#1
|
|||
|
|||
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 60]. * هذا أمرٌ مِن الله تعالى، ووصية عامة باقية للمؤمنين بإعداد العدة اللازمة والممكنة حسب الاستطاعة؛ وذلك لتحقيق قوَّة الردع الكافية لتخويفِ العدو ومنعه من الاعتداء على المسلمين؛ فلقد كان المسلمون في مكةَ على حق، وعدوُّهم على باطل، لكنَّ الكلمة والسطوة كانت للمشركين؛ لأنهم كانوا أقوياء والمسلمون ضعفاء ليست لديهم قوة، ومن هنا فإن الحقَّ لا يعلو إلا بالقوة، وإحقاق الحق وإبطال الباطل لا يكون إلا بالقوة وأسبابها، وهي سُنة الله تعالى وحكمته، فلو شاء أن يُهلِك الباطلَ وأهله ويدفعه فإذا هو زاهق في لحظة بسبب وبغير سبب، لفَعَلَ، ولكنها سُنة الابتلاء، وحكمة الاختبار؛ قال تعالى: ﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 4]. * ولهذا اقتَضَتْ حكمة أحكم الحاكمين أن يفرض القتال لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وتمييز الخبيث من الطيب، وليذهب مَن قُتل مِن المشركين إلى الجحيم، وليذهب مَن قُتل مِن المسلمين إلى النعيم. * فالأمر في الآية الكريمة ﴿ وَأَعِدُّوا ﴾ على الوجوب، لكنْ على قدر الاستطاعة، يقول الإمام الرازي: (وهذه الآية تدلُّ على أن الاستعداد للجهاد بالنبل والسلاح وتعليم الفروسية والرمي - فريضةٌ، ثم ذكر تعالى ما لأجلِه أمَر بإعداد هذه الأشياء، فقال: ﴿ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال: 60]؛ وذلك أن الكفار إذا علِموا كون المسلمين متأهِّبين للجهاد ومستعدِّين له، ممتلكين لجميع الأسلحة والآلات، خافوهم، وذلك الخوف يفيد أمورًا كثيرة: 1- أنهم لا يقصدون دخول دار الإسلام. 2- أنه إذا اشتد خوفُهم فربما التزموا مِن عند أنفسهم جزية. 3- ربما صار ذلك داعيًا لهم للإيمان. 4- لا يعينون سائر الكفار. 5- أن يصير ذلك سببًا لمزيد الزينة في دار الإسلام. * ثم قال تعالى: ﴿ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ﴾ [الأنفال: 60]، والمراد أن تكثيرَ آلات الجهاد وأدواتها كما يُرهب الأعداءَ الذين نعلم كونهم أعداءً، كذلك يُرهب الأعداءَ الذين لا نعلم أنهم أعداء)[1]. * ومن ناحية أخرى، فإن المسلمين إذا كانوا أقوياء، وتحققت لهم الغلبة، فإن عامة الناس يكونون لهم تابعين، ويدخلون في الإسلام راغبين غير خائفين؛ ذلك لأن البشر مجبولون على الاقتداء بالغالب، والإعجابِ بالقوي، يقول ابن خلدون: (إن النفس الإنسانية أبدًا تعتقدُ الكمال فيمَن غلبها وانقادت إليه؛ ولذلك ترى المغلوب يتشبَّه أبدًا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه، في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله، وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائمًا، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم، وانظر إلى كل قطرٍ مِن الأقطار كيف يغلب على أهله زيُّ الحامية وجند السلطان في الأكثر؛ لأنهم الغالبون لهم، حتى إنه إذا كانت أمة تجاورُ أخرى ولها الغلبة عليها، فيَسْرِي إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظٌّ كبير، ثم تأمَّل في هذا سر قولهم: العامة على دِين الملِك، فإنه من بابه؛ إذِ الملك غالب لمن تحت يده، والرعية مقتدون به؛ لاعتقاد الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم، والمتعلمين بمعلميهم، والله العليم الحكيم)[2]. * ومِن هنا نُدرِك السرَّ في تشبُّه كثير ممَّن ينتسبون إلى الإسلام بالمشركين في الغرب أو في الشرق؛ لأنهم أقوياء ومتقدمون علميًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا؛ ذلك لأن المسلمين غارقون في التخلف؛ لأنهم ترَكوا أمر الله تعالى بالإعداد، والأخذ بأسباب القوة، فصاروا في مؤخرة الرَّكْب، ولو أنهم استجابوا لنداء الحياة، وإحياء روح الجهاد، وإعداد جميع أنواع القوة التي يقدرون عليها - لتغيَّر الحال، وإن المسلمين يملكون من أسباب القوة ما لا يملكه غيرُهم، ولكنهم تعوَّدوا على الكسل، والاعتماد على أعدائهم والتَّبَعية لهم، وقد أعلنوا عجزهم أمام الآخر واستسلموا له واستعطفوه ليمُنَّ عليهم بالغذاء وبالمعونات، وغير ذلك. * بَيْدَ أن القوة نوعانِ: نوع لا فضل للمسلمين لهم فيه، فهو هبة وعطاء من الله تعالى، وهم يملكونه بلا حولٍ منهم ولا قوة، ذلك هو القوة البشرية، فالمسلمون اليوم أكثر من خُمُس سكَّان العالم، ثم أعطاهم - خصوصًا العالَم العربي - الموقعَ المتميز من العالَم، والثروات الطبيعية؛ من نفط وغاز طبيعي، وذهب، وجميع الثروات المَعدِنية، والمناخ المعتدل. أما النوع الثاني من القوة، الذي كلَّفهم الله تعالى به، وأمرهم أن يأخذوا بأسبابه؛ فهو القوة العلمية، ومعرفة فنون الصناعات والحروب، وقد تركوا هذا النوع وتثقَّفوا بثقافة الاستجداء والاستعطاف، وطلب الأمان والعيش بأية وسيلة وبأي ثمن! فهم أحرص الناس على حياةٍ (كاليهود)! * إن الله تعالى فرض على المسلمين الجهادَ؛ للدفاع عن الدعوة، ولإفساح المجال لإقرار حرية العقيدة، وإعدادُ العُدَّة فرضٌ أيضًا تابعٌ للفرض الأول؛ لأنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، غيرَ أن إعداد العدة قد يكون أكثر فائدةً، ويعود بالخير؛ لأن مِن شأنه منع القتال وإحلال السلام، وهو ما يسمى بالسلم المسلح، يقول الدكتور مصطفى زيد: (ومِن أهم مبادئ الحرب والسلم في السورة أن على المسلمين أن يعدوا للقتال كلَّ ما يستطيعون من قوَّة ومن رباط الخيل، فعلى كلٍّ منهم أن يستعدَّ للقتال بتعوُّد النظام، والتدرُّب على حمل السلاح واستعماله، وعلى الدولة أن تمدَّهم بالسلاح، وأن تُهيِّئ لهم وسائل الاستعداد الدائم للقتال، وأن تحصن الثغور، وعلى الأمة ألا تضيق بمالٍ في سبيل الاستعداد للقتال وتحصين الثغور، أو في سبيل (السلم المسلح) بعبارة أخرى، وأن الغاية مِن الاستعداد للقتال وتحصين الثغور هي إقرارُ السلام؛ بتخويف الأعداء من عاقبة التعدي على المسلمين)[3]. * هذا، وفي الآية الكريمة أكثر من عموم: الأول: الأمر بالإعداد، فهو موجَّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ويدخل فيه أيضًا المؤمنون في كل مكان وزمان؛ لأن الكل مكلَّف بإحقاق الحق وإبطال الباطل، والدفاع عن الدين والوطن. * الثاني: ضمير الغائب ﴿ لَهُمْ ﴾ [الأنفال: 60] يشمل مشركي مكة الذين قاتلوا المسلمين، كما يشمل المنافقين الذين خرَجوا مع المشركين، ويشمل أيضًا اليهود الذين نقضوا العهود وقاتَلوا مع المشركين، أو ساعَدوهم بأي شكل من الأشكال، ويشمل كذلك أمثال هؤلاء إلى آخر الزمان. * الثالث: إعداد المستطاع في قوله: ﴿ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [الأنفال: 60]، فهو يشمل الممكن والمستطاع، حسب ظروف الزمان والمكان، ولا شك أنه يتضمَّن أنواع القوة المعروفة والمملوكة للأعداء، فلا يعقل أن يواجِهَ المسلمون صواريخ الأعداء وقاذفات القنابل وأسلحتهم الذكية أو الثقيلة - بأسلحة قديمة، أو بالمنجنيق، أو بقاذفات اللهب البدائية؛ ذلك لأن المسلمين الأوائل الذين واجهوا الفرس والرومان، لا شك أنهم أعدوا أسلحة وعتادًا قد تناسب أو تقارب أسلحة أعدائهم وعتادهم، فعلى المسلمين أن يتركوا التَّبَعية للمشركين، وأن يعتمدوا على أنفسهم ومصادرهم وثرواتهم، فليس الصيني أو الياباني البوذي بأذكى من المسلم لأن هؤلاء يأكلون السمك والمسلمون لا يأكلونه، لكن المشكلة في إتاحة الفرصة للمسلم، وإزالة العقبات من أمامه، ومنع التعقيدات، وإطلاق حرية الابتكار، وتشجيع الباحثين والمخلصين، واليقين بأن هذا العمل هو مِن أجلِّ العبادات، وأفضل الطاعات؛ فإن أفضل الأعمال وأعظمها رفعُ شأن الإسلام وإعزاز المسلمين. * أما العموم الرابع، ففي قوله تعالى: ﴿ مِنْ قُوَّةٍ ﴾ [الأنفال: 60]، فإن تنكير لفظ ﴿ قُوَّةٍ ﴾ [الأنفال: 60] يُفيد العموم والشمول، فيكون المعنى - والله تعالى أعلم -: خُذوا من كل نوع من أنواع القوة ما استطعتم، ولا تتركوا جانبًا من جوانب القوة إلا وقد أخذتم منه المستطاع، ويقول الألوسي: (وإنما ذكر هذا؛ لأنه لم يكن له في بدرٍ استعداد تام، فنُبِّهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان)[4]، فلا بد إذًا من تكافؤ أو تقارب في ميزان القوى، وهذا ما يجب على المسلمين تحقيقُه والسعي إليه، مع توافر العقيدة القتالية؛ لأن المسلم يُقاتِل في سبيل الله لا في سبيل الطاغوت، فلديه القوة الذاتية الكامنة، وهذه القوة - كما يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي -: (هذه القوة قد تكون ذاتية في النفس؛ بحيث لا تخاف شيئًا، فجسم كل مقاتل قوي، ممتلئ بالصحة، وله عقل يعمل باقتدار وإقبال على القتال في شجاعة، بالإضافة إلى قوة السلاح، بأن يكون سلاحًا حديثًا متطورًا بعيد المدى، وأن يحرِص المؤمنون على امتلاك كل شيء موصول بالقوة، وكان الهدف قديمًا وحديثًا أن يمتلك المقاتلُ قوَّةً تُمكِّنه من عدوه، ولا تمكن عدوَّه منه، وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مدى رمي السهام هو رمز القوة، فأول ما تبدأ الحرب يضربون العدو بالنبال، فإذا زحف العدو وتقدَّم يستخدمون له الرماح، فإذا تم الالتحام كان ذلك بالسيوف، وكانت أحسن قوة في الحرب هي السهام التي ترمي بها خصمك فتناله وهو بعيد عنك، ولا يستطيع أن ينالك أو يقترب منك؛ ولذلك عندما فسَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم القوة فيما يرويه الإمام مسلم، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾ [الأنفال: 60]، ثم قال: ((ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي))[5]؛ لأنك بالرمي تتمكَّن من عدوك ولا يتمكن هو منك، فإذا تفوَّقت في الرمي كنت أنت المنتصر عليه. * وقوله تعالى: ﴿ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ﴾ [الأنفال: 60]، ورباط الخيل هو القوة التي تحتلُّ الأرض، فمهما بلغت قدرتُك في الرمي فأنت لا تستطيع أن تستولي على أرض عدوك، ولكن راكبي الخيل كانوا يدخلون المعركة في الماضي بعد الرمي، ليحتلوا الأرض، وهذه عمليةٌ تقوم بها المدرعات الآن، فالمعركة تبدأ أولًا رميًا بالصواريخ والطائرات حتى إذا حطَّمت قوة عدوك، انطلقَت المدرعات لتحتل الأرض، فالقرآن أعطانَا ترتيبًا للحرب)[6]. * غير أن هناك نوعًا آخر من الإعداد، لا بد من تحقُّقه قبل لقاء العدو؛ كي ينال المسلمون ثمرة الإعداد وبركاته، وهي إما إلقاء الرعب في قلوب الأعداء، وإما تحقُّق النصر عند اللقاء، ألا وهو التوبة من الذنوب، والإقلاع عن المعاصي، ورد المظالم، والتقرب إلى الله تعالى بأعمال صالحة، وإحياء السنن الميِّتة، وإماتة البدع والمنكرات؛ فقد أوصى عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما في مَسير سعد إلى غزو الفرس، فقال: (أما بعد؛ فإني آمُرُك ومَن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال؛ فإن تقوى الله أفضلُ العدَّة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرُك ومَن معك أن تكونوا أشدَّ احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم؛ فإن ذنوبَ الجيش أخوَفُ عليهم من عدوهم، وإنما يُنصَر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددِهم، ولا عُدَّتنا كعُدَّتهم، فإن استوَيْنا في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا نُنصَرْ عليهم بفضلنا لم نَغلبهم بقوتنا، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدوَّنا شر منَّا فلن يسلَّط علينا، فرُبَّ قومٍ سُلِّط عليهم شر منهم، كما سُلِّط على بني إسرائيل - لما عمِلوا بمساخط الله - كفارُ المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعدًا مفعولًا، اسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على عدوكم، أسألُ الله ذلك لنا ولكم)[7]. * ما أعظمَها من وصية! فقد عمِل بها الصحابة رضي الله عنهم، ففتح الله عليهم البلاد وقلوب العباد، ونصرهم الله تعالى على أعدائهم، لا بعددهم وعتادهم، ولكن بتقواهم لله عز وجل واجتنابهم المعاصي، وجاء في المستطرف: (وأفضل العُدَّة أن تقدِّم بين يدي اللقاء عملًا صالحًا؛ من صدقة، وصيام، وردِّ المظالم، وصلة الأرحام، ودعاء مخلص، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وأمثال ذلك، والشأن كل الشأن في استجادة القواد، وانتخاب الأمراء، وأصحاب الأَلْوية، فقد قالت حكماء العجم: أسدٌ يقودُ ألف ثعلب خيرٌ مِن ثعلب يقود ألف أسد، فلا ينبغي أن يَقْدُمَ الجيشَ إلا الرجلُ ذو البسالة والنجدة، والشجاعة والجرأة، ثابت الجأش، صارم القلب، صادق البأس، ممَّن قد توسَّط الحروب، ومارَس الرجال ومارسوه، ونازل الأقران، وقارع الأبطال، وكان عظماء الترك يقولون: ينبغي للعاقل العظيم للقياد أن يكون فيه عدَّة أخلاق من البهائم؛ شجاعة الديك، وبحث الدجاجة، وقلب الأسد، وحملة الخنزير، وروغان الثعلب، وصبر الكلب على الجراح، وغارة الذئب)[8]. * ومِن هنا يتبين أن الصحابة رضي الله عنهم - ومَن بعدهم ممن فتحوا البلاد شرقًا وغربًا، وأسقطوا دولتَي الفرس والرومان - قد تحلَّوا بأكمل صفات الإيمان والشجاعة، حتى شهِد لهم الأعداء بالجدارة في كل شيء، فمما جاء في ذلك: (أن هرقل - وهو على أنطاكية - لما قدِمَتِ الرومُ مُنهزمةً، قال: ويلكم، أخبِروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم، أليسوا بشرًا مثلكم؟! قالوا: بلى، قال: فأنتم أكثر أم هم؟ فقالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافًا في كل موطن، قال: فما بالكم تنهزمون؟ فقال شيخ مِن عظمائهم: من أجلِ أنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويُوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، ويَنْهَون عن المنكر، ويتناصفون بينهم (ينصف بعضهم بعضًا)، ومِن أجل أنَّا نشرب الخمر، ونزني، ونركب الحرام، وننقض العهد ونظلم، ونأمر بالسخط، ونفسد في الأرض، فقال: أنتَ صدقتَني)[9]. * كانوا رهبانًا بالليل وفرسانًا بالنهار، يتناصفون ويعدلون، ويوفون ويَصْدُقون، من أجلِ ذلك قاتَلوا مُقبِلين غير مدبِرين، يحرصون على الموت بقدر ما يحرص عدوهم على الحياة، ينتظرون إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة؛ من أجلِ ذلك هابهم أعداؤهم وأكبَروهم، جاء في المستطرف أنه: (دارَتْ حربٌ بين المسلمين والكفار، ثم افترقوا، فوجدوا في المعترك قطعة خوذة قدر الثُّلُث بما حوته من الرأس، فقالوا: إنه لم يُرَ قط ضربة أقوى منها، ولم يُسمع بمثله في جاهلية ولا إسلام، فحملتها الروم وعلقتها في كنيسة لهم، فكانوا إذا عيِّروا بانهزامهم، يقولون: لقينا أقوامًا هذا ضربهم، فيرحل أبطال الروم إليها ليروها)[10]. يا ترى هل يعود المسلمون إلى ما كان عليه أسلافهم؟ وهل يستجيبون لنداء الحياة والعزة والكرامة؟ وهل يعود المجد التليد؟! نعم، بالإعداد. * إن إعداد العدة هو الضمان الوحيد لمنع فتنةِ المسلمين في دينهم، ودفع أذى المشركين عنهم، كما أنه واجبٌ حتميٌّ لحماية الدولة مِن هجمات المعتدِين، وهو أيضًا ضرورةٌ لحماية الدعوة والدعاة والمدعوِّين، فحماية الدعوة يعني إزالةَ المُعوِّقات من طريقها؛ كي تنطلق وتصل إلى مسامع الناس واضحةً جليَّة، وحماية الدعاة يعني منع الأذى والاضطهاد عنهم، حتى يتمكَّنوا من عرض الإسلام كله، لا أن يتكلموا في المسموح به - والذي لا يحدث صدامًا أو اعتراضًا من أعداء الدعوة - ويتركوا ما يُغضِب هؤلاء أو ما من شأنه جلب المتاعب والمضايقات، وأسوة الدعاة في ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بدأ بالصعب وبالأهم، لقد بدأ بما أغاظ الكفار وأثار عداوتهم، لما قال لهم: ((قولوا: لا إله إلا الله))، قالوا له: تبًّا لك سائر اليوم، واستمرَّ في دعوته ولم يَقبَل المساومات ولا الحلول الوسط؛ كما هو مبسوط في القرآن الكريم، وكما في قوله: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 1 - 6]. [1] مفاتيح الغيب؛ الرازي، المجلد الخامس، دار الفكر، ج15، ص 192. [2] مقدمة ابن خلدون، ص 160. [3] سورة الأنفال، عرض وتفسير، ص213. [4] روح المعاني، ج6، ص 33. [5] صحيح مسلم، المجلد الرابع، باب فضل الرمي والحث عليه، ص 581. [6] تفسير الشعراوي، ص 4776. [7] فقه السنة، ج11، ص 102 والوصايا الخالدة؛ د. عبدالبديع صقر، ص 43، مكتبة وهبة، وسورة الأنفال تفسير موضوعي؛ د. علي جريشة، ص 39. [8] المستطرف في كل فن مستظرف، ص 228. [9] البداية والنهاية؛ لابن كثير، ط، هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، ط/ 1، 1418 هـ - 1997م، (9/ 569). [10] المستطرف في كل فن مستظرف، ص 227. د. أمين الدميري
__________________
|
#2
|
|||
|
|||
جزاك الله كل خير
وجعله في موازين حسناتكك |
#3
|
|||
|
|||
جزاك الله خيرا
|
العلامات المرجعية |
|
|