلام: ((قولوا: لا إله إلا الله)) ففزعوا. وولوا مدبرين، وهم ينفضون ثيابهم، ويقولون: أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وٰحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَىْء عُجَابٌ[ص:5][1].
فقد عرفوا مدلول هذه الكلمة، وأنها تصوغ الإنسان صياغة جديدة على مقتضى الإسلام في عبادته ومعاملاته وسلوكه وحياته كلها، كما يدل على ذلك قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ % لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ [الأنعام:161، 162]، فهذا معنى لا إله إلا الله الذي نفر منه المشركون.
دعا رسول الله الناس كلَّهم إلى هذا المعنى العظيم، وقام بهذا الواجب الكبير، الذي هو أكبر واجبٍ في تاريخ البشرية كلها، دعا إلى دين قويم يرقى به الإنسان إلى أعلى المنازل، ويسعد به في الآخرة سعادةً أبدية في النعيم المقيم، فاستجاب له القلة المؤمنة المستضعفة في مكة، فأذاقهم المشركون أنواع العذاب، كالحرق بالنار، وتقليب العريان في شدة الرمضاء.
ووقف في وجه دعوة رسول الله ثلاثة أنواع من الناس: المستكبرون الجاحدون العالمون بالحق، والحاسدون المحترقون، والجهال الضالون. وكوّن هذا الثالوث جبهة عنيدة وحزباً شيطانياً لا يترك من سبيل ولا وسيلة إلا سلكها للصد عن سبيل الله، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ [الصف:8].
واشتد الكرب في مكة، وضيّق الخناق على الدين الإسلامي، وائتمر المشركون بمكة أن يقتلوا رسول الله ، فقال جبريل عليه السلام: ((إن الله أذن لك يا محمد بالهجرة إلى المدينة، فلا تبت هذه الليلة في فراشك))[2]، ورصده المشركون عند بابه ليضربوه ضربة رجل واحد، فخرج عليه الصلاة والسلام عليهم وهو يتلو صدر سورة يس، وذرَّ على رؤوسهم التراب، وأخذ الله بأبصارهم عنه فلم يروه، وأخذهم النعاس[3]، واختبأ هو وصاحبه أبو بكر الصديق في غار ثور ثلاثة أيام حتى هدأ الطلب[4]، وفتشت قريش في كل وجه، وتتبعوا الأثر حتى وقفوا على الغار، فقال أبو بكر : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا، فقال: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!))[5]، ولقيا الدليل بعد ثلاث براحلتيهما[6]، ويمَّما المدينة، فكانت هجرة المصطفى نصراً للإسلام والمسلمين، حيث أبطل الله مكر المشركين وكيدهم في تقديرهم القضاء على الإسلام بمكة، وظنهم القدرة على قتل رسول الله .
قال الله تعالى: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40].
وقد تعرض رسول الله للقتل غير مرة قبل الهجرة وبعدها، ذكر المؤرخون أن أبا جهل قال: واللات والعزى، لئن رأيت محمداً يسجد عند الكعبة، لآخذن حجراً ثم لأثلغن به رأسه، فأدعه خبزة، فأسلموني أو امنعوني، قالوا: والله لا نسلمك يا أبا الحكم، فجاء رسول الله من الغد، يصلي عند الكعبة، فأخذ حجراً عظيماً، ثم تقدم وقريش في أنديتها، ثم نكص القهقرى منتقعَ اللون، يرجف، فقيل له: ما لك؟ قال: حال بيني وبينه فحلٌ من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته، ولا مثل قصرته، أراد أن يأكلني، فقال النبي : ((ذاك جبريل، والذي نفسي بيده لو تقدم لأخذته الملائكة عضواً عضواً والناس ينظرون))[7].
وتعرض للقتل من المنافقين في غزوة تبوك[8]، ومن عامر بن الطفيل[9]، ومن فضالة في الطواف[10]، وتحت شجرة في بعض غزواته من مشرك[11]، وفي مسجده من رسول صفوان بن أمية[12]، ووُضع له السم في الذراع فأخبره[13]، وفي كل ذلك نجَّاه الله تعالى، لكمال توحيده، وتوكله على الله عز وجل، قال الله تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].
وفي طريق هجرته إلى المدينة هبّت رياح النصر إلى خارج جزيرة العرب، فقد لحق سراقة بن مالك برسول الله يريد الفتك به، لينال جُعل قريش، مئة ناقة، فساخت قوائم فرسه في الأرض[14]، فالتفت إليه رسول الله وقال: ((كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟!))، وأسلم وردّ الطلب عن الرسول ، وألبسه عمر سواري كسرى بعد فتح فارس[15]، تحقيقاً لقول النبوة صلى الله وسلم على صاحبها.
ونزل رسول الله هو وصاحبه أبو بكر المدينة، مكرماً معززاً، مؤيداً منصوراً، مباركاً ميموناً، كلٌ يود أن ينزل بيته، فبركت ناقته في مسجده هذا؛ لأنها مأمورة من الله تعالى باختيار المنزل، فاشتراه وبناه مسجداً[16] يشع منه النور إلى الدنيا كلها إلى يوم القيامة، وبنى حُجَرَ نسائه، وابتدأ عهدٌ جيد ميمون مبارك، حافل بكل نصر وتأييد للإسلام والمسلمين، وبكل عمل رشيد، وصارت الهجرة واجبة من مكة إلى المدينة في عهد رسول الله ، ومِنْ كل مكان لا يقدر المسلم فيه أن يقيم شعائر دينه، وكانت الهجرة عملاً صالحاً يتفاضل الناس بها، قال : ((الإسلام يهدم ما قبله، والهجرة تهدم ما قبلها))[17]، وبعد فتح مكة نسخت الهجرة منها، ولكن بقي على المسلم وجوب الهجرة من البلد الذي لا يقدر أن يقيم فيه شعائر دينه إلى البلد الذي يقدر أن يعبد الله فيه بحرية، وفي الحديث: ((لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها))[18].
وأمر الهجرة إلى المدينة في عهد النبوة من المعجزات، فقد كانت المدينة قليلة الموارد الزراعية، قليلة الأمطار، قليلة التجارة، عديمة الصنائع، ضيقةً بأهلها، ففي تقديرات البشر أن الهجرة إليها تسبب مشاكل اقتصادية واجتماعية، ولكن بالهجرة إلى المدينة تحقّق كل خير للإسلام والمسلمين، وبطل كل مكر وكيد للإسلام والمسلمين، وشاهد الكبير والصغير، والذكر والأنثى سيد الخلق ، وتعلموا منه دينهم واقتدوا به، وتخلّقوا بأخلاقه، وحضروا مجالسه، وحفظوا حديثه، ووعوا سنته، ونقلوا حركاته، وسكناته في أدق تفاصيلها، وصحبوه في غزواته، واطّلعوا على حياته داخل بيته في عبادته وفي معاملاته لأهله، يدفعهم لكل ذلك كمال محبتهم للنبي ، فما أعظم أثر الهجرة النبوية على الإسلام والمسلمين، وكم لله فيها من نعم على عباده المؤمنين، حقاً لقد كانت الشدائد مستحكمة في أول الهجرة، وكان الناس في عسرٍ وضيق من الحال، كما قال أبو هريرة : (إني لأخِرُّ ما بين منبر رسول الله وبيت عائشة، فيأتيني الأعرابي ويضع رجله على عنقي، يظن أني مجنون وما بي إلا الجوع)[19].
وروى البخاري عنه قال: أهدي لرسول الله قدح لبن، فرأى الجوع في وجهي، فقال: ((ادع لي أهل الصفة))، وكنت أود أن أشربه مع رسول الله لما بي من الجوع، فدعوتهم ثم سقيتهم واحداً واحداً حتى رووا، ولم يبق إلا أنا ورسول الله ، ثم قال: ((اشرب يا أبا هريرة))، فشربت حتى رويت، ثم قال: ((اشرب))، فشربت، ثم قال: ((اشرب)) فقلت: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً، ثم شرب عليه الصلاة والسلام الفضلة[20]. وكان يربط النبي عليه الصلاة والسلام الحجر على بطنه من الجوع[21]. ولكن هذه الشدة تجاوزوها بصبرهم وإيمانهم في أول الهجرة، وكان رسول الله يحنو عليهم، ويشملهم بعطفه ورحمته، أكثر من الأب الرحيم والأم الرؤوم، ففتح الله البلدان، وساق إلى المدينة النبوية الخيرات من كل مكان، ولكن الرسول يقول لأصحابه: ((أنتم اليوم خير من يوم يُغدى على أحدكم بجفنة ويراح عليه بأخرى، ويغدو في حُلَّة ويروح في حلة))[22]، لأن الفتنة بالسراء أعظم من الفتنة بالضراء.
أيها المسلم، لئن فاتك ثواب الهجرة إلى الله ورسوله في زمن النبوة، فقد شرع الله لك هجرة من نوع آخر، فيها الثواب العظيم، فاهجر المعصية إلى الطاعة، واهجر التفريط، وهاجر إلى الاستقامة، واهجر التمرد والآثام إلى الانقياد والاستسلام، واهجر الكسل والأمل الباطل إلى الجد والاجتهاد فيما يرضي مولاك، وهاجر بقلبك من الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها إلى الدار الآخرة والرغبة فيها، قال : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما حرم الله))[23]، وفي صحيح مسلم أن النبي قال: ((عبادة في الهرج كهجرة إلي))[24]يعني وقت الفتن.
قال الله تعالى: إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:218].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله العليم القدير، اللطيف الخبير، أحمده سبحانه على فضله الكثير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الكبير، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله السراج المنير، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ذوي الفضل الغزير.
أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها المسلمين ـ حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله، يقول الله تعالى: وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62]، فتعاقب الليل والنهار آية عظيمة، فمن فاته عمل صالح بالليل استدركه بالنهار، ومن فاته عمل صالح بالنهار استدركه بالليل.
وإن حادث هجرة المصطفى تمد المسلمين بالعبر والعظات والدروس والتوجيهات، وقد شاء الله تعالى أن تكون بأسباب مألوفة للبشر، يتزود فيها للسفر، ويركب الناقة، ويستأجر الدليل، ولو شاء الله لحمله على البراق، ولكن لتقتدي به أمته، فينصر المسلم دينه بما يسّره الله من الأسباب.
وأعظم واجب عليك ـ أيها المسلم ـ أن تنصر دين الله في نفسك، بأن تستقيم على طاعة الله، وأن تنصره في بيتك، بالعمل به والدعوة إليه في مجتمعك والصبر عليه.
وإن حال المسلمين في العالم يوجب الاستفادة من معاني الهجرة النبوية، فلن يصلح حال المسلمين في هذا العصر إلا بالأمور التي صلح بها السلف الصالح، من الإيمان الحق، والتوحيد الخالص، والخلق الكريم، والصدق مع الله، والتوكل عليه، والصبر على المكاره، وإحسان العبادة، على وفق ما جاء به النبي في السنة المطهرة، قال : ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن))[1].
عباد الله، إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله بها عليه عشراً))[2].
فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وسلم تسليماً كثيراً.
__________________
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 15-11-2012, 12:53 PM
abomokhtar abomokhtar غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,687
معدل تقييم المستوى: 28
abomokhtar is just really nice
New

الخطبة الأولى
وبعد: إخوة الإيمان، تظلّنا هذه الأيام ذكرى حادثة عظيمة من حوادث وأحداث تاريخنا الإسلامي، هذه الحادثة كانت إيذانا بعهد جديدٍ وتحوّل مهمّ في تاريخ الدعوة الإسلامية، تلكم هي هجرة رسول الله من مكة بيت الله الحرام إلى المدينة دار الهجرة، هذا الحدث يمثل أهمّ حدث من أحداث التاريخ الإسلامي، به بدأ بناء الدولة الإسلامية وبناء الأمة التي تعبد الله وحده لا شريك له وتبلّغ دينه الحنيف إلى كل الناس، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28].
تجدُّد هذه الذكرى ـ عباد الله ـ يزيد في أعمارنا عامًا كلّما تكرر، ويذكرنا بانصرام الأيام ويبيَّن لكل مسلم أن حياته على هذه الأرض محدودة وأن كل يوم يمضي يقرب الإنسان من نهايته وأجله، فهذه أول عبرة من عبر مرور الأيام وتجدد ذكريات الأحداث، فما من مظهر من مظاهر الزمان والمكان إلا هو آية وعبرة للإنسان: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُِوْلِي الألْبَابِ [آل عمران:190].
جاءت هجرة رسول الله بعد الرسالة بثلاثة عشر عاما، بعد أن أمضى رسول الله هذه المدة وهو يجاهد من أجل إبلاغ دين الله سبحانه ومن أجل أن يهدي قومه والناس إلى طريق الله سبحانه صابرا محتسبا، يؤذى في سبيل الله ويرى أصحابه يؤذون ويعذَّبون ويقتلون ولا يزداد مع ذلك إلا صبرا ويقينا وطاعة لله سبحانه، وقد جاء الأمر بالهجرة إلى يثرب بعد أن بايع سكانها الأوس والخزرج رسول الله على الإيمان وعلى حمايته مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم وكان ذلك حين جاؤوا مكة حاجين فكانت هذه البيعة مقدمة للهجرة المباركة.
خرج رسول الله إلى المدينة مهاجرا إلى ربه وقد وعد الله من هاجر إليه أجرا عظيما، يقول سبحانه: وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء:100]. خرج إلى الهجرة بعد أن أعدت قريش العدة لقتله أو حبسه أو طرده، ولكن مكرهم عاد عليهم لأن هذا المكر لن يحيق بمن يرعاه الله ويؤيده ويسدده: إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُون [آل عمران:160]. أعدت قريش العدة لقتل رسول الله عن طريق عدد من شباب قبائلها حتى يتفرّق دمه بين القبائل، ولكن جبار السموات والأرض أبطل سحرهم ورد كيدهم إلى نحورهم، يقول سبحانه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
فتوجه الحبيب إلى حبيبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليخبره بأمر الهجرة، فما إن سمع الصديق بأمر الهجرة حتى كان همه الوحيد والكلمة الوحيدة التي قالها: (الصحبة يا رسول الله). عن عائشة أن رسول الله جاء إلى بيت أبي بكر في ذلك اليوم ظهرا على غير عادته، فلما دخل على أبي بكر قال: ((أخرج من عندك))، قال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي، يعني عائشة وأسماء، قال: ((أشعرت أنه قد أذن لي في الخروج؟)) قال: الصحبة يا رسول الله؟ قال: ((الصحبة))، قال: يا رسول الله، إن عندي ناقتين أعددتهما للخروج، فخذ إحداهما، قال: ((قد أخذتها بالثمن)) أخرجه البخاري.
هكذا كان شغف الصديق بنصرة الدين: (الصحبة يا رسول الله)، وهذا هو طلبه: الصحبة، وهي ـ عباد الله ـ ليست صحبة رجل ذا ثراء وأموال، وليست صحبة رجل ذاهب في نزهة، وليست صحبة رجل يسافر إلى دولة يترفه فيها ويتنعم، وليست صحبة رجل له موكب وحاشية وخدم وحشم، إنها صحبة رجل مطارد مطلوب رأسه، فعلام يحرص الصديق على هذه الصحبة ويفرح ويفتخر بها؟! إنه الإيمان الذي تميز به صديق هذه الأمة رضي الله عنه، والذي جعله يُسخِّر نفسه وأهله وماله من أجل الدعوة ومن أجل الهجرة، فقد عرض نفسه لمصاحبة وخدمة وحماية رسول الله في الهجرة، وأنفق ماله في إعداد العدة لذلك وفي استئجار الدليل، وعرَّض ابنه عبد الله للخطر حيث كان يمسي عندهما عندما كانا في الغار ويصبح عند قريش يتسقط الأخبار، وكان مولاه عامر بن فهيرة يسرح بغنمه عند الغار ليسقيهم من لبنها، وكذلك فعلت أسماء التي حفظت السر والتي شقت نطاقها لتضع فيه طعامهما فسميت ذات النطاقين، فكانت عائلة الصديق كلها مجندة في سبيل الله وخادمة لرسول الله .
لقد هاجر رسول الله من أجل الدين لا من أجل الدنيا، فقد بقي في مكة طيلة هذه المدة رغم الأذى الذي يتعرض له هو وأصحابه، لأنه كان يسير بأمر الله سبحانه، وكان يريد أن يبلغ دين الله سبحانه وأن يهدي البشرية إلى طريق السعادة الأبدية، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا [الأحزاب:45، 46]. هاجر من أجل الله ومن أجل الدعوة إلى الله سبحانه، وكذلك هاجر أصحابه رضوان الله عليهم من أجل دينهم ومن أجل المحافظة على دينهم لا من أجل الدنيا، بل إنهم تركوا الدنيا في مكة، فمنهم من هاجر وترك ماله، ومنهم من هاجر وترك بيته ومتاعه؛ لأنهم لما نظروا إلى المال وإلى الدين وجدوا أن ضياع المال يُعوَّض، ولكن ضياع الدين لا يعوّض أبدا، وجدوا أن كسر المال والبيت والأهل يُجبر، أما كسر الدين فإنه لا يُجبر.
وكل كسر فإن الدين يجبره وما لكسر قناة الدين جبران
والهجرة إلى مكة تعتبر ثالث هجرة بالنسبة لأصحاب الرسول ، فقد هاجروا قبلها إلى الحبشة مرتين، وركبوا البحر وصارعوا الأمواج وتعرضوا للأخطار من أجل دينهم، وها هم يتركون مكة موطنهم وموطن آبائهم ومرتع طفولتهم وصباهم إلى المدينة استجابة لأمر الله سبحانه وأمر رسوله .
أمضى في غار ثور ثلاث ليال هو وصاحبه أبو بكر ينتظران أن يخفّ عنهما الطلب حتى يخرجا إلى المدينة، وكانت قريش تبحث عنهما في جنون وتبعث بعيونها في كل مكان وتجعل الأموال الطائلة لمن يأتيها بمحمد ، وقد وصل كفار قريش إلى الغار الذي يختبئ فيه رسول الله وصاحبه، ولكن الله سبحانه صرفهم عنه وردهم خائبين، يقول أبو بكر كما في صحيح البخاري: قلت للنبي وأنا في الغار: لو أنّ أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: ((ما ظنك ـ يا أبا بكر ـ باثنين الله ثالثهما؟!)). إذا كان الإنسان في معية الله وفي عناية الله وإذا أيّد الله عبده ونصره فإن الكون كل الكون لن يضره بشيء إلا بشيء قد كتبه الله عليه، ((ما ظنك ـ يا أبا بكر ـ باثنين الله ثالثهما؟!)).
هكذا ـ عباد الله ـ لا يخاف العبد إذا أيقن أن الله معه، وهكذا يكون مسددا موفقا في كل ما يقدم عليه إذا كان مراعيا لمرضاة الله عز وجل، إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم [التوبة:40].
لقد كانت الهجرة نتيجة صبر ثلاثة عشر عاما من الخوف والجوع والحصار والأذى، فكانت الثمرة على قدر التعب وعلى قدر الصبر، وهكذا هذا الدين لا يعطي ثمرته إلا لمن صبر وثابر، أما من استعجل النتائج فإنه يُحرَم وهذه سنّة كونية: "من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه"، فدولة المدينة التي شعّ منها النور إلى كلّ الأرض كانت نتيجة لصبر مكّة، ورسول الله الذي خرج من مكة سرّا والناس يبحثون عنه دخل المدينة في احتفال عظيم يحفّ به الناس من كلّ جانب، كلّ منهم يطلب منه أن ينزل عنده، وتحقق للنبي ولأصحابه قول الله تعالى ووعده لعباده الصالحين: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55].
وها هي الدعوة التي انطلقت من رجل فقير من قريش هو رسول الله ، معه رهط يسير ممن سبقوا إلى التصديق والإيمان أكثرهم من الضعفاء والموالي، ها هي يحملها اليوم أكثر من مليار إنسان في كافة أنحاء الدنيا، وها هو الإسلام يدخل كل بيت، ونداء الحق يرتفع في كل مكان، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:8، 9]، يقول : ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو ذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر)) أخرجه أحمد عن تميم الداري.
هذا وعد صادق من الله لرسوله، ووعد صادق من الله لأمة رسوله ولكل من سار على هدي رسوله سير السلف الصالح دون تبديل ولا تغيير ولا زيادة ولا نقصان، فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على أن تكونوا ممن ينصر الله بكم الدين في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن، أسأل الله أن يوفقنا لمرضاته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.



الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأصلي وأسلم صلاة وسلاما دائمين متلازمين على أفضل خلقه وخيرة رسله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
لقد كانت الهجرة النبوية كما أسلفنا حدَثا عظيما من أحداث تاريخ هذه الأمة، وكانت محطّة مهمّة من محطات مسيرة الدعوة الإسلامية، فلا بد للأمة التي تريد الرفعة في الدنيا والرفعة في الآخرة والتي تريد هداية الناس إلى الحق والخير، لا بد لها أن تستخلص من حادث الهجرة الدروس الكافية الكفيلة بأن تخرج الأمة من هذه الوهدة التي سقطت فيها وتعيدها إلى صدارة الأحداث، تعيدها إلى صناعة التاريخ، تعيدها إلى موقع الفعل، فتكون فاعلة منفعلة كما كانت أيام النبي وأيام الصحابة والسلف الصالح، بدل أن تكون مفعولا بها على الدوام مقهورة ومغلوبة على أمرها كما هي طيلة القرون المتأخرة.
في الهجرة دروس في الامتثال لأمر الله ودروس في الإيمان واليقين ودروس في التخطيط وعدم التسرع ودروس في التضحية والإيثار ودروس في الحكمة وحسن التصرف، كل هذا وغيره ينبغي أن نستنبطه من أحداث الهجرة؛ لأن كل جوانب سيرة رسول الله وسيرة أصحابه هي منار للأمة وعبرة وتوجيه على الأمة أن تعمل به، يقول سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، ويقول سبحانه موجّها الأمة إلى الاعتبار بقصص الأمم السابقة وقصص الأنبياء عليهم السلام: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُِوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون [يوسف:111]، فإذا سارت الأمة بهدي هذا النهج وهذه السيرة العطرة وبسيرة السابقين نالت العزّ في الدنيا والآخرة وإذا فرّطت انفرطت وضاعت.
واعلموا ـ عباد الله ـ أنه كما هاجر الصحابة من أرض مكة إلى أرض المدينة امتثالا لأمر الله فإنهم هاجروا قبل ذلك هجرة لا تقلّ أهمية عن هذه الهجرة حيث هاجروا من الكفر إلى الإيمان ومن المعصية إلى الطاعة، فهذه أيضا هجرة مهمة ينبغي لكل مسلم أن يهاجرها إن كان صادقا في التوجه إلى الله، ينبغي أن يترك معاصي الله سبحانه ومساخطه ويسعى إلى حياض الطاعة والنور، ينبغي أن يهجر كل ما نهى الله عنه حتى يكون مهاجرا إلى الله سبحانه، أخرج ابن ماجة عن فضالة بن عبيد أن رسول الله قال: ((المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب))، فهل فكّرنا في هذه الهجرة التي لا تتطلب مالا ولا سفرا ولا تعرضا لخطر، بل تتطلب عزما وحزما، وتتطلب صدقا وإخلاصا في التوجه إلى الله سبحانه وفي نصرة دينه وإقامة شرعه؟!
أسأل الله سبحانه أن يوفقنا إلى صالح الأقوال والأفعال، وأن يجنبنا مواطن الزيغ والضلال، وأن ينصرنا بدينه وينصر بنا دينه...
__________________
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 15-11-2012, 12:55 PM
abomokhtar abomokhtar غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,687
معدل تقييم المستوى: 28
abomokhtar is just really nice
New


الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
ثم أما بعد: عبادَ الله، ها نحن في شهر الله المحرم، وقد ودعنا عامًا واستقبلنا آخر، فما أسرع ما مضى وانقضى، وما أعظم ما حوى، فكم من حبيب فيه فارقنا، وكم من اختبار وبلاء فيه واجهنا، وكم من سيئات فيه اجترحنا، وكم من عزيز أمسى فيه ذليلاً، وكم من غني أضحى فيه فقيرًا، وكم من حوادث عظام مرت بنا، ولكن أين المعتبرون المبصرون؟! وأين الناظرون إلى قول النبي : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ))؟!
هذا، وقد ذكر أهل الأخبار أنَّ المسلمين لم يكونوا يعملون بالتاريخ السنوي في أوَّل الأمر حتَّى كانت خلافة عمر بن الخطاب، فإنَّه جمع الناس فاستشارهم، فقال بعضهم: أرِّخوا كما تؤرِّخ الفرس بملوكها، كلَّما هلك ملك أرَّخوا بولاية من بعده، فكرِه الصحابة هذا الرأي، وقال آخرون: أرِّخوا بتاريخ الروم، فكرهوا ذلك أيضًا، فقال بعضهم: أرِّخوا من مولد النبيِّ ، وقال آخرون: بل من مبعثه، وقال آخرون: بل من مهاجره، فقال عمر وكان ملهمًا: (الهجرة فرَّقت بين الحقِّ والباطل، فأرِّخوا بها).
واليومَ نرى معظم الأمَّة الإسلاميَّة قد عدلت عن التأريخ بالتاريخ الإسلامي الهجريّ القمري إلى التأريخ بتاريخ النصارى الميلادي الشمسيّ الجريجوري، نسبةً إلى البابا جريجوري، وهو تأريخ كما لا يخفى لا يَمتُّ إلى ديننا بصلة. وإذا كان لبعض الناس شبهةٌ من العذر حين استعمَر النصارى بلادَهم وأرغموهم على أن يتناسَوا تاريخهم الإسلامي الهجري فليس لهم الآن أيُّ عذر في البقاء على تاريخ النصارى الميلادي، وقد علمتم أنَّ الصحابة كرهوا التأريخ بتاريخ الفرس والروم، والهدى في اتِّباعهم، والضلالة في مخالفة سبيلهم، قال الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36]، فقوله تعالى: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي: هذا هو الشرع المستقيم.
فالعجب من أمَّة الإسلام تترك هذا الشرع القويم في باب التأريخ، وهذه أمَّة اليهود لا تزال تؤرِّخ بتاريخها منذ أزيدَ من خمسة آلاف سنة، وهذه النصارى لا تؤرِّخ إلا بتاريخها منذ ألفَي عام، مع ما في تأريخهم من اختلالٍ علمي وديني. فمن المؤسف حقًّا ومن المحزن المخزي ما صارت إليه هذه الأمَّة في مجموعها إلاَّ قليلا منهم من التوقيت بتاريخ النصارى الميلاديّ بدلاً من تاريخهم الإسلاميّ الهجري الذي اتّفقت عليه كلمة السلف، الذي شهوره هلاليّة كما شرع الله وكما كتب في كتابه الأوَّل، وهي الشهور التي جعلها الله تعالى مواقيت للناس كما قال عزَّ وجل: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]. فهي مواقيت للناس كلِّهم، عربهم وعجمهم، ذلك لأنَّها علامات محسوسة وآيات مشهودة؛ ظاهرةٌ لكلِّ مبصر، يعرف بها دخول الشهر وانقضاؤه، فمتى رئي الهلال من أوَّل الليل دخل الشهر الجديد وانصرم السابق، قال الله تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء:12]. فجعل سبحانه الليل آية أي: علامة يعرف بها، وهي الظلام وظهور القمَر فيه، وللنهار علامة وهي النور وطلوع الشمس فيه، وهذا كما في الآية الأخرى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ [يونس:5]. فأخبر سبحانه أنَّه علَّق معرفة السنين والحساب على تقدير القمر منازل، وعلى آية النهار، وهي الشمس، فبالشمس يعرف الأسبوع والليل والنهار والأيَّام، وبالقمر تعرف الشهور والأعوام، وبهما يتمُّ الحساب. وإنَّما جعل الله تعالى الاعتبار بدور القمر؛ لأنَّ ظهوره في السماء لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، بل هو أمرٌ ظاهرٌ يشاهد بالأبصار، بخلاف سير الشمس، فإنَّ معرفته تحتاج إلى حسابات دقيقة، فلم يحوجنا إلى ذلك، كما قال النبيُّ : ((نحن أمَّة أمِّيَّة، لا نعرف الكتاب ولا الحساب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا)).
أمَّا الشمس فإنَّما علَّق الله تعالى عليها أحكام الليل والنهار من الصلاة والصيام، فالصلاة تتعلَّق بطلوع الفجر وطلوع الشمس وزوالها ودلوكها وغروبها وغياب الشفق، والصيام موقَّت بمدَّة النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فبالشمس يتمُّ حساب مواقيت اليوم المتعلِّقة بالصلاة والصيام. وأمَّا حلول شهر الصيام والفطر والأشهر الحرم والحجِّ وعِدَد النساء ومُدد الإيلاء وحلول آجال الزكاة والدّيون وغير ذلك من الأحكام والشرائع فهي موقَّتة بالأهلَّة. فبالشمس يتمُّ حساب الليالي والأيام، وبالقمر يتمُّ حساب الشهور والأعوام.
هذا هو الدين القيم الذي شرعه الله للناس أجمعين، ليس كالشهور الإفرنجيَّة، فإنَّها شهورٌ وهميَّة، فلا هي ممَّا شرع الله في كتاب صريح، ولا هي ممَّا بني على حساب علميِّ صَحيح، بل هي شهورٌ اصطلاحيَّة مختَلفة، بعضها واحدٌ وثلاثون يومًا، وبعضها ثمانية وعشرون يومًا وبعضها بين ذلك، ولا يُعلم لهذا الاختلاف من سبب حقيقيّ محسوس أو معقول، ولا مشروع على لسان رسول؛ ولهذا طرحت مشروعات في الآونة الأخيرة لتغييرِ هذه الأشهر على وجه ينضَبط، لكنَّها عورضت من قبل الكنيسة ورفضها القسِّيسون رفضًا شديدًا، تعصُّبًا منهم لباطلهم وتقليدًا لجهالهم.
فانظروا ـ معاشر المسلمين ـ كيف يعارض رجال الدين من النصارى في تغيير أشهر وهمية مختلقة إلى اصطلاح علميّ يكون أحسَن وأضبط، وأهل الإسلام فعامَّتهم سالكون لسبيلهم المعوجَّة، منحرفون عن سبيل سلفهم الصالح الواضحة المحجَّة. وقد سئل الإمام أحمد بن حنبل فقيل له: إنَّ للفرس أيَّامًا وشهورًا يسمُّونها بأسماء لا تعرف، فكره ذلك أشدَّ الكراهة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: عباد الله، لقد عشنا في الأيام الماضية ذكرى حادثة عظيمة من حوادث تاريخنا الإسلامي، هذه الحادثة كانت إيذانا بعهد جديدٍ وتحوّل مهمّ في تاريخ الدعوة الإسلامية، تلكم هي هجرة رسول الله من مكة بيت الله الحرام إلى المدينة دار الهجرة، وقيامه ببناء الدولة الإسلامية وبناء الأمة التي تعبد الله وحده لا شريك له وتبلّغ دينه الحنيف إلى الناس جميعًا، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28].
لقد علمتنا الهجرة الشريفة أن الثقة واليقين بالله يقودان إلى نصره الموعود لعباده المؤمنين، وصدق الله العظيم: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، وصح أن رسول الله قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)).
فيا أخي المسلم، لئن فاتك ثواب الهجرة إلى الله ورسوله في زمن النبوة فقد شرع الله لك هجرة من نوع آخر، فيها الثواب العظيم، فاهجر المعصية إلى الطاعة، واهجر التفريط، وهاجر إلى الاستقامة، واهجر التمرد والآثام إلى الانقياد والاستسلام، واهجر الكسل والأمل الباطل إلى الجد والاجتهاد فيما يرضي مولاك، وهاجر بقلبك من الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها إلى الدار الآخرة والرغبة فيها، وفي صحيح مسلم أن النبي قال: ((عبادة في الهرج كهجرة إليّ)) يعني وقت الفتن.
وإن حادث هجرة المصطفى تمدّ المسلمين بالعبر والعظات والدروس والتوجيهات، وقد شاء الله تعالى أن تكون بأسباب مألوفة للبشر، يتزوّد فيها للسفر، ويركب الناقة، ويستأجر الدليل، ولو شاء الله لحمله على البراق، ولكن لتقتدي به أمته، فينصر المسلم دينه بما يسّره الله من الأسباب. وأعظم واجب عليك ـ أيها المسلم ـ أن تنصر دين الله في نفسك، بأن تستقيم على طاعة الله، وأن تنصره في بيتك، بالعمل به والدعوة إليه في مجتمعك والصبر عليه.
وإن حال المسلمين في العالم يوجب الاستفادة من معاني الهجرة النبوية، فلن يصلح حال المسلمين في هذا العصر إلا بالأمور التي صلح بها السلف الصالح، من الإيمان الحق والتوحيد الخالص والخلق الكريم والصدق مع الله والتوكل عليه والصبر على المكاره وإحسان العبادة على وفق ما جاء به النبي في السنة المطهرة.
وإننا لنؤمّل خيرًا في هذه الأمة بأن تعود إلى ربها ودينها حتى يكون لها التمكين والظهور على أعدائها، خاصة في هذه الأيام مع الهجمة الشرسة والسخرية والاستهزاء الذي يتعرّض له صاحب الهجرة ، ذلك أن من سنة الله فيمن يؤذي رسوله أنه إن لم يُجازَ في الدنيا بيد المسلمين فإن الله سبحانه ينتقم منه ويكفيه إياه، والحوادث التي تشير إلى هذا في السيرة النبوية وبعد عَهد النبوة كثيرة، وقد قال الله تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ [الحجر:94، 95]، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3]. فكل من شنأه وأبغضه وعاداه فإن الله يقطع دابره ويمحق عينه وأثره. ومن الكلام السائر الذي صدقه التاريخ والواقع: "لحوم العلماء مسمومة"، فكيف بلحوم الأنبياء عليهم السلام؟! وفي الصحيح عن النبي أنه قال: ((يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة))، فكيف بمن عادى الأنبياء؟!
يا ناطح الجبل العالي ليثلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
إن من عقيدة أهل السنة أن من آذى الصحابة ـ ولا سيما من تواتر فضله ـ فإسلامه على شفا جرف هار، يجب ردعه وتأديبه، فكيف بمن آذى نبيًا من الأنبياء؟! فكيف بمن آذى محمدًا؟! إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57]، وقال سبحانه مبينا تكفّله بكفاية شر هؤلاء: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:136، 137]. فما أوسع البون بين أهل الإسلام الأتقياء الأنقياء الذين يؤمنون بجميع الرسل ويعظمونهم ويوقرونهم وبين غيرهم الذين ناصبوا رسلهم العداء قديمًا وحديثًا، وورثوه كابرًا عن كابر. ولا شك أن ساسة الدول الذين يغضّون الطرف عن سفهائهم الواقعين في أعراض الأنبياء ليسوا عن الذمّ بمعزل، فإن الله سبحانه تأذّن بإهلاك المدن والقرى الظالمة، ولعل من أظلم الظلم الاعتداء على الأنبياء وتنقصهم، فإن ذلك يخالف التشريعات السماوية، كما أنّه مخالف للنظم والقوانين الوضعية الكافرة الأرضية.
والدول الغربية إذا لم تقم العدل لم تبق من مقومات بقائها كثير أعمدة، ولعل وقيعة بعض الغربيين في النبي الكريم مشعِر بتهالك حضارتهم وقرب زوالها، فإنهم ما تجرؤوا ولا عدلوا إلى الانتقاص وأنواع الشتم إلاّ بعد أن فقدوا المنطق وأعوزتهم الحجة، بل ظهرت عليهم حجّة أهل الإسلام البالغة وبراهين دينه الساطعة، فلم يجدوا ما يجارونها به غير الخروج إلى حدّ السخرية والاستهزاء والسب والشتم، تعبيرًا عن حنقهم وما قام في نفوسهم تجاه المسلمين من المقت، وغفلوا أن هذا يعبّر أيضًا عما قام في نفوسهم من عجز عن إظهار الحجة والبرهان والرد بمنطق وعلم وإنصاف.
وإنك لتعجب من دول يعتذّر حكماؤها لسفهائها بحجة إتاحة الحريات، مع أن شأنهم مع من عادى السامية أو تنقصها يختلف! وإذا تقرر هذا فليعلم أن من واجب المسلمين أن يذبوا عن عرض رسول الله بما أطاقوا قولاً وعملاً، وأن يسعوا في محاسبة الظالم وفي إنزال العقوبة التي يستحقها به، كما قال الله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح:9]، وقال عز وجل: إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40].
أيها الإخوة، كونوا على يقين أن الله منتقم لنبيه ، وأن المجرم إذا تداركته فلتة من فلتات الدهر في الدنيا فلم تمض فيه سنة الله في أمثاله فإن وراءه يوما عبوسا قمطريرا، شره في الخلق منتشر، عظيم الشأن، وحسبه من خزي الدنيا أن يهلك وألسنة المليار ومن ينسلون تلعنه إلى يوم الدين، فإنّ المسلمين قد ينسَون أمورًا كثيرة ويتجاهلون مثلها، ولكنهم لا ينسَون ولا يغفرون لمن أساء إلى نبيهم وإن تعلق بأستار الكعبة، وخاصة بعد موته ، وتاريخهم على هذا شاهد.
هذا، والله أسأل أن يعجل بالانتصار لنبيه ، وأن يعزّ الإسلام وأهله، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
__________________
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 04:55 PM.