#1
|
|||
|
|||
أ / أحمد صالح قصة الأيام مكتوبة وورد لمن يريد
|
#2
|
|||
|
|||
جزاك الله خيرا .
__________________
اللهم رحمتك و غفرانك |
#3
|
||||
|
||||
الملف تالف والكلام غير كامل ولا واضح
__________________
(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً }الطلاق2 |
#4
|
|||
|
|||
شششششششششششششششششش
|
#5
|
||||
|
||||
جزاك الله خيرا
|
#6
|
|||
|
|||
مشكووووووووووووووووووووووووووور
|
#7
|
||||
|
||||
ششششكككككككككككككككككررررررررررااااااااااااااااااا ااااااااااا
قصة الأيام / طه حسين التعريف بطه حسين § طه حسين (1889-1973) عميد الأدب العربي واحد من أعظم وأهم - إن لم يكن أهم - المفكرين العرب في القرن العشرين لدوره التنويري العظيم وإن كانت آراؤه محل جدال كبير . § ولد طه حسين في الرابع عشر من نوفمبر سنة 1889 في عزبة (الكيلو) التي تقع على مسافة كيلومتر من (مغاغة) بمحافظة المنيا بالصعيد الأوسط. وكان والده موظفًا صغيرًا في شركة السكر ، أنجب ثلاثة عشر ولدًا ، سابعهم طه حسين. § كُفَّ بصره وهو طفل صغير نتيجة الفقر والجهل المستشري (المنتشر) في المجتمع من حوله فلقد أصيب بالرمد فعالجه الحلاق علاجاً ذهب بعينيه ، ولكنه كافح كف البصر فأخذ العلم بأُذُنَيْه لا بأصابعه فقهر عاهته قهرا ، وحفظ القرآن الكريم في التاسعة من عمره قبل أن يغادر قريته إلى الأزهر طلبًا للعلم ، وتمرّد على طرق التدريس بالأزهر وعلى شيوخه , فانتهى به الأمر إلى الطرد منه 1908 م . § التحق بالجامعة المصرية الوليدة (1) التي حصل منها على درجة الدكتوراه الأولى له في الآداب سنة 1914 عن أديبه المفضّل أبي العلاء المعري برسالة موضوعها: " تجديد ذكرى أبي العلاء " . § ثم سافر إلى فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه وعاد منها سنة 1919 بعد أن فرغ من رسالته عن ابن خلدون , فعمل أستاذًا للتاريخ اليوناني والروماني إلى سنة 1925 ، حيث تم تعيينه أستاذًا في قسم اللغة العربية مع تحول الجامعة الأهلية إلى جامعة حكومية. وما لبث أن أصدر كتابه (في الشعر الجاهلي) الذي أحدث عواصف من ردود الفعل المعارضة لآرائه التي اعتبرها البعض آراء فاسدة مدفوعة بأغراض غربية . § ترقى في مناصبه سريعاً حتى أصبح عميدًا لكلية الآداب سنة 1930 م ، ولكنه حين رفض الموافقة على منح الدكتوراه الفخرية لكبار السياسيين سنة 1932 م تعرّض إلى الطرد من الجامعة التي لم يعد إليها إلا بعد سقوط حكومة صدقي باشا § كان انحيازه دائماً للمعذَّبين في الأرض (الفقراء)فعندما عُيّن وزيرًا للمعارف في الوزارة الوفدية سنة 1950 م , وجد الفرصة سانحة لتطبيق شعاره الأثير (التعليم كالماء والهواء حق لكل مواطن) ، و استصدر قرارا بمجانية التعليم العام حتى مستوى الثانوي وكان لهذا القرار نتائج سياسية واجتماعية وثقافية لا تقل عن ثورة اجتماعية § وفكرية كاملة. § ثم أصبح بعد ذلك عام 1963 م رئيسًا للمجمع اللغوي (الرئيس الثالث) ، ونال تقدير الدولة فأهديت إليه في عهد الثورة قلادة النيل وهي أرفع الأوسمة المصرية و لا تمنح تلك القلادة إلاّ لرؤساء الدول و الملوك . § و مؤلفاته التي أثرى بها المكتبة العربية تصل إلى نحو مائة كتاب بين مؤلف ومترجم منها : (حديث الأربعاء - مرآة الإسلام - الوعد الحق - مع المتنبي - الشيخان - على هامش السيرة - دعاء الكروان - حافظ وشوقي) وغيرها. § توفي في 26 أكتوبر سنة 1973. § التعريف بالكِتاب § الأيام أول سيرة ذاتية جادة سبَّاقة في واقعيتها وصفاء لغتها ، وقد كتبها طه حسين عن نفسه عام 1926 م ؛ ليعطينا فيها صورة صادقة عن حياة الصبا القاسية التي قاوم صعوباتها ومشقاتها مثلما قاوم العمى والجهل ، وتعد الأيام أول كُتُب السيرة الذاتية في الوطن العربي . § يتكون الكتاب من ثلاثة أجزاء § الجزء الأول يتحدث فيه طه حسين عن طفولته بما تحمل من معاناة ، ويحدثنا عن الجهل المطبق على الريف المصري وما فيه من عادات حسنة وسيئة في ذلك الوقت . § الجزء الثاني يتحدث عن المرحلة التي امتدت بين دخوله الأزهر وتمرده المستمر على مناهج الأزهر وشيوخه ونقده الدائم لهم وحتى التحاقه بالجامعة الأهلية. § الجزء الثالث يتحدث فيه عن الدراسة في الجامعة الأهلية ، ثم سفره إلى فرنسا وحصوله على الدكتوراه ثم العودة إلى مصر أستاذاً في الجامعة . الفصـل الأول (خيالات الطفولة) لا يذكر الطفل لهذا اليوم اسما ولا يستطيع أن يعرف له وقتا محددا , وإنما يقرب هذه الذكرى تقريبا , ويرجح أن ذلك الوقت يقع في الفجر أو العشاء , ذلك لأن وجهه في ذلك اليوم المجهول تلقى شيء من الهواء الخفيف البارد الذي لم تمسه حرارة الشمس , كما أنه يذكر أنه تلقى نورا هادئا خفيفا تغطي الظلمة جوانبه , وما يؤكد أن هذا الوقت كان في الفجر أو العشاء أن الصبي لم يشعر بحركة قوية , وإنما كان يشعر بحركة ضعيفة مقبلة على النوم أو مستيقظة منه . السياج والأرنب من ذكريات الطفولة: لم يبقى لهذا الصبي من ذكريات هذا اليوم المجهول سوى ذكرى السياج الطويل من القصب والذي كان يحيط بالبيت وليس بينه وبين الباب إلا خطوات قصار , فهو -السياج- أطول من قامة الصبي قليلا فلا يستطيع أن يثب من فوقه, وكان قصبه متقارب لدرجة التلاصق لدرجة تمنعه من الانسلال من بين قصبه , وكان ممتدا عن شماله إلى حيث لا يعلم له نهاية, وعن يمينه إلى حيث قناة بعيدة , كان لها في خياله تأثيرا عظيم . وكذلك يذكر من ذلك اليوم الأرانب التي كان يحسدها على قدرتها على الوثب خارج السياج , أو الانسياب من بين قصبه , والخروج من البيت متى شاءت لتأكل ما وراءه من نباتات . ويذكر الصبي من هذه النباتات الكرنب خاصة . أوقات التفكير وصوت الشاعر: وكذلك فإن الصبي كان يذكر من هذا اليوم أنه كان يحب الخروج من البيت بعد غروب الشمس , وبخاصة بعد أن يتعشى الناس , فكان يعتمد على قصب السياج , وتأخذه التأملات والأفكار بعيدا عن أرض الواقع فلا يرده إلى الواقع إلا صوت الشاعر الذي كان يجلس على شماله الصبي , ويلتف حوله الناس يستمعون إلى إنشاده وحكاياته عن أبي زيد الهلالي والزناتي خليفة ودياب. فتجد أن كل الناس سكوت فلا تسمع لهم صوتا إلا حين يستخفهم الطرب , أو تستفزهم الشهوة , فيتمارون ويتخاصمون , فيسكت الشاعر حتى يصمتوا بعد وقت طويل أو قصير ثم يكمل إنشاده بنغمة عذبة لا تكاد تتغير. ذكريات أليمة : ويذكر الصبي أنه ما خرج يوما إلى السياج إلا وشعر بحسرة لاذعة , وذلك أنه كان يعرف أنه بمجرد الخروج فإن أخته ستقطع عليه نشوة استماعه إلى إنشاد الشاعر , وذلك أنها ستدعوه للدخول فيأبى وبالتالي ستخرج إليه وتحمله بالقوة وتجري به إلى أمه , حيث تضع رأسه على فخذي أمه فتفتح له عينيه المظلمتين وتقطر فيهما ذلك السائل الذي يؤذي عينيه ولا يجدي في شيء ,وهو وإن كان يشعر بألم شديد إلا أنه لم يكن يبكي ولم يكن يشكو , وذلك أنه لم يرد أن يكون كأخته الصغيرة التي دائما ما تبكي بكاء وتشكو . ثم تنقله أخته إلى زاوية في حجرة صغيرة لكي ينام على حصير مبسوط في الأرض فوقها لحافا وتلقى عليه لحافا آخر وتتركه في حسراته , حتى أنه من شدة الحسرة كان يمد سمعه كأنه يريد أن يخترق الحائط لعله يسمع بعضا من تلك النغمات الحلوة التي يرددها الشاعر . ولا يصرفه عن تلك الحسرة إلا النوم , فما يشعر إلا وقد استيقظ والناس نيام وإخوته بجانبه يغطون في النوم غطا شديدا , فيكشف اللحاف عن وجهه بين التردد والخوف لأنه كان يخاف أن ينام مكشوف الوجه. أوهام وتصورات ومخاوف أثناء النوم فقد كان الصبي الصغير واثقا بأنه لو كشف وجهه أو أخرج أحد أطرافه من تحت اللحاف لعبث بها أحد العفاريت التي تملأ كل أرجاء البيت , والتي لا تهبط تحت الأرض إلا بعد بزوغ الشمس فإذا جاء الليل وأوى الناس إلى مضاجعهم وهدأت الأصوات خرج العفاريت من تحت الأرض وملأت الفضاء حركة واضطرابا وتهامسا وصياحا . الاستيقاظ فجرا والضوضاء التي كان يصنعها كان الصبي كثيرا ما يستيقظ فجرا فيسمع صياح الديكة والدجاج ويجتهد في أن يميز بين هذه الأصوات , فكان يرى أن بعضها أصوات لديكة حقيقية والبعض الآخر ما هو إلا أصوات للعفاريت التي تقلد الديكة , ولكنه لم يكن يخاف من أصوات العفاريت , وذلك أنها كانمت تأتيه من بعيد . ولكن خوفه الأكبر إنما كان ينبع من تلك الأصوات التي تصدر ضئيلة وضعيفة من زوايا الحجرة , يمثل بعضها أزيز المرجل , يغلي على النار , وأصوات حركة المتاع حينما ينقل من مكان لآخر , وكذلك كان يخاف من صوت الحطب حينما يقسم أو يتحطم . بل إن الخوف وصل به إلى درجة توهم بعض الأشياء التي لم يكن لها أساس من الواقع , فهو يتوهم هناك من يقف على باب الحجرة يسده عليه سدا منيعا , وهذا الشخص يقوم بحركات مختلفة وغريبة تشبه لحد كبير حركة المتصوفة في حلقات الذكر . هذه المخاوف والأشباح التي كان يشعر بها الصبي لم يجد له حصن منها سوى ذلك اللحاف الذي يلفه حول وجهه , دون أن يدع بينه وبين الهواء منفذ أو ثغرة , فقد كان واثقا كل الثقة بأنه لو تر ثغرة ولو صغيرة فإن العفريت لابد أن يدخل منها العفريت يده إليه . ولذلك كان يقضي ليله في هذه المخاوف والأوهام والأهوال إلا حينما يغلبه النوم , فينام قليلا وسرعان ما يستيقظ ليكمل رحلة المخاوف والأوهام ,ولا تستقر من الخوف إلا حينما يسمع أصوات النساء وهن يتغنين (الله ياليل الله......) فهنا يعرف أن الفجر قد حضر وأن العفاريت قد هربت إلى تحت الأرض وهنا يتحول هو إلى عفريت ,فيظل يتحدث غلى نفسه بصوت عال ويتغنى بما يحفظ من أناشيد ويغمز إخوته حتى يوقظهم جميعا . ويظل يلعب معهم حتى تتعالى أصواتهم وصيحاتهم , ولا يوقفهم عنها إلا صوت الشيخ الذي استيقظ لصلاة الفجر وقراءة ورده من القرآن وشرب القهوة , فإذا ما أغلق الباب وراء الشيخ بعد خروجه عادت الصيحات واللعب حتى يختلط بالطيور والماشية التي في البيت الفصل الثاني (ذاكرة صبي) كان الصبي مطمأنا إلى أن الدنيا تنتهي عن يمينه بهذه القناة , التي لم يكن بينه وبينها إلا خطوات قليله.....ولم لا تنتهي الدنيا بالنسبة لصبي أعمي عندها وهو لا يعرف عنها شيء , فلم يكن يعرف أن عرض هذه القناة ضئيل( صغير/ج/ضِئال ضُؤلاء) بحيث يستطيع الشاب النشيط أن يقفز من إحدى حافتيها إلى الحافة الأخرى , كما لم يكن يعرف أن حياة الناس والنبات والحيوان مستمرة فيما بعد القناة كما هي قبلها ,ولم يكن يعرف أن الرجل يستطيع أن يعبرها دون أن يصل الماء إلى إبطيه (هو ما تحت ذراع الإنسان عند ملتقى الكتف) , وكذلك لم يمن يعرف أن الماء ينقطع عن هذه القناة من وقت آخر فتصبح مجرد حفرة مستطيلة يستطيع الصبيان أن ينزلوا إليها فيبحثوا عن الأسماك التي ماتت بسبب انقطاع الماء عنها . القناة في خيال الصبي لم يٌقدر الصبي كل ما سبق بل كان يعلم علم اليقين أنها عالم آخر غير ذلك العالم الذي يعيش فيه , فكان يظن أن عالم القناة عالم تغمره (تملؤه) كائنات غريبة , من هذه الكائنات التماسيح التي تزدري (تبتلع) الناس ازدرارا , والمسحورون الذين يعيشون تحت الماء ليلا ونهارا , فإذا أشرقت الشمس أو غربت خرجوا ليتنسمون الهواء(يتشممون النسيم العليل) وهم بذلك خطر على الأطفال وفتنة للنساء الرجال . الفتى وخاتم سليمان ولعل من هذه الكائنات العجيبة أيضا الأسماك الطوال العراض , والتي لا تظفر (تحصل وتجد) بطفل إلا وابتلعته على الفور , وقد يتاح لبعض هؤلاء الأطفال أن يجدوا في بطنها خاتم سليمان , ذلك الخاتم الذي إذا لبسه إنسان فإنه يُخرج له خادمين من الجن يقضيان له كل حوائجه ,هذا الخاتم كان ملك سيدنا سليمان وبه سخر الجن والرياح وما يشاء من قوى الطبيعة المختلفة . لقد كان أحب شيء لهذا الطفل أن يهبط إلى هذه القناة فتبتلعه إحدى هذه الأسماك , فيجد في بطنها ذلك الخاتم , ولكنه كان يخشى من الأهوال التي قد تحدث له في الطريق لهذا الخاتم وبالفعل هو في حاجة شديدة لمثل ذلك الخاتم وخادميه , على الأقل لكي يعرف ما راء هذه القناة من عجائب وأشياء غريبة . مخاطر على شاطئ القناة من كل ناحية وهل كان يستطيع أن يبلو (يختبر) حقيقة القناة ؟ بالطبع لا فقد كانت القناة محفوفة (محاطة ) بالمخاطر عن يمينه وشماله , فأما عن يمينه فقد كان هناك (العدويون) وهم قوم من الصعيد يعيشون في دار كبيرة يحرسها كلبان عظيمان , لا ينقطع نباحهما , وقد كثر حديث الناس عن هذين الكلبين , فلا ينجو منهما أحد من المارة إلا بعد عناء ومشقة . وأما عن شماله فقد كان هناك قاتل يدعى (سعيد الأعرابي) وامرأته (كوابس) , وها مشهوران بشرهما ومكرهما وحرصهما على سفك الدماء. وقد كانت امرأته تضع في إحدى فتحتي أنفها حلق كبير , كانت دائما ما تتردد على بيت صاحبنا فتقبله وتؤذيه بهذا الحق الكبير لذلك لم يكن يستطيع أن يقترب من القناة ليعرف حقيقتها . ورغم ذلك فقد كان يجد في دنياه الضيقة كثير من ألوان العبث والتسلية التي تملأ كل نهاره . ذاكرة الإنسان وأحداث الطفولة ويتعجب الكاتب كل العجب من ذاكرة الأطفال أو ذاكرة الإنسان عموما , وذلك أن الإنسان كلما حاول أن يتذكر بعض أحداث الطفولة فإنه يذكر بعضها واضحا جليا كأنه لم يمضي بينه وبين الحدث من الوقت شيء , وبعض الذكريات الأخرى تمحى كأنها لم تكن . فالصبي يذكر كل تلك الأحداث من سياج وقناة وسعيد وامرأته كوابس , ويذكر كذلك العدويين وكلبيهما , ولكنه لا يذكر أي شيء عن مصير كل ذلك , كأنه نام ليلة وأصبح لا يجد شيء من هذه الذكريات , ولكنه يجد أماكنها وقد أعيد تنظيمها من جديد , بيوت قائمة وشوارع منظمة تنحدر كلها من جسر القناة ممتدة امتدادا قصيرا من الشمال للجنوب , ويذكر كثيرا من الأشخاص الذين سكنوا هذه الأماكن من رجال ونساء وأطفال كانوا يعبثون في هذه الشوارع . ومن ذكرياته أيضا أنه كان يستطيع أن يتقد يمينا وشمال إلى القناة دون أن يخشى سعيد وامرأته أو العدويين وكلبيهما , ويذكر كذلك أنه كان يقضي ساعات من نهاره على هذه القناة يستمتع بما يسمع من نغمات (حسن) الشاعر وهو يرفع الماء بشادوفه ليروي الأرض على الشاطئ الأخر من القناة . الصبي يعبر القناة وكذلك يذكر أنه عبر القناة أكثر من مرة على كتف أحد إخوته , دون أن يحتاج إلى خاتم سليمان , وكان يذهب كثيرا إلى ما وراء القناة ليأكل من شجر التوت المزروع هناك , وكذلك فإنه يذكر أنه تقدم عن يمينه أكثر من مرة إلى حيث حديقة (المعلم) فأكل من تفاحها اللذيذ , وقطف له منها ريحان ونعناع . ولكنه عاجز كل العجز أن يتذكر كيف تحول كل ذلك وأصبح على ما هو عليه الآن . الفصل الثالث (أسرتي) لقد كان الصبي سابع أبناء الأب الثلاثة عشر , وخامس أشقته الأحد عشر , وكان يشعر بين هذا العدد الضخم من الأخوة بأن له مكانة خاصة ومعاملة مميزة يمتاز بها بين كل إخوته وأخواته . فهل كان كل ذلك يرضيه ؟ أم أنه كان يؤذيه ؟ الحق أنه لا يتبين ذلك غلا في غموض إبهام , والحق أنه لا يستطيع الآن أن يحكم على ذلك حكما صادقا , كان يحس من أمه رحمة ورأفة وكان يجد من أبيه لينا ورفقا ، وكان يشعر من إخوته بشيء من الاحتياط في تحدثهم إليه ومعاملتهم له. ولكنه كان يجد إلي جانب هذه الرحمة والرأفة من جانب أمه شيئا من الإهمال أحيانا ومن الغلظة أحيانا أخري وكان يجد إلي جانب هذا اللين والرفق من أبيه شيئا من الإهمال أيضا ، والازورار من وقت إلي وقت. وكان احتياط إخوته وأخواته يؤذيه لأنه كان يجد فيه شيئا من الإشفاق مشوبا (مختلطا) بشيء من الازدراء (الاحتقار) الصبي يكتشف سبب هذه المعاملة لم يمر وقت طويل حتى تبين (علم ) سبب هذه المعاملة , فقد أحس أن لغيره من الناس فضل كبير عليه , فإخوته وسائر الناس غيره يستطيعون ما لا يستطيع هو ,ويقومون بما لا يستطيع أن يقوم به هو ,وأحس أن أمه تأذن لإخوته وأخواته بما لا تأذن به له (تحظر عليه) , وكان ذلك بطبيعة الحال يغضبه , وسرعان ما تحول هذا الغضب إلى حزن صامت عميق فقد سمع أخوته يصفون ما لا يعلم هو عنه شيء , فعلم أنهم يرون ما لا يرى . الفصل الرابع (مرارة الفشل) أتم الصبي حفظ القرآن وهو لم يبلغ التاسعة من عمرة , وبذلك حصل على لقب ( الشيخ ) وهو لقب يحصل عليه كل من أتم حفظ القرآن بغض النظر عن سنه وهيئته . وقد فرح الجميع بهذا اللقب العزيز , فتجد أن كل الناس تدعوه بالشيخ , أبوه وأمه وسيدنا ( شيخ الكتاب ) . فأما سيدنا فتعود أن يدعوه بالشيخ عندما يرضى عنه أو حينما يريده أن يرضى عن شيء ما أو أمام أبويه , وفيما عدا ذلك كان يناديه باسمه دون لقب , بل كان يدعوه ب (الواد) . وبالنسبة لأمه وأبيه فكانا يدعوانه بالشيخ تفاخرا وتكبرا بهذا اللقب العظيم , ولم يكن الهدف من التحبب إلى الصبي أو التودد إليه . أما الصبي نفسه فقد أعجب كثيرا بهذا اللقب في أول الأمر , ولكنه كان ينتظر شيء آخر من ألوان المكافأة والتمجيد والتعظيم , فقد كان ينتظر أن يكون شيخا حقا , ولا يكون ذلك إلا بارتداء العمة والجبة والقفطان . وكان من العسير على أسرته إقناعه بأنه أصغر من أن يلبس العمة ويدخل في الجبة والقفطان , ولكن كيف يمكن إقناعه بذلك ؟ فقد كان أمرا عسرا للغاية . وكان الصبي الصغير قصيرا نحيفا شاحبا ( متغير اللون ) زري الهيئة (حقير الشكل والهيئة) , ليس له من وقار الشيوخ وحسن طالعهم حظ لا كثير ولا قليل . ولم يكن خليقا (جديرا) أن يُدعى بالشيخ , وإنما كان جديرا بأن يذهب إلى الكتاب كما كان يذهب من قبل؛ مُهْمَل الهيئة , على رأسه طاقية تنظف مرة واحدة كل أسبوع . اليوم المشئوم يوم نسيانه القرآن مضى على ذلك اللقب شهرا بعد شهر , والصبي يذهب إلى الكتاب ولا يفعل أي شيء , فيذهب ويعود بلا عمل , وسيدنا مطمئن إلى أنه حفظ القرآن ولن ينساه . وجاء يوم مشئوم (شر) على الصبي فقد ذاق لأول مرة في حياته طعم الخزي (العار) والفشل والضعة (الهوان والمذلة) فقد كره حياته كلها بسبب ذلك اليوم . عاد الصبي من الكتاب عصرا راضيا مطمئنا , ولم يكد يدخل الباب حتى دعاه أبوه بلقبه (الشيخ) فأقبل عليه الأب ومعه صديقان له, وهو (مبتهجا ) مسرور, وأجلسه في رفق ثم بدأ يسأله أسئلة عادية , والطفل يجيب , حتى طلب منه أن يقرأ (سورة الشعراء) , فوقع عليه ذلك الطلب وقع الصاعقة التي أحرقته , ولكنه فكر وتحفز ( تهيأ واستعد ) ثم استعاذ بالله من الشيطان الرجيم , وسمى الله الرحمن الرحيم , وقرأ (طسم) ثم بدأ يكررها ويكررها ولا يتذكر ما بعدها , كل ما يتذكره أنها إحدى ثلاث سور في القرآن تبدأ ب(طسم) ففتح عليه أبوه بما بعدها ولكنه لم يستطع أن يكمل السورة . فقال له أبوه إذا فاقرأ (سورة النمل) فتذكر أن أول (سورة النمل) كأول (سورة الشعراء) (طس) ولكنه أيضا لم يستطع أن يتقدم خطوة واحدة للأمام , وأخذ يردد هذا اللفظ , ففتح عليه أبوه بما بعده فلم يستطع أن يكمل , فقال له أقرأ سورة القصص , فتذكر أنها السورة الثالثة التي تبدأ ب(طسم) وأخذ يردد دون أن يقدر على إتمام ما بعدها . ولم يفتح عليه أبوه هذه المرة بما بعدها , فقد اكتفى بأن يقول له في هدوء " قم فقد كنت أحسب أنك حفظت القرآن " فقام خجلا يتصبب عرقا, وراح الرجلان يلتمسان له الأعذار بأنه مازال صغير ويشعر بالخجل . ولكن الصبي مضى لا يدري من يلوم , هل يلوم نفسه على نسيانه القرآن ؟ أم يلوم سيدنا الذي أهمله فلم يراجع معه ما حفظ ؟ أم يلوم أباه لأنه امتحنه ؟ الفصل الخامس (الشيخ الصغير) أقبل سيدنا إلى الكتاب من الغد مسرورا فرحا ,فدعا الصبي بالشيخ وقال له أنت اليوم تستحق لقب الشيخ, فقد رفعت رأسي وبيضت وجهي وشرفت لحيتي أمس, واضطر أبوك لأن يعطيني الجُبَّة, ولقد كنت تتلو القرآن كسلاسل الذهب . وكنتُ قلقا عليك مخافة أن تزل(تخطأ) أو تنحرف وكنتُ أحصنك بالحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم , حتى انتهي الامتحان , وأنا أعفيك اليوم من القراءة . عهد بين سيدنا والصبي ثم طلب سيدنا الصبي أن يأخذ عليه عهدا يحافظ عليه وأن يكون وفيا معه , فلا ينقض هذا العهد أبدا , فقال الصبي لك عليَّ أن أكون وفيا ولا أنقض هذا العهد . فأخذ سيدنا بيد الصبي , وهنا أحس الصبي بشيء غريب لم يحس مثله قط , فقد كان عريضا يترجرج (يهتز) مليء بالشعر وتغور (تدخل بسهوله ) فيه الأصابع , وما كان ذلك إلا أن سيدنا وضع يد الصبي على لحيته وقال له هذه لحيتي أسلمك إياها وأريدك ألا تهينها , فقل معي "والله العظيم " ثلاثا , وحق القرآن المجيد لا أهينها , فأقسم الصبي كما أراد سيدنا . فما فرغ من القسم حتى سأله سيدنا كم جزأ في القرآن ؟ فقال الصبي : ثلاثون جزأ , فقال سيدنا وكم يوما نشتغل في الكتاب ؟ قال الصبي خمسة أيام ,فقال سيدنا فإذا أردت أن تختم القرآن كل أسبوع فكم جزأ تقرأ كل يوم ؟ فكر الصبي قليلا ثم قال الصبي ستة أجزاء. قال سيدنا إذا فتقسم لتتلون على العريف ستة أجزاء من القرآن كل يوم من أيام الأسبوع , على أن تكون هذه التلاوة أول ما تأتي من إلى الكتاب و فإذا انتهيت منها فلا جناح عليك (لا ذنب ولا إثم) تلعب وتلهو كما تشاء ,على ألا تصرف (تشغل ) بقية الصبيان عن أعمالهم ,فتعهد عهد آخر على العريف ثم دعا سيدنا العريف و وأخذ عليه العهد ليسمعن من الصبي كل يوم ستة أجزاء من القرآن , وأودعه شرفه وكرامة لحيته ومكانة (منزلة) الكتاب ,فقبل العريف الوديعة . وانتهى هذا المنظر وصبيان الكتاب ينظرون ويتعجبون مما يحدث أمامهم . الفصل السادس (سعادة لا تدوم) انقطع الصبي عن الكتاب فلم يعد يذهب إليه كما انقطع سيدنا عن البيت فلم يعد يأتي كما كان يفعل , فالتمس (طلب) أبو الصبي فقيها جديدا ليحفظه القرآن , فكان الصبي يتلو القرآن مع الفقيه الجديد ساعة أو ساعتين ثم يظل الصبي حرا يلعب ويلهو بقية اليوم كما يشاء . حتى إذا جاء العصر حضر أصدقاء الصبي ورفاقه بعدما انصرفوا من الكتاب, فيقصون عليه ما كان يحدث من سيدنا ومن عريف الكتاب, وهو يلهو (يعلب) بذلك الحديث, ويظل يعبث بهم وبالكتاب وبسيدنا وبالعريف . الصبي يظهر ما كان يكتم من عيوب سيدنا والعريف وظن الصبي أن الأمر قد انبت (انتهي وانقطع) بينه وبين سيدنا وأنه لن يعود إلى الكتاب مرة أخرى, فأطلق لسانه في الرجلين بطريقة شنيعة (فظيعة) وأخذ يظهر العيوب التي كان يكتمها عن العريف وسيدنا . ولعل الذي دفعه إلى ذلك أنه ظن أن بينه ويبن السفر إلى القاهرة شهرا أو بعض شهر(أقل من شهر) لأن أخاه سيعود من القاهرة بعد أيام ليقضي أجازته وسيأخذه معه إلى الأزهر الشريف سعادة لم تتم كانت السعادة تملأ قلبه , فقد رأى في نفسه تفوقا على رفاقه وأترابه (أقرانه), فهو لا يذهب إلى الكتاب كما يذهبون هم , كما أنه يسعى إليه الفقيه في البيت سعيا, وأكثر من ذلك أنه سيسافر إلى القاهرة حيث يتعلم في الأزهر ويكون قريبا من أولياء الله الصالحين من أمثال (سيدنا الحسين والسيدة زينب وغيرهما الكثير) فقد كان ينظر إلى القاهرة على أنها تمثل الأزهر وأولياء الله الصالحين . الصبي يعود للكتاب للمرة الثالثة ليستعيد حفظ القرآن وأمر الشيخ (والد الصبي) ابنه بأن يعود إلى الكتاب مرة أخرى, ولكنه عاد إليه كارها مجبرا , لأنه يعلم ما سيجده عند سيدنا والعريف من تعنيف , فقد كان الصبيان ينقلون للعريف وسيدنا كل ما يقوله الصبي عنهما , فقد كانت أوقات الغداء طوال هذا الأسبوع شديدة صعبة على الصبي, فقد كان العريف يعيد عليه ما كان يطلق به لسانه من ألفاظ, وكان سيدنا يلومه بشدة على أقواله الشنيعة فيهما . دروس تعلمها الصبي من عودته للكتاب تعلم الصبي كثيرا من الدروس في هذا الأسبوع فقد تعلم الاحتياط في الألفاظ, وتعلم أنه من الخطل (قلة العقل وفساده) والحمق(التهور) أن يطمئن الإنسان لوعود الرجال, فالشيخ قد أقسم بأغلظ الأيمان ألا يعود الصبي للكتاب أبدا, وها هو قد عاد, وكذلك سيدنا فقد كان يرسل الطلاق والأيمان (القسم) وهو يعلم أنه كاذب, فلم يعد هناك فرق بينهما – الشيخ وسيدنا – وكذلك الصبيان الذين يشتمون العريف وسيدنا حتى يسب ويشتم معهم ثم ينقلون حديثه لسيدنا والعريف ليتقربوا منهما, وها هي أمه تضحك منه عندما اشتكى لها سيدنا ما قاله الصبي, وأخوته يشمتون به ويعيدون عليه مقالة سيدنا ليغيظوه ويثيرون (يحركون) سخطه (غضبه) ولكنه كان يتحمل كل ذلك , في صبر وجلد (تحمل) , فقد كان يعلم أنه سرعان ما يغادر تلك القرية إلى القاهرة وينسى كل ذلك الفصل السابع (الاستعداد للأزهر) وها هو الشهر قد مضى وعاد أخوه الأزهري , ولكنه لم يأخذه معه كما كان يمني الصبي نفسه , فقد كان صغيرا ومن الصعب إرساله إلى القاهرة , فلم يرغب أخوه في أن يحتمله , فأشار عليهم بأن يبقى سنة أخرى في القرية , يستعد فيها للأزهر وللدراسة فيه , وبقي الصبي دون أن يحفل (يهتم) أحد برضاه أو غضبه . الاستعداد للأزهر بحفظ الألفية .. ورغم ذلك فقد تغير نمط حياته بعض الشيء فقد أشار عليه أخوه بأن يقضي السنة في الاستعداد للدراسة بالأزهر فأعطاه كتابين ليحفظ الأول ويقرأ ما يشاء من الثاني فكان الأول هو الألفية (ألفية بن مالك في النحو) وهو ما لا بد عليه من حفظه , أما الثاني فكان (مجموع المتون) وطلب منه قراءته واستظهار (حفظ) ما استطاع منه . وقد حفظ الصبي الألفية , كما حفظ أشياء غريبة من الكتاب الأخر لم يفهم منها شيء , ومما حفظه من ذلك الكتاب (الجوهرة – والخريدة – السراجية – الرحبية – ولامية الأفعال) هذا ما حفظه الصبي من الكتاب الثاني(مجموع المتون) دون أن يفهم من هذه الأشياء شيء ولا حتى أسمائها . فما الذي دفعه لحفظها ؟ , لقد كان بقدر أن ذلك هو العلم , الذي يجب أن يستعد به للأزهر , كما أن أخاه حفظها وفهمها , فأصبح عالما له مكانة عالية بين جميع الناس , الكل ينتظره ويتحدث بمقدمه إلى القرية ليقضي أجازته . ولما جاء إلى القرية أقبل عليه الناس فرحين مبتهجين (مسرورين) , وها هو الشيخ يشرب كلامه شربا ويقبله دون مناقشة , بل يعيده على الناس مفتخرا ومتباهيا , حتى أهل القرية كانوا يتوسلون إليه ليقرأ لهم درسا في التوحيد أو الفقه , وكذلك الشيخ كان يتوسل غليه بكل ما استطاع وما لم يستطع لكي يلقي عليهم خطبة الجمعة . الأخ الأزهري واحتفال مولد النبي كان ذلك اليوم يوم مشهود , فقد لقي الأزهري من الحفاوة والتكريم من أهل القرية ما لم ينله أي من شبان القرية , فقد كان الناس يتحدثون عن ذلك اليوم قبل مقدمه(مولد النبي) بأيام , فقد اشترى أهل القرية للفتى الأزهري قفطانا جديدا ووجبة جديدة , وطربوشا جديدا ومركوبا جديدا , ولما أقبل ذلك اليوم وانتصف النهار اتجهت الأسرة إلى طعامهم فلم يأكلوا إلا قليلا . ولبس الفتى الأزهري ثيابه الجديدة , وعمامة خضراء وألقى على كتفه شالا من الكشمير , وظلت أمه تدعوا له وتتلوا التعاويذ التي تحفظه , وظل الأب يدخ ويخرج فرحا بابنه وما يلقاه من أهل القرية . وما أن خرج الفتى حتى حلمه جماعة من الناس ووضعوه على فرس كان ينتظره خارج البيت , وطافوا به في القرية , وحوله الناس من كل مكان أمامه وخلفه وعن يمينه وشماله , والبنادق طلق أعيرة النار في الهواء , والناس تتغنى بمدح النبي . كل ذلك لأن أهل القرية اتخذوا من هذا التي الأزهري خليفة , وطافوا به في المدينة والقرى المجاورة , وإنما حصل على هذه المكانة لأنه أزهري قرأ العلم وحفظ الألفية والخريدة والجوهرة . الفصل الثامن (العلم بين مكانتين) للعلم في القرى ومدن الأقاليم جلال(عظمة) ومكانة عالية لا مثيل لها في العاصمة , وذلك أن العلم مثله كمثل بقية السلع , يخضع لقانون العرض والطلب , وهذا القانون ينص على أنه كلما زادت السلعة وكثرت كلما قل ثمنها , وكلما كانت شحيحة وقليلة كلما غلى ثمنها وزاد . وهذا ينطبق على العلم فالعلماء في القاهرة كثيرون لدرجة أن الناس هناك لم يعودوا يحفلون بهم ولا يكاد يسمع لهم أحد , فهم يكثرون القول وفنونه فلا يستمع لهم إلا تلاميذهم . أما في الريف والأقاليم فتجد أن العلماء هناك قليلون جدا ولذلك ,يتمتعون بقدر كبير من الجلال والعظمة والمهابة , فإذا قالوا استمع الجميع لقولهم , ويتأثر الناس بأحاديثهم , والصبي متأثر بنفسية الريف ولذلك كان يعظم العلماء ويعلي من شأنهم كما يفعل أهله , فقد كان يظن بأن هؤلاء العلماء فـُطِروا(خُلِقوا) من طينة غير التي فطر منا بقية الناس . ولذلك هم أفضل من بقية الناس جميعا . إعجاب الناس أمام علماء الأقاليم وقد وجد الصبي في علماء القرية من الإعجاب والإجلال ما يدفعه إلى الإعجاب والدهشة من قولهم , وقد حاول أن يجد مثل ذلك الإعجاب والإجلال بين علماء القاهرة وعظماء مشايخها فلم يوفق في ذلك . علماء المدينة الأول : كاتب المحكمة الشرعية فكان قصيرا ضخما غليظ الصوت جهوري(عال ومرتفع الصوت) يمتلأ شدقه (جانب الفم) بالألفاظ حينما يتكلم , فتخرج هذه الألفاظ والمعاني ضخمة غليظة كصاحبها . وكان هذا الشيخ من الذين لم يوفقوا في الأزهر , فقد قضى فيه ما قضى من سنين فلم يفلح في الحصول على العالمية (المؤهل العالي)ولم يفلح في القضاء , فقنع بمنصب كاتب المحكمة الشرعية . وكان حنفي المذهب ,ولم يكن في المدينة من أتباع أبي حنيفة كثيرون مما كان يغيظه ويدفعه لإعلاء مذهب أبي حنيفة في كل مجلس , والحط من مذهب الشافعي ومالك , فما كان من الناس إلا أن يعفوا عليه ويضحكوا منه . الثاني : إماما المسجد كان شافعي المذهب وإمام السجد وصاحب الخطبة والصلاة , وكان معروفا بين الناس بالتقى والصلاح والورع . ويعظمه الناس إلى حد يشبه التقديس , فيتبركون به ويلتمسون لديه شفاء مرضاهم , وقضاء حوائجهم , حتى أنه كاد يرى في نفسه أنه ولى من أولياء الله الصالحين . وقد ظل أهل المدينة يذكرونه بالخير والصلاح حتى بعد موته و وكان كثير منهم يتحدثون بأنه حينما نزل قبره قال بصوت سمعه المشيعون ( اللهم اجعله منزلا مباركا ) , وكان كثيرا منهم يتحدث عما رآه له في المنام من نعيم وجزاء عظيم . الثالث : الشيخ المالكي عالم مالكي المذهب , لم ينقطع للعلم , فقد كان تاجرا ومزارعا , وكان متواضعا يكتفي ببعض الدروس عن الدين وبخاصة علم الحديث كلما سمح له وقته بذلك , ولم يكن يحفل (يهتم) به إلا فئة (جماعة) قليلة من أهل المدينة . الرابع : الفتى الأزهري (أخو الصبي ) كان قاضيا ممتازا , وقد أسندت الدولة له قضاء أحد الأقاليم , وكانت هناك منافسة شديدة بين الفتى الأزهري والشيخ (كاتب المحكمة) , فقد كان الناس على عادتهم أن ينتخبوا خليفة لهم كل سنة , فغاظه أن ينتخب الناس ذلك الفتى خليفة دونه , ولما تحدث الناس أن الفتى الأزهري سيخطب الجمعة في المسجد لم يقل شيئا بل انتظر حتى جاء يوم الجمعة. ولما أقبل الفتى ليصعد المنبر أسرع كاتب المحكمة إلى إمام المسجد وقال بصوت مسموع , إن ذلك الشاب حديث السن ولا ينبغي أن يخطب الجمعة في مسجد فيه الشيوخ وأصحاب الأسنان ( كبار السن) وهدد الإمام بأنه لو سمح لذلك الشاب بالخطبة فسوف ينصرف , وأسرع ينادي في الناس أن من أراد أن تصح صلاته ولا تبطل فليتبعه . اضطرب الناس بسبب تلك المقولة وأسرع إماما المسجد وصعد هو المنبر وألقى الخطبة وصلى بالناس حتى لا تحدث فتنة , وبذلك استطاع كاتب المحكمة أن يمنع الشاب الأزهري من الخطبة تلك السنة . وبذلك ضيع ذلك الكاتب على الشاب الأزهري , فرصة كان والده ينتظرها على أحر من الجمر , كما ضاع على الفتى جهد كبير بذله قبل ذلك بأيام في إعداد وحفظ الخطبة , وقد كان ألقاها على والده أكثر من مرة ليطمأن أنه لن يخطئ . وها هي أمه تخاف عليه من الحسد , فما كاد يخرج لكي يلقى الخطبة , إلا وأسرعت ألقت جمرا في إناء ووضعت عليه من أنواع البخور ثم , قامت إلى كل غرفة تبخرها وتهمهم بكلمات , لتحفظ ابنها من الحسد , واستمرت كذلك حتى عاد و فقامت تبخره تهمهم بهذه الكلمات ودخل الشيخ وهو غاضب بشدة يلعن ذلك الرجل الذي أكل الحقد والحسد قلبه فمنع ابنه من إلقاء خطبة الجمعة . العلماء غير الرسميين لقد كان هناك كثيرا من العلماء المنبثين ( المنتشرين ) في المدينة وقراها (ج قرية) وريفها , وكان لهم تأثير كبير في دهماء الناس (عامة الناس× خاصة ) ,ومنهم الحاج الخياط الذي كان دكانه يشبه الكُتاب . كان شحيحا (بخيلا) , ومتصلا بشيخ من كبار أهل الطرق , وكان يزدري (يحتقر) العلماء جميعا , لأنهم يأخذون علمهم من الكتب فقد كان يرى بأن العلم الصحيح هو ذلك الذي يأخذه الإنسان عن الشيوخ , ويُسمى بالعلم اللدني . العلم اللدني : هو ذلك العلم الذي يلقيه الله في قلب الإنسان عن طريق الإلهام , دون الحاجة للكتب . الصبي والعلماء لقد استطاع الصبي أن يتردد على كل هؤلاء العلاء ويتعلم على أيديهم حتى جمع مقدارا ضخما من العلم , يغلب عليه الاختلاف الاضطراب التناقض . وكان ذلك من أهم العوامل التي أثرت في تكوين الصبي العقلي , حيث لم يخلُ عقله من التناقض والاضطراب . الفصل التاسع (سهام القدر) الحياة حلوة ومرة عاش الصبي حياته في تلك السنة بين البيت والكتاب والمحكمة والمسجد وبيت المفتش ومجالس العلم وحلقات الذكر , وهو لا يشعر للأيام بطعم معين , فهي حلوة مرة ومرة أخرى , وبينهما أيام فاترة (ضعيفة بلا بهجة) سخيفة . وفي أحد الأيام ذاق طعم الألم الحقيقي, وعرف أن كل الآلام التي كره من أجلها الحياة لم تكن شيئا أمام ذلك الألم الذي شعر به الفتى , وهنا عرف أن الدهر يمكن أن يؤلم الناس ويؤذيهم كما يستطيع أن يجعل لهم الحياة حلوة مبهجة في آن (وقت) واحد . فرحة الأسرة... أخت الصبي الصغرى كان للصبي أخت صغيرة هي صغرى أبناء الأسرة , كانت في الرابعة من عمرها , وكانت تتميز بخفة الروح , فصاحة اللسان , ,وطلاقة الوجه (ظهر عليه علامات الفرح) , وكانت قوية الخيال , فقد كانت تجلس أمام الحائط وتتحدث معه كما تتحدث أمها لمن يزورها بالبيت , وكانت تسبغ على (تفيض وتضفي عليها) كل شيء صفة الحياة والشخصية , فكانت تحول كل لعبها إلى نساء ورجال تلعب معهم وتتحدث إليهم . وقد كانت كل الأسرة تشعر بلذة وفرح شديد أثناء سماعها لهذه الأحاديث بين الفتاة والعرائس , دون أن تشعر الفتاة أن هناك من يراقبها ويسمع حديثها . الاستعداد للعيد لم يكد تظهر بوادر (بشائر ومقدمات.م / بادرة) عيد الأضحى حتى أخذت الأم وأبنائها يستعدون فالأم : قامت بتهيئة(تجهيز)الدار , وإعداد الخبز والفطير . وأخوة الصبي أخذ (بدأ) كل منهم في الاستعداد أيضا لهذا العيد , فيختلفون (يذهبون) إلى الخياط والحذاء(صانع الأحذية) ويلهو الصغار بهذه التغيرات الطارئة على البيت بسبب قدوم العيد . أما الصبي فلم يحتاج للاختلاف (التردد) إلى خيّاط أو حذاء , ولا حتى اللهو بهذه التغيرات الطارئة على الدار , بل كان يكتفي بأن يخلو إلى نفسه ويعيش في الخيالات التي كان يستمدها من القصص والكتب التي كان يقرأها , ولذلك كان يسرف (يزيد) في قراءتها . إهمال الأطفال في الريف أقبلت بوادر العيد , وأصبحت الفتاة ذات يوم تشعر بنوع من الفتور والهمود (الضعف والمرض ) ولم يلتفت إليها أحد , وهي عادة أهل الريف وبخاصة إذا كانت الأسرة كثيرة العدد , والأم تعمل بكثرة . فهناك فلسفة آثمة (نظرة خاطئة) لنساء الريف تقوم على إهمال الصغار إذا اشتكوا , فتعتمد نظرتهم على أن جميع الأطفال يشكون وما هي إلا يوم وليلة ويفيق ويُبَلُّ (يُشفىَ) , وإذا اهتمت به أمه فإنها تزدري الطبيب (تحتقره) أو أنها تجهله (لا تعرفه) . وبالتالي تعتمد على آراء النساء وأشباه النساء , وهي الآراء التي أفقدت الصبي بصره قبل ذلك وأفقدت الطفلة حياتها فيما بعد. فالطفلة ظلت مريضة ومحمومة (مصابة بالحمى)عدة أيام على فراشها في ناحية من نواحي الدار دون عناية حقيقية , فما تجد إلا أمها أو أختها تدفع إليها شيئا من الطعام من حين لآخر . والحركة مستمرة في الدار التنظيف وتجهيز الفطير والخبز والاستعداد للعيد . فالصبيان في لهوهم والشباب في ثيابهم الجديدة والأب يذهب ويروح ويجلس إلى أصحابه في آخر النهار وأول الليل شبح الموت يحلق على دار الصبي ولما كان اليوم الرابع من مرض الفتاة توقف كل شيء ,وعرفت الأم أن شبح الموت قد اقترب من البيت الذي لم يعرفه من قبل فلم يدخل هذا الشبح ذلك البيت سابقا كما لم تعرف الأم لذع (إحراقه وشدته)الألم الصحيح . كانت الأم في عملها وفجأة تسمع صياح ابنتها , فتترك كل شيئا وتسرع إليها , ويشتد صياح الفتاة ساعة بعد ساعة , ويترك الجميع ما كانوا يعملونه , الصبيان يتركون لهوهم والشباب يتركون حديثهم ويترك الأب أصدقائه ويسرع الجميع إليها , ولكن لا جدوى فما زال الصياح مستمر في شدة وألم , الأم تحاول أن تعطيها ألوان الدواء والأب (الشيخ) يذهب في ضعف شديد يصلي ويدعو الله أن يزيل عن ابنته , وما زال الصياح مستمر في شدة وألم . الحزن يسيطر على الأسرة وجاء وقت العشاء , فمدت الأخت الكبرى المائدة وحضر الشيخ (الأب) والأبناء ولكن لم تمد يد إلى الطعام فتفرق الجميع ورُفعت المائدة كم وضعت , فما زال الصياح مستمر , والأم تحدق (تدقق النظر) في ابنتها حينا وترفع يدها إلى السماء حينا آخر , وقد كشفت رأسها ولم تكن من عادتها , لكن أبواب السماء كانت قد أغلقت في ذلك اليوم , فقد سبق القضاء بما لا بد منه , فالأم تتضرع , والشيخ يتلو القرآن , والغريب أنه مع كل ذلك الألم والصياح لم يفكر أحد في الأسرة كلها في إحضار الطبيب . الطفلة وسكرات الموت وتقدم الليل فإذا بالفتاة تهدأ وأخذ صوتها يخفت (يضعف ويسكن) , وسكن اضطرابها , وتخيلت الأم أن الله قد سمع دعاءها وزوجها وقد انحلت الأزمة , ولكن هذا الحل كان حلا نهائيا , فقد رحم الله هذه الفتاة من الألم وكانت آياته في ذلك هدوء الاضطراب وخفوت الصوت , وتخيلت الأم أن ابنتها ستنام , فهي في هدوء متصل , لا صوت ولا حركة وإنما هو نفس خفيف يخرج بين شفتيها ثم يتوقف فجأة , فقد فارقت الحياة . مظاهر الحزن والألم لوفاة الطفلة والكاتب لا يعرف ما المرض الذي أصاب الفتاة , ولا يعرف كيف انتهت حياتها , وقد ارتفع صوت آخر بالصياح والبكاء إنها الأم التي شعرت بجزع وهلع (حزن شديد) فقد أحست بالثكل (الموت والهلاك وفقد الحبيب والولد) وانهمرت دموعها حتى قطعت الدموع صوتها (حبسته ومنعته من الانطلاق) وكانت تلطم خديها وتصك (تضرب) صدرها بيديها أما الأب فكان لا ينطق بكلمة واحدة , وإنما تنهمر دموعه , في حزن شديد وأسرع ليتقبل العزاء من الجيران في صبر وجلد(تحمل) أما الأبناء اختلفوا فمنهم من قسا قلبه فنام ومنهم من رق قلبه فسهر الليل حزنا على أخته ثم كان يوم عيد الأضحى , وقد أقبل الأب ومعه بعض الرجال فأسرعوا وحملوا الفتاة إلى حيث مثواها الأخير , ويالها من ساعة حزن وبكاء حينما عاد الأب ظهرا بعدما وارى ابنته التراب!!! المصائب تتوالى على الأسرة ومنذ ذلك اليوم اتصلت الأواصر (الصلات) بين الأحزان وبين هذه الأسرة , فبعد شهرا واحدا مات أبو الشيخ الهرم (الكبير في السن) , وما هي إلا أشهر قليلة حتى فقدت الأم أمها الفانية (التي بلغت أرذل العمر وعمرت طويلا) , فأصبح البيت لا يعرف سوى الحداد الدائم المتصل , وأصبح الألم والحزن يقفو (يتبع) بعضه بعضا منه اللاذع (الشديد) ومنه الهادئ اليوم الحزين جاء يوم منكر حزين لم تعرف له الأسرة مثيل والذي جعل حياتها كلها حزن متصل بلا أفراح فقد قضى ذلك اليوم على الأم أن تلبس السواد طوال حياتها وألا تفرح إلا بكت إثر(بعد) ضحكها , وجعلها لا تعرف معنى الفرح ,ولا تفارق الدموع خديها , ولا تبتسم لعيد إلا وهي كارهة راغمة (مكرهة,مجبرة) . وباء الكوليرا ومرض أخيه الشاب كان هذا اليوم هو يوم 21 أغسطس سنة1902م , فقد كان الصيف حزين منكر (غير محبب للنفس بسبب أحزانه) , فقد انتشر وباء (المرض الذي انتشر وتفشى) الكوليرا الذي فتك بأهل مصر (*** على غرة) , وقضى على أسر بكاملها , ودمر مدنا وقرى كاملة , حتى أغلقت المدارس والكتاتيب وانبث (انتشر) الأطباء ورسل مصلحة الصحة (وزارة الصحة) في القرى والمدن ومعهم أدواتهم وخيامهم يحجزون فيها المصابين والمرضى . وكان من نتيجة ذلك أن الهلع (الفزع والخوف الشديد) قد أصاب الناس وهانت في أعينهم الدنيا , حتى أن سيدنا أكثر من كتابة الحجب والمخلفات (أدعية تكتب في الحجاب لمنع الشر) وبدأت كل أسرة تتحدث عما أصاب الأسر الأخرى و وتنتظر حظها من المصيبة , أما أم الصبي , فقد أصابها الهلع المستمر , تسأل نفسها ألف مرة في كل يوم بمن تنزل النازلة (المصيبة) من أبنائها وبناتها , حتى أتاها الجواب في أحب وأكثر أبنائها بر بوالديه صفات الفتى أخي الصبي (المصاب بالكوليرا ) كان للأسرة فتى في الثامنة عشر من عمره حصل على البكالوريا (الثانوية العامة) وانتسب لمدرسة الطب , فقد كان أنجب أفراد الأسرة وأذكاها وأرقها قلبا وأكثرهم برا بوالديه وأعطفهم على إخوته , وكان سعيدا مبتهجا دائما . وعندما انتشر الوباء اتصل بطبيب المدينة وكان يرافقه إلى حيث يذهب , وكان يقول بأنه يتمرن على صنعته حتى جاء يوم 20أغسطس 1902م. ما الذي حدث في ذلك اليوم ؟ عاد الفتى على عادته مبتسما سعيدا ولاطف أمه وداعبها , وقال بأن المدينة لم تصب اليوم إلا بعشرين حالة فقط , وأن الوباء بدأ في الانحسار , ولكنه شكا من بعض الغثيان (اضطراب في المعدة حتى تكاد تقيء) ثم خرج لأبيه فجلس معه وحدثه كعادته , وجاء أصدقائه فذهب معهم إلى حيث يذهبون كل ليلة عند شاطئ الإبراهيمية , ثم عاد إلى البيت وزعم لأهله أن أكل الثوم يقي من هذا المرض فأكل الجميع إلا أبيه وأمه فإنه فشل في إقناعهما بذلك . ثم دخل الجميع للنوم , فإذا بصيحة غريبة ملأت إرجاء (نواحي ) البيت و فهب (استيقظ مسرعا) لها كل من في البيت , وأسرع الجميع إلى دهليز(مدخل البيت ج / دهاليز) البيت متجهون إلى مصدر الصوت . المرض واشتداده على الفتى لقد أصيب الشاب بالمرض وقد كان يحاول جاهدا أن يكتم صوت القيء , فقد قضى ساعة أو ساعين يخرج من الحجرة على أطراف قدميه فيقيء ويعود دون أن يشعر به أحد فلما اشتد المرض لم يستطع أن يكتم صوته و فسمع الجميع هذه الحشرجة (صوت يتردد في الحلق أثناء القيء) ففزعوا لها جميعا . وهنا عرفت الأم بمن تنزل النازلة ومن أبنائها سيصاب بهذا المرض اللعين , ولم يستطع أن يفعل شيئا سوى أن يتمالك نفسه في صبر وجلد ويدخل ابنه إلى حجرته وأمر بالفصل بينه وبين إخوته أسرع فأحضر جارين من جيرانه ثم أسرع إلى الطبيب . ماذا فعلت الأم عندما علمت بمرض ابنها ؟ كانت أم الفتى مروعه (خائفة) مؤمنة جلدة , تهتم بابنها , حتى إذا توقف القيء أسرعت إلى الدهاليز فرفعت يديها ووجهها إلى السماء وفنيت في الدعاء والصلاة (اجتهدت واستغرقت في ذلك) , فإذا سمعت حشرجة ابنها أسرعت إليه فوضعت رأسه على صدرها وما زال لسانها يدعو الله أن يشفيه ويرحمه . ولم تستطع أن تحول وتفصل بين الفتى وإخوته , فقد أسرع الجميع إليه وأحاطوا به واجمين (اشتداد الحزن حتى منعهم من الكلام) وهو يداعب أمه كلما انتهى القيء , ويلعب مع صغار إخوته , حتى أتي الطبيب فوصف ما وصف من دواء ثم انصرف على أن يعود في الصباح فجلست الأم في حجرة ابنها , أما الشيخ بعدما انصرف الطبيب فقد جلس قريبا من الحجرة لا يدعو ولا يقرأ القرآن ولا يتكلم مع أحد من الذين يتحدثون إليه . احتضار الابن أتى الصبح بعد لأى (جهد شديد) , وأخذ الفتى يشكو ألما في ساقيه فيدلكها له أخواته , وهو يشكو من شدة الألم , فمرة يتحمل ومرة يصيح من شدته وألمه . وقد طلب الفتى بأن يُبرق(يرسل إليه برقيه, تلغراف) إلى أخيه الأزهري في القاهرة ليحضر وكذلك إلى عمه في أعلى الإقليم , وكان يطلب الساعة من حين لآخر , فقد كان يخشى أن يموت دون أن يراهما . وبالفعل فالموت لم يمهله حتى يراهما فقد جاء الطبيب في الصباح , وخرج وقد يئس من شفاء الصبي , وقد أسر (تحدث سرا) إلى الرجلين بأن الفتى يحتضر , فأسرع الرجلان حتى دخلا على الفتى الحجرة وأمه عنده وكانت تلك أول مرة في حياتها تظهر أمام الرجال وكان الفتى في تلك اللحظات يتلوى من شدة الألم ويواسي أمه ويقول لها بأنه ليس أفضل من النبي الذي مات وأن الجميع إلى زوال ثم يتجه إلى أبيه يريد أن يواسيه فلا يجيب عليه الشيخ . ثم ألقى نفسه على السرير وعجز عن الحركة , وأخذ يئن (يحدث صوتا من شدة المرض)أنينا يخفت(يضعف) من وقت لآخر , حتى انتهى الصوت باضطراب قليل ورعشة قوية سارت في جسمه تبعها موت الفتى . ثم أسرع الرجلان فهيآه (جهّزاه للدفن) وعصّباه وألقيا على وجهه لثاما (رباط يشد على وجه الميت) ثم خرجا للشيخ . وما هي إلا ساعة حتى تم تجهيز الفتى للدفن , وخرج به الرجال على أعناقهم لمثواه (مستقره) الأخير , وما كادوا يخرجوا به حتى كان أول من لقي النعش ذلك العم الشيخ الذي كان الفتى يتمهل الموت حتى يراه . أين كان الصبي ؟ لقد كان الصبي منزوٍ في أحد أركان الغرفة واجما كئيبا دهش يمزق الحزن قلبه , حتى أنه لا ينسى أبدا تلك الأنة التي أرسلها الفتى نحيلة ضئيلة طويلة ثم سكت بعدها للأبد . وظل في مكانه حتى أتى أحد الرجلين فجذبه بشدة , وأخذه إلى مكان بين الناس فوضعه كما يوضع الشيء بلا اهتمام . أم الفتى قامت أم الفتى , وقد انتهى صبرها ووهى جلدها (ضعف تحملها وصبرها) , فما كادت تقف حتى هوت (سقطت) فأسرع الرجلان وأسنداها , وتمالكت نفسها حتى خرجت من الغرفة , وبمجرد أن تجاوزتها حتى أطلقت شكاة (شكوى)وصيحة عالية لا يذكرها الفتى إلا انخلع قلبه من شدتها وشدة ألمها . وقد ازدحم الناس خارج الدار يواسون الشيخ , وأسرعت النساء إلى أم الفتى يواسين أمه , والشيخ وزوجته مشغولون عن كل هؤلاء بالفتى وما يعانيه من آلام المرض . استقرار الحزن في بيت الصبي , (تغير عادات الأسرة) فمن ذلك اليوم استقر الحزن العميق (الشديد) في بيت الصبي , وأصبح الفرح والابتهاج شيء يجب على الجميع من شبان وصغار أن يتجنبه . حتى أن الشيخ منذ ذلك اليوم تعود إذا جلس إلى مائدة الغداء أو العشاء أن يذكر ابنه الفتى ويبكيه ساعة أو بعض ساعة , وأمامه زوجته تعينه , والأبناء يحاولون تعزية هذين الأبوين فلا يبلغون منهما شيئا (لا يستطيعون) فيجهشون بالبكاء جميعا (يتهيئون ويهمون بالبكاء) . ومن ذلك اليوم تعودت تلك الأسرة أيضا أن تعبر النيل إلى مقر الموتى من حين لآخر , وكانت من قبل ذلك تعيب على من يذهب لزيارة القبور . وفاء الصبي لأخيه الشاب لقد تغير الفتى منذ ذلك الحين فعرف الله حق المعرفة وحرص على التقرب إلى الله تعالى بكل ألوان الطاعة , فأحيانا بالصلاة وأحيانا بالصدقة وأحيانا بتلاوة القرآن . وعرف الصبي من شيوخه أن الإنسان يحاسب على أعماله من الخامسة عشر من عمره , وهو يعلم أن أخيه من طلاب المدارس وكان مقصر بعض الشيء في وجباته الدينية , وحسب الفترة بين موت أخيه وبداية محاسبته على أعماله فوجدها ثلاثة سنوات لأن الفتى مات في الثامنة عشر من عمره , ولذلك فقد عاهد الله على أن يصلي الخمس كل يوم مرتين مرة له ومرة لأخيه , وأن يصوم شهر رمضان مرتين أيضا , له ولأخيه , وعاهد الله على أن يكتم ذلك كله عن أسرته وأن يجعل ذلك بينه وبين الله تعالى . وكان من بره بأخيه بعد موته أنه أخذ عهد على نفسه ألا يأكل من طعام أو فاكهة إلا وأطعم منه فقير أو يتيم قبل أن يأكل هو منه . ويشهد الله أن الفتى ظل على عهده أشهرا , و ما غير سيرته هذه إلا عندما ذهب إلى الأزهر وقد عرف الصبي أيضا الأرق (السهر) فكان دائما ما يذكر أخاه في سواد الليل فلا يستطيع أن ينام ويظل يقرأ سورة الإخلاص آلاف المرات ويهبها لأخيه الشاب . وكذلك أخذ ينظم شعرا على نحو ما كان يقرأه في الكتب والقصص يعبر فيه عن حزنه العميق على أخيه ولا ينهي قصيدة إلا وصلى فيها على النبي (r) ووهب هذه الصلاة أيضا لأخيه . وكذلك عرف الصبي الأحلام المروعة (المخيفة) فقد كانت علة أخيه تتمثل له كل ليلة في منامه ويقظته , واستمر هذا الحال أعواما عديدة حتى أصبح الصبي فتى ورجلا , وهو ما زال كما هو من وفاء لأخيه , يراه في المنام مرة في الأسبوع مرة واحدة على أقل تقدير . وقد تعزي (تصبر) الأخوة عن ذلك الفتى , ونسيه من نسيه من أصحابه وأترابه (أقرانه وأصدقائه ) , وكانت ذكراه لا تزور الشيخ إلا لماما (في بعض الأحيان) , ولكن لم يظل يذكره وسيظل يذكره إلى أن يموت إلا اثنين هما أمه وهذا الصبي (يقصد نفسه - طه حسين) الفصل العاشر (بُشرى صادقة) أنباء سارة للصبي لقد قال الشيخ لابنه بأنه هذه المرة سوف يذهب حقا إلى القاهرة , وسيكون مجاورا(اسم يطلق على تلاميذ الأزهر) , وستجتهد في طلب العلم , وتمنى الأب أن يهيش حتى يرى ابنه الأزهري قاضيا كبيرا , ويرى الصبي عالما من علماء الأزهر يجلس إلى عمود ويلتف حوله الطلاب في حلقة واسعة بعيدة المدى (المسافة). أثر كلام الشيخ على الصبي لم يصدق الصبي هذا الكلام ولم يكذبه , فكثيرا ما قال له أبوه هذا الكلام وكثيرا ما كان يأتي أخيه الأزهري ويسافر إلى القاهرة دون أ يأخذه معه , ويتركه ليتردد على المحكمة والكتاب ومجالس العلماء , ولذلك فضل أن ينتظر الأيام لتصدق هذا الكلام أو تكذبه . هل حققت الأيام كلام الأب ؟ نعم فما هي إلا أيام وجاء يوم الخميس ووجد الصبي نفسه يتجهز حقا لكي يسافر إلى القاهرة برفقة أخيه الأزهري , فهاهو يرى نفسه فيس المحطة ولما تشرق الشمس (قبل شروق الشمس) حزن الصبي أثناء وجوده في المحطة وجد نفسه حزينا منكّس الرأس فنهره (***ه ويزجره ويغضبه)أخوه الأكبر بلطف , وقال لا تكن بذلك الوجه الحزين حتى لا يحزن أخوك الأزهري , وقال له الشيخ يشجعه على هذه المرحلة الجديدة , مال الذي يحزنك ؟ ألست رجلا؟ ألست قادر على أن تفارق أمك ؟أم أنك تريد أن تلعب ؟ ألم يكفك هذا اللعب الطويل ؟ حقيقة الحزن يشهد الله بأن الصبي لم يكن حزينا على فراق أمه أو على عدم لعبه , ولكنه كان حزينا على ذلك الفتى الذي ينام(أخوه الذي مات) من وراء النيل , وذلك لأنه كان يذكره وكان يذكر بأنه سيكون معهما في القاهرة تلميذا في مدرسة الطب , ولكنه لم يقل شيئا ولم يظهر حزنا وإنما اكتفى بالابتسام , ولو ترك نفسه بطبيعتها لبكى كثيرا وأبكى من حوله جميعا . الصبي في القاهرة انطلق القطار ومضت ساعات ورأى صاحبنا (الصبي) نفسه في القاهرة بالفعل , وقد أقبل جماعة من المجاورين إلى أخيه يحيونه وأكلوا معه ما أتى لهم به من القرية , ثم انقضي ذلك اليوم وهو الجمعة . ثم وجد نفسه في الأزهر يصلي الجمعة , وإذا بشيخ ضخم الصوت فخم الرائيات والقافات , لا فرق بينه وبين خطيب المدينة إلا في ذلك , أما الخطبة فكما هي بنفس النعوت ونفس الحديث الذي تعود على سماعه , وإما الصلاة فكما هي ليست أطول ولا أقصر من تلك التي في المدينة الصبي والعلوم التي سيدرسها عاد الصبي خائب الظن إلى حجرة أخيه , فقد كان يظن أن هناك فرق بين المدينة والأزهر , وسأله أخوه عن دراسة التجويد والقراءات , فقال بأنه يتقن التجويد ’ولا يحتاج القراءات في شيء , ولكنه طلب أتن يدرس العلوم مثل الفقه والنحو والمنطق والتوحيد الصبي مع أخيه في درس الفقه رفض الأخ وقال له حسبك (يكفيك) يكفيك أن تدرس النحو والفقه في هذه السنة , ثم استيقظ الفتى وأخوه من النوم قبل صلاة الفجر في اليوم التالي(السبت) فقال له أخوه إننا سنذهب الآن لنصلي الفجر في مسجد كذا وسنحضر درسا ليس لك ولمنه لي , ثم عندما ينتهي أذهب بك إلى الأزهر فألتمس لك شيخا من أصحابنا تختلف إليه (تتردد عليه) وتأخذ عنه مبادئ العلم , فسأله الصبي عن هذا الدرس الذي سيحضره فقال أخوه بملء فمه هو درس في الفقه عن ( ابن عابدين على الدّرّ) . شيخ أخيه عالم جليل تعرفه الأسرة سأل الصبي أخاه عن ذلك الشيخ , فقال له أنه فلان , فلم يعجبه ذلك الشيخ , لأنه قد سمع اسمه آلاف المرات من والده الذي كان يفتخر بأنه عرف الشيخ فلان حينما كان قاضيا للإقليم ,وكان دائما ما يسأل ابنه عنه كلما حضر من القاهرة . وكانت أمه دائما ما تذكر هذا الاسم , وتذكر أنها عرفت زوجته ووصفتها بأنها فتاة هوجاء (حمقاء ج /هُوج وهوْجاوات مذكرها أهوج ) , وجلفة (جافة) فهي تتكلف زي أهل المدن وما هي من أهل المدن في شيء . علاقة الفتى الأزهري بالشيخ لقد عرف الشيخ الفتى الأزهري وجعله من أخص تلاميذه , فقد كان يحضر الفتى دروسه في المسجد , ثم يذهب ليحضر دروسه الخاصة في البيت , كما أنه يساعده في تأليف كتبه الكثيرة وكان يحاول تقليده لأبيه فيضحك الأب من ذلك مفتخرا متعجبا . وكان من أثر ذلك على الأب انه كان يخرج لأصحابه فيحدثهم عن الشيخ وقرب ابنه منه ويقص عليهم ما يسمع في شيء من الافتخار والإعجاب الشديد. الفصل الحادي العاشر (بين أب وابنته) اتهم الأب ابنته بالسذاجة والطيبة , لأنها في التاسعة من عمرها والأطفال في ذلك السن يعجبون بآبائه وأمهاتهم إعجابا شديدا , فيتخذون منهم مثلا عليا في الحياة , ويتأثرون(يقلدون ويقتدون) بهم في القول والفعل , بل إن الأطفال يفخرون بهم أمام أقرانهم (مفرد قرن وهو المثيل والنظير) ,ويتخيلون أنهم في طفولتهم كانوا كما هم الآن مثلا عليا وأسوة (قدوة) حسنة نظرة الفتاة إلى أبيها ترى أنه خير الرجال وأكرمهم , كما كان خير الأطفال وأكرمهم عندما كان صغيرا , فهي تظن أتنه كان يعيش في صغره كما تعيش هي الآن في رفاهية ونعيم , ولم تعلم أنه كان يبذل كثير من الجهد (المشقة) ما يطيق (يستطيع), و مالا يطيق ,حتى بجبنها الحياة في مثل ظروفه عندما كان في مثل سنها . الأب يخفي الماضي المؤلم وكثيرا من فترات حياته عن ابنته لقد حكا لها كثيرا من أطوار (مراحل مفرد طور ) حياته ولكنه أخفى عنها مراحل كثيرة أيضا , و ما ذلك إلا لأنه يخشى أن يخيب ظنها وأمالها في أبيها , كما كان يخشى أن يفتح عليها بابا من الحزن والألم , وهو يعتبره حراما أن يفتح عليها مثل ذلك الباب الحزين في مثل سنها ويخشى أن يملكها الإشفاق وتأخذها الرأفة بحال أبيها , فتبكي بكاء شديدا أو أن تضحك من ذلك الحديث قاسية لاهية دون مراعاة له , فهو يعرف طبيعة الأطفال الذين يميلون للهو والعبث , وهو لا يحب أن يضحك طفل من أبيه . ولذلك آثر (فضل) أن يترك تلك المراحل المؤلمة حتى تتقدم بها السن (تكبر) وهنا تستطيع أن تقرأ وتفهم ما كان من معاناته وآلامه في تلك الفترات , وتستطيع أن تعرف مدى ما بذله من جهد من أجل إسعادها وتعرف مدى حبه الشديد لها . بكاء الفتاة عند سماعها لقصة ( أوديب ملكا ) حكى الأب لابنته قصة أوديب ملكا , ذلك الملك الذي فقأ عينيه وخرج من قصره وسار هائما على وجهه في الأرض لا يعرف كيف يسير أو كيف يهتدي , حتى أقبلت عليه ابنته (أنتيجون) وأخذت بيده فقادته وأرشدته . وهنا تغيرت الفتاة وأخذت جبهتها السمحة تربد (تتغير) شيئا فشيئا حتى أجهشت (همت)بالبكاء , ثم انكبت (أقبلت)الفتاة على أبيها لثما (تقبيلا) وتقبيلا , فأسرعت أمها إليها فأخذتها وهدأت من روعك (فزعك) , وفهمت الأم والأب سبب البكاء , فقد تذكرت الفتاة أن (أوديب) أصبح أعمى مثل أبيها لا يستطيع أن يرى أو يتحرك إلا بمساعدة الآخرين . الأب يحكي لأبنته بعض من مراحل حياته حكى لها عن فترة الثالثة عشر عندما أرسله أبوه إلى الأزهر ليختلف (يتردد) على العلماء والدروس في الأزهر . وصف نفسه في تلك الفترة كان نحيفا شاحب اللون , مهمل الزي , أقرب للفقر من الغني , تقتحمه العيون(تحتقره) فقد كانت عباءته قذرة , وطاقيته البيضاء قد استحال(تحول) لونها إلى السواد القاتم , وكان قميصه الذي يبين (يظهر) تحت عباءته قد اتخذ ألوانا متعددة بسبب كثرة ما سقط عليه من طعام , ونعليه (حذائه) باليين (قديمين مرقعين) , من أجل ذلك كانت تحتقره عيون كل من يراه . ولكن تلك العيون كانت أيضا تبتسم له حين ترى تلك الحالة الرثة (البالية الحقيرة) , وذلك البصر المكفوف , فهو مكفوف البصر واضح الجبين مبتسم الثغر(الفم ج ثغور) مسرع الخطى مع قائده إلى الأزهر بلا تردد , كما لا تظهر على وجهه تلك الظلمة التي تظهر على وجوه المكفوفين , وكان في الأزهر مصغيا (مستمع باهتمام) مبتسما , لا يظهر عليه الألم أو التبرم (الضيق والضجر) , ولا يظهر عليه اللهو رغم أن من حوله من صبيان كانوا يلهون ويلعبون من حوله أو على الأقل يشرئبون إليه (يتطلعون ويسعون ) . مظاهر حرمان الصبي في الأزهر لقد حكى لها أنه كان يقضى اليوم والأسبوع والشهر والسنة وهو لا يأكل إلا لونا (نوعا)واحدا من الطعام , دون تبرم(ضيق أو ضجر) أو تجلد (متحملا) , بل كان راضيا بحاله , فكان يأكله في الصباح وفي المساء , ولو حدث أن عاشت تلك الفتاة ما عاشه هو ولو يوما واحدا لأشفقت عليها أمها وأسرعت إليها بكوب الماء المعدني واستدعت الطبيب على الفور . طعام الصبي أثناء دراسته بالأزهر : لقد كان يعيش الصبي على خبز الأزهر , وما أدراك ما خبز الأزهر , لقد كان الأزهريون يجدون فيه من ضروب (أنواع) القش والحصى والحشرات ما لا يعد ولا يحصى . فقد كان لا يأكل مع هذا الخبز إلا العسل الأسود , وهي لا تعرف العسل الأسود ودعا بألا تعرفه , ورغم ذلك كان يعيش مبتسما , ورغم أنه يحيا محروما فلم يظهر عليه هذا الحرمان ,ولعل السبب في ذلك هو رغبته في الوصل إلى ما وصل إليه أخوه الشاب الأزهري وتحصيل العلم , وتحقيق أمنية والده بأن يكون عالما كبيرا له حلقه واسعة في الأزهر . هل عرف أبواه بما كان يحدث له في القاهرة ؟ بالطبع لا , فقد كان كل عام إذا سأله أبواه عن الطعام والشراب , قص عليهما الأكاذيب , كما تعود كل عام , فيتحدث عن رغد العيش (نعيم الحياة) , ولم يدفعه إلى ذلك حبه للكذب , بل رفقه بوالديه وإشفاقا على أخيه الأزهري الذي كان يستأثر بقليل من اللبن من دونه . السر في تغير حياته كيف أصبح طه حسين على ما هو عليه من شكل مقبول وحياة كريمة , وكيف استطاع أن يثير في نفوس كثير من الناس حبه وإكرامه وتقديره وتشجيعه ؟ , إنه (طه حسين) لا يستطيع أن يجيب , بل إن هناك شخص آخر يمكنه ذلك , ذلك الشخص هو أمها الملاك . بم وصف طه حسين زوجته ؟ بأنها ملاك قائم ساهر على سرير ابنته يحنو عليها, لتستقبل الليل والنهار في سعادة ومرح وابتهاج , وهذا الملاك هو ذاته الذي حنا على طه حسين من قبل , فبدل بؤسه وحرمانه إلى أملا ونعيم , وغير فقره إلى غنى وشقائه إلى سعادة . ولذلك فهو وابنته مدينان لهذه الأم الملاك بكل ما يعيشان فيه من نعيم , ولذلك دعا ابنته للوفاء لأمها بهذا الدين العظيم . الكتاب الثاني الفصـل الأول ( من البيت إلى الأزهر ) الطريق إلى بيت الصبي كان الصبي يسكن بيتا غريبا, ويسلك إليه طريقا غريبا أيضا , فهو يميل إلى اليمين إذا عاد من الأزهر, فيدخل من باب يفتح في النهار ويغلق في الليل, وتفتح في وسطه فجوة(فتحة) ضيقة بعد صلاة العشاء. وإذا تجاوز هذا الباب يشعر عن يمينه بحرٍّ خفيف يبلغ (يصل) إلى صفحة (ناحية) وجهه اليمنى مصحوبا بدخان يصل إلى خياشيمه (أقصى أنفه/م خيشوم). وأحس من نفس المكان على يمينه بصوت غريب يثير العجب في نفسه كلما سمعه, ولكنه ينكره(يجهله) ويستحي (يخجل) أن يسأل عنه, ولعل السبب في ذلك هو فقده لبصره وانشغال قائده باختيار المناطق المستقرة في الطريق ليسهل عليه العبور فاستحى أن يسأله, ويبدو أنه شعر بأن مصدر هذا الصوت معلوم للجميع فاستحى أن يظهر جهله به وعجزه عن معرفة ماهيته, ولكنه بعد أيام علم من أحاديث الناس بأن ذلك الصوت هو صوت قرقرة الشيشة, التي يدخنها تجار الحي ويُعدها لهم صاحب المقهى, وعلم أيضا أنها سبب ذلك الحر والدخان الذي كان يشعر بهما إذا دخل من باب الحي . ثم يمضي الفتى في حذر شديد فالأرض لم تكن مستقرة, لأن صاحب المقهى كان يكثر من صب الماء أمامه, ثم يتجه إلى طريق آخر مكشوف ولكنها ضيقة وتنبعث منها روائح غريبة تكون خفيفة أول النهار وتكون شديدة عنيفة حينما يتقدم النهار وتشتد حرارة الشمس وقلما (قليل ونادرا) كان الطريق يستقيم أمامه فقائده كان ينحرف (يميل) به ذات اليمين وذات الشمال لتفادي العقبات التي أمامه, كما كان يصف له الأبنية المرصوصة على جانبي الطريق, والصبي مازال يشم تلك الروائح الكريهة وكأنها تتجمع فوق رأسه كالسحاب المتراكم (المجتمع بعضه إلى بعض). أصوات في الطريق وكان يسمع في الطريق إلى البيت كثيرا من الأصوات المختلفة, فمرة يسمع أصوات النساء يتخاصمن, وأوات الرجال يتنادون في ***, ويتحدثون في رفق, وأصوات الأثقال تحط وتُعتل (تُحمل), وكذلك يسمع صوت السقا وهو يبيع الماء, وصوت الحوذي (سائق العربة) وهو يزجر (يصيح بشدة) حماره أو فرسه, وكذلك صوت العربة تئز عجلاتها أزا (صوت ناتج عن شدة الحركة والغليان مصدرها أزا وأزيزا) , وربما شق هذه الأصوات صوت نهيق الحمار أو صهيل الفرس . حال الفتي في الطريق للبيت كان الفتى كلما مضى إلى البيت فإنه يسير مشرد الذهن (مفرق, وغير منتبه), وقد أغفل (نسي) كل شيء حوله, ولكنه سرعان ما ينتبه ويعود لرشده إذا بلغ (وصل) إلى مكان بعينه حيث يسمع فيه أحاديث مختلطة, تأتيه من باب مفتوح عن شماله, وهنا يعرف أنه سينحرف بعد خطوة أو خطوتين إلى الشمال ليصعد السلم الذي ينتهي به إلى مسكنه . كيف وصف الصبي السلم ؟ ما المتاعب التي يواجهها الفتي في الصعود والنزول؟ كان السلم متوسط السعة, فلا هو ضيق ولا شديد السعة, وكانت درجاته مبنية من الحجر, ولكن بسبب كثرة الصعود والنزول عليه فقد أهمله السكان فلم يغسله أحد ولم ينظفه إنسان , فتراكم عليه التراب الكثيف, حتى تراكم على بعضه فاختفى الحجر وتخيل كل من صعد عليه بأنه يصعد أو ينزل على سلم من الطين . عادة الصبي التي أهملها في مسكنه لقد كان الصبي كلفا (مولعا ومغرما ومحبا) بإحصاء الدرج كلما صعد إلى سلم أو هبط منه, ولكنه في هذا البيت أقام ما شاء الله له دون أن يفكر ولو مرة واحدة في إحصاء درجاته, ويبدو أن ذلك بسبب ما يعانيه من قذارة وروائح كريهة تفوح على طول السلم, بالإضافة إلى معاناته الشديدة في الطريق, فلا يجد متسعا في صدره ليحصى درجات السلم. الطابق الأول علم الفتى بعدما صعد السلم مرتين أو مرات أنه إذا صعد درجات قليلة منه, فلا بد أن ينحرف قليلا ليكمل الصعود, ويترك عن يمينه فجوة فلا يلج (يدخل مصدرها ولوج) إليها مطلقا لأنه يعلم أنها تؤدي إلى الطابق الأول من البيت وهو إنما يسكن في الطابق الثاني. لم يكن يسكن هذا الطابق طلاب العلم, وإنما كان يسكنه أخلاط (م/ خَلط وهو الشيء يخلط مع أشياء أخرى, والمراد أنواع متعددة) من الباعة والعمال. الطابق الثاني لا يكاد الفتى يبلغ الطابق الثاني حتى تجد نفسه المكدودة (المتعبة والمرهقة) شيئا من الراحة, لما وجده من هواء طلق يتيح له التنفس بعد أن كاد يختنق من الروائح ملأت هذا السلم القذر . كما كان يشعر بالراحة عندما يسمع صوت الببغاء الذي لا ينقطع, كأنه يشكوا إلى الناس من صاحبه الفارسي الذي يقسو عليه ويحبسه في القفص ليبيعه في يوم من الأيام لمن يدفع ثمنه ليسجنها هو الأخر في قفص بغيض أخر, فإذا ما قبض (استلم) ثمنها نقدا (× آجلا) اشترى بدلها لتعاني نفس معاناتها من سجن في قفص بغيض وانتظار لتنتقل من يد لأخرى, وينتقل معها دعاؤها الحزين الذي يبهج الناس ويفرحهم في كل مكان تكون فيه. هناك علاقة بين الببغاء والفتى, فما هي ؟ وأثر صوت الببغاء على الفتى يرتبط الفتى بالببغاء في أن كلاهما سجين, فالببغاء سجين في القفص لدى صاحبه الفارسي , والفتى سجين في الظلام, ولا مفر لهما من هذا السجن الذي قُدر لهما. لم يكن يسكن الببغاء مع الفتى ولكنه كان يسكن مع صاحبه في بيت مجاور لبيت الفتى . وكان له أثر كبير في حياة الصبي, فقد كان يشعره بالراحة لأنه وجد من يشاركه الحزن بسبب سجنه, وكذلك كان الفتى إذا صعد أعلى السلم وسمع صوت الببغاء عرف انه سينحرف إلى اليمين ليدخل طريقا ضيقا ويمر من أمام بيتين يسكنهما رجلان من فارس, أحدهما شابا والآخر تقدمت به السن, ويتصف أحدهما بالرقة والانبساط, والآخر بالانقباض (الاعتزال والانطواء)عن الناس والغلظة (القسوة والجفاء). مكونات بيت الصبي يدخل الصبي بيته, الذي يتكون من غرفتين؛ الأولى تشبه الدهليز (المدخل من الباب والدار) تجمعت فيها المرافق المادية مثل الأطعمة والملابس, وتمتد هذه الغرفة لتنتهي بأخرى غير مستقيمة تجمعت فيها المرافق العقلية فكانت غرفة الدرس والحديث والسمر والقراءة والكتب ويكون فيها النوم والطعام, وبها بعض أدوات الشاي وبعض رقائق الطعام. مجلس الصبي لم يختلف مجلس الصبي في هذه الغرفة عن أي غرفة دخلها قبل ذلك فبمجرد دخوله الغرفة يميل شمالا ومشي خطوة أو خطوتين فيجد حصيرا مبسوطا على الأرض وعليه فراش قديم ولكنه قيم (جيد), ويسند ظهره إلى الحائط إثناء جلوسه, وعليها يكون مجلسه بالنهار ومنامه بالليل حيث يُلقى إليه وسادة (ما يوضع تحت الرأس /ج/ وسائد وسادات) يضع عليها رأسه ولحافا (غطاء من القطن ج/ لُحف) يلتف به, وكان يحاذي (يوازي) مجلسه مجلس أخيه الشيخ. مجلس أخيه الشيخ كان يوازي مجلس الصبي مجلس أخيه الشاب, وكان أرقى من مجلسه قليلا أو كثيرا, فكان يتكون من بساط على الأرض وعليه وألقي عليه بساط لا بأس به, ثم ألقي على البساط فراش آخر من اللُّبد (بساط من الصوف /ج/ ألباد ولبود) ثم ألقي على اللبد حشية (فراش محشو) طويلة عريضة من القطن ثم من فوق هذه الحشية ملاءة. وعلى هذا الفراش كان يجلس الأخ الشيخ وأصفيائه ( الأصدقاء المخلصون /م/ صفي) وكانوا يسندون ظهورهم إلى وسائد قد رص على الحشية رصا, فإذا جاء الليل استحال هذا المجلس إلى سرير ينام عليه الفتى الشيخ . الفصل الثاني حب الصبي للأزهر عاش الصبي أثاء دراسته بالأزهر في القاهرة ثلاثة أطوار اختلف شعوره نحوها بين الراحة والأمان والاضطراب, وهذه الأطوار هي: الطور الأول: حياته في غرفته. (حيث الوحدة والغربة والشعور بالوحشة.) الطور الثاني: الطريق بين البيت والأزهر. (وفيه الشعور بالاضطراب والتشتت والتعب) الطور الثالث: وهو أحب الأطوار إليه وهو وجوده في الأزهر للدراسة والعلم. (حيث المتعة والأمان والغرق في بحر العلم الذي ليس له حد.) الطور الأول: حياة الصبي في الغرفة هنا يعيش الصبي في غرفته ويشعر بالغربة القاسية على قلبه, وذلك لأنه لا يعرفها ولا يعرف ما تشتمل عليه (تحتوي) من أثاث ومتاع إلا القليل القريب منه فقط. مما جعله يشعر طوال فترة إقامته فيها بأنه غريب عن الغرفة غريب عن الناس والأشياء, مما جعل صدره ضيقا بهذه الغرفة وبكل ما فيها حتى الهواء الذي يتنفسه شعر بأنه هواء ثقيل لا راحة فيه ولا حياة. ولعل السبب في ذلك كله أن هذه الغرفة تختلف عن بيته الريفي الذي كان يعلم كل غرفاته وحجراته بما تحويه من أثاث ومتاع وأشياء. الطور الثاني: الطريق من البيت للأزهر عاش في هذا الطور من حياته مفرق النفس (موزع النفس أي مشتت) يسيطر عليه شعور بالاضطراب والحيرة الباهظة ( الشاقة) التي تفسد عليه أمره وحياته, فتدفعه إلى التقدم للأمام في طريقه المادية وطريقه المعنوية بلا هدى. فقد كان مصروفا عن نفسه ( مشغولا) بتلك الأصوات العالية والحركات المضطربة المختلفة من حوله, بل كان مستخذيا في نفسه ( يشعر بالخذي والمعرة - خجلا) من اضطراب خطاه (خطواته – م/خطوة) وعجزة عن مجاراة مشيته الهادئة الحائرة بمشية صاحبه المهتدية العارمة (الشديدة السريعة) العنيفة. ما المقصود بالطريقة المادية والطريق المعنوية؟ الطريق المادية هي الطريق الذي يمشي فيه الكاتب من البيت للأزهر والعكس. أما الطريق المعنوية فهي أحواله النفسية ومشاعره. الطور الثالث: وجوده في الأزهر دلل على حب الصبي لطور حياته في الأزهر؟ هو أحب أطوار حياته في القاهرة إليه, فقد كان يجد فيه الراحة والأمان والاستقرار, بل كان النسيم الذي يترقرق ( ينساب ويتحرك برقة) في صحن الأزهر ويحيي وجهه ( يوجه التحية) كل صباح بعد الفجر يشبه قبلات أمه التي كانت تطبعها على جبينه في الريف من حين لآخر حينما يمتعها بقصة من تلك القصص التي يقرأها أثناء عبثه(لهوه) في الكتب أو حينما يقرأ عليها آيات القرآن الكريم, أو حينما يخرج شاحبا (متغير اللون) من خلوته التي كان يقرأ فيها عدية يس ويتوسل بها إلي الله ليقضى حاجته وأسرته. (عدية يس هي تلاوة سورة يس عدة مرات). أثر القبلات والنسيم على الصبي لقد كانت قبلات أمه على خديه تنعش قلبه وتشيع في نفسه الأمر والأمن والحنان, وهو ما كان يتذكره ويشعر به كلما أحس بذلك النسيم على خديه حيث يرده إلى الراحة بعد التعب وإلى الهدوء بعد الاضطراب وإلى الابتسام بعد العبوس (التجهم). ما الذي قنع به الصبي من الأزهر؟ مع الراحة الكبيرة والأمان الذي كان يشعر به الصبي في الأزهر فإنه لم يعلم عن الأزهر شيئا وترتيبه وشكله بل كان يكفيه أن تمس قدماه الحافيتين أرض الأزهر وأن يلمس وجهه ذلك النسيم المنعش وأن يحس أن الأزهر نائما هادئا يريد أن يستيقظ وينشط وتعود إليه نفسه من جديد. مشاعر الصبي في الأزهر؟ أثناء وجود الصبي في الأزهر كان يشعر أنه في وطنه بين أهله وأصحابه فلا يشعر بالغربة أو الألم بل كان يشتق قلبه لأن يتلقى شيئا لم يعرفه من قل ولكنه أحبه لكثرة ما سمع اسمه من أهله وأصحابه وأراد أن يعرف ما وراء هذا الاسم ألا وهو العلم. العلم بحر واسع لا ساحل له لقد سيطر على الصبي شعور غريبا قويا بأن هذا العلم لا حد له, وأن الناس قد ينفقوا (يقضوا ويُفنوا) حياتهم كلها ولا يبلغون (يصلون ويحصلون)من هذا العلم إلا أيسره (أقله) وكان يريد أن يعيش حياته كلها يأخذ من هذا العلم ما استطاع حتى ولو كان ما يحصله طوال حياته هو أقل القليل, فقد سمع أباه وأصحابه يتكلمون عن هذا العلم بأنه بحر واسع لا ساحل له., وهو لم يأخذ هذه المقولة على أنها تشبيه أو تجوز (تعبير غير حقيقي) بل أخذها على أنها حقيقة العلم التي لا جدال فيها. وقد جاء إلى القاهر ليلقي بنفسه في هذا البحر فيشرب منه ما شاء الله ثم يموت فيه غرقا, فالموت غرقا في بحر اعلم هو أحب موت إلى الرجل النبيل (الشريف العظيم). أثر هذه المقولة على الصبي كلما فكر الصبي في هذه المقولة ومعناها امتلأت نفسه بها حتى تمتلك هذه الفكرة كيانه, وينسى بها غرفته الموحشة والطريق المضطرب الملتوي, بل وصل الأمر لأن ينسى الريف بما فيه من لذة ومتعة وجمال, وشعر بأنه لم يخطئ ولم يغالي (يبالغ) عندما تعلق بالأزهر واشتاق إليه, وأصبح يضيق ( سأم ومل) بالإقامة في الريف . الأزهر بعد صلاة الفجر كان الصبي إذا دخل صحن الأزهر فجرا وصعد درجاته الأولى اليسيرة (القليلة) شعر بقلبه قد امتلأ خشوعا وخضوعا وامتلأت نفسه إكبارا وإجلالا لهذا المكان الطاهر. وكان يخفف من سرعته وخطاه(خطواته م/خطوة) وهو يمشي على الحصر المبسوطة (المفروشة × المطوية) البالية (الرثة) التي تنفرج في بعض الأحيان عن أرض الأزهر الطاهرة فتسمح للمصلين والساعين أن يمسوا أرضه الطاهرة كأنها تريد لهم الحصول على شيء من بركة هذا المكان الطاهر. أحب لحظات الصبي في الأزهر وكانت تلك اللحظات هي أحب لحظاته في الأزهر حيث ينفتل المصلون (ينصرف) من صلاة الفجر ومازال النعاس في عيونهم ليتحلقوا (يجلسون في حلقة) حول أعمدة المسجد منتظرين الشيوخ والأساتذة الذين يسمعون منهم درس الفقه أو درس الحديث أو درس الأصول أو.... فقد كان الأزهر في هذه اللحظة هادئا لا يعقد (لا يظهر) فيه هذا الدوي (الصوت العالي) الذي يملأه منذ طلوع الشمس حتى العشاء. ماذا كان يسمع الفتى في هذه اللحظات؟ لم يكن يسمع هذا الصوت العالي الغريب الذي يملأ الأزهر منذ طلوع الشمس حتى صلاة العشاء وإنما كان يسمع الأحاديث يتهامس بها أصحابها أو فتى يقرأ القرآن في صوت هادئ معتدل أو مصلٍ لم يدرك الجماعة أو أدركها ولكنه يتنفل (يصلي النافلة وهي ما زاد عن الفرض والأصل أنه لا صلاة لنافلة بعد الفجر حتى يأتي وقت الضحى بعد شروق الشمس بحوالي ثلث ساعة إلا من فاتته السنة القبلية فإنه يصليها بعد الفجر أو بعد الضحا) وقد يسمع شيخا أو أستاذا يبدأ درسه بصوت فاتر ( فيه ضعف مستحسن) حلو منكسر لم يطعم شيئا يبعث في جسمه النشاط والقوة وتكون البداية عادة في صوت منكسر بقوله " بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, قال المؤلف رحمه الله تعالي ونفعنا بعلمه آمين......." أثر صوت الشيخ أو الأستاذ على الطلاب يستمع الطلاب للشيخ في هدوء وفتور (سكون) يشبهان هدوء الشيخ وفتوره. موازنة الصبي بين حال الشيوخ والطلاب في الفجر وبين حالهم في الظهر كثيرا ما كان الفتى يوازن بين أصوات الشيوخ حين ينطقون بصيغة بداية الدرس في وقت الفجر وأصواتهم وهم ينطقون بها في درس الظهر, فكانت في الفجر فاترة حلوة مازال أثر النوم يظهر فيها, أما في الظهر فقد أصواتهم قوية عنيفة ممتلئة فيها بعض من كسل وتظهر امتلاء البطون بطعام الأزهريين من مُخلَلات وفول وأشباه ذلك من ألوان الطعام وكان في صوت الفجر دعاء للمؤلفين بالرحمة يشبه الاستعطاف, وفي أصوات الظهر هجوم عنيف يكاد يكون عدوانا. وكانت هذه الموازنة دائما ما تعجب الفتى وتثير في نفسه متاعا (سرورا) ولذة كبيرة. أين يـجلس الصبي ليتلقى درسه؟ كان إذا دخل إلى الأزهر فإنه يمشي مع صاحبه حتى يرقى درجتين يبتدئ بهما الإيوان (الساحة الداخلية للأزهر) ثم يجلسه بجوار عمود من أعمدة الأزهر على كرسي مربوط بسلسلة غليظة, ويطلب منه الجلوس والانتظار ليسمع درس الحديث, ويطلب منه الانتظار حتى ينهي هو – صاحبه- درسه ثم يعود ليأخذه. درس أصول الفقه لصاحب الفتى وقائده كان درس صاحبه في أصول الفقه, وكان أستاذه هو الشيخ راضي –رحمه الله- ويدرس له وللطلاب كتاب التحرير للكمال بن همام. أثر درس أصول الفقه لصاحب الصبي على الصبي كان الصبي كلما سمع هذه الألفاظ أصول الفقه, الشيخ راضي, التحرير, الكمال بن همام يمتلئ قلبه ونفسه إجلالا ورهبا(خوفا) وشوقا لهذا العلم, ثم يتساءل في نفسه, من يكون هذا الشيخ راضي؟ وما هذا العلم المسمى أصول الفقه؟ وما معنى هذه الكلمة التحرير؟ وما أعظم هذين الاسمين الكمال بن همام! ثم يتذكر بأن العلم بحر لا ساحل له, ويظن بأن الخير كله في أن يغرق الرجل في هذا العلم حتى يموت. مظاهر إجلال الصبي لعلم أصول الفقه وشوقه له وكان يزداد يوما بعد يوم إجلالا وشوقا لهذا العلم خصوصا أنه يسمع أخاه وأصحابه يطالعون (يقرءون) الدرس ويقولون فيه كلاما غريبا ولكنه حلو في نفسه. بل كان من شدة شوقه لهذا العلم يتمنى أن تتقدم به السن ست أو سبع سنوات ليستطيع أن يفهم هذا العم ويحل ألغازه (ما يعمى من الكلام) ويفك رموزه ويتصرف فيه مثل هؤلاء الشبان البارعون ولكنه الآن مضطر أن يسمع ولا يفهم. جملة تؤرق تفكير الصبي لقد كان كثيرا ما يقلب الجمل التي يسمعها من أخيه وأصحابه في نفسه لعله يفهم ما ترمي إليه فلا يصل لشيء, حتى جاء يوم سمع منهم كلمة (عبارة) أرقته ونغصت (كدرت× صفّت) عليه حياته ولياليه, وأصبحت تدور في عقله كما يدور هذيان الحمى( اضطراب عقلي مؤقت) في رأس المريض, وصرفته عن بعض دروسه, حتى أنه من شدة التفكير في هذه الكلمة بعد أن كان يفهم دروسه الأولى في غير مشقة, أصبح ينصرف عن حديث الشيخ إلى التفكير فيما سمع من هؤلاء الشبان, حتى أنها أيقظته معظم ليله. وهذه الكلمة هي "والحق هدم الهدم" وبدأ يفكر ما معنى هذه الكلام؟ وكيف ينهدم الهدم (الباطل) وما شكل هذا الهدم؟ وكيف يكون الهدم حقا؟ وظل كذلك لم يصرفه عنها إلا إشكال (مسألة علمية تحتاج فهم عميق) من إشكالات الكفراوي ( عنوان كتاب في النحو مسمى باسم مؤلفه), وعلم يقينا بأن هذا العلم حقا بحر لا ساحل له. المعنى المقصود من عبارة " الحق هدم الهدم " هو أن إزالة الباطل حق. العنعنة ورواية الحديث كان الصبي في درس الحديث يسمع للشيخ ويفهم منه في وضوح وجلاء, ولا ينكر من درسه إلا تلك الأسماء الطويلة التي تسقط على الطلاب يتبع بعضها بعضا تسبقها كلمة "حدثنا" ويفصل بينها كلمة "عن". ولم يكن يفهم معاني هذه الأسماء ولا أهمية تتابعها ولهذه العنعنة المملة, ولكما بدأ الشيخ في روايته شعر بالملل وتمنى أن تنقطع هذه العنعنة الطويلة وأن يصل إلى الحديث مباشرة, فإذا حدث ذلك انتبه الصبي فسمعه وحفظه وفهمه, وأعرض عن تفسير الشيخ الذي كان يذكره بما كان يسمع في الريف من أمام المسجد ومن الشيخ الذي كان يعلمه أوليات (مبادئ وأساسيات /م أولى) الفقه. استيقاظ الأزهر وضوضاء من فيه وأثناء درس الصبي كان الأزهر يستيقظ شيئا فشيئا, وترتفع أصوات الشيوخ والطلاب إلى حد ال*** أحيانا, والشيوخ يرفعون أصواتهم لتصل إلى آذان الطلاب ثم يضطرون إلى نطق تلك الصيغة التي يؤذن (تعلم وتخبر ) بانتهاء الدرس وهي "والله أعلم" وبعد انتهاء درس الفجر ينتظر الطلاب درس الصباح وهو درس الفقه من الشيخ نفسه أو من غيره, وهنا يأتي صاحب الصبي ويأخذه بيده في غير كلام وينقله إلى مجلس آخر في غير رفق كأنه متاع ينقل ثم ينصرف عنه. وقد فهم الصبي أنه قد انتقل إلى درس الفقه وانه سيسمع وسيفرغ منه (ينتهي) وسينصرف الشيخ ويتفرق الطلاب ويبقى هو في مكانه لا يتحول عنه (ينصرف) حتى يأتي إليه صاحبه من سيدنا الحسين حيث يتلقى درسه في الفقه الذي كان يلقيه عليه الشيخ بخيت رحمه الله . وقد كان الشيخ بخيت يحب الإطالة كما أن طلابه يلحون عليه في الجدال فلم يكن ينقطع (ينتهي) الدرس إلا مع الضحى. عودة الصبي إلى بيته فإذا عاد إلي صاحبه أخذه في غير كلام بيده ومضى به يخرجه من الأزهر حتى يرده إلى طوره الثاني فيقطع به الطريق إلى طوره الأول حيث غرفته التي يتهيأ معها لاستقبال حظه ( نصيبه) من عذاب الوحدة والغربة الفصل الثالث وحدة الصبي في غرفته لقد كانت الوحدة هي السبب الأول وراء عذاب الصبي في تلك الغرفة التي كرهها, فقد كان أخوه دائم التنقل وأصحابه بين غرفات الرَبع ولا يستقرون في مكان واحد ولا يجد الصبي أحد يسليه حتى يأتي أخوه آخر الأمر ليلا. مجلس أخي الصبي وأصحابه لقد كان هذا المجلس دائم التنقل غير مستقر, فهم في الصباح في غرفة والمساء في غرفة أخرى وعد أول الليل في ثالثة وهكذا, وكان أخو الصبي يتركه في الغرفة بعد درس الظهر ويذهب إلى أصحابه في إحدى الغرفات فينفقون (يقضون) وقتهم في الدعابة والراحة والتندر ( السخرية × التوقير) بالشيوخ والطلاب وتتعالى ضحكاتهم فتملأ الربع كله حتى تصل إلى أذن الصبي الجاثم ( المستقر الملام لمكانه) فتبتسم لها شفتاه ويحزن لها قلبه. وإنما كان حزنه وهمه بسبب أنه لا يسمع منهم في ذلك الوقت ما كان يسمعه في الضحى من فكاهة ونوادر, على الرغم أن مشاركته لهم في الضحى كانت مشاركة صامتة بابتسامة نحيلة لا تقارن بهذا الضحك العريض. لماذا ملأت الحسرة قلب الصبي؟ (كيف كان يقضي أخو الصبي وأصحابه وقت العصر؟) وقد امتلأ قلبه حسرة وحزنا لأنه يعلم أن أخاه وأصحابه سيجتمعون حول شاي العصر يتندرون بالشيوخ والطلاب ويضحكون إذا ركنوا للراحة ثم سيستأنفون (يبدءون) حديثهم الهادئ المنتظم ثم يستعيدون بعض من درس الظهر مجادلين مناظرين, ثم يعيدون درس المساء للشيخ (محمد عبده) في كتاب (دلائل الإعجاز) والذي يلقيه في بعض أيام الأسبوع, وفي البعض الآخر يلقي عليهم تفسير القرآن الكريم. وكانوا يتحدثون حول الأستاذ الشيخ ونوادره (م/ نادرة وهي الطرفة من القول) وما يحفظون من رأيه في الشيوخ وآراء الشيوخ فيه, وما يحفظون من أجوبته التي يرد بها على السائلين له والمعترضين عليه, فيفحمهم ويضحك منهم زملاءهم الطلاب. ما أثر حديث العصر على الصبي؟ ولماذا حرم من هذه المتعة؟ لقد أصبح الصبي محبا لهذا الحديث كلفا (محبا مولعا مغرما) متشوقا إلى هذا الحديث, وأصبح محبا للشاي يشعر بالحاجة إلى كوب أو كوبين منه, فقد أصبح محبا له ويتمنى شربه صباحا ومساءا ولا يمله حتى يستكمل منه النصاب ( القدْر). ولكنه محروم من هذا كله, لأن الطلاب يتناظرون ويدرسون ويشربون الشاي في غرفة أخرى في الربع, وهو لا يستطيع أن يشاركهم في شيء من هذا كله بسبب عماه وصغر سنه, كما أنه لا يستطيع أن يطلب من أخيه الشاب الإذن بالحضور مجلسه ليستمتع بلذة الجسم (الشاي) ولذة العقل (نوادر الشيوخ ودروس الطلاب). الصبي يستحي أن يطلب من أخيه مرافقته لم يستطع الصبي أن يطلب من أخيه مرافقته في مجلسه مع أصدقائه لأن أبغض شيء إليه أن يطلب إلى أحد شيئا ما, كما أنه خشي أن يرده أخوه برفق أو ***, ففضل أن ملك نفسه ويكتم حاجة عقله للعلم, وأذنه للاستماع وجسمه للشاي. ما الذي يزيد من ألم الصبي ويضعف مقاومته؟ لقد كان يقاوم الصبي حاجاته المتعددة ( جسمية وعقلية وأذنه) ويكتم في نفسه رغبته الشديدة في هذا كله, ولكن الباب الذي تركه أخوه مفتوحا كان يوصل إليه الأصوات البعيدة مما يجعله يضعف ويشعر بالرغبة فيما يحب, والألم لعدم قدرته تحقيق ذلك. أصوات من الباب المفتوح, وأثرها على الصبي لقد كان يصل إلى الفتي من هذا الباب المفتوح أصوات أخيه وأصحابه وهم يضحكون, ويصل إليه أصوات مصمتة تنبئه بأن صاحب الشاي يحطم الحطب ليشعل النار. وكانت هذه الأصوات التي تصل إليه تثير في نفسه الرغبة والرهبة, وتثير في نفسه من الأمل واليأس ما يعنيه (يشق عليه) وما يضنيه ( يعذبه) ويملأ قلبه بؤسا وحزنا. ما الذي يزيد من حسرة الصبي؟ لقد كان يزيد من حسرته وحزنه أن لا يستطيع التحرك من مجلسه ولو خطوات قليلة تمكنه من الوصول للباب, وليس ذلك لأنه لا يعرف الطريق, بل كان يعرفها ويحفظها, ويستطيع أن يقطعها متمهلا, ولكنه كان يستحي أن يفاجئه أحد المارة فيراه وهو يسعى متمهلا مضطرب الخطا, وكان يشفق ( يخشى) أن يفاجئه أخوه الشاب الذي كان يحضر من وقت لآخر ليأخذ كتابا أو أداة أو شيئا من الطعام التي كان يتبلغ بها أثناء الشاي (يسد جوعه بها) فيسأله ما خطبك؟ إلى أين تريد ؟ فآثر السلامة والعافية ورأى أنه من الخير أن يبقى في مكانه ويزداد حسرة على حسرة. شوق الصبي للبيت والريف أصبحت الحسرات تزداد على الصبي وكان منها حسرات الحنين إلى منزله في الريف, فقد كان يتذكر كيف كان يعود من الكتاب فيلعب ما يعلب ثم يتبلغ بكسرة خبز مجفف, ثم يمزح مع إخوته ويقص على أمه ما أحب من أنباء الكتاب في يومه, ثم ينطلق خارج البيت إلى حانوت (دكان ج/ حوانيت) الشيح محمد عبد الواحد وأخيه الحاج محمود, فيجلس هناك متحدثا متندرا مستمعا لأقوال المشترين من الرجال والنساء بما فيها من سذاجة وطرفة الريف. وربما قل المشترون فيخلو الصبي بأحد صاحبي الحانوت فيتحدث إليه أو يقرأ له كتابا من الكتب. وكان في بعض الأحيان يعدل عن ذلك ويتجه إلى المصطبة (بناء غير مرتفع يجلس عليه) الملاصقة لبيته مطرقا ( منصتا) لأحاديث أبيه الشيخ مع أصحابه والتي كانت تعقد من بعد صلاة العصر حتى صلاة المغرب. وكان في بعض الأحيان لا يخرج من بيته إذا أقبل عليه أحد رفقاء الكتاب ومعه كتابا من كتب الوعظ, أو قصة من قصص المغازي, فيقرأه له حتى صلاة المغرب, فلم يكن يشعر في الريف بالوحدة أو الغربة أو الجوع أو الحرمان, بل لم يكن يتحرق لكوب من أكواب الشاي. صوت مؤذن العصر يصف الحسرات عن نفس الصبي لقد كان الصبي يغرق في حسراته حتى يأتيه صوت مؤذن العصر في مسجد بيبرس الذي يصرف عنه الكثير من هذه الحسرات, ولكنه كان صوتا منكرا يذكره بصوت مؤذن المسجد في الريف. ولكن في الريف يسمح له بما لا يسمح له به في القاهرة, فقد كان في القرية كثيرا ما يصعد إلى مئذنة المسجد ويشارك المؤذن الدعاء بعد الأذان بل كان في كثير من الأحيان يؤذن بدلا منه. أما مسجد بيبرس فلم يذهب إليه مطلقا, ولا يعرف طريق مئذنته ولم يبل درجها ( يختبر ويعرف درجاتها) أبدا, ولا يعرف هل تستقيم للمُصعد فيها أم هي كمئذنة الريف تضيق بمن يصعد فيها؟ ولذلك أصبح لا يشعر إلا بالسكون المتصل, وأصبح يعتقد أن العلم يكلف طلابه أهوالا ثقالا (أمور شديدة خطيرة /م هول). سكون الصبي ونوم العصر لقد كان هذا السكون المتصل سببا لتعب الصبي وشعور بالإجهاد فيغفوا (ينام نوما خفيفا) وهو في مكانه, وربما وصل الأمر إلى أن يسلم نفسه للنوم لطويل فيستلقى في مجلسه, وما ينتبه إلا مذعورا على صوت أخيه وهو يقول له ( مولانا أنائم أنت؟) وقد جاء إليه يسأل عن شأنه يقدم له طعام العشاء. مم يتألف طعام عشاء الصبي؟ لقد كان يحضر له أخوه رغيف وقطع من الجبن المسمى الجبن الرومي أو قطعة من الحلاوة الطحينية, ثم ينصرف إلى الأزهر ليحضر درس الأستاذ الإمام. وكان الصبي إذا أكل مع أخيه فإنه يقلل من الطعام في بعض الأحيان ولم يكن يسأله أخوه عن ذلك. ولكنه إذا خلا بالطعام فإنه يقبل عليه فيأكله كله إرضاءا لأخيه, فلا يترك منه شيئا حتى وإن لم يرغب فيه مخافة أن يرى أخوه شيئا من الطعام فيظن به المرض أو الحزن, وقد كان يبغض أن يثير في نفس أخيه القلق أوالهم . صوت مؤذن المغرب لقد كان صوت مؤذن المغرب يثير في نفسه الوحشة والإحساس بالوحدة والألم لأنه يعلم أن الليل قد أقبل عليه,وأن الظلمة قد أخذت تكتنفيه (تحيط به) وأن المصباح مُطفأ . وقد كان يتمنى لو أن بعض المبصرين معه في الغرفة فيضيئوا المصباح. ما حاجة المكفوف للمصباح ليلا؟ المبصرون يظنون خطأ أن المكفوف لا يحتاج إلى المصباح أو النور, ولكنه كان يشعر بأن وقت الغروب كان يفرق تفرقة غامضة بين الظلمة والنور, ويجد في المصباح إذا أضيئ جليسا ومؤنسا له في وحدته. ما أثر الظلمة في نفسه؟ ومن أين خرج هاذ الأثر؟ لقد كان يرى في الظلمة وحشة, يبدو أنها خرجت إلى نفسه من عقله الناشئ ومن حسه المضطرب. ولقد كان يجد للظلمة صوتا يبلغ أذنيه كأنه طنين البعوض إلا انه صوت غليظ بعض الشيء. كان هذا الصوت يصل أذنيه فيؤذيهما وصل قلبه فيملأه روعا ( فزع وقلق) فيجلس القرفصاء ويعتمد بمرفقيه على ركبتيه ويخفي رأسه بين يديه, ويسلم نفسه لهذا الصوت الذي كان يوقظه. قارن بين سكون العصر وسكون العشاء سكون العصر يأخذ الصبي إلى الغفوة أو النوم العميق, أما سكون العشاء فقد كان يضطره إلى اليقظة والقلق والفزع. أصوات أخرى في الغرفة لقد كان الصبي ]أنس صوت الظلمة فيألفه بعد قليل, ولكن هناك الكثير من الأصوات الأخرى التي تفزعه وتروعه, فقد عرف أن هذه الغرفة من غرف الأوقاف أي أنها طال عليها العهد وكثرت بها الشقوق وسكنت هذه الشقوق طوائف الحشرات المختلفة, وصغار الحيوانات. وكانت هذه الحشرات والحيوانات الصغيرة إذا ما أقبل الليل تخرج من الشقوق تبعث أصواتا ضئيلة وتأتي من الحركات الخفيفة السريعة والحركات البطيئة ما يملأ قلب الصبي فزعا, فإذا أقبل أخوه وأضاء المصباح انقطعت هذه الأصوات كأنها لم تكن. وقد كان يخشى أن يذكر ذلك لأخيه ويطلب من أنه يضيء له المصباح فيسفه رأيه ( يحقر رأيه) ويظن بعقله وشجاعته الظنون فكان يؤثر العافية ويكتم في نفسه. صوت مؤذن العشاء لقد كان لصوت مؤذن العشاء أثر طيب على نفس الصبي فهو يثير في نفسه أملا قصيرا يتبعه يأس طويل, فهذا الصوت ينبئه بانتهاء درس الأستاذ الشيخ محمد عبده, وأن أخاه سيأتي عما قريب ليضيء المصباح, ويأخذ ما يشاء من كتب أو طعام فيشيع في الغرفة شيء من الأنس يطرد به وحدة الصبي وخوفه. ولكنه يعرف ان أخاه سيلقي له بوسادة ولحفا ليلتف به وينام وينتظر الأخ حتى يرى أخاه قد التف في اللحاف, ويظن انه تركه ينام نوما هادئا, ثم يطفئ المصباح مرة أخرى , ويغلق الباب ويدير المفتاح ويتركه ويذهب إلى أصدقائه ليشربوا الشاي ويدرسوا ويعدون درس الغد. وما يعلم الشاب أنه ترك أخاه للرعب والفزع مرة ثانية منتظرا عودته بعد كل ذلك بعد ساعتين أو ثلاث وهو يظن أن أخاه قد استغرق في النوم الهانئ. متى يطمئن الصبي ويسلم نفسه للنوم؟ لقد كان يشعر الفتي بالخوف والفزع حتى يعود إليه أخوه في آخر الأمر بعد أن يذاكر ويدرس مع أصحابه وهو يظن أن الصبي نائم, ولم يكن يطمئن حتى يطفئ أخوه المصباح لينام هو الآخر, وهنا يحس الصبي بالأمن والدعة ويصبح تفكيره هادئا مطمئنا فينام وينعم بلذة النوم دون أن يشعر بلحظة نومه. الفصل الرابع الحاج علي و شباب الأزهر ولكن هذا الأمان الذي يشعر به الصبي بوجود أخيه معه في الغرفة يزول في الثلث الأخير من الليل بسبب هذين الصوتين الغريبين. الصوتان الغريبان بعد هذا النوم الآمن الهادئ يستيقظ الصبي على صوتين غريبين يردانه ( يرجعانه) إلى الخوف والفزع مرة أخرى, لأنه لم يكن يعلم عنهما شيء, فأتعب نفسه في التفكير فيهما, وهما... صوت عصا غليظة تضرب الأرض ضربا عنيفا. وصوت إنساني متهدج ( متقطع) مضطرب مرجعا ( مرددا صوته ومترنما), لا هو غليظ ولا هو نحيف, يذكر صاحبه الله ويسبحه ويحمده ويمد ذكره مدا طويلا غريبا. وكان هذا الصوت الثاني ينشر الاضطراب والقلق في الليل الساكن الهادئ, ولا يقطعه إلا صوت تلك العصا الغليظة. وقد كان يسمع الصبي الصوت يقترب منه قليلا قليلا, ثم ينحرف ( يميل والمقصود يبتعد) ويضعف شيئا فشيئا, حتى يكاد ينقطع, ثم يزداد قوة ووضوحا بعد ان نزل صاحبه سلم الربع واستقام له الطريق, ثم يضعف حتى يختفي. أثر الصوتين على الصبي لقد ارتاع ( خاف وفزع) الصبي بسبب هذين الصوتين حين سمعهما أول مرة, وأتعب نفسه في التفكير فيهما والبحث عن مصدرهما, ولكنه لم يصل إلى شيء, ولم يكن يجرؤ على سؤال أخيه ولا أصحابه عنهما, ولذلك استمر في هذه الحيرة طوال الأسبوع الأول, يفقد أمانه الذي شعر به بوجود أخيه معه. أثر صوت مؤذن الفجر في نفس الصبي ولم يكن يعود الصبي إلى الطمأنينة والأمن إلا حينما يسمع صوت مؤذن الفجر قبيل الفجر وهو يقول "الصلاة خير من النوم", وهنا يهب من نومه في رفق (قام من مكان نومه), بينا يهب أخوه في *** وسرعة وقوة, وما هي إلا لحظات حتى يكونا على سلم الربع متوجهان إلى الأزهر ليأخذ أحدهما درس الحديث والآخر درس الأصول. ليلة الجمعة والصوتان الغريبان جاءت ليلة الجمعة واستيقظ كالعادة في أول الثلث الأخير من الليل وفي فزع وقلق من هذين الصوتين, وعادت إليه الطمأنينة مع صوت مؤذن الفجر كالعادة, ولكنه في هذا اليوم لم يقم مترفقا ولم يقم أخوه من نومه عنيفا عجلا, فلم يكن لهما في يوم الجمعة دروس في الأزهر. أثر الصوتين على أخي الصبي الشاب الأزهري لم يؤثر فيه الصوتين ولم يسمعهما كما لم يسمعهما من قبل, ويبدو انه تعود عليهما حتى أنه لم يعد يتأثر بهما مطلقا. ماذا فعل الصبي في ليلة الجمعة؟ لبث الصبي في فراشه ضيق (كارها) لهذا السكون عاجز عن الحركة, وأشفق أن يوقظ أخاه لصلاة الفجر حتى فات وقتها وانتشر ضوء الشمس في الغرفة. حتى إذا لفحت حرارتها رأسه تحرك في لطف بعيدا عنها ويخشى أن يتحرك حركة عنيفة توقظ أخاه من نومه. كيف كان الصوتان في الصباح؟ عندما نشرت الشمس أشعتها في الغرفة أصبح في الضحى تعجب الصبي من أمر الصوتين وذلك أنهما في هذا الوقت من الصباح غير ما كانا عليه في الليل, ففي الصباح كان صوت الإنسان فاترا ( ضعيفا حلو) رفيق هادئ, أما العصا فكانت تداعب ( تلاعب) الأرض مداعبة يسيرة. وبدأ يسأل نفسه في عجب كيف يكون الصوت في الليل الذي يجب فيه السكون عنيفا قويا, ويكونان في الصباح حيث النشاط واليقظة هادئين رفيقين. الحاج علي يوقظ الطلاب: (كيف يستقبل الطلاب والحاج علي يوم الجمة؟) ارتفع الضحى ومازال الطلاب غرقى في النوم, فقام الحاج علي الرزاز بطرق أبوابهم مبتدءا بأقربهم إليه في *** حتى ينتهي إلى غرفة أخي الصبي, وهو يصيح قائلا " هلم يا هؤلاء, أفيقوا! إلى متى تنامون! أعوذ بالله من الكفر أعوذ بالله من الضلال! طلاب علم ينامون حتى يرتفع الضحى, لا يؤدون الصلاة لوقتها, هلم يا هؤلاء أعوذ بالله من الكفر أعوذ بالله من الضلال" أثر صياح الحاج علي على الطلاب وأخي الصبي يوقظ الحاج على الرزاز الطلاب وهو يصيح فيلتفون من حوله يضحكون ويتبعونه من غرفة لأخرى, أما أخو الصبي فقد هب لأول أمره على صياح الحاج علي ولكنه لم يتحرك من مكانه فقد ظل ساكنا يغرق في ضحكات مكتومة مكظومة ( مكتوم ممسوك), كأنه يحب ما يسمع ويستزيد منه ويتمنى أن يتصل ولا ينقطع. ولما وصل الحاج علي إلى غرفة أخي الصبي قام الفتى من مكانه وهو يضحك وفتح له الباب, فاندفع الرجل يصيح أعوذ بالله من الكفر أعوذ بالله من الضلال اللهم اصرف عنا الأذى أعذنا من الشيطان الرجيم, أمسلمون أنتم أم كفار؟! أتتعلمون على شيوخكم هدى أم ضلالا؟!" أما الصبي فإنه في ذلك اليوم عرف مصدر الصوتين الغريبين اللذين كانا يفزعانه, فقد عرف أن الحاج على هو صاحب الصوت الذي يضطرب في سكون الليل, وأن تلك العصا التي يقرع ( يطرق) بها الأبواب هي العصا التي كانت تقرع الأرض. من هو الحاج علي الرزاز؟ كان شيخا كبير وصل إلى السبعين من عمره, ولكنه يحتفظ بقوته الجسدية والعقلية : أما عن قوته العقلية, فقد كان ماكر ماهر ظريف لبق. وإما عن قوته الجسدية, فكان معتدل القامة شديد النشاط متين البنية عنيف في حركته وفي كلامه لا يعرف الهمس ولا يخفت صوته, فهو صائح دائما. ما سبب تسميته بعلي الرزاز؟ لقد كان الحاج علي تاجر للأرز ولذلك أطلق عليه بعلي الرزاز, ولكن لما تقدمت به السن أعرض عن التجارة أو أعرضت الجارة عنه. وهو من أهل الإسكندرية حيث ولد فيها واحتفظ بما يتميز به أهلها من قوة و*** وصراحة وظرف, وكان له بيت في القاهرة يغل عليه ( يدر عليه) بعض المال, فسكن مع المجاورين ( طلاب الأزهر) في هذا الربع الذي لم يكن يسكنه غيرهم ورجلان من فارس وهو ( الحاج علي الرزاز). علاقة الحاج علي بالطلاب منذ أن استقر الحاج علي في غرفته في آخر الربع حتى استطاع أن يلفت أنظار الطلاب بنوادره فأضحكهم وراقوه ( أعجبوه ) فاتصلت بينه وبينهم المودة المتينة النقية ( الصافية × المكدرة) اتسمت بالظرف والرقة مع بعض التحفظ ( الاحتراز ). ما سبب هذا التحفظ؟ لقد عرف الحاج علي عن الطلاب حبهم للعلم وبعدهم عن العبث واللهو, مما جعله يحبهم, فإذا بدأ الأسبوع كان يعتزلهم ولا يسعى إليهم كأنه لا يعرفهم إلا إذا سعوا هم إليه وألحوا عليه في أن يشاركهم طعاما أو شراب الشاي. الحاج علي ويوم الجمعة فإذا جاء يوم الجمعة لم يمهلهم ( ينتظرهم) ولم يخل بينهم وبين راحتهم (لم يقلق راحتهم) حتى يرتفع الضحى, ويتأكد أنهم أخذوا ما يحتاجون من النوم والراحة. وعندئذ يبدأ بأقربهم إليه فيوقظه في *** وضجيج ثم ينتقل إلى سائر الغرف ومعه من نبهه ( أيقظه) حتى ينتهي بغرفة أخي الصبي فيوقظه كما أيقظ بقية الطلاب, والشباب من حوله يستقبلون يوم راحتهم (الجمعة) فرحين مبتهجين مبتسمين للحياة كما ابتسمت هي لهم طعام الجمعة كان الشيخ علي هو المسئول عن تدبير طعامهم فيقترح عليهم طعام الإفطار وقد يعده لهم في غرفته أو في غرفة أحدهم, كما كان يقترح عليهم طعام العشاء ويشير عليهم بما يجب أن يصنعوه لإعداد طعام العشاء, كما كان يشرف على إعداده ويقوُّم (يصلح) منه ما يمكن أن يعوج. إفطار الجمعة يوم الجمعة هو يوم البطون, لهؤلاء الشبان ولهذا الشيخ الصديق, فكانوا يجتمعون إلى إفطار غزير دسم صاحب, قوامه(عماده ونظامه وتكوينه)الفول والبيض مع بعض الفطائر الجافة التي ادخروها مما كانت أمهاتهم تزودنهم به. الفطير والشباب والأسرة لقد كان الفطير للشباب طعام لذيذ يأكل في الإفطار, فيقضمونه قضما ويعبئون أفواههم بالشاي ليبله ويسهل عليهم بلعه, أو يغمسونه في الشاي كما كان يوصيهم الشيخ علي الرزاز, وهو يضحكون من دعابات الحاج علي دون تذكر لآبائهم أو أمهاتهم وتحملهم الكد ( الإرهاق) والتعب والدموع من أجل تحضيره لهم. أما بالسبة للآباء فقد كان الأب يجتهد لكسب النقود التي تعين الأم على صنعه وتهيئته وهي تتكلف الفرح, رغم حزنها الصامت وهي تعبئه ودموعها المنهمرة وهي تسلمه لمن يذهب به إلى الابن في القاهرة. أما الصبي فكثيرا ما كان يذكر مشاعر الآباء كلما رأى تهافت هؤلاء الشباب على أكل الفطير. طعام العشاء لقد كان تدبير طعام العشاء مثير حقا, فهم يتشاورون فيما بينهم في الدورة (اللقاء) الثانية أو الثالثة للشاي, ولكنه تشاور سريع بسيط, فقد كان هذا العشاء لم يشذ (لم يخرج) عن لونين من ألوان الطعام وهما أما البطاطس في خليط من الحم والطماطم والبصل, وإما القرع في خليط من اللحم والطماطم والبصل وشيء من الحمص. إعداد طعام العشاء كانوا يتفقون على أقدار ما يشترون من هذه الأشياء ثم يقدرون ثمنها ثم يخرج كل منهم حصته إلا الشيخ على الذي كانوا يخرجونه من هذه الغرامة, ثم يدفعوا هذا النقد (المال) لأحدهم فيذهب لشراء الطعام, وإذا عاد نهض أحدهم إلى موقده فأوقد ناره من الفحم البلدي حتى إذا صفت جذوته ( جمرته الملتهبة /ج/ جِذاء جُذي) أقبل على الطعام يهيئه ويضعه على النار ثم يتركه وينضم إلى البقية الذين ينتظرونه وهم جلوس إلى الحاج علي أو يدرسون وهذا الطاهي يخطف نفسه بين الحين والآخر ليطمئن على الطعام, والحاج علي يلقى عليه النصائح من وقت لآخر ليعده جيدا, فإذا تم لهم نضج الطعام اجتمعوا عليه وبدأ الشيخ علي يقسم بينهم الطعام بالعدل دون ظلم لأحد. معركة الطعام لقد كانت نار الفحم البلدي بطيئة طويلة البال حتى أن الطعام ينضح قرب المغرب, فإذا تم ذلك اجتمعوا إلى المائدة وكل منهم يسعى لأن يستوفي نصيبه من الطعام, وكلهم يراقب أصحابه خوفا أن يسبقوه إلى شيء أو يشنطوا عليه ( يجوروا عليه ويظلموه) ومع ذلك فالكل يستحي أن يظهر منه هذا الحرص ولكن الحاج علي كان يفضحهم بصراحته التي تغني عن صراحتهم, وتكشف عن حرصهم, فكان يراقبهم جميعا وهو يقسم الطعام بينهم بالعدل حتى لا يجور أحدهم على الآخر, فكان يعلن ذلك صاخبا كعادته منبها أحدهم أنه يخدع نفسه عن قطعة البطاطس بقطعة لحم, ومنبها آخر إلى أنه يسرف على نفسه وعلى أصحابه فيما يغترف في هذه اللقمة الغليظة من سائل الطعام أو جامده, وهو يطلق كلماته في هزل يضحكهم ويسليهم دون أن يجرحهم أو يؤذي حياءهم. الصبي ومعركة الطعام كان الصبي إذا سمع مشاورة الشباب حول طعام العشاء فإنه يحس انقباضا وخجلا ولكنه عندما تقدمت به السن أحس بحنان لذكراه وتعجبا من نفسه. أما أثناء الطعام فقد كان يجلس بينهم خجلا وجلا (خائف) مضطرب النفس في حركة يده لا يحسن ( لا يجيد) أن يقطع لقمة خبز أو أن يغمسها في طبق أو أن يضعها في فمه, وهو يظن أن عيونهم تلحظه ( تراقبه وتنظر إليه) وبخاصة عين الشيخ علي, فيؤدي ذلك لارتعاشه واضطرابه فيسقط المرق على ثوبه. ولكن الصبي يظن أن هؤلاء الشباب كانوا في شغل عنه بأنفسهم وضحكاتهم, ويدلل على ذلك أنهم كانوا يفكرون فيه ويحرضونه على الطعام بل غنه يقربون له ما لا تصل إليه يده مما يزيده اضطرابا وخجلا. ما أثر هذه المعركة على نفس الصبي أثناء وبعد العشاء؟ أثناء العشاء كانت هذه المعركة مصدر ألم واحزن لقلبه فكان يشعر بالاضطراب والخجل مما يجعل يده ترتعش ويسقط الطعام علي ملابسه, أما بعد العشاء فقد كانت مصدر تسلية وسرور حيث كان كثيرا ما يضحك على هذه المعركة إذا خلا بنفسه وتذكر ما يفعله هؤلاء الشباب. أثر هذا الطعام على فقراء الربع يظن الصبي أنه كان في هذا الربع من الزملاء والعمال ما تقصر أيديهم ( يمنعهم فقرهم) عن صنع طعام مماثل لهم أو لأولادهم ونساءهم, ويظن كذلك أن هذا الحرمان كان ينقلب على هؤلاء الرجال العمال من نسائهم هما ثقيلا, بل يظن أن هؤلاء المحرومين كانوا يجدون لهذه الروائح لذة مؤلمة أو ألما لذيذا لفقرهم وحرمانهم. صفات الحاج علي الرزاز لقد كان شيخا كبيرا يتكلف ( يتصنع) التقوى والروع, وذلك انه كان يبدأ يومه بالتسبيح والتهليل في الثلث الأخير من الليل, ثم يصلي الفجر جماعة في مسجد سيدنا الحسين, ثم يرجع مغمغما مداعبا الأرض بعصاه ويظل في غرفته فإذا وجبت بقية الصلوات أداها في غرفته جاهرا بالتكبير والقراءة والتسبيح. وكان إذا خلا إلى أصحابه من الشباب على طعام أو شاي كان أسرع الناس خاطرا وأعظمهم نكتة وأطولهم لسانا وأخفهم دعابة وأشدهم تتبعا لعيوب الناس, وأعظمهم إغراقا في الغيبة, لا يتحفظ في لفظه قط ولا يتحرج أن يخرج كلمة نابية أو حتى أشنع الألفاظ, فكان غارقا في البذاءة والألفاظ والمعاني والصور القبيحة. الشباب وأخلاق الحاج علي كان الشباب يحبون الحاج على لهذا اللهو, كأنه كان يخرجهم من أطوار الدر ويريحهم من جد العلم والدروس, ويفتح لهم بابا من اللهو ليس لهم أن يلجوه ( يدخلوه) حينما كانوا يخلون إلى أنفسهم, بل لم يستطيعوا ذلك حينما كانوا يجلسون إلى الحاج على فيصب عليهم هراءه (كلامه القبيح) بغير حساب. فكانوا يسمعون منه ويضحكون له حتى تكاد جنوبهم تنقد ( تنشق وتتقطع) من الضحك, ورغم ذلك لم يكونوا يعيدون كلماته البذيئة (القبيحة الفاحشة) أو لفظا من ألفاظه النابية, فقد كانوا يستمتعون بذلك اللهو من بعيد, ولا يبيحون ( يسحون) لأنفسهم ولا تسمح لهم ظروفهم ان يقتربوا من ذلك اللهو القبيح. اختلف الشباب عن كثير من زملائهم فكيف كان ذلك؟ صحيح أن الشباب يسمعون للحاج علي ويضحكون من بذاءته وألفاظه الفاحشة إلا أنهم امتازوا عن غيرهم من زملائهم وأقرانهم بكظم الشهوات ( إمساكها والتحكم فيها) ومعاملة النفس بشدة وقسوة تمكنهم من المضي في درسهم على وجهه (كما ينبغي) وتردهم عن التورط( الوقوع) فيما سقط فيه الكثير من زملائهم من العبث السهل الذي يفل العزم ( يضعفه, ويكسره) ويفسد الأخلاق. موقف الصبي من هذه الدعابات الفاحشة لقد كان الصبي يسمع لذلك كله وستعجب ويسأل نفسه كيف يجتمع لهم طلب العلم والجد مع هذا التهالك ( الإقبال الشديد) على الهزل والتساقط على السخف (ألقاء النفس فيه) في غير تحفظ ولا حيطة وعاهد نفسه أنه إذا ما وصل إلى سن هؤلاء الشباب الذين يكبرهم (يعظمهم) ويقدر ذكاءهم ألا يسير سيرتهم وألا يسقط تساقطهم. نهاية وفراق : عاش الجميع في سعادة أعواما طويلة مع هذا الشيخ وشب ( وصل سن الشباب) الصبي في هذه الحياة الضاحكة بفضل الحاج علي على الرغم مما كان يعترضه من أسباب الألم والأسى. ثم تفرق الجميع وذهب كل منهم إلى وجهته, وتركوا الربع واستقروا في أطراف المدينة وقلت زياراتهم للشيخ ثم انقطعت. موت الشيخ على الرزاز وفي أحد الأيام حمل أحد أفراد هذه الجماعة نعي الشيخ, فحزنوا له جميعا ولكنه حزن لم يصعد إلى عيونهم ولا حتى وجوههم, وأخبر أن آخر ما نطق به الشيخ وهو يحتضر هو دعاء لأخي الصبي فرحم الله هذا الرجل, فعلى الرغم من ظله الثقيل على نفس الصبي إلا أن ذلك تحول بعد موته إلى حنانا عليه وطلب للرحمة له. الفصل الخامس الإمام محمد عبده والأزهر كان يسكن بجوار الشباب في غرفة على شملك وأنت صاعد السلم شاب مجاور كان مصدر فكاهة ودعابة لهؤلاء الطلاب. صفات الشاب كان الشباب أكبر منهم قليلا وأقدم منهم في الأزهر ولكنه من جيلهم وطبقاتهم, وكان نحيف الصوت بحيث يكفي أن تسمعه لتضحك منه. وكان قليل الذكاء ضيق العقل بحيث لا يستقر العلم في رأسه, لأن عقله كان محدود محصور, فلم يستطع أن ينفذ إلى ما وراء ما كان يقرأه في الكتب على اختلافها (تنوعها). ورغم ذلك فقد كان واثقا من نفسه يطمع في مستقبل كبير في غير تكلف (تصنع), دروس الشاب كان الشاب يشارك أصحابه الذي يعيش معهم أكثر ما يختلفون إليه (ترددون) من الدروس, فكان يحضر درس الفقه والبلاغة ودروس الأستاذ الشيخ محمد عبده, ولكنه لم يكن يحضر درس أصول الفقه, لأنه يقتضيه ( يلزمه) أن يخرج من غرفته مع الفجر, ولكنه كان يؤثر الراحة ضنينا بها(بخيلا /ج) أضناء). الشباب وكتب ومناهج الأزهر كان هؤلاء الشباب يضيقون بكتب الأزهر, متأثرين في ذلك بآراء الأستاذ محمد عبده في كتب ومناهج الأزهر, الذي كان يدلهم كلما حضروا درسه أو زاروه في بيته على أسماء كتب قيمة في النحو والبلاغة والتوحيد والأدب . موقف الطلاب من الكتب التي يدلهم عليها الأستاذ محمد عبده وكان الطلاب يسرعون إلى شراء ما يذكر من كتب إذا استطاعوا ذلك, حتى أنهم كانوا يتحملون مشقة بالغة, وحرمانا شديدا في تدبير ثمن هذه الكتب, فإذا تعثر عليهم الأمر استعاروا هذه الكتب من مكتبة الأزهر وأقبلوا عليها يدرسونها ويتعاونون على فهمها. الشيوخ وآراء الأستاذ محمد عبده في الكتب كانت هذه الكتب بغيضة (مكروهة) لكثير من شيوخ الأزهر, لأنهم لم يألفوها,وربما اشتد بغض بعضهم لها لمجرد أن الذي نوه بها ( رفع من ذكرها وعظمها) هو الأستاذ محمد عبده. ولكن كان هناك من الشيوخ الأعلام (المشهورين) المنافسين للأستاذ محمد عبده من كان يدل طلابه على كتب قيمة أخرى أيضا. حب وغرور الشباب لقد تحمل هؤلاء الشباب مشاق شراء هذه الكتب يدفعهم في ذلك حبهم الصادق للأستاذ الإمام ورغبتهم في العلم والاطلاع, وربما دفعهم إلى ذلك غرور الشباب, فقد كانوا يفخرون بين زملائهم أنهم من تلاميذ الأستاذ محمد عبده والشيخ بخيت والشيخ أبي خطوة والشيخ راضي. بل كانوا يملأون أفواههم فخرا بأنهم ليسوا مجرد تلاميذ لدى هؤلاء الأعلام بل هم من التلاميذ المقربين المصطفين. دلل على صدق حب هؤلاء الطلاب لأساتذتهم وللعلم. لم يكتف هؤلاء الطلاب بحضور الدرس في الأزهر لهؤلاء الشيوخ الأعلام, بل كانوا يزرون شيوخهم في بيوتهم, وربما شاركوهم في بعض البحث, وربما يستمعون منهم دروسا خاصة في يوم الخميس بعد صلاة الظهر أو بعد صلاة العشاء. أثر هذا الحب على الطلاب لقد كان لهذه المعاملة وهذا الاجتهاد من هؤلاء الطلاب أكبر الأثر في وصولهم لشيء من الامتياز بين زملائهم, حتى عرف الأزهر كله أنهم أنجب طلابه وأخلفهم (أجدرهم) بالمستقبل السعيد, ومن أجل ذلك سعى إليهم الأوساط (المتوسطون) من الطلاب الذين يلتمسون التفوق, والامتياز حين يعرف عنهم أنهم أصدقاؤهم وأصفياؤهم, ويلتمسون بهم الوسيلة للتقرب من كبار الشيوخ والعلماء والأساتذة. صاحبنا من الأوساط: وكان صاحبنا (ساكن الغرفة) من الطلاب الأوساط, اتصل بهؤلاء الشباب ليقول زملاؤه انه واحد منهم, وليستطيع أن يصحبهم في زياراتهم للأستاذ الإمام أو الشيخ بخيت أثر هذا الغرور والامتياز على هؤلاء الطلاب كان غرور الشباب يحبب إلى هذه الجماعة هذا النوع من الامتياز, كما كان يهون عليهم قبول هؤلاء الطفيليين في العلم من ضعاف الطلاب وأوساطهم, كما كان يتيح لهم أن يحصوا (يقدروا) على هؤلاء الطفيليين سخافاتهم وجهالاتهم وأغلاطهم الشنيعة ثم إذا خلوا إلى بعضهم ذكروا هذه السخافات وضحكوا منها. كيف تعرف صاحبنا على هذه المجموعة أكبر الظن أنه تعرف عليهم من خلال بعض الدروس ثم بدأ يدني ( يقرب) نفسه منهم حتى زارهم ثم أعجبه الربع وجوارهم فاتخذ لنفسه غرفة بجوارهم, وأصبح واحدا منهم يشاركهم في الدرس والشاي والزيارات, ولكنه لم يفتح الله عليه قط فيشاركهم في العلم والفهم والإيضاح والإبانة (الإفصاح). حال الشاب الطفيلي (صاحبنا) لقد كان هذا الشاب أوسع منهم يدا, وأكثر منهم مالا, وكان يقتر( يبخل) على نفسه إذا خلا غليهم, فإذا اتصل بأصحابه وسع على نفسه وأنفق, وإذا رأى بهم حاجة إلى المال لشراء كتاب أو أداء دين عاجل أو قضاء حاجة ملحة كان يقدم لهم ما يحتاجون من المال في رفق وتلطف. كيف قابل هؤلاء الشباب إحسان صاحبنا؟ كانوا يشكرون له هذا ولكن لم يكونوا يطيقون جهله, وربما لم يملكوا أنفسهم فضحكوا من جهله في حضرته وردوا عليه ردا عنيفا فيه كثير من الازدراء (الاحتقار) القاسي, ولكنه كان يقبل ذلك راضيا مبتسما, ولم يغضب منهم يوما على كثرة ازدرائهم له والغض منه (الحط من قدره) ساكن الغرفة (صاحبنا) وعلم العروض كان أجمل ما يتندرون عليه به علمه أو جهله بعلم العروض( وهو علم يدرس موسيقى الشعر), وجهله وعلمه أو جهله بهذا العم هما سواء, فقد كان يطالع معهم كتابا في النحو وكلما ظهر لهم شاهدا نحويا (دليل /ج/ شواهد) حتى يكون أسرعهم إلى رد هذا البيت الشاهد إلى أبحر الشعر (أوزان الشعر وتفعيلاته التي تصنع موسيقى الشعر), وكان دائما ما يرد جميع الشواهد إلى بحر البسيط, حتى وإن كان البيت من بحر الطويل أو الوافر فهو عنده من بحر البسيط. والأشد غرابة من ذلك أنه لم يكتف بإعلانه بأن هذا البيت الشاهد من بحر البسيط بل كان يسرع إلى تقطيعه ورده إلى بحر البسيط مهما كان وزنه. أثر جهل صاحبنا بالعروض على الطلاب كان كلما ورد بيتا شاهدا على قضية نحويا أسرع برده إلى بحر البسيط وأسرع إلى تقطيعه بغض النظر عن وزن البيت طويلا أم وافر أم غير ذلك, مما كان يقطع على الطلاب درسهم ويدفعهم إلى ضحك متواصل لا يتوقف. هذا الأمر أطمع الطلاب في هذا الشاب حتى إذا ظهر لهم شاهدا أظهروا العجز في رده إلى بحره فأسرع ورده إلى البسيط, ثم يزيدون الأمر فيظهرون العجز على تقطيع البيت فأسرع في تقطيعه على وزن البسيط, وهنا يستأنفون الضحك والاستهزاء به, وهو يلقاهم بوجه باسم رضٍ لا يعرف الغضب أو الغيظ يأس صاحبنا عاش صاحبنا مع الطلاب سنوات طوال على هذا الحال لا يغضب منهم ولا يغضبون منه, حتى أحس أنه ليس من تلك الحلبة (ميدان السباق في العلم) ولا يستطيع مجاراتهم في ذلك الميدان, فأصبح يتخلف عن الدرس قليلا قليلا ويتكلف التعلات (م/ تعلة وهي ما يتعلل به الإنسان ويشتغل به) والمعاذير ( الحجج /م/معذرة) وأصبح لا يشاركهم إلا الشاي والطعام أحيانا ويشاركهم الزيارات دائما. عطف صاحبنا على الصبي وبعد ان تقدم به السن والدرس بدأ يظهر العطف على هذا الصبي وعرض عليه أن يقرأ معه الكتب وبدأ يعرض عن مشاركة أقارنه وأنداده (أمثاله /م/ قِرن – ند) إلى مشاركة هذا الغلام الناشئ, وقرأ الغلام معه كتبا في الحديث والمنطق والتوحيد, ولكنه لم يجد في هذا الصبي غناء (نفعا) ولم يكن الغلام فارغا للضحك والتندر, فهو لا يقدر على ذلك ولا يحبه, فاحتال (تلمس حيله) صاحبنا في النهاية حتى تخلص من هذا الصبي ومضى لشانه. الارتقاء الاجتماعي للشباب ظل الشاب محسوبا على الأزهر رغم أنه ترك العلم أو تركه العلم, ولكنه ظل مشاركا لأصحابه على الناحية الاجتماعية من حياتهم. فقد ارتقت حياتهم الاجتماعية بعض الشيء, نتيجة فضل الله عليهم ثم ذكاؤهم وجهدهم وتفوقهم ورضا الأستاذ الإمام عنهم وتقريبه لهم. أثر هذا الارتقاء على الطلاب وصاحبنا ونتيجة لذلك فقد اتصل الطلاب بأبناء الأثرياء الذين كانوا يدرسون في الأزهر, فاتصلت الزيارات بينهم وبين الشباب وصاحبهم معهم, ترتقي حياته الاجتماعية كما ارتقت حياتهم, ولكنهم اختلفوا في الشعور بهذا الارتقاء: فالطلاب لم يحسوا بهذا الارتقاء وبالتالي لم يتحدثوا به ولم يتمدحوا به, بل كانت نظرتهم له على أنه شيء طبيعي ومألوف نتيجة التعب والجهد والتفوق. أما صاحبهم, فقد رأى في هذا الارتقاء وهذه الزيارات المجد كل المجد وكان يستمد منه الغبطة (تمنى النعمة من غير زوالها من عند صاحبها) والغرور, ويستغله لبعض منافعه المادية أحيانا ويتحدث به دائما إلى من أراد أن يسمع له ومن لم يرد الاستماع. فراق الطلاب ومضت الأيام وافترق الطلاب وأخذ كل منهم طريقه في الحياة, ولكن هذا الرجل (صاحبهم) لم ينساهم ولم يسمح لهم أن ينسوه, فإن كان عجز عن تتبعهم في العم فليتبعهم في شيء آخر, فكان يزورهم وإن لم يزوروه ويلقاهم في زياراتهم عند أصحاب المنزلة والأثرياء. فضيحة ساكن الغرفة صاحب الطلاب خرج الإمام محمد عبده من الأزهر في محنة سياسة معروفة, فاتصل صاحبنا بالأستاذ وشيعته ( أتباعه وأنصاره) وكذلك اتصل بخصومه وشيعتهم, حتى أخذ الأزهر يضطرب من هذه المحنة ودخلت السياسة في ذلك الاضطراب واختصمت فيه السلطتان, فاتصل صاحبنا بالمضربين وشاركهم في الإضراب, واتصل بخصومهم مفشيا اسرارهم, وذات يوم انكشف صاحبنا وعُرف أنه متصل بالمحافظة فتقطعت كل الصلات بينه وبين أصدقائه قطعا عنيفا. ما أثر كشف حقيقة الرجل (ساكن الغرفة) عليه؟ فتقطعت كل الصلات بينه وبين أصدقائه قطعا عنيفا فأصبح يرد عن كل بيت ولا يستقبله أحد, حتى قبع في غرفته بالربع, وقد خسر كل الناس ولم يخسره أحد, حتى أنه قصرت همته عن درجة الأزهر فأنفق حياته خاملا بائسا وحيدا يتحمل حياته على مضض (ألم) يتكسب حياته بمشقة. وفاة صاحب الغرفة وذات يوم جاء أصحابه خبر موته, فلم يأخذهم وجوم(صمت وحزن) ولا مس نفوسهم حزن, وغنما تلوا تلك الآية التي نتلوها دائما حين ينعى إلينا الناس }أنا لله وإنا إليه راجعون{ كما لم يشغلوا بالهم كيف مات, أمات من علة أم من الحرمان أم من الحسرة؟ لا يعرفون ولم يحاولوا أن يعرفوا. الفصل السادس انتساب الصبي للأزهر تأثر الصبي بالربع (الدار وما حلوه /ج/ أرباع – رباع) ومن فيه لقد عاش الصبي في الربع وكبر فيه وتعلم فيه من شئون الحياة والناس وأخلاقهم أشياء كثيرة لا تقل خطرا (أهمية وقيمة) عما تعلمه في الأزهر من فقه ونحو ومنطق وتوحيد. متى بدأ الصبي دروس في الأزهر؟ بدأ الصبي دروسه في الأزهر بعد يومين أو ثلاثة من وصوله إلى القاهرة. أستاذ الصبي وسماته وقد أسلمه أخوه إلى أستاذ أزهري جديد ظفر (نال وحصل) بدرجة الأزهر أثناء الصيف وهو في سن الأربعين من عمره, وكان سيجلس مجلس الأستاذ من صغار التلاميذ لأول مرة في حياته. سمات الأستاذ الجديد كان الأستاذ الجديد معروفا الذكاء والتفوق, غلب (قهر) الحظ ونال درجة الأزهر الثانية على الرغم من استحقاقه للأولى, ولكنه رضي وعد ذلك انتصارا كبيرا, وإن شعر بأنه ظلم لما فقد الدرجة الأولى. وكان ذكاء الأستاذ محصورا على العلم, وإذا تجاوز للحياة العملية أصبح أكثر الناس سذاجة, وكان مشهورا بين الطلاب والعلماء بحبه للذات (المتع) المادية متهالك(حريص) عليها, ولكن لم يكن سبب هذا الحرص فساد خلقه أو دينه ولكنه مزاجه فقط. وكان كثير الأكل محبا للحم لا يستطيع أن ينقطع عنه أو يسرف فيه (يفرط) ولو يوما وحدا, مما كلفه عناء وتعب كثير. وكان صوته متهدجا (متقطع) متكسرا يقطع الحروف وتنفرج شفتاه أكثر من اللازم أثناء كلامه فلا يسمعه أحد إلا وضحك من صوته وانفراج شفتاه. ما اسم الدرجة الأزهرية التي حصل عليها الأستاذ الجيد؟ وما أول شيء فعله؟ تسمى درجة الأزهر بشهادة العالمية. وبمجرد أن حصل عليها أسرع إلى شارة العلماء فاتخذها ولبس الفراجية (ثوب واسع طويل الأكمام يتزين به علماء الدين) على الرغم من أن العلماء لم يكونوا يتخذون هذه الشارة إلا بعد أن يبعد عهدهم بالدرجة وتعرف لهم سابقة وقدمه (السابقة في الأول الأقدمية) في العلم تيسر لهم حياتهم المادية بعض الشيء. أثر تسرع الأستاذ إلى الفراجية تسرع الأستاذ ولبس الفراجية فضحك منه الجميع أصحابه من الطلاب وأساتذته من العلماء, وزادهم ضحكا أنه لبس الفراجية ومشي حافيا في نعليه (يرتدي النعل بدون جوارب) زهدا منه فيها أو عجزا عنها, الأستاذ وهيبة العلماء وكان يتصنع (يتظاهر بما ليس فيه) الوقار (الرزانة والحلم والعظمة) وهيبة العلماء إذا مشي في الشارع فيمشي متثاقلا متباطئا, فإذا خطا عتبة الأزهر (دخله) نسي كل ذلك وذهب وقاره وفارق أناته ومشى مهرولا (مسرعا). كيف عرف الصبي الأستاذ الجديد؟ عرف الصبي رجله قبل أن يسمع صوته,وذلك أن الأستاذ أقبل على مكان درسه لأول مرة مهرولا فعثر بالصبي وكاد يسقط, فقد داست قدماه بجلدهما الخشن يد الصبي حتى كادت أن تنقطع, ثم مضى وأسند ظهره إلى العمود الذي طالما حلم أن يسند ظهره إليه معلما. منهج الأستاذ الجديد كان كغيره من أقرانه ( أمثاله /م/ قِرن) بارع في العلوم الأزهرية ساخطا على طريقة تعليمها, فقد كان متأثرا بالأستاذ محمد عبده, ولكنه تأثر لم يبلغ الأعماق, فلم يكن مجددا خالصا ولا محافظا خالصا, مما دفع الشيخ ينظرون إليه شزرا (بمؤخرة العين) في ريبة وإشفاق. كيف حاول الأستاذ الجديد التجديد؟ في يومه الأول وقبل أن يبدأ درسه الأول أعلن لتلاميذه أنه لن يقرأ عليهم كتاب (مراقي الفلاح على نور الإيضاح) كما يفعل الشيوخ للتلاميذ المبتدئين, ولكنه سيعلمهم الفقه في أكثر من كتاب بمقدار ما في كتاب (مراقي الفلاح), وطلب منه أن يسمعوا له وان يفهموا ويكتبوا ما يحتاجون إلى كتابته. ما موقف الصبي من الأستاذ الجديد؟ كان الأستاذ يدرس للصبي الفقه والنحو, فأما الفقه فكان درسه قيما ممتعا للفتى, وكان كذلك في درس النحو فأصبح النحو سهلا يسيرا, فلم يقرأ عليهم كتاب ( شح الكفراوي) ولم يعلمهم الأوجه التسعة لقراءة (بسم الله الرحمن الرحيم) ولا إعرابها, وإنما هيأهم ( أعدهم وجهزهم) للنحو تهيئة جيدة وعرفهم أقسام الكلام من اسم وفعل وحرف. رأي أخي الصبي وجماعته عن الأستاذ الجديد سُئل الصبي أثناء شاي العصر عن الأستاذ الجديد ومنهجه في النحو والفقه, فأعاد عليهم ما سمعه منه فشعروا بالرضا عنه وعن طريقته في التعليم. الصبي ودرس الفقه والنحو لم ينتسب الصبي إلى الأزهر من أول يوم له فيه, بل كان يحضر درسي النحو والفقه حضورا منتظما محتوما (واجبا), ويستمع إلى درس الحديث فجرا أثناء انتظاره حتى يفرغ أخوه من درس أصول الفقه ويحين درس الفقه. ما أُثر ذلك عليه؟ شعر الصبي بالضيق والحيرة حتى أنه سأل نفسه: متى ينتسب إلى الأزهر ويصبح طالبا مقيدا في سجلاته؟ متى انتسب الصبي إلى الأزهر؟ وما أثر ذلك عليه؟ بعد مدة جاء اليوم المشهود وأُنبئ (أُخبر) الصبي أنه سيذهب إلى امتحان حفظ القرآن الذي يوطئه (يهيئه) للانتساب إلى الأزهر, ولكنه عرف بأن الامتحان بعد ساعة واحدة, فلم يكن مستعدا كما يجب لأنه لم يفكر أن يتلو القرآن منذ أن جاء إلى القاهرة, وشعر بخفقان (تحرك واضطراب) قلبه. كيف دخل الصبي زاوية العميان؟ دخل الصيب زاوية العميان وهو خائف أشد الخوف مضطرب النفس, لأنه لم يقرأ القرآن ولم يراجع ما حفظه منذ أن وصل القاهرة, ولكن بمجرد أن دنا واقترب من الممتحنين زال عنه هذا الخوف فجأة والسبب في ذلك: أنه عندما كان ينتظر فراغ الممتحن من الطالب الذي أمامه, سمع الممتحن يناديه بالأعمى وقال له "اقترب يا أعمى" وهي جملة وقعت من أذنه أسوا موقع لأنه لم يسمعها قبل ذلك من أحد فقد كان الجميع يتحرز من ذكر عاهته أمامه. ما أثر هذه الكلمة على الصبي؟ لقد ملأت هذه الكلمة قلبه حسرة وألما وتركت في نفسه خواطر لاذعة وألما لم ينساهما قط, ووقعت هذه الجملة من أذنه أسوأ وقع, ولولا أن أخاه أخذ بيده وقربه من هذا الممتحن لما صدق أنه المقصود بها. لماذا شعر الصبي بهذه الحسرة؟ شعر الصبي بهذه الحسرة وهذا الألم, لأنه سمع هذه الكلمة لأول مرة ولأن أهله اعتادوا معه الحذر والرفق وكانوا يتجنبون ذكر هذه الآفة, ومع ذلك فهو لم ينس آفته وكان يقدر من أهله تلك الرأفة. كيف كان امتحان الصبي؟ طلب إليه أحد الممتحنين أن يقرأ سورة الكهف فما قرأ بعض الآيات, حتى طلب منه أ، يقرأ سورة العنكبوت, وما كاد يقرأ بعض آياتها الأولى حتى قال له "انصرف يا أعمى فتح الله عليك" أثر الامتحان على الصبي تعجب الصبي من الامتحان وطريقته التي لا تصور شيئا ولا تدل على حفظ, وكان ينتظر أن تمتحنه اللجنة على أقل تقدير كما كان يمتحنه أبوه أو شيخ الكتاب, ولكنه انصرف راضيا عن النجاح ساخطا (كارها غاضبا) لممتحنيه محتقرا لامتحانهما. سوار الكشف الطبي لم يخرج الصبي من لجنة الامتحان حتى عطف (مال) به أخوه إلى أحد أركانها فتلقاه أحد الفراشين أو (المشدين) فربط حول معصم ذراعه اليمنى سوار من خيط جمع طرفيه بقطعة مختومة من الرصاص, وقال انصرف فتح الله عليك. ما دلالة هذا السوار لم يفهم الصبي معنى هذا السوار في بداية الأمر ولكن أخاه أخبره أن هذا السوار سيظل حول معصمه أسبوعا كاملا حتى يمر أمام الطبيب الذي سيمتحن صحته ويقدر سنه ويطعمه التطعيم الواقي ضد الجدري. اختلفت مشاعر الصبي بعد الامتحان. وضح. لقد كان الغلام جديرا بأن يفرح ويبتهج بهذا السوار لأنه يدل على أنه مرشح للانتساب للأزهر ,لأنه بذلك قد اجتاز المرحلة الأولى من مراحل الانتساب, ولكن ظل أياما مصروفا عن هذا الابتهاج ومشغولا عنه بكلمة الممتحن التي ناداه بها. كيف أمضى الصبي أسبوع السوار؟ أمضى الصبي هذا الأسبوع كعادته يستيقظ على صوت الحاج علي فيذهب إلى الأزهر مع الفجر ليأخذ درس الفقه ثم يعود ويذهب مرة أخرى مع الظهر ليحضر درس النحو, ثم يعود, فيقضي وقته في مجلسه نائما أو قائما. انتساب الصبي للأزهر جاء يوم الامتحان الطبي والصبي يشفق (يخشى) أ، يدعوه الطبيب كما دعاه الممتحن, ولكن الطبيب لم يدعه لأنه لم يكن يدعو أحدا وإنما دفعه أخوه للطبيب فخط خطوطا في ذراعه وقال خمسة عشرة, وبذلك أصبح الصبي منتسبا للأزهر ومقيدا في سجلاته. أثر امتحان الطبيب على الصبي انتهى امتحان الطبيب وبذلك أصبح الصبي منتسبا للأزهر مقيدا في سجلاته, رغم أنه لم يكن قد بلغ السن التي ذكرها الطبيب, وعاد إلى غرفته وفي نفسه شك مؤلم ولكنه لذيذ في أمانة هؤلاء الممتحنين وفي صدق هذا الطبيب. الفصل السابع قسوة الوحدة كانت هذه الحياة شاقة عليه وعلى أخيه معا, فقد كان الصبي يستقل ما يقدم إليه من علم ويتشوق إلى أن يشهد ويبدأ من الدروس أكثر من ذلك الذي كان يبدأ به حياته العليمة. هذا بالإضافة إلى وحدته المستمرة في غرفته بعد درس النحو التي لم يعد يحتملها, وكان يود (يتمنى ويرغب) أن يتحرك أكثر مما يتحرك ويتكلم أكثر مما يتكلم ليتخلص من هذه الوحدة. أما بالنسبة لأخيه فقد ثقل عليه اضطراره لقيادة الصبي مصبحا وممسيا ذاهبا وعائدا من الأزهر كل يوم, وثقل عليه أيضا تركه لأخيه الصبي في الغرفة وحيدا معظم الوقت, وأيضا ثقل عليه أن يهجر أصدقاءه ويتخلف عن درسه ليجلس مع الصبي في غرفته. كيف تعامل الصبي وأخوه مع المشكلة؟ لم يتحدث الصبي عن مشكلته هذه مع أحد حتى مع أخيه, وكذلك لم يتحدث أخوه معه عليها, ويبدو أنه تحدث مع أصدقائه في هذه المشكلة أكثر من مرة. متى وصلت المشكلة لأقصاها ؟ لقد وصلت المشكلة لأقصاها ذات ليلة, عندما دُعي الأخ وجماعته ليسْمُر (السمر حديث الليل) عند صديق سوري لا يسكن الربع ولا يسكن الحي, وقبلت الجماعة دعوة الصديق, وعادت الجماعة من درس الأستاذ الإمام بعد العشاء ليتخفف كل منهم مما يحمله من كتب وأوراق. وهيأ (جهز) الفتي أخاه الصبي للنوم مثلما يفعل كل ليلة وأغلق عليه الباب, ولكنه لم يكد يصل الباب حتى سيطر الحزن على الصبي فغلبه البكاء فأجهش به (رفع صوته بالبكاء), ولكنه حاول أن يكظم (يكتم) صوته ما استطاع, ويظن بأن أخاه قد سمعه ولكنه لم يغير رأيه وأغلق الباب واستمر في طريقه. كيف حاول الفتى أن يخفف عن أخيه الصبي؟ بكي الصبي ما أرضى نفسه وانقضت الليلة مثل كل ليلة لا يستطيع النوم إلا بعد عودة أخيه, ولكن في الصباح بعد أن عاد الصبي من درس الفقه وأفطر قدم له أخوه ألوانا من الحلوى كان قد اشتراها له في أثناء عودته من سمره, وهنا فهم الصبي وفهم الفتى ولكن لم يتحدثا عن الأمر. كيف انتهت وحدة الصبي؟ ( كيف تم حل المشكلة) بعد يوم ويوم آخر, وصل كتابا للشيخ سلمه له الحاج فيروز, ولما فضه (فتحه) وقرأ ما فيه, وضع يده على كتف الصبي وقال له بصوت ملأه بالحنان والرفق, " لن تكون وحيدا في الغرفة منذ الغد, فسيحضر ابن خالتك طالبا للعلم وستجد منه مؤنسا ورفيقا" الفصل الثامن فرحة الصبي كان ابن خالته رفيق صباه وصديقا أثر(مفضلا) وكان كثيرا ما يهبط من بلدته في أعلى الإقليم لزيارة الصبي فيمكث معه الشهر والأشهر, يختلفان (يترددان) معا إلى الكتاب فيلعبان وإلى المسجد فيصليان, ثم يعودا إلى البيت مع الأصيل (قبيل الغروب /ج/ آصال) وكانا في البيت يقرءان في كتب القصص والسمر ويلعبان وكثيرا ما كانا يحلمان ويتمنيان, وتعاهدا على ن يذهبا معا للقاهرة ويطلبان العلم في الأزهر. اشترك الصبيان في انتظار الأزهر. وضح. لقد كان ابن الخالة يهبط من أعلى الإقليم في الصيف, وقد أعطته أمه النقود والزاد وودعته وهي تظن انه سيرافق الفتى الأزهري إلى الأزهر, ولكن سرعان ما يضيع حلمه ويشارك الصبي في الانتظار ثم الغضب ثم الحزن والبكاء, وما كان ذلك إلا أن الأسرة أو الفتى الأزهري رأى أنه ما زال مبكرا لم يئِن (يحين موعد) أن يذهب الصبي وابن الخالة إلى الأزهر, فكان يفترقان ويعود الصديق ابن الخالة إلى أمه محزونا. ما أثر هذا الخبر على الصبي؟ لم يكن غريبا على الصبي أن يقع هذا الخبر على نفسه موقعا حسنا لما بينه وبين ابن خالته من صداقة ومشاركة في الحزن والفرح. وقضى الصبي ليلته مبتهجا لم يسمع للغرفة ولا لحشرات صوتا كما كان يحدث كل ليلة, فقد كان مشغولا بفرحة وابتهاجه بخبر حضور ابن خالته عن صوت الحشرات, ولكنه شعر بالأرق والقلق لما استبطأ الصبح (رآه بطيئا) وتعجل الوقت. كيف قضى الصبي صباحه في هذا اليوم؟ ذهب الصبي إلى الأزهر فاستمع إلى درس الحديث والشيخ يتغنى به سندا (السند هو نسب الحديث لقائله ورفعه إليه) ومتنا (المتن الأصل الذي يشرح وتضاف إليه الحواشي) ولكنه لم يهتم بما يقول الشيخ ولم يلق له بالا (اهتماما) قد كان مشغولا بحضور صديقه. ثم جاء درس الفقه فلم يجد مفرا من الاستماع والاهتمام لأن أخاه أوصى به الشيخ الذي كان يحاوره ويناظره ويضطره إلى الاستماع والفهم. كيف كان الصبي غرفته وقت الضحى؟ ثم عاد إلى الغرفة فأنفق (قضى) وقته في هدوء وقلق, فقد كان هادئا في ظاهر الأمر حتى لا يظهر( يطلع) أخوه أو أحد من أصحابه على أن هناك شيء تغير فيه, وكان قلقا في دخيلة نفسه (عمق /ج/ دخائل) لأنه يتعجل الوقت ويستبطئ العصر الذي سيصل فيه القطار إلى محطة القاهرة. طريق ابن الخالة من المحطة إلى الربع حينما دعا المؤذن لصلاة العصر لم يبق على لقاء الصبي بابن الخالة إلا وقت قصير تقطع فيه العربة النقل المسافة بين المحطة والحي, وتمر في طريقها بباب البحر فباب الشعرية وتنتهي إلى الباب الذي ستنعطف نحوه فتمر بين دخان القهوة وقرقرة الشيشة. وصول ابن الخالة سمع الصبي قدمان تضربان أرض الربع ولم يتردد في معرفة صاحبهما, فقد كان ابن خالته, الذي ألقى عليه سلاما ضاحكا وتعانق وهما يضحكان. وبدأ سائق العربة في نقل ما أحضرته الأسرة من الطرف (المستحدث من كل شيء/م/ طرفة) والزاد. ما الذي تأكد منه الصبي؟ تأكد الصبي أن العشاء هذه الليلة سيكون دسما, وأن الأصدقاء جميعهم سيشاركون فيه, وانه لن يخلو الصبيان إلى بعضهما حتى يقوم القوم ليشهدوا درس الأستاذ الإمام. ما أثر وصول ابن الخالة على حياة الصبي؟ لقد كان لابن الخالة أثر كبير في حياة الصبي, فقد تغيرت حياته تغيرا شاملا, فذهبت عنه الوحدة والعزلة حتى أنه رغب فيها في بعض الأحيان, وكثر عليه العلم حتى ضاق به أحيانا أخرى. الفصل التاسع تغير حياة الصبي لقد تغيرت حياة الصبي منذ وطأ ابن خالته القاهرة, وأيسر (أقل -أسهل) ذلك أنه هجر ذلك البساط البالي(التالف) العتيق(القديم) الذي كان يجلس عليه قبل ذلك معظم وقته, بل أصبح لا يعرفه إلا حين يجلس للإفطار أو العشاء أو حين يأوي (يلجأ ويذهب) إلي مضجعه (مكان نومه /ج/مضاجع) حينما يتقدم الليل. أين كان يقضي الصبي يومه؟ لقد كان يقضى يومه كله أو أكثره في الأزهر وما حوله من المساجد التي يختلف فيها إلى بعض دروسه. فإذا عاد إلى الربع لم يدخل غرفته إلا ليتخفف من عباءته ثم يخرج ويجلس مع صاحبه على بابها على فراش من الُّلبد ( بساط مصنوع من الصوف /ج/ ألباد ولبود) ولم يكن يترك للمارة في ذلك الطريق إلا موضع قدم أو قدمين. مجلس الصبيين على باب الغرفة لقد كان هذا المجلس بالنسبة للصبيين مجلس لهو ودرس, فقد كانا يلهوان ويتحدثان قليلا ويقرءان كثيرا, وقد يفزعان لما يجري في الطبقة السفلي من أحداث أو أصوات فيرى أحدهما ويسمع الآخر ثم يفسر له صاحبه ما لا يراه. أثر ابن الخالة على الصبي بالنسبة للربع: عرف الصبي الربع وأهله أكثر مما كان يعرف قبل وصول ابن الخالة, فقد سمع من أحاديث الناس أكثر مما كان يسمع وعاش جهرا بعد أن كان يحيا بينهم سرا. بالنسبة للأزهر: لم تكن متعة الصبي ولذته الحقيقية في الربع, وإنما كانت في الأزهر, فقد استراح من درس الفجر (الحديث) وتلبث (طال انتظاره) في الغرفة حتى يدنو درس الفقه. بالنسبة للطريق: لم يكن يخرج الصبي من غرفته إلا مع اقتراب درس الفقه, فيسلك نفس الطريق الذي يسلكه مع أخيه ولكنه يسلكه مع صاحبه متحدثين مرة بالجد وأخرى بالهزل, وكثيرا ما انحرفا عن حارة (الوطاوط) القذرة, وسلكا طريق(جعفر خان) النظيف, وفي كلتا الحالتين ينتهيان إلى شارع سيدنا الحسين. ما العادة التي تعودها الصبي منذ أن جاء ابن الخالة؟ علمه ابن الخالة أن يقرأ الفاتحة كلما مر بمسجد الحسين حتى تعود على ذلك, فلم يمر بهذا المسجد يوما حتى بعد أن تقدمت به السن واختلفت أطوار حياته إلا وقرأ الفاتحة. الصبي وصديقة والطعام لقد تغيرت حياة الصبي تغيرا تاما بوجود صديقه, حتى في الطعام, فقد اختلف ما كان يأكله منذ أن جاء ابن الخالة إلى القاهرة عما كان يأكله قبل وجوده. كم من المال الذي خصصه لهما الفتى أخو الصبي؟ فقد خصص لهما الأخ الفتي مقدارا يسيرا من النقد(المال /ج/ نقود) لم يتعد القرش الواحد كل يوم لإفطارهما على أن يأخذا جراية (عدد من الأرغفة تجرى على كل طالب من الأزهر) الشيخ الفتى من رواق الحنفية (مكان مخصص لطلاب الأزهر الوافدين الذين يدرسون المذهب الحنفي بالأزهر) وهي عبارة عن أربعة أرغفة يأكلان منها رغيفين في الإفطار ورغيفين في العشاء. كيف عرف الصبي وصديقه الاحتيال على قلة المال؟ (كيف تعلما الاقتصاد؟) لقد تعلم لصبي وابن خالته كيف يقتصدان ليمتعا أنفسهما بعض ما تتوق به النفس من طرائف (المستحدث والغريب والطيب من الطعام /م/ طريفة × التالد والتليد) الطعام والشراب, ومن ذلك ..... (البليلة) وكانا إذا خرجا مع باكرا وخرجا من الفجوة الضيقة من الباب المقفل , واستدارا ليأخذا طريقهما إلى الأزهر, توقفا عند بائع البليلة التي كانا يحبانها حبا شديدا لكثرة ما أكلا منها في الريف, ولكثرة ما يوضع عليها من السكر الذي يختلط بحبات البليلة ويذوب في مائها الحار, ومن شدة حرارة الماء لا يكادان يسيغانه (يستعذبانه ويسهل مدخله في الحلق). ( أثر البليلة على الصبيين) فتطرد عنهما بقية النوم وتبث في جسميهما النشاط وتثير في أفواههما وأجوافهما لذة ومتعة, وتُهيئهُما لدرس الفقه بعد أن عمرت بطونهما ورءوسهما معا. (التين المرطب) ويُقدم عند الباعة في شارع سيدنا الحسين فيجلسان على مجلس ضيق من الخشب مفروش بحصير ضيق أو غير مفروش في كثير من الأحيان, ولكنه وثير (ناعم لين) وينتظران البائع الذي يقدم لهما التين المرطب في إناء صغير فيلتهمانه التهاما ثم يعبان نم مائه عبا ثم يأكلان ما تحته من زبيب في أناة وهدوء. (الهريسة والبسبوسة) وفي بعض الأحيان أثناء عودتهما من الأزهر عصرا كانا يجوران على ثمن العشاء فيقفان عن بائع الهريسة أو بائع البسبوسة ويأكلان ما يرضي لذتهما البريئة من هذين اللونين من الحلوى, وكانا في ذلك مطمئنين على طعام الإفطار والعشاء. مم تكون طعام الإفطار؟ (كيف ينفق الصبيين القرش؟) لقد كان تدبير طعام الإفطار أمرا يسيرا, فكان يكفيهما أن يقفا عن أحد باعة الفول النابت ومعهما الرغيفين ويدفعان له (مليمين ونصف المليم) واشتريا بنصف مليم حزمة كراث, فيقدم لهما البائع طبق ضخم عميق امتلأ مرقا وسبحت فيه حبات الفول, فيغمسان رغيفهما في المرق ويتصيدان ما يستطيعان من حبات الفول, ويلتهمان ما تحمله يدهما اليسرى من كراث. وبانتهاء الرغيف والكراث يكونا قد امتلآ أو كادا يكتظان (يمتلآن) فيقبل الصديق على ما تبقى من مرق فيعرض على الصبي أن يشربه فيستحي الصبي أن يقبل فيضحك ابن الخالة ويشرب ما تبقى من المخرق حتى يعيده إلى البائع نظيفا. متعة العقل بعد متعة البطن وبعد أن أرضى الصبي وصديقه بطنيهما من طعام الإفطار, أسرعا إلى الأزهر ليرضيا عقليهما من العلم, فكان يحرص كل الحرص على حضور درس الفقه والحديث على يد الشيخ المجدد المحافظ حرصا على رضا أخيه. كيف كان يرضى الصبي أخاه ونفسه في ذات الوقت؟ كان إذا أفطر أسرع إلى الأزهر وحافظ على درس الشيخ المجدد المحافظ (درس النحو الفقه) طاعة لأخيه وإرضاء لنفسه. ولكنه كان يطمع في أن يسمع لغير هذا الشيخ وأن يذوق غير هذين اللونين من العلم, وقد أتيح له ذلك بفضل هذه الدروس التي تلقى على الطلاب في الضحى بعد إفطارهما. سمات درس شرح الكفراوي كان يلقى في الضحى من كل يوم على يد شيخ جديد في الدرجة قديم في الأزهر, تقدمت به السن طال عليه الانتظار حتى حصل على درجة العالمية, وبدأ كما يبدأ أمثاله بقراءة (شرح الكفراوي) ما الذي أغرى الصبي بالمواظبة على درس شرح الكفراوي؟ لقد سمع الصبي كلاما كثيرا من أخيه الشاب والشيخ الأول عن شرح الكفراوي, يظهر سخطهما عليه وعبثهما به, مما شجعه على الاستماع لهذا الدرس حتى افتتن به. ما أثر استماع الصبي لدرس شرح الكفراوي عليه؟ بمجرد أن حضر الصبي وصديقه واستمع للأوجه التسعة لقراءة وإعراب (بسم الله الرحمن الرحيم) حتى افتن (أعجب) بهذا اللون من العلم وكلف به (تعلق به), وأصبح يواظب على حضوره لهذا الدرس في دقة كما كان يواظب على حضور درسه الأول على يد الشيخ الأول. درس النحو تعلم ولهو لدى الصبي كان الصبي يرى في درسه الأول تعلما لعلم النحو وذلك أن الشيخ الذي اختاره له أخوه كان يعلمهم مبادئ النحو وأساسياته, وأما في درسه الجديد فقد كان يلهو بالدرس والشيخ معا, فكان يلهو في هذا الدرس بالإعراب المتصل الذي ألح فيه الشارع على المنتن إلحاحا شديدا. كما كان يلهو بهذا الشيخ الذي كان يقرأ المتن (الأصل الذي يشرح منه) والشرح ويفسر ما يقرأ في صوت غريب يدفع للضحك, وذلك أنه كان يغنى ولا يقرأ, كما أن غناؤه لم يكن يصعد من صدره وإنما يهبط من رأسه, وكان صوته غريبا يجمع بين صلتين متناقضتين, فهو أصم مكظوم (مملوء فمه) وفي ذات الوقت ممتدا عريضا. صفات الشيخ الجديد لقد كان الشيخ من أهل الصعيد بل هو من أقصى الصعيد لم يغير لهجته الإقليمية في الكلام أو القراءة ولا في الغناء, وكان غليظ الطبع يقرأ في *** ويسأل في *** ويرد علي طلابه في ***, وكان سريع الغضب لا يكاد يسأله أحد طلابه حتى يشتم السائل فإن ألح عليه في السؤال لكمه بيده إذا كان قريبا وإن كان بعيدا رماه بحذائه الغريب. حذاء الشيخ كان حذاء الشيخ غليظا كصوته جافيا كثيابه وكان مليئا بالمسامير التي تحفظه من البلى (التلف), حتى أن الصبي كان يفكر في مصير ذلك الطالب الذي يرمى بالحذاء في وجهه أو ما كشف من جسده. أثر طبع وحذاء الشيخ على طلابه لقد أشفق الطلاب (خافوا) من سؤال الشيخ فخلوا (تركوا) بينه وبين القراءة والتفسير والتقرير والغناء, ومن أجل ذلك لم يضع وقت الشيخ ولا وقت الطلاب, فقد بدأ سنته بشرح الكفراوي وأنهاها وقد أنهى شرح الكفراوي والشيخ خالد إلا كتابا واحدا من شرح الشيخ خالد, وعلى النقيض نجد أن الشيخ المجدد المحافظ لم يكن قد تجاوز بطلابه الأبواب الأولى من النحو. أثر الشيوخ على حياة الصبي النحوية قضى الصبي إجازة الصيف ثم عاد إلى الأزهر فلم ير شيخه المجدد المحافظ, وإنما سلك طريق سائر الأزهريين فدرس في الفقه شرح (الطائي على الكنز) وحضر في النحو (حاشية العطار على شرح الأزهرية). ويطالبنا الكاتب ألا نستبق الأحداث وأن نبقى معه في السنة الأولى للصبي في الأزهر. فإذا انتهى من درس الضحى انتقل إلى درس الظهر ثم يعود إلى غرفته فيطالع مع صديقه دروس الغد كما يفعل أصحاب الجد من الطلاب, وقد يمضي وقته في قراءة كتب مختلفة قد يقرأ ما فيها وقد لا يفهم. عشاء الصديقين إذا بدأت غروب الشمس أقبل الصديقان على العشاء بحسب ما بقي معهما من مال, فإن تبقى معهما نصف قرش قسماه نصفين فاشتريا بنصفه شيئا من الحلوى الطحينية وينصفه الآخر شيئا من الجبن وقطع الحلاوة, وكانا يشعران بأن لهذا المزاج الغريب طعما لذيذا. وإن ولم يتبق لهما إلا ربع قرش بعد أن أسرفا في شراء البليلة أو التين صباحا اشتريا به شيئا من الطحينة وصبا عليها العسل الأسود أو الأبيض الذي كان يأتيهما من الريف. فإن ولم يتبق شيئا بعد أن جارت البليلة أو التين أو كلاهما على نقدهما, لم يشعرا بالهم, وذلك أنهما حفظا رغيفيهما ويغمسانهما في صفيحة العسل الأسود أو صفيحة العسل الأبيض, وذلك يجزئ(يكفي ويغني) عن الحلاوة الطحينية والجبن والطحينة. وقد يبيحان لأنفسهما في هذا البؤس شيئا من الترف فيقسما الرغيف فيغمسا نصفه في العسل الأسود والنصف الآخر في العسل الأبيض. درس المنطق إذا ما صعد المؤذن إلى المئذنة ليؤذن للمغرب, أسرع الصديقين إلى الأزهر ليحضرا بعد الصلاة درس المنطق كالكبار وهو (متن السلم للأخضري). شيخ درس المنطق لم يكن شيخا بل كانا يحضران على يد طالب يرى في نفسه أنه عالم, رغم أن الأزهر لم يعترف له بالعالمية, رغم طول دراسته في الأزهر وإلحاحه في طلبها, ولكنه لم يظفر بها, فلم يرض بحكم الممتحنين ولم ييئس فكان يطاولهم (يجادلهم) بحضور الدرس والامتحان ويغيظهم من جهة أخرى بجلوسه إلى أحد الأعمدة بعد المغرب ومن حوله بعض الطلاب يقرأ عليهم كتابا في المنطق كما يقرأ العلماء الممتازون, ولم يكن يقدر على تعليم المنطق إلا هؤلاء الممتازون من العلماء. رأي الصبي في طالب الشيخ يرى الصبي أن ذلك الطالب الشيخ لم يكن بارعا ولا ماهرا في التعليم وأن جهله وعجزه يظهران لكل من يسمعه حتى لهؤلاء الطلاب المبتدئين, وكان حاد الطبع سريع الغضب ولكنه لم يكن يشتم أو يضرب لعدم حصوله على درجة العالمية, والتي تبيح له ضمنا ذلك. ما رأي الصبي في درجة العالمية؟ رأى الصبي أن درجة العالمية كانت تمنح صاحباه ضمنا حق الشتم والضرب لطلابه. من أين جاء هذا الطالب؟ جاء هذا الطالب من أقصى الصعيد فاحتفظ بلهجته ولم يغير منها شيء في حديثه أو قراءته. تحذير أخو الصبي للصديقين من الطالب الشيخ لقد سمع الصبي وصديقه كل هذه الأمور عن ذلك الطالب الشيخ من أخيه ومن كبار الطلاب ولكنهما لم يمتنعا عن الحضور والمواظبة (المداومة) عليه. فقد أرادا أن يقولا لأنفسهما أنهما يدرسان المنطق, وليقولا لأنفسهما أنهما يذهبان للأزهر بعد صلاة المغرب ويعودان منه بعد العشاء كما يفعل الطلاب الكبار والمتقدمون. نهاية العام الدراسي انتهت السنة الدراسية في الأزهر وقدم الصيف وختمت دروس الفقه والنحو, وأسرع الطلاب يتفرقون إلى أهليهم في المدن والقرى وكان الصبي يتشوق إلى هذه الأجازة ويتحرق حنينا إلى الريف. الصبي والإجازة جاء الصيف ومعه الإجازة ولكن الصبي لم يشأ أن يعود إلى الريف, وامتنع عن العودة, وكان في ذلك صادقا متكلفا (مظهر غير الحقيقة) فكان صادقا لأنه أحب القاهرة وكلف بها (أولع بحبها) وشق عليه (صعب واشتد×سهل ولان) فراقها والرحيل. وكان متكلفا, لأنه رأى ما يقوم به أهوه من إنفاق معظم الإجازة في القاهرة, فكانت الأسرة تكبر منه ذلك (تعظمه) وتراه آية ودليل على الجد والاجتهاد, فأراد أ، يصنع ما يصنعه أخوه فتظن فيه الأسرة والناس ما يظنوه في أخيه. هل نفعه حبه أو تكلفه للبقاء في شيء؟ بطبيعة الحال لم ينفعه ذلك الحب أو ذلك التكلف , فقد قرر الأخ أن يرسله وصديقه إلى القرية, فأخذتهما عربة من عربات النقل ومعهما ملابسهما في حزمتين, ثم أخذ لها تذكرتين ثم وضعهما في القطار في عربات الدرجة الثالثة, وانطلق بهما القطار, وبعد محطة أو محطتين نسي الصبي وصديقه القاهرة والأزهر والعلم وبدا يتذكران الريف ومتعته ونعيمه الفصل العاشر تمرُّد الصبي وصل الصبيان بعد صلاة العشاء إلى محطة القطار في المدينة فلم يجدا أحدا في انتظارهما, ولما وصلا إلى الدر وجدا أن كل شي كما هو لم يتغير شيء. حياة الأسرة المعتادة فقد فرغت الأسرة من العشاء منذ وقت طويل, وأتم الشيخ صلاته ثم خرج لأصحابه, ,أسرعت الأخت الصغرى تحمل الصبيان واحدا تلو الآخر إلى مضاجعهم بعد أن تناوموا (تظاهروا بالنوم) والأم قد اضطجعت على فراش من لبد تستريح من عناء اليوم, ولكنها لا تستطيع بعد أن تجتمع بناتهما حولها يتحدثن كالعادة, فإذا عاد الشيخ أوت الأسرة كلها إلى مضاجعها, فلا يسمع إلا صوت الكلاب وتصايح الديكة في الدار وفي أطراف القرية. ما أثر وصول الصبيان على الأسرة؟ لما دخل الصبيان على الأٍسرة أصابها الوجوم (السكوت على هم وحزن) لأنها لم تخبر بأنهما في الطريق فلم تعد لهما طعاما خاصا ولا حتى الطعام المألوف, كما أنها لم ترسل إليهما أحدا ليستقبلهما في محطة القطار. استقبال الأسرة وأثره على الصبي استقبلت الأسرة استقبالا لم يكن يتوقعه, فقد كان ينتظر أن تستقبله الأسرة كما تستقبل أخاه الأزهري بحفاوة (مبالغ في الإكرام) وفرح واستعداد عظيم. وفقد نهضت الأم وقبلته ثم ضمه أخواته إلى صدورهن, وأعطاه أباه يده فقبلها ثم سأله عن أخيه في القاهرة, ثم أوت الأسرة كلها إلى الفراش. فقد خاب أمله في الاستقبال والحفاوة, ونام الصبي على مضجعه القديم وهو يكتم كثيرا من غيظه وكثيرا من خيبة الأمل. استقبال الناس للصبي مضت الحياة في القرية كما هي قبل أن يذهب إلى القاهرة, فأصبح كأنه لم يذهب إلى القاهرة ولم يتعلم في الأزهر النحو والفقه والحديث والمنطق. فالناس لم يذهبوا إلى بيته ليسلموا عليه ويرحبوا به بل كانوا يقابلونه في الطريق بفتور وإعراض, ويلقون عليه سؤالهم ها أنت ذا؟ أعدت من القاهرة؟ كيف أنت؟, ثم يسألونه عن أخيه الفتى الأزهري. واضطر للعودة إلى الكتاب مرة أخرى وعاد ليقبل يد سيدنا ويلقاه بالتحية والإكرام, ويضطر لسماع كلامه الفارغ الذي اعتاد أن يسمعه قبل ذهابه للقاهرة. حتى التلاميذ يلقونه كما كانوا ولا يشعرون بأنه غاب عنهم سنة كاملة في القاهرة, بل لم يسأله أحد منهم عما رآه أو سمعه في القاهرة, ولو سألوه لأخبرهم بالكثير. أثر هذا الاستقبال على الصبي استقر في نفس الصبي أنه ما يزال, كما كان قبل رحلته إلى القاهرة, قليل الخطر (الأهمية) ضئيل الشأن, لا يستحق عناية به ولا سؤالا عنه, فآذى ذلك غروره, وقد كان غروره شديدا, وزاده ذلك إمعانا (تأكيد) في الصمت وعكوفا (إقبالا على نفسه والتزاما) على نفسه وانصرافا إليها. تمرد الصبي: (كيف لفت الصبي أنظار الناس إليه؟) لم تمر أيام حتى غير الصبي رأي الناس فيه ولفتهم إليه, ولكنه ليس لفت عطف أو شفقه أو مودة, ولكنه لفت إنكار وإعراض وازورار (ميل وانحراف) وأصبح ينكر ما كان يألفه وينكر ما كان يعرف, ويتمرد (يعاند في إصرار وعصيان) على من يظهر لهم الإذعان (الخضوع والانقياد), وقد كان صادقا في ذلك أول الأمر فلما أحس منهم الإنكار والازورار والمقاومة لما يقول, تكلف العناد وغلا (زاد) في الشذوذ (الانفراد ومخالفة الجماعة). كيف تمرد الصبي على والده؟ وازداد الأمر عندما سمع أباه يقرأ (دلائل الخيرات) كما كان يفعل دائما بعد صلاة الصبح أو العصر, فرفع كتفيه وهز رأسه ثم ضحك, وقال لإخوته "إن قراءة دلائل الخيرات عبث لا غناء فيه" لم يهتم به إخوته ولم يلتفتوا له, لكن أخته الكبرى زجرته (منعته ونهرته) زجرا عنيفا, وسمعها الشيخ فلم يقطع قراءته وإنما أتمها ثم أقبل على الصبي هادئا باسما يسأله ماذا كان يقول؟ فأعاد عليه كلامه, فلما سمعه الشيخ هز كتفيه وضحك ضحكة قصيرة وقال له في ازدراء "ما أنت وذاك! هذا ما تعلمته في الأزهر؟ فغضب الصبي وقال لأبيه نعم وتعلمت في الأزهر أن كثيرا مما تقرؤه في هذا الكتاب حرام يضر ولا ينفع, فما ينبغي التوسل بالأنبياء ولا بالأولياء, وما ينبغي أن يكون بين الله وبين الناس واسطة وإنما هذا لون من الوثنية غضب الشيخ وتهديه للصبي فلما سمع الشيخ ذلك غضب غضبا شديدا ولكنه كظم غيظه واحتفظ بابتسامته وقال قولا أضحك الأسرة كلها حيث قال: اخرس قطع الله لسانك, ولا تعد هذا الكلام وإني أقسم لئن فعلت لأمسكنك في القرية ولأقطعنك عن الأزهر ولأجعلنك فقيها تقرأ القرآن في المآتم والبيوت" ثم انصرف الشيخ تاركا الأسرة تضحك من الصبي, ولكن هذه القصة القاسية لم تزد الصبي إلا عنادا وإصررا. هل استمر الشيخ يؤنب الصبي على كلماته؟ لم يستمر الشيخ في تأنيب الصبي وزجره على ما قال, بل نسي ما قاله الصبي بعد ساعات وجلس الجميع للعشاء فسأله الشيخ عن أيه الفتى الأزهري. سؤال الشيخ عن الفتى الأزهري كان يحب الشيخ أن يسأل عن الفتى الأزهري, وكان يجد متعة ولذة في إعادة الحديث حوله ابنه فكان يسأل عن حله ووقته كيف يقضي وأساتذته وكتبه وكل شيء, فكان الفتى يخبره بما يريد, ولكنه إذا ما أعاد عليه نفس الأسئلة مرة أخرى كان يبخل الصبي في الإجابة فلم ينكر عليه ذلك صراحة أمام الأبناء ولكنه كان يشكوه لزوجته إذا ما خلا بها. ما شعور الشيخ وهو يسمع أحوال ابنه الفتى الأزهري؟ لقد كان الشيخ يجد لذة في سماع إجابات الصبي عن أسألته المتكررة عن الفتى الأزهري وشيوخه وكتبه وأحواله, بل كان يقص بعض هذا الحديث على أصحابه ويفتخر بابنه الذي يزور الشيخ بخيت والإمام محمد عبده, وكيف أنه يعترض على شيوخه أثناء الدرس وإحراجه لهم فيتعدون عليه بالشتم والضرب أحيانا. ما موقف الصبي من تكرار سؤال الشيخ عن الفتى الأزهري؟ لقد كان الصبي سمحا طيعا لا يمتنع عن الإجابة على أبيه ولا يمل من تكرار الأسئلة, وكان يشعر بلذة أبيه ومتعته ورضاه عن هذه الأحاديث ولذلك كان يخترع ما لم يحدث ويحفظه حتى إذا ما عاد إلى أخيه الأزهري في القاهرة قصه عليه. سخرية الصبي في رده في تلك الليلة وفي هذه الليلة جدد الشيخ سؤاله عن الفتى وحاله وكتبه وشيوخه فرد الفتى في خبث وكيد, إنه يزور قبور الأولياء وينفق نهاره في قراءة كتاب (دلائل الخيرات) وما أن أتم هذه الكلمات حتى أغرقت الأسرة كلها في ضحك شديد شرق له الصغار (غُصُّوا به) بما كان في أفواههم من طعام وشراب, حتى أن الشيخ نفسه كان أسرعه إلى الضحك وأشدهم إغراقا فيه. ما مصير نقد الصبي لأبيه؟ لقد استحال (تحول) نقد الصبي لأبيه على قراءة دلائل الخيرات والتوسل بالأنبياء والأولياء موضوع لهو وعبث وفكاهة للأسرة أعواما وأعوام, وعلى الرغم من أن الأمر كان يحفظ الشيخ (يغضبه) ويؤذيه في نفسه وفيما ورثه من عادات وتقاليد, إلا أنه يجد فيه لذة ومتعه تجعله يغري ابنه الصبي دائما لنقده والحديث في ذلك. خروج تمرد الصبي إلى القرية: (إلى من وصل تمرد الصبي؟) لم يلبث أن تخطى (تجاوز) تمرد الصبي وشذوذه الدار غلى مجلس أبيه وإلى دكان الشيخ محمد عبد الواحد, وإلى المسجد حيث الشيخ محمد أبو أحمد رئيس فقهاء المدينة يقرأ القرآن للصبية والشباب, ويصلي بالناس ويفقههم في دينهم أحيانا, وكذلك وصل الشذوذ إلى الشيخ عطية التاجر الذي تعلم في الأزهر عواما ثم عاد لريف وانشغل بالتجارة ولم ينصف عن الدين فكان يجلس بعد العصر من حين لآخر يعظ الناس ويفقههم وربما قرأ لهم شيئا من الحديث. كيف تمادى الصبي في نقد العلماء والتمرد عليهم؟ وقد وصل كلامه كذلك إلى قاضي المحكمة الشرعية إلى ذلك الشيخ الذي كان يكتب للقاضي والذي يرى أنه أعلم من القاضي بالشرع وأفقه منه بالدين وأحق منه بالقضاء لولا أنه لم يظفر بتلك الورقة التي تسمى العالمية والتي تشترط لتولي منصب القضاء والتي تنال بالجد والاجتهاد القليل والحظ والتملق الكثير في أكثر الأحيان أثر شذوذ وتمرد الصبي على علماء القرية لما سمع هؤلاء الناس بما قاله الصبي وتحريمه التوسل بالأنبياء قالوا إنه صبي ضال مضل ذهب لقاهرة فاستمع لمقالات الشيخ محمد عبده الضارة وآراءه الفاسدة المفسدة ثم عاد للمدينة ليضل الناس. كيف حاول الناس التعامل مع الصبي؟ وصفوه بأنه ضال مضل تعلم على يد الشيخ محمد عبده صاحب الآراء الفاسدة المضلة, وحاول بعضهم أن يراه ويسمع منه ويرد عليه, فكانوا يذهبون إلى أبيه وأصحابه ويطلبن رؤية ابنه فيذهب الشيخ ويأتي بابنه من ملعبه في الدر مع إخوته, فإذا سلم عليهم بدأ بعض القادمين الحديث معه بود ورفق, فإذا اتصل الحديث واشتد الموقف وصل الحديث إلى درجة ال***, كثيرا ما قام القادمون وانصرفوا غاضبين يستغفرون الله ويتعوذون به من الشيطان الرجيم. أثر هذا الجدال على الشيخ وأصحابه؟ لم يدرس الشيخ أبو الصبي في الأزهر ولا أصحابه ولم يتفقهوا في الدين ولكنهم كانوا يرضون بهذه الخصومات وهذا الجدال,ويعجبون به ويبتهجون بهذا الصراع بين ذلك الصبي النشء وهؤلاء الشيوخ الشيِّب. ولكن أبا الصبي كان أشدهم غبطة وسرورا, ورغم انه لم يصدق كلمة واحدة مما قالها ابه في مسألة التوسل وعجز الأولياء عن إحداث الكرامات ( الأشياء الخارجة عن المألوف يظهرها الله على يد أوليائه) ولكنه كان يحب أن يرى ابنه محاورا مخاصما ظاهرا على محاوريه,ولذلك كان يتعصب به تعصبا شديدا, وكان يسمع ويحفظ كل ما يقول الناس ويخترعونه من أمر ابنه الغريب, ثم يعود مساءا فيقص ما سمعه على زوجته راضيا حينا وساخطا حينا آخر. كيف انتقم الصبي لنفسه من تلك القرية التي لم تستقبله كما كان يحب؟ لقد استطاع الصبي أن ينتقم لنفسه فخرج من عزلته وجعل الجميع يتحدث عنه ويفكر فيه داخل القرية والمدينة, وتغيرت مكانته في الأسرة, فلم يعد يهمله أبوه ولم تعرض عنه أمه وإخوته, ولم تعد الصلة بينهم قائمة على الرحمة والإشفاق بل على شيء أكثر من ذلك في نفس الصبي وهو العلم. هل نفذ الشيخ تهديده بحرمان الصبي من الزهر؟ بالطبع لا, فقد انقطع النذير (الإنذار بالشر) والتهديد الذي سمعه الفتى أول الإجازة, بأنه سيبقى في القرية وييصبح فقيها يقرأ القرآن في المآتم والبيوت, والدليل على ذلك أنه أصبح ذات يوم فنهض مع الفجر ونهضت الأسرة كلها تودعه وهو عائد إلى الأزهر, فقبلته أمه وهي تذرف الدمع على فراقه, ثم أخذه أبوه وأجلسه وصاحبه في عربة القطار رفيقا (لطيفا لين الجانب) وهو يسأل الله أن يفتح عليه. كيف عاد الصبي للربع في القاهرة؟ أركبه أبوه القطار مع صاحبه وابن خالته, ولما نزل في محطة القاهرة وجد أخاه ينتظره مبتسما له ثم حمل ما معه على عربة نقل وأركبه بجانبه عربة ركوب وأعطى السائق عنوان الربع. الفصل الحادي العاشر إقبال الصبي على الأدب متى عرف الصبي بالأدب؟ لقد عرف الصبي عن الأدب منذ أن وصل إلى القاهرة, فقد سمع أخوه وأصحابه يتحدثون عن الأدب والأدباء والعلم والعلماء. الشيخ الشنقيطي وسمع حديث الأدب منهم عندما كانوا يتحدثون عن الشيخ (الشنقيطي) رحمه الله وحماية الأستاذ الإمام له وبره به (عطفه عليه),وكان لهذا الاسم الأجنبي على سمع الصبي أثر غريبا, وزاد من عجبه ما يسمعه من أعاجيب الشيخ وأطواره (أحواله) الشاذة وآرائه التي تضحك قوم وتغضب آخرين. صفات الشيخ الشنقيطي تحدث الطلاب الكبار عن هذا الشيخ وأنهم لم يروا قط ضريبا له (مثيلا وشبيها ج/ضرباء وأضرب) في حفظ اللغة ورواية الحديث سندا ومتنا عن ظهر قلب. كذلك تحدثوا عن حدته وشدته وسرعة غضبه وانطلاق لسانه بما لا يطاق من القول, حتى اتخذوه مثلا لحدة المغاربة (أهل المغرب), وتحدثوا عن إقامته في المدينة ورحلاته إلى قسطنطينية وزيارته الأندلس. وتحدثوا عن حياته العليمة وذكروا أن له مكتبة غنية بالمخطوطات والمطبوعات في مصر وفي أوربا, وأنه يقضى أغلب وقته في درا الكتب إما ناسخا أو قارئا, فلم يكن يقنع بما ليده من مكتبة ضخمة. أغرب عجائب الشيخ الشنقيطي وكان للشيخ الشنقيطي قصة كبرى شغلت الاس به وشغلته بالناس, وكانت سببا لتعرضه لكثير من الشر والألم, وهذه القصة تتعلق برأيه في أن (عمر) مصروف وليس ممنوعا من الصرف. ما أثر الحديث عن كلمة (عمر) على الصبي؟ كان الصبي يسمع لهذا الكلام ولكنه لم يفهم منه شيئا في بداية الأمر, ولكن بعدما تقدم في درس النحو فهم المقصود من هذه القضية بوضوح, وذلك أنه درس الصرف والممنوع من الصرف. مناظرة الشيخ الشنقيطي مع علماء الأزهر وذكر هؤلاء الشباب أن جماعة من علماء الأزهر تناظروا مع الشيخ الشنقيطي حول صرف كلمة (عمر) وضحكوا لما ذكروا تلك المناظرة التي اجتمع فيها علماء الأزهر وعلى رأسهم شيخ الجامع ليتحدثوا في قضية صرف (عمر) فرفض الشيخ الشنقيطي أن يتحدث إليهم إلا بعد أن يجلسوا منه مجلس التلميذ من الأستاذ, فلما تردد العلماء أسرع أحدهم في مكر وخبث وجلس بين يديه متربعا على الأرض, ثم أخذ الشيخ يعرض رأيه فقال: انشد الخليل يا أيها الرازي على عمرٍ فأسرع الشيخ الجالس مجلس التلميذ وقال, لقد رأيت الخليل أمس وأنشدني البيت هكذا: يأيها الرازي على عمرَ... فقاطعه الشيخ الشنقيطي مسرعا غاضبا وقال كذبت كذبت, لقد مات الخليل منذ قرون فكيف يكون لقاء الأموات؟ وبدأ يُشهد العلماء على تعمد صاحبهم الكذب وجهله بالعروض والنحو, فضحك القوم وقاموا دون ان يصلوا لحل في قضية صرف (عمر) أو منعها.قد قلت فيه غير ما تعلم أثر حديث الطلاب الشباب عن هذه المناظرات على الصبي: لقد كان الصبي يسمع لحديث الشباب حول الشيخ الشنقيطي فيحفظه ويجد لذة فيما فهم منه, ويتعجب لما لم يفهم منه. حفظ بعض المعلقات: كان الشيخ الشنقيطي يقرأ على الطلاب المعلقات, فكان أخو الصبي وأصدقاءه يسمعون هذا الدرس يوم الخميس أو الجمعة من كل أسبوع, ولأنهم يعدونه كما يعدون سائر دروسهم فقد سمع الفتى هذه المعلقات لأول مرة في حياته, وعلى الرغم من انصرافهم عن هذا الدرس سريعا لأنهم لم يُسيغوه, إلا أن أخو الصبي ظل يحاول حفظ المعلقات فحفظ معلقة امرئ القيس قفا نبك من ذكر حبيب ومنزل... ومعلقة طرفة بن العبد. كيف حفظ الصبي هذه المعلقات؟ كان هذا أول عهد الصبي بالمعلقات, وكان أخوه يحفظ بصوت عالٍ فيسمع الصبي الأبيات ويحفظها, ثم أِشرك معه أخاه الصبي في الحفظ حتى أتم حفظ معلقتي امرئ القيس وطرفة, ولم يزد على ذلك وانصرف إلى دروسه الأزهرية الأخرى. ما أثر حفظ المعلقتين على الصبي؟ صحيح أن الصبي حفظ المعلقتين حفظا تاما, إلا أنه لم يفهم منهما إلا القليل. الكبار ودرس الإنشاء: وكذلك كان هناك درس في صناعة الإنشاء يلقيه شيخ سوري من خاصة الأستاذ الإمام, مما دفع الطلاب إلى الاختلاف إليه وشراء الدفاتر وكتابة موضوعات الإنشاء, ولكنهم لم يلبثوا إلا أن عدلوا عنه كما عدلوا عن درس الشنقيطي . لماذا اهتم أخو الصبي بدروس الشنقيطي ودرس صناعة الإنشاء؟ كانت هذه الدروس للشنقيطي وصناعة الإنشاء للشيخ السوري دروس غير أساسية في الأزهر, بل كانت دروس إضافية يؤيدها الأستاذ الإمام ويعلمها خاصته من الشيوخ, ولهذا فقد أسرع الطلاب إلى الاستماع إليها والاهتمام بها, ولكنهم تركوها ولم يهتموا بها بعد فترة قصيرة لأنها لم تكن دروس أساسية في الأزهر. كيف عرف الصبي فن المقامات؟ في أحد الأيام دخل الشيخ الفتى إلى البيت ومعه كتاب مقامات الحريري, وحاول أن يحفظها وكان يقرأ ويحفظ بصوت مرتفع فكان الصبي يسمع يحفظ معه, ثم أشرك الفتى أخاه الصبي في حفظ المقامات كما أشركه في حفظ المعلقات فحفظا معا عشر مقامات, ثم انصرف الشيخ الفتى عن المقامات إلى دروس التوحيد والفقه والأصول. وفعل نفس الشيء مع مقامات بديع الزمان الهمذاني, حفظ بعضها ثم أعرض عنها كتاب نهج البلاغة: وأقبل الفتى الشيخ ومعه كتاب ضخم يسمى نهج البلاغة, والذي جمع فيه المؤلف (الشريف الرضي) كل خطب الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وكرم وجهه- وقد شرحها الأستاذ بنفسه فأقبل عليها الفتى فحفظ بعضها ومعه الصبي, ثم أعرض عنها كما أعرض عن غيرها. قصيدة أبي فراس الحمداني عرف الصبي قصيدة أبي فراس الحمداني التي يبدأها بقوله: أراك عصي الدمع شيمتك الصبر وقد جاء بها أخوه مشطرة أو مخمسة ,وقد شطرها أو خمسها بعض الأزهريين, فجعل يقرأ القصيدة بصوت عالٍ, ثم أعرض عن القصيدة المشطرة والمخمسة ثم بدأ مع الصبي يحفظ القصيدة نفسها.أما للهوى نهي عليك ولا أمر؟! ولم يكن اهتمامه بها وذكره لها إلا أن أحد أبياتها وقع من أذنه موقعا غريب فأخذ تفكيره, وهو قول أبي فراس: بَدَوتُ وأهْلِي حَاضِرونَ لأنني والذي أخذ تفكير الفتى في هذا البيت أنه قرأ (لَسْتُ) قراءة خاطئة فقد قرأها (السِّتِّ) فأصبح البيت بهذا الشكلأرَىَ أنَّ دَارًا لَسْتُ مِنْ أهْلِهَا قَفْرُ بَدَوتُ وأهْلِي حَاضِرونَ لأنني ولأنه قرأ البيت خطأ فلم يفهمه, وكان يرى أنه من الغريب أن تأتي كلمة (الست) في الشعر العباسي, ثم لما كبر وقرأ البيت صحيحا ففهم معناه, وكذلك علم أن هذه الكلمة (الست) قد استخدمها بعض الشعراء العباسيين المحدثين في أشعارهم وفي النثر كذلك.أرَىَ أنَّ دَارا (السِّتِّ) مِنْ أهْلِهَا قَفْرُ اتصال متقطع مع الأدب اتصل صاحبنا الأدب على نحو مضطرب غير مستقر, حيث لم يكن يفرغ له نفسه ولا يخصص له وقتا بل كان يلم به من حين لآخر لكما أتيحت له فرصة, فجمع في نفسه خليطا من الشعر والنثر. ديوان الحماسة والشيخ المرصفي أقبل الشباب متحمسين في احد أيام بداية العام الدراسي على درس جديد في الرواق العباسي للشيخ (سيد المرصفي) في الأدب ويقرأ عليهم (ديوان الحماسة) ولما سمعوا الشباب هذا الدرس الجديد لم يعودا إلى غرفاتهم إلا بعد شراء ديوان الحماسة نفسه بعد أن فتنوا بهذا الدرس (أعجبوا به) ولذلك فقد عزم الطلاب على أن يحضروا الدرس وينتظموا فيه بل أسرع اخو الصبي كعادته دائما لشراء كتاب (شرح التبريزي لديوان الحماسة) وجلده تجليدا ظريفا وزين به دولابه ثم بدأ يحفظ في الديوان ويشرك أخاه الصبي معه, وقد يقرا عليه بعض من شرح التبريزي. ما الذي أخذه الصبي على أخيه في قراءة شرح التبريزي لديوان الحامية؟ ولكن الفتى كان يقرأ الشرح على النحو الذي تقرأ عليه كتب الأصول والفقه والتوحيد,ويتفهمه على نفس النحو, وهو ما لم يعجب الصبي فأحس بأن هذا الكتاب له طريقة مخالفة لقراءته والتعامل معه تختلف عن طريقة قراءة وفهم كتب الأصول والتوحيد والفقه. انصراف الشباب عن درس المرصفي انصرف الشباب عن درس الأدب والحماسة بعد فترة قصيرة كما انصرفوا عن غيره من الدروس لأنهم رأوا أنه لا يقدم جديدا ولأنه ليس من الدروس الأساسية في الأزهر, بل كان أحد تلك الدروس الإضافية التي أنشأها الأستاذ الإمام وسماها بدروس العلوم الحديثة مثل الجغرافيا والحساب والأدب, وكذلك تركوا الدرس لأن الشيخ كان يسرف في السخرية والعبث فيغلوا (يتجاوز الحد ويبالغ) في العبث. أسباب عبث الشيخ بالطلاب لم يكن عبث الشيخ طلابه إلا بعد أن ساء الظن فيهم فرأى أنهم غير مستعدين لهذا الدرس الذي يحتاج إلى الذوق, ولا يحتمل الفنقلة فلم يعترف بهم طلابا فعبث معهم ولم يهتم بهم. كيف واجه الطلاب هذا العبث وكذلك ساء ظن الشباب به فرأوه غير متمكن من العلم الصحيح, وغير بارع فيه, ورأوا أنه صاحب شعر ينشد وكلام يقال, ونكت تُضحِك ثم لا يبقى من ذلك كله شيء وقد حاولوا أن يحرصوا على حضور الدرس لان الأستاذ يحميه ولأنه كان مقربا من الإمام ينتهز الفرصة والأخرى لينشد قصيدة في مدح الأستاذ الإمام ويرفعها له ويمليها على الطلاب فيسرع بعضهم في حفظها, وكانت تعجبهم قصائده لأنها في مدح الأستاذ الإمام. ولكنهم في نهاية الأمر لم يقدروا على الصبر مع عبثه ولهوه بهم فانقطعوا عنه, وعادوا إلى شايهم يستمتعون به في الضحى. ما أثر انقطاع الشباب عن الشيخ المرصفي على الصبي؟ بعد أن انقطع الطلاب عن الشيخ المرصفي انقطع عن الصبي ذكر الأدب بعد أن حفظ من الحماسة جزءا صالحا. الصبي والشيخ المرصفي: (كيف اتصل الصبي بالشيخ المرصفي؟) ثم أشيع (انتشر) أن الشيخ المرصفي سوف يخصص يومين من كل أسبوع لقراءة (المفصل للزمخشري في النحو) فسعى الصبي إلى هذا الدرس الجديد, وبعد أن سمع للشيخ المرصفي مرة ومرة أحبه وكلف به حتى أنه حضر درس الأدب أيضا الذي يقرأه الشيخ ,والذي انقطع عنه أخوه وأصحابه. قوة ذاكرة الحفظ لدى الصبي كان الصبي قوي الذاكرة لا يسمع كلمة من الشيخ إلا حفظها ولا رأيا إلا وعاه (فهمه) ولا تفسيرا إلا قيده (دونه وحفظه) في نفسه, حتى أنه في كثير من الأحيان إذا ما تكررت كلمة فسرها الشيخ من قبل أو قصة حكاها الشيخ سابقا كان يعيد على الشيخ تفسيره للكلمة أو حكايته أو نقده لصاحب الحماسة أو لشرَّاحِها. ما أثر قوة حفظ الصبي على الشيخ؟ لما رأى الشيخ من الصبي هذا الجد والاجتهاد اهتم به وأحبه حتى كلف به, بل كان يوجه إليه الحديث خاصة أثناء الدرس, ويدعوه فيصحبه بعد الدرس إلى باب الأزهر ثم دعاه بعد ذلك إلى أن يصحبه في بعض (جزء) طريقه, ثم دعاه أخيرا إلى قهوة من القهوات المنتشرة حول الأزهر, حتى جلس معه ذات يوم منذ صليت الظهر حتى أذن للعصر فكان ذلك أول عهد الصبي بالقهوات, فعاد إلى بيته سعيدا مغتبطا شديد النشاط, يتمتع بالأمل ما الذي دار من حديث على القهوة؟ انصب الحديث كله على الأزهر وشيوخه وسوء المناهج التعليمية, وكان الشيخ قاسيا جدا في هذا الموضوع, وكان نقده لاذعا (موجعا) بل تعدى ذلك لأن شنَّع (فضح وشوه السمعه) بأساتذته وزملائه من الشيوخ. ما أثر هذا النقد الشديد على الفتى ومن معه من طلاب؟ لقد وجد الشيخ في نفوس الطلاب الجالسون معه على القهوة هوى واستحسان لما يقول, أما الصبي فقد تأثرت نفسيته بهذا النقد أبلغ تأثير. حب الصبي لدرس الأدب لقد وصل الأمر بالصبي إلى أنه فضل درس الأدب على دروسه كلها, بل تعدى الأمر إلى أن فضل اثنين من تلاميذ الشيخ المقربين وجعلهم أخص الناس إليه وأقربهم إلى نفسه, فكانوا يجتمعون كل ضحى فيسمعون للشيخ ثم يذهبون لدار الكتب فيقرءون فيها الأب القديم ثم يعودون بعد العصر للأزهر فيجلسون بين الإدارة والرواق العباسي يتحدثون عن الشيخ وعما قرءوه في دار الكتب, ويعبثون بالطلاب والشيوخ الداخلين والخارجين للأزهر, فإذا ما صليت المغرب دخلوا الرواق العباسي ليسمعوا للشيخ بخيت وهو يقرأ درس (تفسير القرآن) مكان الأستاذ الإمام بعدما توفي. كيف يمكن تدريس الأدب في رأي الكاتب؟ يرى الكاتب أن أفضل طريقة لتدريس الأدب هي ما كان يقوم به الشيخ المرصفي في تفسير الحماسة أو تفسير الكامل, فقد كان يبدأ بنقد حر للشاعر ثم للراوي, ثمة للشارح, ينقد اللغويين على اختلافهم. ثم يقوم بامتحان للذوق لدى الطلاب للتعرف على باطن الجمال في الشعر والنثر, من خلال معرفة المعنى جملة وتفصيل, والوزن والقافية... ثم يجري اختبار للذوق الحديث في البيئة الأزهرية, ويقارن بين رقة الذوق القديم وغلظة الذوق الأزهري الحديث, وبين كلالة (ضعف) العقل الأزهري وقوة العقل القديم. ثم ينتهي من ذلك كله إلى تحطيم كل القيود الأزهرية والثورة على الشيوخ في العلم والذوق وفي سيرتهم وأحاديثهم, وكان محقا في كثير من الأحيان, ومسرف متجن في بعض الأحيان (مدعي بالباطل ما لم يعلوه) ما أثر هذه الطريقة الجديدة على طلاب الأزهر؟ هذه الطريقة الجديدة الغريبة على طلاب الأزهر جعلتهم ينصرفون عن الشيخ بعد أن كانوا كثيرين في أول الأمر, فلم يثبت معه إلا هؤلاء الثلاثة (الصبي وأصحابه الاثنان) فكوَّنوا عُصبة صغيرة وصل صوتها إلى الأزهر كله وسمع بها الطلاب والشيوخ وبالأخص كلامهم في نقد الأزهر وثورتهم على تقاليده, ونظمهم الشر هجاءا للشيوخ والطلاب. أثر ثورة الثلاثة على الأزهر؟ أصبحت هذه العصبة الصغيرة بغيضة (مكروهة) إلى الشيوخ الطلاب معا في وقت واحد. الشيخ المرصفي أديب وعالم أزهري لم يكن الشيخ المرصفي مجرد عالم أزهري, بل كان أديبا أيضا مما دفعه أن يصطنع وقار العلماء ما دام في الزهر أو مع الناس, ولكنه إذا خلا إلى أصدقائه وخاصته, تحول إلى أديب يتحدث في حرية مطلقة عن كل إنسان وكل موضوع, بل كان يروي للمقربين منه سيرة الشعراء القدماء ما يثبت أنهم كانوا أحرار مثله, يقولون كل شيء دون تحفظ (تقيد) ولا تنطع(تكلف ومغالاة). ما أثر الأستاذ على الطلاب في صراحته؟ لقد عظم هؤلاء الثلاثة شيخهم حتى اتخذوه مثلا أعلى للصبر على المكروه وللرضا بالقليل والتعفف عما لا يليق بالعلماء وأصحاب السلطان. بيت الشيخ دليل صبره ورضاه قلد لمس هؤلاء الثلاثة هذه الصفات في شيخهم ورأوها رأي العين عندما زاروه في بيته المتواضع في حارة (الر****ي) فقد كان يعيش في أقصى الحارة, في بيت قذر متهدم, يبدأ بالباب ثم ممر ضيق قذر رطب تنبعث منه الروائح الكريهة, وكان الممر خال من كل شيء إلا دكة يجلس عليها مع أصحابه وطلابه هؤلاء, حتى انه يسند ظهره إلى الحائط الذي يتساقط منه التراب. وكان ينزل إليهم ليجلس معهم ويحدثهم باسما راضيا بعيدا عن التكلف, فإذا كان مشغولا دعاهم ليصعدوا إليه على سلم متهدم,ويسلكون دهليزا خاليا من كل شيء انتشرت فيه أشعة الشمس, فإذا دخلوا غلى غرفته وجدوه جالس على الأرض منحني الظهر ومن حوله عشرات الكتب يبحث فيها عن مقطوعة شعر يريد أن يتمها أو بيت شعر يريد أن يفسره, وعن يمينه أدوات القهوة. كيف كان يستقبل تلاميذه؟ إذا دخل عليه الطالب لم يكن يقوم لهم بل كان يلقاهم مستبشرا فرحا, ثم يدعوهم إلى الجلوس , ويطلب من أحدهم أن يصنع القهوة وإدارته عليه وعيهم, ثم يتحدثون لحظات ثم يدعوهم لمشاركته في بحثه أو تحقيقه. الشيخ المرصفي وأمه ويذكر الفتي أنه وأحد صديقيه زارا الشيخ المرصفي أحد الأيام بعد العصر, فصعدا إلى أعلى الدار فوجدا امرأة محطمة (كبيرة طاعنة في السن) قد انحنى ظهرها حتى تكاد تصل رأسها إلى الأرض تجلس على فراش متواضع ويطعمها الشيخ بيده, فما رآهما أمرهما بالانتظار في غرفته حتى يأتيهما, ثم أقبل عليهما ضاحكا وهو يقول في رضى (كنت أعشي أمي). أما إذا خرج من البيت فكانت تظهر عليه صورة الوقار والغنى واليسر, لا يحس أحد بما يعانيه من فقر وحاجة, بل لا يشك المتحدث إليه أن الله قد يسر عليه وأحياه حياة سعيدة وعيشة رغدة هنيئة. التلاميذ يعرفون فقر أستاذهم لم يكن يعلم عن فقره إلا أقرب الناس إليه من الأصدقاء والتلاميذ الثلاثة, فقد كان من أشد الناس فقرا ينفق الأسبوع والأسابيع لا يأكل إلا خبز الجراية يغمسه في الملح. ورغم ذلك فقد علم ابنه تعليما ممتازا ورعى أبنائه الذين يتعلمون في الأزهر أفضل رعاية , بل كان يدلل ابنته تدليلا مؤثرا. راتب الشيخ المرصفي لقد كان يصنع كل هذا براتبه الضئيل الذي لم يتجاوز الثلاث جنيهات ونصف, فقد كان يحصل من الأزهر على جنيه ونصف لأنه من أصحاب الدرجة الأولى, كما أن الشيخ الأستاذ كلفه درس الأدب فكان يتقاضى عليه جنيهان. وكان يستحي أن يهرول أول الشهر إلى المباشر (الذي يلي الأمر بنفسه والمقصود الصراف) ليأخذ راتبه أو أن يتزاحم عليه مثلما كان يفعل كثير من شيوخ الأزهر, بل كان يدفع خاتمه إلى أحد كطلابه ليتولى هو مسألة قبض الراتب في الضحى ثم يدفعه الطالب له بعد الظهر. إعجاب التلاميذ بالشيخ المرصفي لقد أحب الطلاب شيخهم المرصفي لما رأوه فيه من تواضع ورضى وصبر, حتى أنهم كانوا يسمعون عن أحوال بعض الشيوخ الآخرين من اليسر والغنى فكانوا يمتلئون عليهم حقدا وغيظا واحتقارا. نقد التلاميذ للشيخ المرصفي تولى مشيخة الأزهر بعد الأستاذ الإمام الشيخ الشربيني, فنظم فيه الشيخ المرصفي قصيدة يمدحه فيها وسماها (ثامنة المعلقات) وعارض فيها معلقة طرفة بن العبد, ولما انتهى من إملاء القصيدة لتلاميذه أثنى على الشيخ الشربيني وعرض بعض الشيء بالستاذ الإمام, فرده بعض الطلاب في لطف ورفق فارتد عن ذلك آسفا خجلا واستغفر الله من خطيئته. لماذا نظم الشيخ المرصفي قصيدة في الشيخ الجديد؟ لم يكن ذلك نفاقا ولا رياءا بل كان ذلك حبا ووفاءا منه للشيخ الشربيني وذلك أن الشيخ الشربيني كان أستاذ الشيخ المرصفي وكان الشيخ المرصفي يحبه كثيرا, وكان الشيخ الشربيني أهل لذلك الحب والإعجاب لعلمه ومكانته. إقبال الطلاب الثالثة على الأدب جهر الطلاب الثلاثة بقراءة الكتب القديمة وتفضيلها على الكتب الأزهرية مثل قراءة كتاب سيبويه وكتاب المفصل في النحو, قراءة كتاب عبد القاهر الجرجاني في البلاغة, ويقرءون دواوين الشعراء ولا يتحرجون من الجهر بذلك بل بإنشاد ما فيها من شعر ماجان أحيانا في الأزهر, بل يقلدون هؤلاء الشعراء ويتناشدون ما أنشئوا إذا ما التقوا. أثر ذلك على الطلاب الأزهرين كان الطلاب الأزهريون ينظرون إليهم شزرا (بمؤخرة العين احتقارا وغضبا) ويتربصون بهم الدوائر (ينتظرون لهم الهزيمة والسقطات). وقد يقبل بعض من الطلاب الناشئين يسمعون منهم ويتحدثون إليهم ويريدون أن يتعلموا منهم الشعر والأدب فيغيظ (يضايق ويغضب) ذلك نظرائهم (زملائهم) من الطلاب الكبار ويزيدهم موجدة(غضبا وحقدا) عليهم وائتمارا عليهم. (إعداد المؤامرات) كتاب الكامل وتكفير الحجاج أثناء إعداد الطلاب الثلاثة لدرس الكامل للمبرد توقفوا عند هذه الجملة (ومما كفرت الفقهاء به الحجاج قوله: "والناس يطوفون بقبر النبي ومنبره: إنما يطوفون برمة وأعواد) (رمة هي عظام بالية /ج/ رمم رمام) فأنكر صاحبنا (الفتى) أن يكون في كلام الحجاج ما يكفي لتكفيره, وقال لقد أساء الحجاج أدبه وتعبيره ولكنه لم يكفر. فلما سمع بعض الطلاب ذلك أنكروه وتناقلوه عبر الأزهر كله. محاكة الطلاب الثلاثة وأثناء مجلسهم حول الشيخ (عبد الحكيم عطا) دعاهم المشدين غلى حجرة شيخ الأزهر , فلما دخلوا غرفة الشيخ حسونة وجدوا معه أعضاء مجلس إدارة الأزهر الشريف وهم كبار العلماء ومنهم الشيخ بخيت والشيخ حسنين العدوي والشيخ راضي وغيرهم. ولقاهم الشيخ متهجما (عابس الوجه غضبان) وأمر رئيس المشدين رضوان أن يدعو من عنده من الطلاب, فأقبل جماعة من الطلاب الأزهريين ولما سألهم الشيخ عما عندهم أقبل أحدهم اتهم هؤلاء الطلاب بالكفر لمقالتهم في الحجاج ثم قص على مجلس إدارة الأزهر الأعاجيب من أمر هؤلاء الثلاثة. وقد كان الفتى ماهرا حتى أنه أحصى على العلماء الكثير والكثير مما كان الطلاب الثلاثة يعبون به على الشيوخ مثل الشيخ بخيت والشيخ محمد حسنين والشيخ الرفاعي. وشهد الطلاب الآخرون بصدق الفتى ضد هؤلاء الثلاثة. فلما سألهم الشيخ عن ردهم عن هذه الاتهامات, لم ينكروا منها شيء, فأسرع الشيخ ولم يشأ أن يحاورهم ولكنه أمر رضوان رئيس المشدين ان يمحو أسماء هؤلاء الثلاثة من سجلات الأزهر لأنه لا يريد مثل هذه الكلام الفارغ, ثم صرفهم في ***, فخرجوا وجلين (فزعين خائفين) لا يدرون ماذا يصنعون ولا كيف يقصون هذه القصة لأهلهم. إلغاء درس الكامل لم يتوقف الأمر عند هذا الحد ولا عند ضحك الطلاب منهم وشماتة أكثرهم فيهم , بل الأمر إلى أن أمر شيخ الأزهر بإلغاء درس الكامل فلما أقبلوا بعد العشاء ليسمعوا درس الكامل للشيخ المرصفي وأقبل الشيخ بالفعل لقيه رضوان وأخبره في أدب ولطف أن شيخ الأزهر قد ألغى درس الكامل,وأنه ينتظره في مكتبه في الغد. ما أثر هذا العقاب على الطلاب والشيخ المرصفي؟ بالنسبة للشيخ المرصفي فخرج انصرف محزونا. أما الطلاب الثالثة فقد خرجوا خجلين وجلين والشيخ يسري عنهم (يهون علهيم) ثم خطر لهم أن يتوسلوا للشيخ بخيت ليتوسط لهم عند شيخ الجامع, فقال لهم الشيخ المرصفي (لا تفعلوا فلت تبلغوا من سعيكم شيئا) ولكنهم أصروا على ذلك. فلما ذهبوا لبيت الشيخ بخيت عرفهم وتلقاهم ضاحكا فحاولوا الدفاع عن انفسهم فقال في فتور ولكنكم تدرسون الكامل لمبرد وقد كان المبرد من المعتزلة فدرس كتابه إثم. أثر كلام الشيخ على الطلاب لما سمعوا ذلك منه نسوا أنهم جاءوا مستعطفين فجادلوا الشيخ حتى أحفظوه (أغضبوه) وانصرفوا وقد ملأه لغضب وملأهم اليأس. ورغم ذلك فقد تضاحكوا من الشيخ وأعادوا بعض كلماته وتفرقوا على عهد ان يخفوا الأمر عن أهلهم حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. الشيخ المرصفي وتكليفه بدرس المغني لابن هشام: (عقاب الشيخ المرصفي) لما لقوا شيخهم المرصفي في الغد, أخبرهم بأن شيخ الأزهر ألغى درس الكامل وكلفه بقراءة المغنى لابن هشام, ونقله من الرواق العباسي إلى عمود في داخل الأزهر. عبث المرصفي بشيخ الأزهر أسرع الشيخ المرصفي وعبث بشيخ الأزهر وادعى انه لم يخلق للعلم ولا للمشيخة بل خلق ليبيع العسل الأسود في سرياقوس, ولأن الشيخ حسونة فقد أسنانه فكان ينطق السين ثاء كما كان يتكلم لغة أهل القاهرة التي يغيرون فيها القاف إلى همزة, وكان يمد الواو بين القاف والسين في كلمة سيرياقوس, كما كان يتكلم هامسا, فظل الطلاب يتذكرون هذه الجملة التي طبعوا بها الشيخ حسونة وهي (بائع العثل في ثرياؤوث) صفات الشيخ حسونة لقد كان الشيخ حسونة حقا شديدا حازما مهيبا (مخشي الجانب) صارما (جلدا شجاع حازما في أمره) حتى أن جميع شيوخ الأزهر ومنهم الشيخ المرصفي كانوا يخافونه. مما دفع الشيخ المرصفي أن يأخذ كتاب المغنى لابن هشام ويذهب به لتلاميذه الذين لا يهتمون ماذا يقرأ الشيخ, فالمهم أنه يقرأ وهم يسمعون له ويقولوا له ما سمعوه منه. ما الذي صدم الطلاب الثلاثة في الشيخ المرصفي؟ هم الفتى أن يقول لأستاذه المرصفي بعض الشيء عن سخطه وغضبه ما يحدث فرده الشيخ وأسكته في رفق وهو يقو له (لا لأ عايزين ناكل عيش) فحزن الفتى حزنا عميقا لم يعرف له طعما منذ ضر إلى الأزهر وانصرف هو وصاحباه يملأهم الحزن العميق. موقف الطلاب الثلاثة من العقوبة التي فرضها الشيخ حسونة لم يقبل الطلاب هذه العقوبة التي فرضه عليهم شيخ الأزهر وفكروا كيف يرفعوا عن أنفسهم تلك العقوبة التي طنوا بأنها ظالمة. فآثر أحدهم العافية وفارق صاحبيه واتخذ لنفسه مجلسا في جامع المؤيد بمعزل من العدو والصديق حتى تهدأ الأمور. والآخر قص على أبيه الأمر وسعى أبوه في إصلاح ما أفسده الابن. ولم يفارق صاحبه ولم يعتزل وإنما كان يلقى صاحبه فيتخذان مجلسا بين الرواق العباسي والإدارة ويمضيان وقتهما في العبث بالشيوخ والطلاب. أما الفتى فلم يحتج أن يقص الأمر على أخيه فقد وصله كل شيء ولكنه لم ي***ه وإنما قال له ( أنت وما تشاء فستجني ثمرة هذا العبث وستجدها شديدة المرارة) ولم يحاول الفتى أن يسعى إلى أحد ولم يتوسل إلى الشيخ بأحد, وإنما كتب مقالا عنيفا يهاجم فيه الأزهر كله وشيخ الأزهر خاصة ويطلب حرية الرأي, وقد دفعه لذلك أن الجريدة التي كتب فيها كان مديرها يدعو فيها كل يوم لحرية الرأي. مقابلة مدير الجريدة ذهب صاحبنا إلى مدير الجريدة بمقالته فتلقاه لقاء حسنا فيه كثير من العطف والإشفاق, وقرأ المقال وضحك وهو يدفعه إلى صديق معه, فغضب ذلك الصديق مما قرأ وقال: لو لم تكن عوقبت عل ى ما جنبت من ذنب لكانت هذه المقالة وحدها كافية لعقابك. من ذلك الصديق؟ وقبل أن يحاول أن يدافع عن نفسه أسكته مدير الجريدة وقال إن الذي يكلمك هو (حسن بك صبري) مفتش العلوم الحديثة بالأزهر, وسأله في رفق أتريد أن تشتم الأزهر وشيخه أم أن ترفع عنك هذا العقاب؟ فرد وقال بل أريد رفع العقاب وأن أستمتع بحقي من الحرية . فقال مدير الجريدة فدع لي إذن هذه القصة وانصرف راشدا. هل حقا وقعت العقوبة التي قالها الشيخ بعد مدة قصيرة وبعد أ، انصرف من الجريدة تبين لصاحبنا وصاحبيه أن شيخ الأزهر لم يمح أسمائهم من الأزهر بل أراد بذلك تخويفهم حتى لا يعودوا لمثلها . اتصال الفتى بالمدير الجريدة ومنذ ذلك اللقاء اتصل الفتى بمدير الجريدة وعل يتردد عليه حتى جاء وقت كان يلقاه فيه كل يوم. وبذلك ظفر الفتى بشيء تمناه كثيرا وهو أن يتصل بطائفة الطرابيش بعد أن سئم طائفة العمائم, وذلك أن طائفة الطرابيش أرق منزلة وثراء, وهو فقير متوسط الحال في أسرته سيء الحال في القاهرة. الكتاب الثالث ( الفصل الأول على باب الأزهر) أنفق صاحبنا في الأزهر أربعة أعوام . مرت عليه كأنها أربعين عاما, لأنها قد طالت عليه من جميع أقطارها (نواحيها /م/ قطر) وكأنها الليل المظلم. أسباب طول السنوات ألأربع في نظر صاحبنا فأصبح يضيق بالحياة في الأزهر, لقد تراكمت عليه السحب القاتمة (السوداء) الثقال, ولكن لم يكن الفقر هو سبب ذلك الضيق, ولا قصر يده (عجزه) عما يريد, وذلك لأن الفقر وقصر القصيد شيئا مألوفا في حياة طلاب العلم الأزهريين. معاناة الجميع من الفقر وحبهم له فقد كان العشرات والمئات من طلاب العلم حول الفتي في الأزهر يشقون كما يشقى ويبقون ما يلقى من قصر اليد عن أبط ما يحتاجون ويحبون, حتى وصل بهم الأمر إلى أن ألفوا (تعودوا وأحبوا ) الفقر واستيقنوا (علموا وتحققوا) أن الثراء والسعة وخفض العيش (الغنى والرفاهية) أسباب تعوق تحصيل العلم, وأن الفقر شرط للجد(الاجتهاد) والكد (الاشتداد في اعمل) والاجتهاد, وأن غنى النفس والقلوب بالعلم أجدى من امتلاء الجيوب بالمال. ملل الفتى من حياة الأزهر؟ وكان يضيق بهذا الٍأم الذي ملأ عليه حياته كلها, وأخذ نفسه من جميع جوانبها, فقد كانت حياته مطردة (متتابعة) متشابهة لا يجد فيها جديد منذ بدأ العام الدراسي إلى أن ينقضي. كيف كانت حياة الفتى؟ وقد كانت حياته الرتيبة المتشابهة تنقضي كالآتي, درس التوحيد بعد صلاة الفجر ودرس الفقه بعد أن تشرق الشمس, ودرس النحو بعد ارتفاع الضحى. ثم يأكل الفتى شيئا من الطعام الغليظ , ثم درس في النحو أيضا بعد الظهر, ثم يعيش في فراغ كثيف (ثقيل المراد ممل), يأكل فيه بعض الطعام الغليظ, ثم إذا انتهى المغرب راح لدرس المنطق, يسمعه من هذا الشيخ أو ذاك. وأشد ما كان يبعث عليه الملل, أنه مع كل هذه الدروس يسمع كلاما معادا وأحاديث لا تمس القلب ولا تمس ذوقه, ولا تغذو (تفيد) عقله ولا تضيف إلى علمه علما جديدا, حتى تربت في نفسه الملكة التي يتحدث عنها الأزهريون, وهي أنه أصبح يفهم ما يقوله هؤلاء الشيوخ, ولكنها من غير طائل (فائدة). كيف فكر الصبي في هذا الوقت في مستقبله؟ فكر الصبي أنه ما زال أمامه ثمانية أعوام أخرى, سيعدها ثمانين عاما كما عد الأربعة أعوام السابقة أربعين, لما ينتظره فيها من ملل وسأم وتكرار لما يقال, فهو مجبر خلال هذه الأعوام الثمانية أن يختلف إلى هذه الدروس كما تعود أن يفعل وأن يسمع لهذا الكلام يعاد ويكرر على الغرم أنه لا يسيغه (يقبله) ولا يجد فيه غناء (فائدة). أثر اسم الجامعة على الفتى وقع اسم الجامعة على نفس الفتى لأول مرة موقع الغرابة الغريبة, لأنه لم يسمع هذه الكلمة من قبل, ولم يعرف إلا الجامع الذي ينفق فيه نهاره وشطر من ليله, وبدأ يسأل نفسه ماذا تكون هذه الجامعة؟ وما الفرق بينها وبين الجوامع التي كان يختلف فيها إلى شيوخه. فقد اختلف إلى كثير من المساجد التي كان الشيوخ ينأون (يبعدون) بدرسهم وطلابهم عن الأزهر مما جعل له فرصه للترف والترفيه بعيدا عن سأم الحياة في الأزهر. الفرق بين الجامعة والجامع فهم الفتى معنى مقاربا لكلمة الجامعة وهي أنها كمدرسة ولكن ليست كالمدارس التي يعرفها, وأحسن مميزاتها عنده أن دروسها ليست كدروس الأزهر من قريب أو بعيد, وأن طلابها لن يكونوا من أصحاب العمامة وحدهم, بل سيكون فيها المطربشون, بل إنهم أكثر من أصحاب العمامة. وذلك أن المعممين لن يعدلوا (يسووا) بعلمهم الأزهري علما آخر,ولن يشغلوا أنفسهم بتلك القشور التي يضيع فيها أبناء المدارس أوقاتهم. حيرة الفتى في مسألة التقدم للجامعة لقد كان نبأ الجامعة إيذانا بانكشاف غمته (حزنه وكربه) وانجلاء غمرته (شدته), وذلك أنها قد تتيح له الاستماع إلى علوم غير التي كان يسمعها ويعيدها ويكررها. ولكنه مع ذلك عاش في قلق وحيرة وشك مضض (مؤلم), وتساءل أتقبله الجامعة بين طلابها حين يتم إنشاؤها وهو أعمى؟ أم ترده إلى الأزهر ردا غير جميل لأنه الوسيلة الوحيدة في ذلك الوقت لتعليم المكفوفين؟ أثر قلق وحيرة الفتى علي نفسه لقد كان هذا الشك يؤلم نفسه ويقض مضجعه (لا يجعله يهنأ بالنوم) ولم يكن يتحدث في هذا الأمر إلا مع نفسه, فهو لم يصرح لأحد بهذا الأمر حتى مع ذوي خاصته (المقربين منه) وما ذلك إلا حياء أن يتحدث بآفته للناس (عماه) , فقد كان يؤذيه بشده حديث الآخرين إليه عنها, وما أكثر ما كانوا يفعلون! ولما أنشئت الجامعة وعلم علمها ذهب عنه الخوف والقلق وحل محلهما الأمل الكبير. الانشغال بالجامعة عن الأزهر في أحد الأيام بعد أنشئت الجامعة ذهب الفتى إلى الأزهر ولكنه لم يسمع شيئا ولم يفهم شيئا, فقد كان حاضرا كالغائب, ويقظا كالنائم, وذلك لأنه انشغل بأمر الجامعة انشغالا شديدا حتى أنه لأول مرة سمع درس الأدب في الضحا دون أن يفهم شيئا. الجنيه والجامعة لم ينتظر الفتى حتى العصر وإنما أسرع مع زميليه إلى الجامعة في أعقاب درس البلاغة, فدفع كل واحد منهم جنيها ليستمع إلى درس الجامعة, وكان لابد من دفع هذا الجنيه. وكان غريبا على الطلاب أن يشتروا العمل بالمال حتى وإن كان قليل, فقد تعودوا على أن يرزقوا أرغفة لطلبهم العلم في الأزهر, وقد كان ذلك الجنيه عليهم عسيرا, ولكنهم أحبوا درس الجامعة بمقدار ما وجدوا من العسر في أداء ثمنه. اختلاف الدرس الأزهري عن الدرس الجامعي استمع الفتى لأول درس من دروس الجامعة في الحضارة الإسلامية على يد (أحمد زكي بك) الذي اختلف عن الدرس الأزهري اختلافا كليا, وراع الفتى (أعجبه وأدهشه) هذا الأسلوب الذي لم يألفه في الأزهر: فقد بدأ الأستاذ (أحمد زكي بك) كلامه للطلاب أنفسهم بإلقاء تحية الإسلام فقال " أيها السادة أحييكم بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله ". وقد كان الشيوخ في الأزهر يتجهون في أول درسهم إلى الله فيثنون عليه ثم يصلون ويسلمون على النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وعلى آله وأصحابه أجمعين, ولا يحيون طلابهم. وكذلك أعجب الفتى أسلوب الدرس, فقد كان الأستاذ أحمد زكي بك, يعرض درسه مما كان يحفظه في الذاكرة ويفهمه من العلوم, ولا يقرأ من كتابا كما كان يفعل شيوخ الأزهر, ولم يبدأ كلامه بالمقولة الأزهرية الشهيرة (قال المؤلف رحمه الله). كما أن أسلوب الأستاذ احمد زكي بك واضحا سويا مستقيما لا فنقلة فيه ولا اعتراض عليه, بل كان غريبا كل الغرابة, جديد كل الجدة. وقبل أن ينقضي الدرس الأول أعلن الأستاذ (أحمد زكي بك) أنه سيعيد هذا الدرس بعد دقائق ليتاح للطلاب الكثيرين الذين لم يستطيعوا دخول الغرفة أن يسمعوه. أثر درس الجامعة على الفتى لقد كان أسلوب الأستاذ أحمد زكي بك غريبا كل الغرابة جديدا كل الجدة, حتى انه ملك على الفتى عقله كله وقلبه كله, فشغل عن صاحبيه, وشغل عمن حوله, بل وصل الأمر إلى أنه لم يخرج مع من خرج بعد انتهاء الدرس, وأقام في مكانه (جلس واستقر) ليستمع للدرس مرة ثانية مع من لم يتح لهم الدخول أول مرة. واستمر أثر الدرس على الفتى بعد أن عاد إلى بيته, فلم ينم تلك الليلة, وسمع المؤذن يدعو لصلاة الفجر فلم ينهض من فراشة وتثاقل حتى ارتفع الضحا, ولولا درس الأدب في الرواق العباسي لظل في غرفته حتى المساء. درس الأدب وسخرية الشيخ من الفتى ذهب الفتى إلى درس الأدب فلم يحفل به أول الأمر, ولكن الشيخ سأله عن شيء فلجلج الفتى (تردد في الإجابة ولم يبين), فسأله الشيخ في سخرية عن المقطفين الذين ركاب في رأسه ماذا يفعل بهما؟ فأنصت وأقبل علي الدرس كما كان يقبل من قبل, فلم يضيع من قول الشيخ حرفا واحدا درس النحو والمقطف وأثناء درس النحو استمع إليه الفتى ولم يمنح أستاذه إلا مقطف واحد (أذن) من مقطفيه, بل لم يمنحه مقطفه كله, فقد كان مشغولا بدرس الجامعة في المساء الذي سيلقيه أحمد زكي بك عن الحضارة المصرية القديمة. أثر درس الحضارة المصرية القديمة على الفتى ولما سمع الفتى هذا الدرس لم تسعه الأرض (تضيق عليه) على رحبها, فقد سمع أشياء لم تخطر له على بال,ولم يتصور أنها قد كانت, أو أن الناس يمن أن يتكلموا عنها. الأستاذ الإيطالي وفي اليوم الثالث أشتد تحرقه (تشوقه) إلى درس الجامعة وكان أشد شوقا من اليومين الأولين, فسيكون الأستاذ إيطاليا وسيتحدث للطلاب بالعربية, بل إن الفتى سيسمع درسا لم يسمع عنه من قبل ولا أترابه (زملاؤه في السن /ج/تِرب) الأزهريين, فالأستاذ سيتحدث في شيء أنكرته آذانهم وكان غريبا عليهم, وهو (أدبيات الجغرافيا والتاريخ). وتساءل في نفسه ماذا تكون كلمة أدبيات, وكيف تكون في الجغرافيا والتاريخ؟ ضياع درس الأستاذ الإيطالي أقبل الفتية على الدرس ولكنهم لم يفهموا شيئا لأنهم لم يسمعوا شيئا, فقد كان الأستاذ الإيطالي شيخا كبيرا, وصوته نحيف لا يصل لأقرب الطلاب منه, والطلاب كثيرون, مما أدى لضجيج الطلاب فضاع الدرس الأول في غير طائل (فائدة) بعد أن تعب الأستاذ فيه. فاضطرت الجامعة لاختيار مبلغ عن الأستاذ من الطلاب, فاختارت أرفعهم صوتا وأفصحهم نطقا ليبلغ عن الأستاذ كما يبلغ المصلين عهن الإمام في الصلاة. وعلى الرغم من مرور ثلاثة أيام فقط للفتى في الجامعة إلا أنها غيرت حياته كلها تغييرا فجائيأ الفصل الثاني عندما خفق القلب لأول مرة لقد كان للشيخ عبد العزيز جاويش فضل عظيما على الفتى, حتى تجاوز الحد (تعداه), فالشيخ عبد العزيز هو أول من قدم الفتى للناس صباح أحد الأيام ينشد الشعر, كما كان يفعل الشعراء الكبار في بعض الناسبات العامة, وبخاصة (حافظ) الاحتفال برأس السنة الهجرية ألف (تعود) الناس على الاحتفال برأس السنة الهجرية, في مطلع كل عام هجري, وكان الشيخ عبد العزيز يحرص على أن يحتفل الحزب الوطني بهذه المناسبة كل عام, وفي أحد الأعوام أقام الشيخ عبد العزيز احتفالا في مدرسة مصطفى كامل, فاحتشد (اجتمع) في الحفل عدد كبير من الناس كبارا وصغارا وكهولا ( من تجاوز الثلاثين إلى الخمسين). الفتى ينظم الشعر وكان الفتى قد نظم قصيدة بمناسبة قدوم العام الهجري وأنشدها للشيخ عبد العزيز جاويش فرضي الشيخ عنها وحثه على أن يكتب أمثالها. الفتى ينشد الشعر أمام الناس: وجلس الفتى في الاحتفال بين الناس, فوجد من يأخذ بيده ويجلسه على المنصة, فظن في نفسه أن الشيخ عبد العزيز لا يريد إلا أن يرفق به ويقربه من مجلسه, فشعر الفتى بسرور عظيم وعد (قدَّر) ذلك فضلا عظيما للشيخ عبد العزيز جاويش عليه. وبعد أن خطب الخطباء وصفق الحاضرون, والفتى مسرور بما يجده لم يرع (يفزعه) إلا سماع اسمه يعلن للناس أنه سينشدهم قصيدته العصماء (القوية) لبث في مكانة جامدا واجما (ساكنا فزعا) لا يستطيع حراك, ولا يدري ماذا يصنع, ولا يعرف ماذا يقول, فأقبل من أخذه من يده ليقف على المائدة فينشد الناس القصيدة, فهم (عزم وقصد) أن يرفض ويمتنع خجلا وحياء. ولكن من أخذ بيده لم يعطه الفرصة لذلك فقد جذبه جذبا قويا, وجعل الناس من حوله يدفعونه إلى المائدة ويجرونه إليها جرا, فلم يجد بد من إنشاد القصيدة, فأنشدها في صوت قوي ثابت, قواه وثبته تصفيق الناس الحاد له, ولكنه لم يكن مستقرا في مكانة فقد كان جسده يرتعد (يرتجف). فقابل الناس قصيدته بالتصفيق والاستحسان, فخيل إليه أنه في مكانه حافظا أو قريب من حافظ. مرور الأعوام وذكريات الماضي ومرت الأعوام واختلفت (تعاقبت) على الشيخ وعلى الفتى خطوب (أحداث جسام عظام) وكذلك تعاقبت على مصر خطوب وأحداث, وتجاوز الفتى سن الشباب والكهولة, وأعرض عن الشعر كل الإعراض وتبين له أنه لم يقل الشعر قط, وإنما قال سخفا كثير, وجلس ذات مساء مع أحد الأصدقاء الذي ذكره بصباه وبمدرسة مصطفى كامل وذكره بمطلع قصيدته, فرثى الشيخ لما أضاع من عمره وصباه وجهده في غير طائل (قول الشعر). الفتى ومجلة الهداية لم يقف فضل الشيخ جاويش على الفتى عند هذا الحد, بل تجاوزه أيضا فقد علمه الشيخ كيف يكتب في المجلات, وكان الشيخ قد انشأ مجلة الهداية, وطلب إلى الفتى أن يشترك في تحريرها, ثم ترك له أو كاد يترك له الإشراف على التحرير, وكذلك علمه الشيخ إعداد الصحف وتنسيق فصولها وما ينشر فيها. هجوم الفتى على الشيخ رشيد لم تخل الهداية من جدال عنيف دفعه الفتى وأسرف فيه, فقد كان خصمه الشيخ رشد رضا , حيث كتب الفتى أحاديث عن الشيخ استحى منها فيما بعد حينما ذكرت له, فقد أسرف على نفسه وعلى الشيخ رشيد, وكان يمقت من الشيخ رشيد ممالأته (نفاقه ومهادنته) للخديو وانحرافه عن طريق الأستاذ الإمام, وزاده في هذا الجدال والإسراف إعجابه بنفسه واغتراره بثناء الناس عليه. وكان الشيخ عبد العزيز جاويش رضيا عن هذه الأحاديث ويشجعه على المضي فيها. الفتى مدرس للأدب بمدرسته بلا أجر أضاف الشيخ عبد العزيز جاويش فضلا على الفتى وقع من نفسه موقع الماء من ذي الغلة الصادي( صاحب العطش الشديد / العطشان /ج/ صُداة), وهذا الفضل هو أن الشيخ أتاح للفتى أن يجلس مجلس المعلم الذي له تلاميذ كثيرون, بعد أن حال الأزهر بينه وبين ذلك وقد أنشأ الشيخ عبد العزيز مدرسة ثانوية كما فعل مصطفى كامل, ولم يكن يفيد الشيخ منها شيء, بل كان ينفق عليها في بعض الأحيان من رزقه ويكلف نفسه شيئا من الحرمان, وكان في كثير من الأحيان يلح على بعض الأغنياء وأوساط الناس أن يعينوه عليها حتى كان يستكرههم (يجبرهم ×يخيرهم) على ذلك. أما الفتى فقد عمل فيها مدرسا للأدب بلا أجر فقد كان العمل في المدرسة عملا وطنيا لا أجر لمن يشارك فيه, وأقبل على التعليم فرحا به مبتهجا له, يرى في ذلك شفاء لغيظه من الأزهر ومشاركة في عمل الخير. هجرة الأستاذ الشيخ عبد العزيز جاويش ولم يلبث الشيخ أن انصرف عن كل ذلك وانشغل عنه بالسياسة, ثم اضطر لهجرة مصر فجأة ولم يره الفتى منذ ودعه ليلة سفره إلا بعد سنوات طوال عند عودته, وكان الشيخ قد هاجر على غير علم أهل مصر وعاد أيضا على غير علمهم. ولكن فضله الأعظم على الفتى هو أنه أخرجه من بيئته المغلقة إلى الحياة العامة وجعل له اسما معروفا بين الناس. فضل لطفي السيد على الفتى كان له فضل كبير على الفتى, ففي مكتبه بالجريدة تعرف على كثير من رجال الأدب والصحافة ممن كانوا يلمون (يزرون زيارة طويلة) به, من الشيوخ والشباب, ومنهم رفاق عمل معهم فيما بعد ولقي معهم الخطوب والشدائد, وممن عرفه الفتى عند لطفي لسيد (هيكل ومحمود عزمي ولسيد كامل وكامل البنداري) وأترابا لهم كثيرون. الفتى وتعريفه ب (نبوية موسى) لقد عرف بفضل لطفي السيد لونا من المعرفة لم يقدر أنه سيتاح له في يوم من الأيام, وهو لقاء سيدات مصر الرائدات, فقد لقي عنده ذات يوم (نبوية موسى) التي أكثر الناس في الحديث عنها, لا لجمالها الفاتن,ولا لجاذبيتها الخلابة, ولكن تحدث الجميع عنها لطموحها الشديد, فقد كانت أول فتاة تظفر(تحصل) على شهادة الثانوية. وكان قد عرف النساء في الريف ولقيهن, ولكنه لم يلق منهن القارئة الكاتبة البرزة (المرأة) التي تجالس الرجال وتحاورهم, فتلجّ (تستمر وتأبى أن تنصرف) وتخاصمهم فت*** في الخصام, وقد وجد ذلك في تلك الفتاة نبوية موسى. حفل تكريم خليل مطران ذات مساء في إحدى حجرات الجامعة القديمة احتفل بتكريم خليل مطران, فقد أهدى إليه الخديو وساما, وترأس هذا الحفل شقيق الخديو (محمد علي) وعلم بأن الشعراء سينشدون أشعارهم , وسيخطب الخطباء, فاعتذر لأستاذه في الجامعة عن حضور الدرس وفضل شهود هذا الحفل, قد كان يكره أن يتخلف عن الدروس,ولكنه فضل الحفل. أثر الحفل على الفتى لم يحفل (يهتم) الشاعر بما سمع في هذا الحفل من أشعار, حتى أنه لم يعجبه شعر حافظ إبراهيم في ذلك المقام, رغم أنه شديد الإعجاب بحافظ وأشعاره, حتى وصل الأمر إلى أنه لم تعجبه قصيدة مطران التي أنشدها في الحفل لأنه لم يفهم منها شيء,ولم يذق منها شيئا, وقد شعر بإسراف (تجاوز) مطران في التضاؤل أمام الأمير الذي أهدى إليه الوسام, فجعل نفسه نبته ضئيلة وجعل من الأمير شمسا تمنحها الحياة والقوة والنماء. صوت مي زيادة لم يرض الفتى عن أي شيء في ذلك الحفل إلا صوت واحد فقط, اضطرب له اضطرابا شديدا وأرق له ليلته (امتنع عن النوم) وهو صوت الآنسة (مي زيادة) التي كانت تتحدث في تلك الليلة لجمهور من الناس للمرة الأولى. كان الصوت نحيلا (هزيلا دقيقا) وكان عذبا رائقا (حلو صافيا), وكان يصل إلى قلبه في خفة فيفعل به الأفاعيل (الأعاجيب /م/ أفعولة). ولم يفهم الفتى من الحديث الذي يحمله ذلك الصوت شيء,ولم يحاول أن يفهم منه شيء, فقد شغله جمال الصوت عما كان يحمل من أحاديث. كيف عرف الفتى صاحبة الصوت؟ لم يستطع الفتى أن يمنع الفتى نفسه من الذهاب صباحا إلى مدير الجريدة ليعرف منه صاحبة الصوت العذب الذي سمعه في الحفل. ودار الحديث مع مدير الجريدة حول أشياء كثيرة حتى وصل إلى حفل مطران, وانتهى من الحفل إلى هذه الفتاة التي تحدثت في الحفل والتي لم يسمع عنها الفتى من قبل, فسأله المدير عما قالت الفتاة فلم يحسن الرد, وإنما لجلج (تردد في الكلام ولم يبين).فأثنى الأستاذ على (مي) وأنبأ (أخبر) الفتى بأنه سيقدمه لها في يوم قريب. أثر وعد الأستاذ مدير الجريدة على الفتى ابتهج الفتى بهذا الوعد ابتهاجا شديدا, ولكنه لم يعرب (يفصح) عن هذا الابتهاج, وظل ينتظر بر (وفاء) أستاذه بوعده, ولكن الأستاذ نسي وعده فاستحى الفتى أن يذكره به, فحمل (أجبر) نفسه على تجنب الأمر, وتجنب ذكرها أو الحديث عنها إلى أستاذه. حصول الفتى على الدكتوراه, ومقابلة مي وبعد أيام وأشهر حصل الفتى على درجة الدكتوراه من الجامعة وكانت في أبي العلاء المعري, وأعطى مدير الجريدة رسالته عن أبي العلاء, فقرأها المدير ورضي عنها, ولكنه لم يردها للفتى وقال له سترد إليك بعد أيام بعد أن تقرأها الآنسة مي التي طلبت أن تقرأها. أثر ذلك على الفتى بدا على الفتى الوجوم (العبوس والسكوت) لما سمع اسم (مي) فلاحظ ذلك الأستاذ فتذكر وعده القديم, وقال له في رفق, أم أعدك بتقديمك إليها؟ فقال الفتى أكاد أذكر ذلك. فقال الأستاذ: فالقني مساء الثلاثاء فنزورها معا. صالون (مي) وفي مساء الثلاثاء رأى الفتى نفسه لأول مرة في صالون فتاة تستقبل الرجال حفية (لطيفة رقيقة مرحبة) بهم معاتبة لهم في رشاقة وظرف (كياسة وحذق). طال لمجلس وكثر الزائرون ودارت أكواب الشاي, والفتى في مكانه لا يشعر بما حوله, فقد ملكه الوهم والوجل (الخوف) وذلك لأنه لم يشهد مثل هذا المجلس قط,ولا يعرف ما يجري فيه من مراسم أو تقاليد, ولذلك أنكر نفسه (جهل) وأنكر من حوله,ولم يكن حوله إلا مي والأستاذ لطفي السيد. انصراف الزائرين ولما بدا الزائرون في الانصراف رغب فيه (أراده) الفتى رغبة في التخلص من حرجه, ولكنه في ذات الوقت أشفق من الانصراف (خاف وحذر) حرصا على صوت مي وحديثها, كما انه لم يحاول الانصراف لأن الأستاذ لم يؤذنه بذلك (يُخْبره ويُعْلمه). رأي الآنسة مي في رسالة الفتى لم يبق في الصالون إلا الأستاذ لطفي السيد ومي والفتى, وتحدثت الآنسة مي في بعض الحديث مع الأستاذ, ثم أثنت (مدحت) على رسالة الفتى في أبي العلاء المعري, وبالغت في الثناء حتى استحيا الفتى ولم يحسن شكرها. ثم طلب الأستاذ من مي أن تقرأ مقالها, فترددت في بداية الأمر ثم قرأته على الأستاذ لأنه هو الذي يعلمها العربية والكتابة, فقال الفتى في صوت مخنوق ولفظ مجمجم (غير واضح) كما يعلمني, فقالت مي إذن فنحن زميلان. ثم قرأت المقال الذي كان عنوانه (كنت في ذلك المساء هلالا) وسُحر الفتى بمقالها ورضي عنه أستاذها, وانصرفا وهو يحمل في نفسه الكثير والكثير من صوت الفتاة ومما قرأته. الفصل الثالث أساتذتي لقد كانت حياة الفتى في الجامعة عيدا متصلا, وليس ذلك بسبب الأساتذة الأجانب فحسب (فقط), بل كان فيها من الأساتذة المصريين الكثير ممن أضاف إلهيا روعة وإشراق في نفس الفتى. ولم يستطع الفتى أن ينسى طائفة (مجموعة) من هؤلاء الأساتذة, لأنهم أثروا في حياته تأثيرا كبيرا, فقد جددوا علمه بالحياة وشعوره بها وفهمه لقديمها وجديدها, كما غيروا نظرته إلى المستقبل, وأتاحوا لشخصيته المصرية العربية أن تقوى وتثبت أمام علم المستشرقين (علماء غربيون تخصصوا في دراسة أدب الشرق وعاداته) الأجانب. كيف كان علم الأجانب في نفس الفتى؟ وكيف واجه؟ لقد كان العلم الذي أتى به المستشرقون جديرا أن يحول الفتى تحويلا خطيرا يفني حياته في دراسة العلوم الأوربية. ولكن الأساتذة المصريين أتاحوا له أن يلجأ إلى ركن قوي من الثقافة العربية التي عملت على اعتدال فكره, فقد أتاح الأساتذة المصريون له أن يجمع بين علم الشرق والغرب في اعتدال ووسطية دون انحياز لجانب دون الآخر. تفاوت الأساتذة المصريين لقد تفاوت الأساتذة المصريون تفاوتا شديدا,. فمنهم المطربشون ومنهم المعممون, ومنهم من سبقت العمامة إلى رأسه ثم انحسرت (سقطت وزالت) وحل محلها الطربوش. وكذلك اختلفوا في مزاجهم, فمنهم الحازم الصارم (الشجاع / الضابط للأمر) الذي لم يعرف ثغره الابتسامة إلا قليلا, ومنهم المازح (الضاحك) الباسم الذي لم يعرف وجهه العبوس (الجهم والشدة) إلا نادرا (قليلا). وكذلك اختلفوا في العلم, فمنهم العالم المتعمق في علمه الذي يبهر (يدهش ويعجب) ويسحر ويزكي القلوب والعقول (ينمي ويُصلح), ومنهم أيضا ذو العلم الضحل (القليل /ج/ أضحال) والثقافة الرقيقة, الذي يخلب(يخدع) باللفظ الذي ليس وراءه شيء ذو بال (أهمية و قيمة), وكذلك كان منهم من يخلب باللفظ العذب والدعابة الساحرة والعمل الغزير. نماذج لأساتذة الفتى في الجامعة لم يكن يعرف من طلابه إلا أنهم يحملون رءوسا يجب أن يصب فيها علم صبا, فكان يقبل عليهم عابسا (متجهما غاضبا) وينصرف عابسا, يقبل على درسه ويبسط أوراقه ويأخذ في القراءة حتى تنتهي ساعة الدرس, لا يقطع قراءته إلا تفسير ما يحتاج لتفسير, وأيضا عندما كان يلقي عليهم هذا السؤال الذي تعود أن يلقيه في دار العلوم – وكان أستاذا فيها- فاهمين يا مشايخ؟ ماذا تعلم الفتى من إسماعيل رأفت كان إسماعيل رأفت يلقى درس الجغرافيا, وسمع منه الفتى وصف إفريقيا على اختلاف أقطارها, سمع منه وصفها بأكثر من صورة, منها ما يتعلق بطبيعة الإقليم, ومنها ما يتصل بالسياسة والاقتصاد ونظم الحياة الاجتماعية أجناس السكان. تفوق إسماعيل رأفت على أساتذة فرنسا وقد سمع الفتى في فرنسا بعد ذلك دروسا مختلفة في الجغرافيا من أساتذة ممتازين في جامعات فرنسا, ولكنه لم يجد لأحدهم فضلا على أستاذه المصري العظيم إسماعيل رأفت. حفني ناصف – رحمه الله- كان مبتسما دائما وفكاهي ومتواضعا أشد التواضع, وكان يتميز بالعلم الغزير (كثير) وأصالة في الفقه (شدة إحكام / الفهم والتدبر) وذلك لما كان يدرس من الأدب القديم. أثر علم وابتسام حفني ناصف على الطلاب لقد كان يكلف به الطلاب أشد كلف (الحب والتعلق), ويطمعون فيه طمعا عظيما, حتى أن بعضهم كان في بعض الأحيان ينصرف عن دروسه ليجلس معه في قهوة (كوبري قصر النيل) التي كان يجلس فيها ساعة قبل الدرس يوم الخميس من كل أسبوع. كما كانوا يرفضون أن يختم دروسه آخر العام دون ان يزيدهم على المقرر درسين أو أكثر, وكانوا يختارون الفتى ليتحدث إليه عنهم, فكان الفتى لسانهم الذي يطلب منه دوسا إضافية نثرا حينا وشعرا حينا آخر, ومستعطفين مرة ومنذرين مرة أخرى. ابتزاز الفتى لحفني ناصف شرح حفني ناصف وهو طالب في الأزهر كتاب (الكافي في العروض) وكان يخجل من ذلك الشرح ويكره أن ينسبه أحد إليه, فكان الفتى يقسم آخر العام إن لم يزدهم على المقرر دروسا لينسبن إليه (شرح الكافي في العروض) في أحد مقالاته في الجريدة, فكان يستجيب ويضيف درسين وربما أضاف أربعة دروس. تواضع حفني ناصف أعجب الفتى بكثير من خصال وصفات حفني ناصف, ولكن أشد ما أعجبه فيه هو تواضعه الشديد, وعدم تكلفه الوقار (الهيبة والرزانة) المصنوع الذي يتكلفه بعض الأساتذة حين يرقون (يصعدون) إلى مجالسهم في غرفة الدرس, فقد كان يخلط نفس بطلابه كأنه واحد منهم لولا أنه يكبرهم سنا. مسابقة شعرية يحكمها الفتى وأستاذه حفني ناصف في أحد الأيام قرأ افتى في الجريدة حديثا لأحد القراء يطرح فيه موضوعا لمسابقة شعرية, وجعل جائزة هذه المسابقة كتاب "الأملي" لأبي علي القالي, ويحكم في تلك المسابقة الأستاذ حفني ناصف وتميذه الفتى. أنكر (رفض وعاب) الفتى أن يقرن (يجمع مع) إلى أستاذه, وأحس ببعض الغرور. الأستاذ يجبره على الاشتراك في التحكيم وفي إحدى الليالي جلس الفتى مع بعض رفقائه في بيته (بدرب الجماميز) يحدثون حتى تقدم بهم الليل, وأثناء ذلك طرق الأستاذ حفني ناصف الباب, فوجم (سكت عجزا) الفتى ودهش الرفاق. (وكان الفتى يعيش في الطبقة السادسة) فقد جمع الأستاذ شعر المستبقين (المتسابقين /م/ مستبق) وجاء للفتى في ذلك الوقت ليخلو به ساعة ليفرغ من قضية المسابقة. الشيخ محمد الخضيري – رحمه الله - كان مدرس التاريخ الإسلامي, وقد سحر الفتى بعذوبة صوته,و حسن إلقائه وصفاء لهجته,وأحب الفتى دروسه في السيرة وتاريخ الخلفاء الراشدين وفتوحهم, وأحب دروسه في تاريخ الفتن ودولة بني أمية والصدر الأول من دولة العباسيين. الفصل الرابع كيف تعلمت الفرنسية ؟ كان أول عهد الفتى بدراسة اللغة الفرنسية أن بعض صديقه (للجمع والمفرد) حدثه عن مدرسة مسائية أنشئت قريبة من الأزهر تعلم اللغة الفرنسية لمن أراد من للمجاورين, وعلم الفتى أن للشيخ عبد العزيز جاويش يد في نشأتها ولكنه لم يتحقق من ذلك, ولكنه ذهب الفتى مع من ذهب. الدرس الأول ألقى الدرس الأول كهلا (مابين 30 إلى 50 /ج/ كهول كهلان كُهّل) يحسن أن يلوي لسانه بالحروف,ولكن رغم أعجاب الفتى الشديد به إلا أنه لم يفهم شيئا وذلك أن الأستاذ كان ينطق الحروف ويرسمها على اللوحة, فيراها الطلاب وينطقونها وينقلونها في أوراقهم, أما هو فلم ينطق بها ولم يرها مرسومه, وكان يطلب من الطلاب حوله أن ينطقوها, ولم يطلب منه ذلك. اثر ذلك على الفتى شعر الفتى بالضيق الشديد وظل واجما (ساكنا) ثم تفرق الطلاب وهم 0عزم) أن ينصرف ولكن الأستاذ وضع يده على كتف الفتى وطلب منه الانتظار قليلا, ولما خلا به, قال له ليس لك أرب (حاجة أو هدف) من دراسة هذه اللغة ولكني أرى حرصك على ذلك, فأحب أن أعينك عليها, فإن أردت فالقنى في قهوة كوبري قصر النيل لنتحدث في ذلك. صلة قديمة بين الأستاذ والفتى ضرب (حدد وعين) الأستاذ للفتى موعدا, ولما ذهب الفتى وتحدث مع أستاذه علم أن هناك صلة قديمة بينهما, فقد كان أبو الأستاذ قاضيا شرعيا في مدينة الفتى التي نشأ فيها, وكان الفتى يقرأ عليه ألفية ابن مالك في النحو كل ضحا بابا من أبوابها. واتصلت المودة بين الفتى والأستاذ, ولكن دروس الأستاذ لم تغن عن الفتى شيئا (لم تكفي) , فقد كان الأستاذ محبا لكثير من الشعراء والكتاب الفرنسيين, وكان إذا خلا إلى الفتى قرأ عليه بعض من آثارهم وترجم له بعض ما يقرأ. أثر دروس الأستاذ على الفتى: ازداد شوق الفتى لدراسة الفرنسية لروعة ما كان يسمعه عن شعرائها من أستاذه, فقد كانت أسماؤهم تسحره وتبهره وتملك, فقد سمع أسماء غريبة مثل (لامارتن – ألفريد دي فنيي – ألفريد دي فني – شاتوبريان), ومع غربة هذه الأسماء كان كلامهم الذي يترجمه الأستاذ أكثر غرابة. اثر سماع الفتى أسماء وآثار الشعراء والفرنسيين لقد كانت هذه الأسماء الغريبة والآثار العجيبة عنهم تنسيه الأدب العربي والشعر القديم خاصة, ويدفعه الإعجاب إلى عالم آخر مجهول يهيم (يزداد حبا) للاضطراب فيه(التحرك) الأستاذ النظامي اضطر الفتى لأن يبحث عن معلم آخر يعمله أساسيات هذه اللغة تعليما منظما, وأقبل على ذلك دروس المعلم النظامي من الساعة الثانية إلى منتصف الخامسة, ومع ذلك أبقى المودة مع الأستاذ الكهل, فكان يقابله مرتين في الأسبوع مساء يسمع منه نثرا وشعرا مع بعض المعاني. تعلم الفرنسية متعة ومشقة بدأ الفتى يلتمس معلم آخر وآخر وينتقل من معلم لمعلم, ويجد في ذلك التنقل متعة وروعة لما يتعلمه على أيديهم, ولما فيهم من خصائص واختلاف حالاتهم وأساليبهم, ولكنه في ذات الوقت يجد مشقة بالغة فيما يدفعه ليتعلم هذه اللغة. الصديق القديم يعلمه مقابل النحو والصرف في أحد الأيام في الجامعة لقى الفتى صديق قديم كان قد ظفر بشهادة الثانوية من (مدرسة الفرير) فكان متقنا للفرنسية, وبمجرد أن تحدث الفتى مع هذا الفتى حتى تذكر كل صباه , قد كان الفتى ابن ملاحظ الطريق الزراعي في القرية, وكان يذهب مع أخيه إلى الكتاب الذي حفظ فيه الفتى القرآن. وعقد الفتى مع صديقه (محمد سليمان -رحمه الله-) مقايضة وهي أن يعلمه الفرنسية التي يتقنها على أن يعلمه الفتى بعض قواعد النحو والصرف. وبفضله تعلم الفتى اللغة كما تعلمها صديقه (محمد سليمان) في المدرسة, فقد قرأ معه الكتب الأولى, ثم تدرج من كتاب لآخر حتى أصبح الفتى في ذات يوم يقرأ مع صديقه قصة (كانديد لفولتير) فيتعثر في فهمها تعثرا شديدا متصلا فيفهم شيئا ويجهل أشياء, كما رأى نفسه يختلف لدروس الأدب الفرنسي فيفهم أشياء وتفوته أشياء. وظل الرفيق (محمد سليمان) يعينه على ما يفوته والأستاذ الكهل يعطف ويرفق به, حتى شعر بأنه أصبح قادر على أن يتقن هذه اللغة أن سارت أموره كما يحب, وكان لابد أن يتقنها. الجامعة وسيلة لا غاية ومنذ ذلك الوقت أصبحت الجامعة بالقياس له (بالنسبة له) وسلة (ما يتقرب به) لا غاية, فقد ألقى الشيخ عبد العزيز جاويش في روع ( العقل والقلب والبال) الفتى فكرة السفر إلى أوربا, وبخاصة فرنسا, فأصبحت هذه الفكرة لا تفارق خياله, بل مازجت (خالطت) أصبحت جزء من حياته حتى أصبح يتحدث بها كما يتحدث من صحت عزيمته (قويت أرادته) على فعل أمر ما بعد أن تهيأت له أسبابه. حلم السفر لأوربا مزاح الأخوات كان الفتى إذا أقبل الصيف تحدث لإخوته وأخواته عن قرب سفره لأوربا, ويغيظ أخواته بأنه سيعيش في أوربا أعواما ثم يختار لنفسه زوجا فرنسية متعلمة مثقفة تحيا حياة ممتازة, ولن تكون مثلهن جاهلة غافلة ولا غارقة في الحياة الغليظة. فكن يضحكن منه ومن حديثه وربما أضحكن أمه وأباه معهن, فكان يرد على ذلك بقوله (أضحكن اليوم وسترين غدا) إعلان الجامعة عن بعثة أوربا في أحد الأيام قرأ صاحبنا في أحدى الجرائد إعلانا للجامعة تدعوا فيه الطلاب للاستباق إلى بعثتين من بعثاتها في فرنسا, إحداهما في درس (تعلم ودراسة) التاريخ, والأخرى لدرس الجغرافيا. أثر هذا الإعلان على الفتى ما إن قرأ الفتى هذا الإعلان حتى استقر في نفسه أنه صاحب إحدى هاتين البعثتين, وأنه سيدرس التاريخ في جامعة السوربون,وأسرع فكتب كتابا إلى رئيس الجامعة الأمير (أحمد فؤاد) وكتب فيه: دولتلو أفندم (تعبير تركي للتعظيم) أرفع دولتكم وإلى مجلس إدارة الجامعة أني قرأت أنها سترسل طالبين إلى وأوربا لدرس التاريخ وتقويم البلدان (تعيين مواقعها وبيان ظواهرها - الجغرافيا), وبين شدة حرصه على هذه البعثة ورغبته في أن يكون صاحب بعثة التاريخ. وبين أسبابه التي هي: أن الجامعة تختار مبعوثيها على أساس الكفاءة الحقيقية, وهو يرى في نفسه كفئا (قادر على تصريف العمل /ج/أكفاء) وذلك بما علمته الجامعة من علوم نافعة وأدب مفيد. شروط البعثة وبين الفتى أنه لا تنطبق عليه كل شروط البعثة, ومن ذلك أنه لم يحصل على الشهادة الثانوية, كما أنه مكفوف البصر, ورد على هذين الشرطين شرط الثانوية العامة بين أنه على الرغم من عدم حصوله على الثانوية العامة ورد على ذلك بأن العلوم التي تلقاها في الجامعة وما أداه من امتحانات في الجامعة نال في أغلبها الدرجة العظمى إلا في الآداب الأجنبية ورضا الإدارة عن تفوقه ورضا أساتذته عليه حاضر وغائب يقوم مقام الشهادة الثانوية ويزيد عليها بلا شك. وبين كذلك أنه شارع (بادئ) في تعلم الفرنسية ووصل فيها لقدر يمكنه من دخول الجامعة بعد أشهر قليلة يقضيها في فرنسا. وبين أنه أتم (أنهى) درس تاريخ الشرق القديم وحصل فيه على الدرجة العظمى, وأتم درس تاريخ الإسلام وحصل فيه على أعظم درجة نالها طالب في الجامعة ولم يفصل بينه وبين النهاية إلا درجة واحدة, وكذلك أتم درس اللغات القديمة السامية ونال فيه الدرجة العظمى. وبين أن هذه الدرجات تعد مزية (فضيلة) له لم تجتمع لأحد من طلاب الجامعة المصرية, مما يجعله أفضل من يبعث لدرس التاريخ. شرط كف البصر ورد عليه بأنها بلية ابتلاه الله بها ولكن ذلك لا يمنعه أن يسمع العلم ويؤديه, أي يكون طالب وأستاذ, وأظهر انه يرى ان المجلس أعظم من أن يتخذ من تلك البلية سببا يحول بينه وبين البعثة. اعتراف الفتى واعترف الفتى بأن الجامعة إذا ما وافقت على إرساله فستتحمل زيادة في النفقات لحاكته لمن يعينه في فرنسا لأنه مكفوف, ولكنه بين أن ذلك لا يضر الجامعة في شيء, بل هو دليل كرم النفس والتضحية لمساعدة من يحتاج المساعدة. وبين أنه مستعد على أن يدفع كل ما تنفقه الجامعة عليه وزيادة بعد عودته, على أن تخصم ذلك من مرتبه أقساطا كل شهر, وبين أنه يظن فيهم خيرا وأنهم لن يبخلوا عليه بهذا القرض الجميل (السلف) رد الجامعة عُرض كتاب صاحبنا على مجلس الإدارة الذي رفضه, لأن صاحبنا لا يحمل شهادة الثانوية بحكم آفته (العمى) ولان إرساله يكلف الجامعة نفقات إضافية لتعين له رفيق يعينه على الاختلاف إلى الجامعة وقراءة ما يحتاج من كتب. كتاب الفتى الثاني للجامعة لم يفل (يكسر ويضعف) هذا الرفض من عزيمة الفتى, ولم يثبط (يضعف ويعوق) بل زاده إصرارا على ما يرد, وأرسل بكتابه الثاني للجامعة: بين فيه انه أرسل للجامعة يطلب الإذن له بأن يكون أحد مبعوثيها إلى فرنسا, وأن المجلس رفض في جلسته الأخيرة لعدم تطابق قوانين الإرسالية, وبين أنه يعرف جيدا قبل أن يرسل بطلبه الأول أنه يخالف قانون الإرسالية. ولكنه بين انه طلب الاستثناء لما بينه من حرصه الشديد على العلم وخدمة الجامعة, ولما اكتسبه من مميزات تؤهله (تجعله يستحق) بلوغ هذه المنزلة. وكذلك بين أنه لا ينكر رفض مجلس إدارة الجامعة لطلبه لأنه ينفذ القانون, وطلب منهم أن يعيدوا النظر في طلبه, فهم رفضوا طلبه لأحد أمرين أو لأمرين مجتمعين وهما: السبب الأول: عدم حمله للشهادة الثانوية و سبب أنه مكفوف البصر, وبين أنه يعظم المجلس ويترفع به أن يحسب لذلك حسبانا, رغم انه يقبله في الجامعة طالبا منتسبا, ويحضر دروسها ويجتاز امتحاناتها. فإذا كانت هذه هي طبيعته فلا يجب أن يعين لمجلس الطبيعة على حب الفتى للعلم, الجامعة تعلم أنه قادر على هذه المهمة. السبب الثاني: زيادة النفقات وهو أن الجامعة إذا أرسلته فسوف تضطر إلى دفع نفقات أكثر لحاجته لمرافق, وهو ير في نفسه أنه ليس أهل لأن تقدر الجامعة خدماته بهذا المبلغ الكبير لأنها لا تجده. ولذلك فقد عرض الفتى ألا يحصل في البعثة إلا على القدر المخصص لكل طالب يرسل للدراسة, على أن يتكفل هو بما يزيد على ذلك. ورجا أن يتشرف بقبول المجلس طلبه ليتعلم العلم, وبين لهم أن خروجه من مصر فيه من المشقة والعناء الكثير, ولكنه محب للعلم ولذلك فهو يتحمل أي مشقة. رد الجامعة على الكتاب الثاني رفضت الجامعة للمرة الثانية طلب الفتى وحددت سبب ذلك عدم معرفة الفتى للغة الفرنسية حق المعرفة, ولأن المجلس أراد أن يهون على الفتى هذا الأمر فقد صاغ الرفض في صيغة التأجيل حتى يتقن الفتى اللغة الفرنسية. وقد ظن المجلس أن الفتى لن يجد لإجادة اللغة سبيلا, ويحول بينه وبين ذلك آفته, وفقره الشديد, ولكن الفتى خيب ظنهم فقد زاد إصراره وتصميمه, الكتاب الثالث أرسل إليهم بعد شهور كتابه الثالث, والذي بين فيه رغبته في السفر لدراسة العلوم الفلسفية والتاريخ, وأن مجلس الجامعة قد رفض طلبه في العام الماضي وأجل ذلك لهذه السنة, حتى يقوى الفتى في اللغة الفرنسية وبين في كتابه أنه قد وصل في إجادة هذه اللغة إلى درجة لا بأس بها , وبين كذلك أنه سيمتحن شهادة العالمية في قسم الآداب هذه السنة. رد الجامعة: لم تجد الجامعة إلا أن تؤجل النظر في طلب الفتى حتى يحصل على شهادة العالمية (الدكتوراه) وهو ما يشبه التحدي للفتى. أثر رد الجامعة على الفتى قبل الفتى هذا التحدي, وأقبل على الدرس وإعداد الرسالة للامتحان وتقدم للامتحان وظفر بإجازة الدكتوراه. الفصل الخامس الفتى في فرنسا مقارنة الفتى بين حياتيه في القاهرة ونابولية: السعادة البالغة التي شعر بها الفتى جعلته يقارن بين حياته في فرنسا, وصباه البائس (الشقي) في القاهرة والأزهر, فوجد اختلافا كبيرا بين الحياتين من كل الأوجه العلمية والمادية والمعوية. الحياة المادية كانت حياته في الأزهر عسيرة (شديدة صعبة) فقيرة, تعتمد على العسل الأسود صباحا ومساء , حتى أنه إذا حاول التغيير لم يجد أمامه إلا طعام الأزهر الغليظ الذي يعيش عليه الأزهريون, وإذا حاول أن يتفكه (يمتع نفسه بطعام حلو) لم يجد أمامه إلا البليلة أو التين الغارق في الماء. في نابولية اختلفت الحياة في نابولية تماما عن الحياة في القاهرة, فقد كانت تعرض عليه في الغداء والعشاء ألوان وأنواع الطعام المترف (الناعم النضر) بلا تضييق ولا تقتير حتى أن الخدم وأصحاب الفندق كانوا يلحون عليه (يكررون الطلب مرة بعد مرة) ليصيب (يأخذ) من الطعام أكثر مما أصاب. أثر تنوع الطعام في نابولية فلم يشعر الفتى بجوع ولا حرمان, وذلك أن الفطور الذي يحمل إليه في الصباح ناعما ليا لا خشونة فيه ولا غلظة, وأما في وسط النهار وآخره, فقد كانت تعرض عليه ألوان الطعام المختلفة والتي كانت تذكره بطعام القاهرة المتشبه فيقارن بين الحياتين, فيجد أن حياة نابولية ناعمة وحياة القاهرة غليظة خشنة. الحياة العقلية (العليمة – المعنوية) كانت حياة الأزهر المعنوية (العقلية) في القاهرة مجدبة (ليس فيها نفع) فقيرة, ومتشابهة ومملة, مما جعله مضيعا (مشتتا) بين فقر الحياة المادية وفقر الحياة المعنوية. في نابولية كانت الحياة المعنوية العليمة فيها متجددة باستمرار, فقد كان يذهب إلى الجامعة ليسمع دروس الآداب والتاريخ واللغة الفرنسية, ولا يسمع درسا إلا أحس انه قد علم لما لم يكن يعلم وأضاف لعلمه القديم علما جديدا قيما, حتى أنه لم يجد مشقة في فهم دروسه رغم أن حظه من الفرنسية كان قليل. هل وجد الفتى مشقة في فهم دروسه بسبب ضعف لغته الفرنسية؟ لم يجد الفتى مشقة كبرى في فيهم دروسه التي تلقى عليه بالفرنسية على الرغم من قلة حظه من اللغة الفرنسية, وذلك أنه كان يلم (يجمع ويفهم) ما يغنيه (يكفيه) ويرضيه. أثر هذه الموازنة على نفس الفتى كان الفتى يشعر بعد هذه الموازنة أنه أعظم الناس حظا من النُّجْح (النجاح والتفوق), لما رآه من فارق عظيم بين الحياتين وبني حاله في الأزهر وحاله في نابولية. مرتب الفتى الضئيل لم يكن الفتى ميسر عليه (موسعا عليه) في الرزق فقد كان عليه أن يدبر مرتبه الضئيل الذي لم يتجاوز (اثني عشر جنيها) لينفق منه على نفسه وعلى أخيه, وقد نجح في ذلك في غير تكلف ولا عناء (تعب وشقاء) وذلك لأن الحياة في فرنسا في ذلك الوقت كانت هنية (ميسرة وسارة) بحيث تتيح لفتيين أجنبيين مثله وأخيه أن يعيشا بهذا المرتب الضئيل عيشة راضية إذا ما قاسها بقسوة الحياة في مصر وشظفها (شدتها وضيقها). هدف الفتى من هذه البعثة وسبيله لتحقيق ذلك لم يلبث الفتى أن أدرك أنه لم يعبر البحار ليعيش مترفا متنقلا بين الفندق والجامعة, بل أتى إلى هذه البلاد ليدرس ويحصل ويجوز (يتعدى) الامتحان ويظفر بالدرجات الجامعية التي لم ينهلها أحد من المصريين من قبل وهي درجة الليسانس. ولم يجد الفتى سبيلا للحصول على هذه الدرجة إلا أن يتقن لغة الدرس وهي اللغة الفرنسية, وقد أخذ منها بحظ يسير, ولغة أخرى قديمة سمع عنها ولم يحققها (يتقنها ويحكمها) وهي اللغة اللاتينية التي لابد من إتقانها لتحصيل العلم بها. عاهة الفتى التي تعوق تقدمه عمل الفتى على إتقان الفرنسية, وتعلم اللاتينية, ولكنه التمس (طلب) معلما خاصا يساعده على ذلك, فبحث له أصدقاؤه عن معلم يناسبه, فلم يجدوا إلا أنه يجب عليه أن يتعلم طريقة المكفوفين ليمكنه تحصيل العلم بنفسه. المعلم المكفوف ثم أصحاب الفتى أن مدرسة المكفوفين فيها أستاذ شرير (أعمى /ج/ أضراء) يستطيع أن يساعد الفتى على تعلم طريقة المكفوفين, ولما ذهبوا إليه قال الأستاذ الضرير أنه (زعيم) كفيل ان يعلم الفتى القراءة والكتابة باللغتين الفرنسية واللاتينية, ولم يطلب لنفسه إلا أجرا ضئيلا في نفسه (في نظره), ولكنه كان ثقيلا على الفتيين اللذين يعيشان بمرتب شخص واحد. تعلم الكتابة البارزة أقبل الفتى على تعلم الكتابة البارزة فأحسنها سريعا,ولكنه لم ينتفع بها في درسه,وذلك أن الكتب التي كان يحتاجها لم تكن قد طبعت بهذه الطريقة, هذا غير انه إذا ما وجد كتابا مطبوعا بهذه الطريقة فإنه سرعان ما يشعر بالنفور والضيق, وذلك لأنه تعود أن يأخذ العلم بأذنيه لا بأصابعه. صعوبات الانتفاع بالطريقة البارزة لقد وجد هذه الطريقة عسيرة جدا في تحصيل الدرس, وذلك انه يجد مشقة في تتبع النقاط البارزة ليؤلف من منها الكلمة ثم يؤلف من الكلمات جملة ثم من الجمل كلاما يمكن أن يعمل فيه عقله وبصيرته (قوة الإدراك والفطنة /ج/ بصائر) أثر الصعوبات على نفس الفتى وجد الفتى في هذه الطريقة عسرا (شدة وصعوبة) وٍسأما عظيم, وذلك انه يستطيع بأذنيه أن يحصل من العلم في اللحظات القصيرة ما يحصله بأصابعه في الوقت الطويل ماذا فعل الفتى للتخلص من هذه الصعوبات لكي يتخلص الفتى من هذا الملل والضيق قرر العدول (الانصراف) عن الكتابة البارزة, العودة إلى الطريقة التي ألفها في كل درسه إلا في درس اللاتينية التي كان حريصا أن يتعلمها في أناة ومهل, كما أن هذه الطريقة كانت تلائم وتناسب ابتداءه درس اللاتينية وحاجته الشديدة للتريث(البطء) والأناة (التمهل) فيها. كما قرر الفتى أنه يحتاج إلى قارئ يقرأ عليه الفرنسية واللاتينية جميعا, خصوصا أنه لم تقدم في درس اللاتينية أحس بملل وسأم شديد من استخدام أصابعه. واستطاع الفتى أن يدبر هذا القارئ دون ان يستغن عن أستاذه الذي كان يعلمه هاتين اللغتين. كيف دبر الفتى المال اللازم للقارئ؟ استحى الفتى أن يطلب من الجامعة عونا جديدا فقتر (ضيق) على نفسه أشد التقتير وأقساه وعاش عيشة غليظة خشنة ولكنها كانت على أي حال أفضل من حياته الغليظة في مصر. الخلاف بين الأخوين لم يستمر الحياة كما كان يتمناها الفتى, فبعد أن كان يعيش مع أخيه حياة راضية يدبران فيها أمرهما بما يلائم طاقتهما المالية على ما فيها من مشقة, فقد اختلف مع أخيه واشتد الخلاف بينهما حتى أصبح خصاما متصلا وشقاء ملحا (دائما مستمر), فاضطرا للافتراق على أن يسكن كل واحد منهما في مسكن خاص به. أثر الخلاف على الأخوين اضطرهما الفراق والخلاف إلى المبالغة في التضييق والتقتير على أنفسهما, وذلك أن النفقات التي يقتضيها الفراق في المسكن ليست كالنفقات الين يتحملانها معا وهما في غرفة واحدة ومائدة واحدة. وعلى الرغم من شدة الحياة وقسوتها, فلم تنل من صبرهما ولم تصرفهما عن جدهما في الدرس, كما لم تنقطع الصلة بينهما بل كانا يلتقيان أحيانا. حياة الفتى بعد فراق أخيه كما أن حياة الفتى لم تكن شقاء متصل, لم تكن كذلك حلوة ولا مُرة, بل كانت مزاجا بين الجد الصارم (القوي الجاد) والهزل الباسم, فهي تمر أول النهار, وتحلو آخره إذا ما تجمع أصحاب الفتى ليقضي بينهم فيما يعرضون من مشكلات وأكثرها كانت مشكلات الحب والغرام. الفتى يحكم بين أصحابه في شئون الحب كان من الطبيعي أن يداعب الحب قلوب هؤلاء الفتية المصريين الذين يعيشون في فرنسا ويختلفون إلى القهوات والأندية وبعض الحفلات, وكان يقسو عليهم في كثير من الأحيان. وقد تروق (تعجب) اثنان منهم فتاة واحدة ويلتمسان (يطلبان) اللقاء حتى إذا ظفر أحدهما برضاها حدث التنافس والخصام ثم التلاحي (التنازع) ثم الفرقة. ويصبح من ظفر برضا الفتاة عدو لصديقه الذي خانه الأمل, وسرعان ما يتجاوز الخلاف والخصام مسالة الحب إلى ألوان الحياة التي كانا يتعاونان عليها ويشتركان فيها فيحضرا للفتى يحكم بينهما. لماذا لم يقع الفتى في خصومات الحب؟ لك يقع الفتى في هذه الخصومات ولم يكن له في مسألة الحب أرب (هدف) ولا سبيل, وذلك انه مكفوف لا يرى وجوه الحسان ولا يعرف كيف يتحدث إليهن, أو كيف يبتغي إلى راضاهن سبيلا, كما كان يقضي صباحه في الجامعة فإذا عاد إلى منزله آخر النهار لم يبرحه حتى يصبح, والأصدقاء يلمون به (يزورونه زيارة غير طويل) أول الليل أو آخره, فيختصمون إليه فيصلح بينهم أحيانا ويقضي لبعضهم على بعض أحيانا أخرى. وحدة الفتى ليلا وخواطر أليمة فغذا تفرق عنه الأصدقاء قضى ليه في خلوة مرة لا يجد عليها معينا, وتداعب نفسه الخواطر (الأأفكار /م/ خاطرة) المختلفة, بعضها يسره ويحي فيه الأمل والآخر يسوؤه ويدفعه لليأس ولقنوت (شدة اليأس), حتى أن هذه الوحدة كانت تذكره بوحدة القاسية في حوش عطا في القاهرة والتي لم يكن يؤنسه (يفرحه ويذهب وحشته ) فيها إلى صوت الصمت أو أزيز (صوت) بعض الحشرات. أثر الوحدة على نفس الفتى وقد تشتد عليه الخواطر وقسوة الوحدة فيمتنع عن النوم ويجعل الأرق (السهر) حليفه, وقد يجد الباب يطرق عليه في بعض لياليه بعد أن يتقدم الليل, ويدخل عليه أحد أصحابه الذين أخذوا من عبث الشباب أقصاه ويأبى إلا أن يقص عليه عبثه, فإذا فرغ صاحبه من عبثه رحل وترك الفتى في حزن وضيق وصل فيهما إلى غايتهما (منتهاهما) فيقضي ليلة لا يذوق فيها نوم ويصبح على حياة فاترة لا خير فيها لعقله ولا لجسمه. ثقة الفتى بنفسه وعلى الرغم من هذه الوحدة القاسية, والمشقة البالغة في الاختلاف إلى الجامعة والانتفاع بدروسها, فقد كان راضيا عن حياته كل الرضا, ولا يتمنى إلا أن ينتهي إلى غاياته (أهدافه) وهو يشعر بالثقة في أنه سيبلغ من هذه الحياة ما يريد, فيثق في أنه سيتقن اللغة الفرنسية وهو بالفعل بدأ يحسنها, ويطلق لسانه في يغر مشقة, كما كان يثق في أنه سيتعلم اللغة اللاتينية وسيتهيأ للامتحان, ومن يدري لعله أن يكون أول طالب مصري يظفر بدرجة الليسانس في الآداب. الحياة تبتسم للفتى وعلى الرغم من الحياة الغريبة التي عاشها الفتى, والتي كانت حلوة وقاسية لينة, يفرح أحيانا ويشقى أحيانا أخرى, فقد جاء يوم ابتسمت له الحياة ابتسامة غيرت كل حياته, وما كان ذك إلا من خلال سماعه صوتا حانيا رقيقا. أبو العلاء المعري والفتى لقد ملأ أبو العلاء المعري حياة الفتى نفس الفتى ضيقا وبغضا, وأيأسه من الخير, وألقى في نسفه أن الحية كلها جهد ومشقة وعناء, فأصبحت نفسه كالمدينة التي ملأتها السحب والغيوم والعواصف التي أخافته وأفزعته. أثر ابتسامة الحياة للفتى لم يعد يعرف الفتى الوحدة الموحشة إذا خلا إلى نفسه ليلا, بل لم تعد الأفكار تؤذي ولا تضنيه (تثقله) ولم يعد يشعر بذلك الأرق ليلا, وذلك أنه انشغل عن حياته القاسية ووحدته البغيضة بصوت رقيق عذب يشع في نفسه البر والحنان كلما قرأ عليه بعض الآثار الأدبية الفرنسية القديمة. (أثر الصوت على حياة الفتى) لقد كان الصوت يصحبه ليل لنهار لا يكاد يخلو إلى نفسه غلا سمعه يقرأ عليه هذا الكتاب أو ذاك, في تلك النبرات التي كانت تسبق إلى قلبه فتملؤه رضا وغبطة (تمني النعمة من غير زوالها) وسرور, وقد كان لهذا الصوت أثر كبير غير كل حياته ومن ذلك: بالنسبة لنفس الفتى ذاد (دفع) هذا الصوت عن نفس الفتى كل ما ألقاه أبو العلاء المعري فيها من يأس وضيق وبغض وتشاؤم, فكان كالشمس المشرقة التي بددت غيوم وسحب اليأس والتشاؤم, ومنذ أن سمع ذلك الصوت يقرأ عليه بعض شعر (راسين) لم يعرف اليأس إلى قلبه سبيلا, بل كان يشعر أنه خلق خلقا جديدا. بل لم يحب الحياة قط كما أحبها في الثامن عشر من شهر مايو في ذلك العام. بالنسبة لحياة الفتى لم يعد يعرف الفتى الوحدة الموحشة إذا خلا إلى نفسه ليلا, بل لم تعد الأفكار تؤذي ولا تضنيه (تثقله) ولم يعد يشعر بذلك الأرق ليلا, وذلك أنه انشغل عن حياته القاسية ووحدته البغيضة بصوت رقيق عذب يشع في نفسه البر والحنان كلما قرأ عليه بعض الآثار الأدبية الفرنسية القديمة. بالنسبة لدرس الفتى لم يشعر الفتى أنه أقبل على العلم الدرس والعلم كما أقبل عليه منذ ذلك اليوم (18 مايو), كما لم يعرف أنه انتفع بالاختلاف إلى الجامعة والقراءة في الكتب كما انتفع بهما منذ ذلك اليوم, واستمر في هذه السعادة حتى بعد أن انقطع هذا الصوت الرقيق في بداية الصيف. بم شبه الفتى نفسه وشبه الصوت شبه الفتى نفسه بالمدينة التي أطبقت عليها الغيوم والسحب وامتلأت عواصف ملأتها إشفاقا (خوفا) وروعا (فزعا), وشبه الصوت بأنه شمس أِرقت في أحد أيام الربيع فجلت (أزالت ومحت) عن المدينة كل هذه الغيوم والسحب,وملأتها نورا وإشراقا. الجامعة تقضي على سعادة الفتى وفي غمرة هذه السعادة المتصلة, جاءه صديقه الدرعمي ذات مساء مظلم النفس والوجه والصوت, ونبأه أن الجامعة أرسلت كتابا تطلب من جميع طلاب البعثة المصرية العودة إلى مصر مع أول سفينة تتاح لهم بعد قراءة هذا الخطاب. أثر الكتاب (الرسالة) على الفتى سمع الفتى النبأ فغرق في ذهول عميق لم يدر أطالت مدته أم قصرت؟ فقد تحولت آماله العذاب (الهنيئة /م/ عذبة) إلى آمال كذاب, وتحولت حياته المشرقة الباسمة إلى حياة عابسة مُمضَّة (موجعة مؤلمة). وأخذ يتعلق بالوهم, ويبرق إلى أصدقائه القادرين في مصر ليسعوا له في الخير عند الجامعة أو السلطان, ويبرق مرة أخرى إلى القصر, ولا يأتي البرق إلا بالإلحاح في العودة في غير إبطاء. وذات يوم من شهر سبتمبر رأى الفتى نفسه كاسف البال (محتجب والمراد حزين) معه رفيقه الدرعمي يسعيان إلى السفينة يثقلهما الحزن والهم كأنهما يساقان إلى الموت وليس يعودان إلى وطنهما الفصل السادس الصوت العذب استغرق الفتى وصاحبه الدرعمي في السفينة ستة أيام طوال ثقال, كان فيها الهم صحبهما صباحا ومساء, فلا حديث لهما إذا التقيا صباحا إلا عن خيبة أملهما ولم يفكرا في شيء طوال الليل حين يفترقان إلا فيها, فقد كانت المفاجأة قاسية عليهما. بعثة الدرعمي في فرنسا لقد أنفق (أنهى وأذهب) الدرعمي أعواما طوال في فرنسا ولم يحقق شيء من آماله, فقد حاول واقترب؛ حيث تعلم الفرنسية واختلف إلى الدرس وهيأ نفسه لإعداد رسالة الدكتوراه, فجاءت الحرب لترده عن ذلك, ثم عاد لفرنسا مرة أخرى واستأنف استعداده للرسالة والامتحان, فردته الأزمة المالية التي تمر بها الجامعة, فعاد لوطنه خائبا لم يظفر بشيء ولم يصنع شيء. بعثة الفتى في فرنسا جد الفتى وكد( اشتد على نفسه وكافح) واحتمل المشقة والعناء, وداعب الأحلام والآمال, حتى أشرف على البعثة, ولكن إعلان الحرب رده عنها, فعاش عيالا (معتمد) على أبيه وأخيه أشهرا ذاق خلالها مرارة الحياة التي لا تغني عنه شيئا, ثم أتيحت له البعثة فأقبل على عمله مغتبطا (مسرور) سعيدا, نشيطا, وحاول مع الدرس حتى أتيح له الكثير من التوفيق فظن أنه سيبلغ ما يريد. ثم عرض له في فرنسا ما أحيا آمالا لم تطرق له ببال, وظن انه يستطيع أن يكون مثل الناس وأفضل من كثير من الناس, بما شعر من رضا وغبطة (حسن الحال والمسرة) وسكون الرحمة, التي بددت يأسه الذي ألقاه أبو العلاء المعري في نفسه بأن الحياة شقاء لن يذوق منها رحمة ولا شفقة. وفي تلك الحياة الراضية الناعمة, دعته الجامعة ليعود كما خرج منها, كأنه كلما هم (استعد) لينال بعض آماله ترجع (شرب) مرارة اليأس والخيبة. وكان الفتى قد عرف التبطل الفراغ في أشهره التي قضاها في مصر بعد أن أعلنت الحرب, وهو يعود الآن للتبطل والفراغ مرة أخرى. بم وصف الفتى التبطل والفراغ؟ شعر الفتى بالضجر الشديد منهما ولذلك قال أف (اسم فعل مضارع بمعنى أتضجر) لهما من رفيقين بغيضين (التبطل والفراغ) كيف كان الطريق بين مونبلييه, ومارسيليا؟ كان الفتى يقطع الأمد (الغاية /ج/ آماد) بين منبوليه ومارسيليا أثناء الليل الثقيل ولا يوجد في نفسه إلا شيء واحد وهو الصوت العذب الذي طالما قرأ عليه آيات الأدب الفرنسي وهو في تلك الليلة يناجيه في حزن وألم ويقول له إذن فلن نلتقي بعد أن ينقضي الصيف. الصوت العذب يصاحب الفتى في السفينة: (أثر الصوت على الفتى في السفينة) صحب الصوت العذب الفتى في السفينة في رحلة العودة إلى مصر فكان يناجيه يأسا مرة وآملا مرة أخرى, يشفق عليه من الأحداث التي يمر بها ويمنيه بالانتصار عليها والخروج منها سريعا, ويتحدث إليه الصوت العذب بأنها الغمرات (الشدائد /م/ غمرة) ثم ينجلين (ينكشفن), ويهون عليه بأن لكل أزمة نهاية وأن بعد كل حرج (ضيق) فرجا. والفتى مضطرب بين الابتسامات المضيئة الخاطف التي تختفي سريعا وبين هذا الحزن الجاثم (المستقر) المقيم الذي لا يفارقه إلا ريثما يعود إلى مناجاة صوت العذب. صعوبات لدخول الوطن بلغت السفينة ثغر الإسكندرية, فشعر الفتى وصاحبه الدرعمي بزهد الوطن فيهما وكأنه لا يريد أن يلقاهما ولا أن يضمهما بين ذارعيه, وما ذلك إلا لأن الحرب كانت على أشدها وكان الأمر (الحكم) في مصر لغير أهلها (للأنجليز) ففرضوا قيود ورقابة شديدة صارمة على الثغور. وما أن وصل الصديقان إلى الثغر وأرادا النزول من السفينة رُدا ردا عنيفا, فلم يكن يكفي المصري أن يصل إلى وطنه ليدخله, بل يجب عليه أن ينتظر ويطول انتظاره حتى يؤذن له بالدخول. وطال انتظار الصاحبين في السفينة حتى تأذن لهم السلطات بالدخول إلى مصر, فأسرعا يبرقان (يرسلان البرقيات) إلى الجامعة ومن يعرفان من الأصدقاء ليتعجلوا لهم إذن الدخول, ولكنهما انتظرا في السفينة يوما بعد يوم. الوطن يفتح أبوابه مكث الصاحبان يومين في السفينة مضطربين أشد الاضطراب يريدان أن تفتح لهم أبواب مصر, ولكنهما يتمنيان ألا تفتح هذه الأبواب وأن يعودا بالسفينة مرة أخرى إلى مرسيليا. ولكن الإذن يأتي ويسمح لهما بالدخول بعد لأى (تعب وشدة) فقد فتح لهما الوطن أبوابه ولكنه ظهر كئيبا (سيء الحال) مما أضاف إلى حزنهما حزن جديد. ثلاثة أشهر في البؤس والفراغ مكث الفتى في القاهرة ثلاثة أشهر لا يعرف في حياته كلها شقاء أكثر مما عرفه في هذه الأشهر وكذلك لم يعرف سعادة مثلما عرف في هذه الأشهر, ولكن الشقاء كان طويلا ملحا, أما السعادة فكانت قصيرة خاطفة. الصوت العذب وسعادة الفتى فقد كان يشقى بهذا الفراغ والتبطل والبؤس الذي يعيش فيه, ويسعد بهذا الصوت العذب الذي يناجيه بين الحين والآخر, وكثيرا ما أيقظه هذا الصوت من نومه فزعا ولكنه مسرور مع ذلك الفزع. ومما زاد سعادته بهذا الصوت تلك الرسائل التي تصل بين الحين والحين وفيها كثير من الإشفاق والأمل, وكثير من التشجيع على احتمال النائبات (المصائب /م/ نائبة), بل كانت صاحبة الصوت العذب ترسل له في بعض الرسائل وردة قد جففت وأرسلت له ليحملها كأنها تميمة (تعويذه أو حجاب /ج/ تمائم) تذكره إن نسي, ولكنه ما نسي لحطة واحدة. شكوى الفتى وصل الشقاء بالفتى لأن يشكو حاله وهو الذي لم يشكو قط, فلم يعد قادر على أن يصبر, حتى نشر ذلك في أشعاره في الجريدة حتى عاب عليه بعض أصدقائه ذلك ولاموه عليه, فقال له أحدهم أين الصبر وأين الإجمال؟ (العمل الجميل) وأين ذهب عنك الحياء؟ لتكتب في الجريدة هذين البيتين: الحمد لله على أنني نصيحة أصحاب الفتى لهقد صرت من دهري إلى شر حال لا أملك القوت ولا أبتغي ما فاتني منه بِذُلِ السؤال قالوا له املك عليك نفسك, فإنك إن شكوت الزمان للزمان, فهو لن يسمعك, وإن كنت تشكوه للناس فالناس مشغولون عنك بأنفسهم. والناس بين رجلين, أحدهما عاطف عليك ولكنه لا يقدر لك على شيء, وثانذيهما قادر على معونتك,ولكنه لا يلقي إليك بالا (اهتمام) هل استمع صاحبنا الفتى لنصيحة أصحابه؟ لم يقلع صاحبنا الفتى عن شكايته, لأنه لم يكن يشكو الزمان للزمان أو للناس, ولم ينتظر من الزمان أو الناس شيء, وإنما كانت الشكوى غناء نفسه المحزونة وباله الكئيب (حاله وشأنه الحزين). نشر كتاب أبي العلاء في جريدة السفور خلال أيام الفراغ أصدر (عبد الحميد حمدي) رحمه الله جريدة (السفور) في كل أسبوع, وكان يطلب إلى الفتى وأصحابه أن يعينوه على الكتابة فيها, فكان الفتى يرسل إليه حديث نفسه المر. حتى طلب إليه (عبد الحميد حمدي) في تلك الأيام أن ينشر كتابه عن أبي العلاء المرعي, فشعر الفتى بالحبور (السرور) فقد وجد في ذلك تسلية لبعض همه وشغلا لوقته وإرضاء لغروره الذي يحتاج لبعض الرضا بعد أن أسرفت الحياة في القسوة عليه, وزاد من رضا غروره أنه سيظهر له كتابا رغم هذه القسوة وهذه الحالة الشديدة القاسية. انفراج أزمة الجامعة في أحد الأيام دعاه علوي باشا وأنبأه في عطف ورفق بأن أزمة الجامعة انفرجت وأن عليه أن يستعد بأنه سيبحر قريبا هو وصديقه الدرعمي وأعضاء البعثة بعد أيام. مقابلة السلطان حسين كامل ثم أنبأته الجامعة بأنه وأعضاء البعثة سيتشرفون بمقابلة السلطان حسين كامل,و ذهبوا في ضحا أحد الأيام يقودهم علوي باشا, ولقيهم السلطان لقاء حسنا, وسأل السلطان الفتى سؤالا لم يعرف كيف يرد عليه, فقد سأله من أول من رفع شأن التعليم في مصر؟ فوجم الفتى ولم ييرجع جوابا ( لم يرد) فقال السلطان وهو يضرب على كتفيه بلهجة تركية (جنة مكان إسماعيل باشا) والمعنى يرحمه الله ويجعل مكانه الجنة. مكافأة السلطان انصرف الرفاق ولم يكادوا يصلوا إلى غرفة الاستقبال حتى أنبأهم منبئ أ، السلطان قد تفضل وأجاز (أعطاه جائزة) لكل واحد منهم خمسين جنيها. انصرف الرفاق وخلصوا نجيا (متناجين أي متحدثين في صوت خفيض) وقرروا أن يهدوا جوائزهم للجامعة معونة لها واعترافا بفضلها عليهم, وردا لبعض جميلها, وكانوا سعداء بهذا القرار. سخرية علوي باشا وانطلق الرفاق إلى علوي باشا يعرضون عليه قرارهم منتظرين منه الثناء التشجيع على عمل الخير, ولكنه سمع منهم ثم أغرق في ضحك متصل وقال لهم, ما هذا الكلام الفارغ! خذوا أموالكم واذهبوا بها إلى باريس وأيها الحمقى... فمن حقكم أن ترفهوا على أنفسكم أياما بعد ما لقيتم في هذه الأشهر من عناء طويل ثقيل. وسكت قليلا ثم قال: فإذا أصبحتم أغنياء فاستأنفوا ما أقدمتم عليه من خير, وما أراكم تفعلون يومئذ, فستعرفون قدر المال. أثر سخرية علوي باشا على الرفاق انصرف الرفاق عن علوي باشا هو لا يعرفون هل يشكروه لأنه حافظ لهم على أموالهم لينفقوها في باريس,أم كانوا ساخطين عليه لأنه لم يقبل تبرعهم الذي أقبلوا عليه مخلصين؟ مشكلة السفر لفرنسا وفي صباح يوم يذهب صاحبنا إلى الجامعة ليأخذ تذكرته فيسمع ما يؤذيه أشد الأذى وأمضَّه (آلمه ألما شديد) فقد رفضت شركة السياحة أن تصرف له تذكره إلا بإذن خاص من المفوضية الإيطالية (السفارة), فقد كان من المقرر نزولهم في نابولي وكانت الشركة تخشى ألا يؤذن للفتى بالنزول لأنه ضرير لا يحسن السعي في اكتساب الرزق. أثر رفض الشركة على صاحبنا الفتى شعر بألم شديد ودخل قلبه حزنا شديدا ولوعة ما بعدها لوعة, وظن أنه سيرد عن السفر مرة ثالثة, ولكن الأستاذ لطفي السيد والأمير أحمد فؤاد يسران في أمر سفره, فيركب من غد (صباحا) القطار إلى بورسعيد ويصعد السفينة الهولندية التي تعبر به البحر إلى نابولي الطريق إلى أوربا واختلف الأمر في العودة إلى أوربا عن العودة إلى مصر, فقد كانت رحلة العودة إلى الإسكندرية حزينة أليمة, أما في رحلة العودة إلى أوربا فلم يملك نفسه من الفرح والمرح والسرور, حتى أصبح كل شيء يضحكه ويغريه بالبهجة والاغتباط. حتى إذا تقدم الليل أقبل الخادم عليه وعلى صاحبه الدرعمي وهو يقول لهما, إذا سمعتما الجرس فأسرعا إلى اتخاذ منطق النجاة ثم سرعا إلى الزورق المخصص لكما, فإنك تعلم إن الحرب قائمة, وإننا لا نأمن أ، تعرض لنا في الطريق إحدى الغواصات ثم انصرف. أثر حديث الخادم علي الفتى وصاحبه الدرعمي أخذ صاحبنا الدرعمي يعول (يرفع صوته بالبكاء) شاكيا ذاكرا أمه التي لن يراها ولن تراه, والفتى يسمعه ويغرق في الضحك لا يكاد ينقطع الوصول إلى نابولي ولم تتعرض السفينة لأي أذى, وبلغوا نابولي ألح الفتى على صاحبه الدرعمي في الإسراع إلى مكتب البريد, وهناك وجد رسالتين كانتا تنتظرانه من باريس, فقرأهما عليه صديقه مرة ومرة, وفي الثالثة قال منكرا: إليك عني ففي نابولي ما هو أنفع لنا وأجدى علينا من ترديد هذا الكلام الذي حفظناه عن ظهر قلب, وأنفق الصاحبان يوما سعيدا في نابولي حتى جاء الليل وركبا القطار لباريس. الفصل السابع في الحي اللاتيني شعر الفتى في رحلة العودة بسعادة بالغة, لأن الغمرة (الشدة /م/ غمرات) قد انجلت عنه (انكشفت مادتها جلو) ولأنه يعود إلى باريس وسيكمل الدرس الذي بدأه , ويحاول تحقيق آماله, كما أنه سيسمع الصوت العذب مرة أخرى يقرأ عليه روائع الأب الفرنسي وأوليات (مبادئ) التاريخ اليوناني الروماني وسيعينه على درس اللاتينية. أثر مشاعر الفتى عليه لقد كانت هذه الأسباب أو بعضها جديرا أن ينسي الفتى كل ما لقي من جهد وكل ما احتمل من عناء وشقاء, ولكنه كان يحمل في نفسه ينبوع (بئر ماء /ج/ ينابيع) من الشقاء لا سبيل لأن يغيض (يجف) أو ينضب (ينقص) إلا بعد أن يغيض ينبوع حياته نفسها (يموت) وهذا الينبوع هو تلك الآفة (العاهة/ج/ الآفات) البغيضة, التي امتحن بها في صباه وشبابه أثر عاهة الفتى على حياته لم تستطع السعادة الغامرة أن تُنسي آفته التي امتحن بها في صباه وأوائل شبابه, ولكن تجاربه أتاحت له أن يتسلى عنها (ينشغل), بل أتاحت له أن يقهرها ويقهر المصاعب والمشكلات التي صنعتها هذه الآفة, ورغم ذلك فقد كانت تظهر له بين الحين والآخر أقوى منه وأمضى (أقوى وأشد) من عزمه وأصعب مراسا (معالجة) من كل ما يفتق (يشق ويخرج)له ذكاؤه من حيلة. أثر هذه العاهة على نفس الفتى الغريب أن هذه العاهة كانت تؤذيه في دخيلة نفسه, سرا دون ان تجهر له بهذه الخصومة والكيد (القصد خفية لإيذاء الغير), فهي لم تكن تمنعه من المضي في الدرس أو التقدم في التحصيل والنجح (التفوق والنجاح) في الامتحان, ولكنها كانت مثل الشيطان الذي يكمن للإنسان في بعض الأحناء (المنحنيات /م/ حنو) والأثناء (خلال /م/ ثني) بين الوقت والآخر, فالشيطان يخلي لك الطريق لتتقدم فيه ثم يخرج لك فجأة من مكمنه هنا أو هناك فيؤذيك وينثني عنك (ينصرف) كأنه لم يتعرض لك بمكروه, على الرغم أنه أصاب مواضع الإحساس الدقيقة في قلبك, وفتح لك أبواب الألم والشقاء. وكذلك كانت آفته تختفي وفجأة تظهر له لتصنع له المشكلات والمصاعب ثم تختفي كأنها لم تتعرض له, بعد أن تركت في نفسه الألم والشقاء. الفتى ينسى بصره لأول مرة في السفينة حينما ركب الفتى لأول مرة السفينة إلى أوربا وخرج من زيه الأزهري إلى زيه الأوربي الجديد نسي شيئا واحدا لم يحسب له حسابا لأنه لم يخطر له على بال, وهذا الشيء هو بصره المكفوف, وأجفانه التي تتفتح على الظلمة. رأي أبي العلاء المعري في العمى لقد قرأ الفتى أحاديث لأبي العلاء المعري يقول فيها إن العمى عورة يجب على المرء ألا يظهره أمام المبصرين, وفهم الفتى هذا الأمر كما فهمه أبو العلاء فكان يستخفى بطعامه وشرابه حتى يشفق عليه المبصرون. الحياة الأوربية تلزم الكفيف بغضاء العين ولم يخطر بباله قط (ظرف زمان لما مضى والمراد مطلقا) أن الحياة الأوربية الحديثة توجب عليه أن يغطي عينيه غطاء ماديا, ولم يعلم هذا إلا بعد أن وصل مارسيليا, فقد كانت يقضى أيام السفينة قابعا(مقيما) في غرفته لا يفارقها إلا في الضرورات, ولا يحدث ذلك إلا ليلا,ولكن رفاقه نبهوه إلى ذلك فقالوا بأن تقاليد الفرنسيين تقتضي أن يغطي أجفانه بغطاء من زجاج أسود يضعه المبصرون ليتقوا (يحتموا) به أشعة الشمس. أثر تنبيه الرفاق على الفتى لم يشعر الفتى بأذى من تنبيه أصدقائه فقد رأى في ذلك تجديدا, كما انه شعر بالارتياح لذلك, وكاد أن يعفى من الشقاء بعينيه المظلمتين, بل لم يفكر في أمر عينيه ولا غطائهما طول مدة بقائه في فرنسا حتى عاد إلى مصر. الغطاء الذهبي ولما عاد إلى مصر واستقبله أكبر إخوته ورأى ذلك الغطاء على عينيه أنكره , وقال إنه رخيص لا يزيد ثمنه على قرشين ولا يليق بمثلك بين الذين تقابلهم وتلقاهم من رفاق وأصدقاء وأصحاب المكانة الظاهرة (المنزلة الرفيعة) في مصر. وأهداه غطاء ذهبيا يليق بمكانته بين من الأصدقاء وأصحاب المكانة البارزة في مصر. ما رأي الفتى في غطاء العين يرى بأنه لا يبالي إن كان رخيصا أو حقيرا فما ينبغي ان يتزين مثله بغطاء العين,وإنما يلبسوه ليخفوا به آفاتهم. ولكنه قبل الغطاء الذهبي شاكرا لأخيه رفقه وعطفه عليه, وظل في مصر يرتدي على أذنيه وعينيه هذا الغطاء الذهبي. بم وصف الكاتب أخاه الأكبر وصفه بأنه كان من المطربشين وكان ميالا إلى الترف رغم ضيق ذات اليد (الفقر) وضآلة مرتبه. الكتب الثلاث المحزنة بعد أن تقرر عودته إلى فرنسا مرة أخرى وذهب ذات يوم إلى الجامعة قُرئ عليه كتابان, ولما عاد إلى بيته قرئ عليه كتاب ثالث وصل هذا الصباح, وقد ملأت هذه الكتب الثلاث نفسه هما وغما وبغضا للحياة,ألقت على وجهه غشاء صفيقا (ثقيلا سميكا× رقيقا) من الكآبة التي أنكرها عليه أصحابه وعلوي باشا الذي رآه بذلك الحال عندما أركبه القطار. ما أثر كآبة وحزن الفتى على علوي باشا؟ رافق علوي باشا الفتى وأعضاء البعثة إلى القطار الذي سينقلهم من القاهرة إلى بورسعيد, فرآه على وجهه هذه الكآبة والحزن فسأله عن سبب ذلك الحزن وهو الذي قدر (ظن) أنه سيراه سعيدا مبتهجا مشرقا وسأله ألا يسرك أن تعود لفرنسا؟ فلم يجب الفتى وانحدرت دمعتان من عنينه فضمه إليه علوي باشا وقبل جبهته قبلة كلها حنان وبر لم ينسها الفتى قط, ثم همس في أذنه وقال له أقسم لك يا بني ما عاد صديقك هذا (الدرعمي) إلى فرنسا إلا من أجلك..... ثق بالله ولا تخف شيئا. أثر همس علوي باشا على الفتى سكت البكاء عن الفتى ولم تسكت الكتب الثلاثة,وغنما رافقته أثناء سفره تعذبه وتلح في عذابه حتى أنها كانت جديرة أن تبغض إليه نفسه, ولولا الصوت العذب الذي كان يناجيه (يحدثه سرا) الذي رد إلى نفسه المروعة (المفزعة) شيئا من الأمن وإلى قلبه اليائس شيئا من الأمل لبغض نفسه. الكتاب الأول كان من علوي باشا إلى أكبر إخوة الفتى (المطربش) يخبره فيها بأن الأزمة المالية للجامعة فرضت عليها أن ترد بعثتها إلى مصر كارهة. اقتراح علوي باشا وأنه حريص على أن يكمل الفتى بعثته لأنه يتوسم (يخيب) فيه خيرا ويكره أن يعود دون ان يحقق أمله في فرنسا, ولذلك يقترح على أسرته أن ترسل نصف المرتب الذي تمنحه الجامعة للفتى وأن يتحمل هو (علوي باشا) النصف الآخر ليبلغ الفتى أربه (أمنيته وبغيته) ويعود وقد ظفر بالدرجات الجامعية الفرنسية ويصبح أستاذا في الجامعة المصرية. أثر الكتاب على نفس الفتى كان ذلك الكتاب جديرا أن يملأ نفس الفتى سرورا وبشرا وشكرا لهذا الرجل الكريم النبيل الكتاب الثاني (رد الأخ الأكبر على علوي باشا) رد الأخ الأكبر ردا بشعا (قبيحا), فقد كان يشكر فيه للباشا فضله وكرمه, ويعتذر فيه عن الأسرة بأنها فقيرة لا تستطيع أن ستجيب لما تراد عليه (يُطلب منها), وذلك لأن: مرتبه هو (الأخ الأكبر) عشرين جنيه فقط, وله بنون وأسرة ينفق عليهم. مرتب الشيخ (أبي الفتى) لا يزيد على مرتبه هو (الأخ الأكبر) إلا القليل,و له بنون آخرون ينفق على تعليمهم في المدارس, كما أنه يتقدم في السن. وبين أن الأسرة تتمنى لو أنها تستطيع أن تعين ذلك البائس على درسه لو جدت إلى ذلك سبيلا, ثم طلب الأخ الأكبر من علوي باشا أن يستعين بالسلطان على تعليمه, فإن لم يجد إلى ذلك سبيلا فليرده إلى مصر وليستبق رعايته له وعطفه. أثر كتاب الأخ الأكبر على نفس الصبي محا كتاب أخيه الأكبر من نفسه كل بشر وسرور, وذلك أنه رأى رجلا غريبا مستعدا للقيام ببعض نفقاته في أوربا, ورأى أخا قريبا كارها لذلك. مم استغرب الفتى؟ استغرب الفتى من أمر أخيه الأكبر الذي لم يُنبئ (يخبر) أباه ولا أخاه الشيخ الأزهري بأمر تبرع علوي باشا. وعذره في ذلك أن أباه كان يرسل إليه بين الحين والآخر جنيهات تبلغ العشرة مرة وتزيد قليلا مرة أخرى ليرسلها إلى أخويه في أوربا معونة لهما على الحياة, فإذا استقرت الجنيهات في يده لم يسهل عليه أن يرسلها بل كان ينفقها في بعض شأنه هو. الكتاب الثالث كان من أخيه الأكبر يودعه فيه ويتمنى له النُّجح والتوفيق ويطلب منه أن يرسل إليه الغطاء الذهبي لأنه في حاجة شديدة إليه فكان يسيرا على الفتى أن رد الغطاء الذهبي وعاد إلى غطائه القديم الرخيص. ولكن طلبه أخيه زاد من ألمه وحزنه. ورغم ذلك عاد إلى محبورا (مسرور) مزودا بمقدار غير قليل من الشقاء. الفتى في القطار بين روما وباريس لم ينس صاحنا قط أنه أُركب القطار بجانب النافذة في روما في منتصف الليل متجها إلى باريس, واستمر ثلاثين ساعة كاملة جالس في مكانة لم يتحرك كأنه متاع ألقي في ذلك الموضع منتظرا الوصول إلى باريس ليلقي في موضع آخر. تفكير المتاع في القطار كان صحبنا الفتى أشبه شيء بالمتاع, ولكنه متاع مفكر. يفكر في قول أبي العلاء (إن العمى عورة) , وفهمه الآن وهو يرفع يده بين الحين والآخر ليتحقق (يتأكد) أن الغطاء الرخيص الحقير يستر عينيه اللتين كان يجب أن تسترا. وكان يفكر في أمر الفقر والغنى, وفي أمر هؤلاء الذين لا يعرفون كيف ينفقون المال فيكدسونه أكداسا أو ينثرونه نثرا لا يجدي (ينفع) عليهم أو على غيرهم شيئا. ويفكر في أمر هؤلاء الذين لا يجدون ما ينفقون ليقيموا أودهم (يسدوا حاجة جسمهم من الطعام), أو ليستروا جسمهم ويستروا عورة العمى حين تفرض عليهم آفته. ويفكر في أمر الذين تسمو هممهم إلى أكثر من إقامة الأود وستر الجسم وتغطية العينين المظلمين إلى الاغتراب في طلب العلم, ثم لا يجدون أيسر ما يحتاجون إليه, فيبخل عليهم القادرون ويبخل عليهم الأقربون, ويهم (يتهيأ) الأخيار للمساعدة فيُردوا عن ذلك ردا. ويفكر مرة ثالثة في أمر الصوت العذب الذي يلقاه بين الحين والآخر مواسيا له مترفقا به يقرأ عليه بعض فصول الكتب الفرنسية, منبئا (مخبر) بأنه ينتظره في باريس ليقرأ عليه. إعراض الفتى عن الطعام الشراب لبث الفتى ثلاثين ساعة في مكانة لم يبرحه, وكان الر فاق يعرضون عليه الطعام إذا جاء موعده فكان يرده في رفق وتصميم على الرد, وكذلك مع الشراب, فإذا حاولوا مراجعته (مناقشته) في ذلك فكان يعرض عنهم (يصدهم) في صمت, الدرعمي يعيب على صديقه الفتى الصمت والامتناع عن الأكل والشراب: حتى قال له رفيقه الدرعمي معاتبا, ما رأيت رجلا لا يخاف البحر على هوله وعلى ما يعرف من أمر الغواصات والحرب, ثم يخاف إذا ركب القطار ويمتلأ قلبه رعبا, ورغب عن الطعام والشراب ( كرههما), أشجاعة في حين كان يستحب الجبن؟ وجبن حين يصبح الجبن مثيرا للهُزء والسخرية؟ ما الذي تخاف من القطار؟ إن قطار أوربا كقطار مصر لا فرق بينهما ألم تأكل قط حين ركبت القطار في مصر؟ غناء الدرعمي ثم ينصرف الدرعمي عن حديثه مع الفتى ويغني ذلك الغناء الذي كان يعجب الفتيات الفرنسيات فيرضين عنه أشد الرضا, ويعجبن به أشد الإعجاب, ولا يلقينه إلا تمنين أن يغني عليهن غنائه, وكن يسمينه (أعرابي) فيقلن في إلحاح (غن لا أعرابي) وكن ينطقن (أعرابي) فيلغين (يحذفن) الغين ويلثغن (ينطقن الراء غين) في الراء ويقصرن الألف بينها وبين الباء. أثر إلحاح الفتيات على الدرعمي كان يرتاح صاحبنا الدرعمي لهذا الإلحاح فيندفع في غنائه على نحو ما كان يصنع بعض المنشدين في الأذكار : يا رب صل على الهادي أثر غناء الدرعمي على الفتىواغفر ما أنت به اعلم أعرابي جاء إلى الهادي معه ضب لا يتكلم. كان الدرعمي يوقع الغناء على نغم مرقص, وكتان الفتى كلما سمعه أغرق في ضحك متصل, وكان ربما تمنى عليه أن يغني له أعرابي, فكان ينطقها كما تنطقها الفتيات الفرنسيات, ولكن في ذلك القطار لم ينشط ولم يتأثر بذلك الغناء حتى استيأس(يئس وانقطع أمله) منه صديقه الدرعمي فخلا بينه وبين الصمت والسكون. وأعرض الدرعمي عن صاحبه لا يحدثه ولا يكلمه وإنما يرمقه (ينظر إليه ويراقبه) بين الحين والآخر كما يرمق متاعه خوفا من سرقته, ولما بلغ القطار باريس أول الضحا أقبل الفتى الدرعمي متضاحكا (متظاهرا بالضحك) وهو يقول سننقل المتاع الصامت الهامد أولا ثم ننقل المتاع الحي الناطق بعد ذلك. الوصول للحي اللاتيني أسلم الدرعمي المتاح للحمالين ثم جاء للفتى كأنه يريد أن يحمله فنهض الفتى وسار معه كأنه لم يسكن في مكانه ثلاثين ساعة, وبعد قليل كان في غرفة جميلة رائعة بفندق من فنادق الحي اللاتيني ولم يكد يستقر حتى أصلح من ِأنه فقد كان ينتظر شخصا نازعته نفسه (اشتاقت) للقائه منذ شهور,وطالما أشفق (خاف) ألا يلقاه أبدا. ويطرق بالباب آخر الضحا (قبيل الظهر) فأذن بالدخول ودخل شخصان وما إن سمع صوت واحدا منهما حتى انجلي (ذهب) حزنه وانجاب (انكشف وزال) عنه ياسه, وانصرف همه كأنه يستأنف (يبدأ) حياة جديدة لم يحيها من قبل, وحق له ذلك فهو يبدأ من يومه هذا حياة لا سبب (رابط أو نسب أو صلة) ولا صلة بينها وبين حياته الأولى. الفصل الثامن قصة حب راتب الفتى في فرنسا وتدبيره فقد كان يحصل على مرتب لا يتجاوز الثلاثمائة من الفرنكات, ويقضي على معظمه أول كل شهر, فيدفع ثلثيه في أول أو ثاني يوم من كل شهر ثمنا لطعامه وشرابه ومسكنه, ونصف الثلث الأخير لسيدة تصحبه إلى السوربون صباحا وساء ليسمع دروس التاريخ على اختلافها ولتقرأ عليه بين ذلك ما يشاء من كتب حينما لا يخلو (يفرغ) له الصوت العذب الذي رتب له ساعات معنية في النهار ليقرأ له روائع الأدب الفرنسي. ويبقى معه نصف الثلث الأخير ينفق منه على ما يعرض له من حاجاته اليومية, وقد ترك أمر كسوته لله تعالى لأن مرتبه لم يتسع لها. سجن السنة الأولى في باريس قضى الفتى السنة الأولى بين السوربون والبيت حتى أصبح كالسجين في باريس, ولم يذهب قط خلال هذه السنة خارج باريس إلى ضاحية من ضواحيها في أيام الراحة كما يفعل أصدقاؤه في أيام الآحاد (الأحد من كل أسبوع), ولم يذكر أنه اختلف إلى قهوة من القهوات التي يلم بها الجادون من الطلاب المصريين بين الحين والآخر, وكان أكثر المصريين يلمون بها أكثر من الجامعة. أما هو فقد لزم بيته في أيام الراحة لا يفارقه, وربما خلا إلى نفسه اليوم كله إلى غرفته, إلى أن يلم به الصوت العذب ليقضي معه ساعة من نهار. أسباب سجن الفتى في غرفته كان يستمع إلى أنباء المسارح ومعاهد الموسيقى واللهو, وتنازعه نفسه (تشتاق) في بعض الأحيان إلى هذه المسارح ليسمع هذه القصص التي تمثل فيها, ولكنه يرد نفسه في يسر إلى القناعة والرضا, وذلك أنه لا يستطع أن يذهب وحده إلى حيث يريد ولا يستطيع أن يدعو أحد إلى مرافقته وتحمل مشقة المرافقة أو تحمل ما تقتضيه المرافقة من النفقات من جهة أخرى, وكان دائما ما يذكر قول أبي العلاء المعري في آخر كتبه (أنا رجل مستطيع بغيري), أي قادر على الإنجاز بمساعدة غيري. أثر قول أبي العلاء المعري أنا رجل مستطيع بغيري لقد كان ذكرى أبي العلاء المعري ملازمة للفتى طوال يقظته لا تفارقه إلا ساعة الدرس أو القراءة, لذلك لم يكن ينسى قول أبي العلاء المعري في آخر كتبه (أنا رجل مستطيع بغيري) والفتى كذلك يستطيع أن يفعل ما يشاء ولكن دائما بمساعدة غيره له, ويتحمل في سبيل ذلك ألوان المشقة وفنون الأذى بدون أن ينكر منها شيء. فهو مكره على احتمال الأذى والمشقة إكراها, وهو مخير بين أن يقبل ما يكره من غيره من الذين يعينونه على حياته أو يرفضه فيضطر إلى العجز المطلق اضطرارا ويضيع حياته في باريس أو في غير باريس. فتاة تقود الفتى إلى الجامعة وكان مضطر أن يتحمل تلك السيدة التي لابد منها لتقوده إلى السوربون ليسمع الدروس فيها, فقد كانت ترفق به أحيانا وت***ه أحيانا أخرى,وربما صحبته من بيته إلى الجامعة ثم ردته مرة أخرى دون أن تنطق بكلمة واحدة كأنها تتجر متاعا صامتا لا يفكر ولا ينطق. فقد كانت تعطيه ذراعها وتمضي معه صامتة إلى قاعة الدرس فتجلسه إلى إحدى موائدها ثم تنتظر في الخارج حتى إذا انتهى الأستاذ من درسه دخلت فأقمته من مجلسه وأعادته غلى بيته وأغلقت الباب من دونه وهي تقول في صوت خاطف (إلى اللقاء في ساعة كذا من النهار) وربما اعتذرت تلك السيدة من مهمتها بعد أن تجد له سيدة أخرى تقوم مقامها, فكانت تلك السيدة الثانية ثرثارة (كثيرة الكلام) فتؤذيه بحديثها المتصل أكثر مما تؤذيه الأولى بصمتها المتصل. عجز الفتى على كل أمور حياته لم يقتصر عجزه عن مجرد الذهاب إلى السوربون, بل امتد إلى كل حياته, حتى وصل إلى أشد الأشياء لزوما له, فكان يستحي من كل شيء ويكره أن يثير الضحك منه أو الرثاء له والإشفاق عليه (العطف). ولذلك اشترط حين سكن في البيت الذي أقام فيه ألا يشارك أهل البيت في طعامهم,وإنما يخلو به في غرفته حينما يحين وقته, فإذا وضع الطعام بين يديه أصاب (أكل) منه ما استطاع لا ما أراد, وربما وضع بين يديه من الطعام ما لا يحسن تناوله فيؤثر (يفضل) العافية ويتركه محتملا ألم الجوع. وقد ظل الفتى على ذلك أشهرا حتى رفق به الله وهيأ له من يهيئ له طعامه ويعلمه كيف يرضي منه حاجته. تدريب الفتى على الزي الأوربي وسريعا خلع الفتى زي الأزهر واتخذ (لبس) الزي الأوربي وتعلم في سرعة كي يدخل فيه وكيف يخرج منه, إلا شيئا واحدا لم يحسنه أعواما طوال, وهو رباط العنق السخيف الذي يديره الناس حول أعنقهم فيتأنقون به, ولا يفهم له معنى. وكان أخوه في تلك الفتة التي رافقه فيها في (منبلييه) يدير له هذا الرباط, فلما افترقا حار الفتى في أمره حتى أخرجه صديقه الدرعمي من حيرته واشترى له أربطة مهيأة لا تحتاج إلى عناء وإنما تدار حول العنق في يسر ويجمع بين طرفيها في يسر وقد هيئت عقدتها فلا يحتاج إلى تكلف عقدها, والتأنق فيها (التجويد). وكان مجبرا ألا يفكر في هذا الرباط وملاءمته مع ملابسه, فقد كان يمر الأيام والأسابيع المتصلة برباط واحد, حتى لاحظ أصحابه ذلك الاختلاف (التناقض) بين الرباط والملابس, فكان يعينه صديقه الدرعمي في بعض أحيانه على أن يلائم بينهما. كيف نظر الفتى لرباط العنق؟ رآه سخيف ولم يفهم له معنى قط. الإقبال على الدرس يهون على الفتى حياته المادية عاش الفتى عاما أو أكثر في هذا الاضطراب المختلط المعقد,ولكنه لم يقف عنده طويلا فقد كان يمر سريعا ولا يفكر فيه, وكان يعزيه (يهون عليه ويصبره) إقباله على الدرس وإحساسه بالانتفاع به والتقدم فيه وشعوره بأنه أصبح يفهم الفرنسية دون جهد ويقرأ كتب التاريخ والفلسفة والأدب بلا عناء أو مشقة, وذلك انه انقطع (تفرغ) للدرس انقطاعا تاما فهان عليه ما يجده من مشقة الحياة. الحياة العقلية ومشاكلها وجد الفتى أن حياته العقلية لم تكن أقل تعقيدا من حياته المادية, فقد شعر بعد بدأ الاختلاف إلى دروس الأدب والتاريخ أنه لم يُعَد ولم يُهيأ (يُجَهز) لها وانه لا يفهمها ولا يسيغها (يستسهلها) كما ينبغي له,وان دربه (طريقه /ج/ دروب) الطويل في الأزهر والجامعة لم تهيئة للانتفاع بهذه الدروس. حل مشكلته العقلية بخلاصة المدارس الثانوية الفرنسية وجد الفتى أن أقصر طريق لفهم الدروس التي تلقى في الجامعة هو أن يقرأ ما درسه التلاميذ الفرنسيون أعواما طوال في المدارس الثانوية, فأصبح تلميذا ثانويا في بيته وطالبا جامعيا إذا اختلف إلى درس السوربون. ونظر في برنامج (خطة) المدارس الثانوية الفرنسية واستخلص منه ما يحتاج إليه, وأزمع (عزم) ان يدرس منه التاريخ والجغرافيا والفلسفة, وبعض الخلاصات التي تلقي للتلاميذ عن الآداب الأجنبية الأوربية قديمها وحديثها. وأقبل على ذلك كله في عزم لم يعرف الضعف وتصميم لم يعرف التردد ولا الفتور (اللين) واستطاع في وقت قصير أن يحصل من ذلك كله ما كان يحصله الطالب المتقدم للشهادة الثانوية مطمئنا إلى أن الممتحن لن يرده عنها خزيانا آسفا (مفضوحا حزينا). معلم ثانوي يعلمه الفرنسية ولما استقامت دروسه في السوربون وأصبح يفهما ويسيغها, اتخذ لنفسه معلما ثانويا يعلمه اللغة الفرنسية عليما منظما, فلم يكن يكفيه أن يفهم ما يسمع من درسه ولا أن يفهم الناس عنه إذا تحث, ولكنه أراد أن يعرف دقائق (أسرار) هذه اللغة وأن يكتلها كتابة لا تنبو (تخفى وتغمض) عمن يقرؤها. الواجب وأساتذة السوربون كان يقدر (يعلم) أن الأساتذة في السوربون سيكلفونه بعض الواجبات المكتوبة كما يكلفون غيره من طلابهم. فلم يكن له بد (مفر /ج/ أبداب) من أن يتهيأ لتحيري هذه الواجبات على وجه لا يعرضه للسخرية والازدراء الاحتقار. معاملة الأستاذة للطلاب المقصرين: (أسباب اهتمامه بالواجبات) فقد كان الأساتذة يسخرون من طلابهم إذا كتبوا الواجبات فقصروا في بعض نواحيها, بل كانوا يقرءون هذه الواجبات ويختارون أشدها تعرضا للنقد ثم ينقدونها نقدا لاذعا (شديدا) ممض(مؤلم) يحرضون به الطلاب إلى العناية بالواجبات حين يكتبون, وكانت هذه السخرية تضحك الزملاء وتخرجهم أحيانا عن أطوارهم. نقد الأستاذ له من جل ذلك كره الفتى أن ينقده الأساتذة, ولكنه في أحد الأيام كلفه أستاذ الثورة الفرنسية فيمن كلف أن يكتب موضوعا عن (الحياة الحزبية في فرنسا بعد سقوط نابليون) فأقبل الفتى على الكتب التي نبه عليها الأستاذ وقرأ ما استطاع وكتب ما استطاع ثم جاء يوم النقد, فنقد الأستاذ بعض الطلاب متندرا أحيانا وموبخا 0مصرحا بالعيوب) أحيانا أخرى, فلما جاء اسم الفتى لم يزد على جملة واحدة آلمت الفتى بشدة وهي (سطحي لا يستحق النقد). اثر نقد الأستاذ لموضوع الفتى عليه كانت هذه الجملة شديدة على نفس الفتى وأقضت مضجعه (أرقته) في ليلته, حتى شعر أنه لم يتهيأ كما ينبغي ليكون طالبا في السوربون, فكلف نفسه الجهد والمشقة وألح في درس الفرنسية حتى كاد أن يصرفه درس الفرنسية عن غيره من الدروس وأعرض عن المشاركة في الواجبات حتى يتهيأ له أداتها وهي اللغة الفرنسية. إعلانه حب الفتاة صاحبة الصوت العذب وبينما كان الفتى يمتحن بأثقال هذه الحياة المادية والعقلية التي تشقيه حينا وتضنيه حينا آخر (تمرضه) فتح له بابا من الأمل لم يقدر أنه سيفتح له من قبل, فقد علم أن صاحبة الصوت العذب مريضة فذهب إليها ليعودها (يزورها) وجلس يتحدث إليها ولم يدر بنفسه وهو يلوي الحديث ولكنه سمع نفسه يلقي إليها صوت أنكرته هي, فقد قال إنه يحبها فأجابته بأنها لا تحبه., فقال وأي بأس في ذلك؟ فهو لا يريد لحبه صدى ولا جوابا وإنما يحبها فحسب, فلم تجبه وغيرت مجرى الحديث, وبعد ساعة اصرف عنها وهو يعرف أن حياته ستسلك طريقا جديدا منذ ذلك اليوم. أسباب الحب قديمة فكر الفتى في أمر كلمته ووجد أنه تعلق بهذه الفتاة منذ وقت طويل, ويدل على ذلك جزعه (حزنه) أثناء عودته لمصر, وابتهاجه (فرحه وسروره) بالرسائل التي تصله منها, و خروجه عن طوره حين وجد الرسالتين التين كانتا تنتظرانه في نابولي, وإلحاحه على صديقه الدرعمي ليعيد قراءتهما , وحرصه الشديد على أن يسمع صوتها يتردد كل ساعة من ساعات النهار فيلقاها بهذا الصوت دون تكلف مشقة أو انتظار, وكذلك دلل لنفسه على حبه القديم بحبه لبيته الذي يسكن فيه بقرب هذه الفتاة, التي تلقي عليه تحية الصباح والمساء ذاهبة إلى السوربون أو حين يأوي من في البيت إلى مضاجعهم, وحبه الشديد لأن يسمع صوتها تقرأ عليه روائع الأدب الفرنسي. كتمان نبأ حبه لصاحبة الصوت العذب كان يستحي أن يحدث نفسه بهذا الحب, فكان ينكره ويخفي شعوره في أبعد مكان في قلبه, وذلك أنه استيقن (تأكد) انه لم يخلق لمثل هذا الشعور, ,أن هذا الشعور لم يخلق له. ولذلك كان يطوي شعوره على نفسه يائسا منه ومن عواقبه, راضيا بما يتاح له من الحديث إليها واثقا بان أقصى نعيم يمن أن يساق غليه منها هو صوتها العذب, فلم يطمع في أكثر من ذلك, وكان واجدا (غاضبا) على الحياة والظروف التي تحول بينه وبين أكثر من هذا الصوت. اثر علة الفتاة صاحبة الصوت العذب على الفتى العلة الطارئة والزيارة جعلته يقول لما كان يخفي بعد أن رأى الصوت العذب قد أصابه الفتور والإشفاق, فملك الإشفاق عليه قلبه مما أنساه تحفظه (احترازه وحذره) وتحرجه وأطلق لسانه بتلك الكلمة التي أنكرها, وأنكرتها الفتاة. أثر رد الفتاة صاحبة الصوت على حب الفتى لها لهذا كله لم يحس لوعة (حرقة) ولا حزنا ولا شقاء ولا حتى ألما من رد الفتاة الذي كان مؤسا مقنطا (يدفع لليأس والقنوط) فهو لم ينتظر منها إلا اليأس والقنوط, وقد وطن (حمل نفسه عليها) عليهما نفسه وعزاها بما يمعن (يجد) فيه من الدرس والتحصيل. اختلفت مشاعر الفتى بعد إعلانه للفتاة عن حبه لها. وضح انصرف الفتى عن صاحبته الفتاة وهو في حالة متناقضة فهو راضيا عن نفسه ساخطا عليها, راشيا لأنه قال ما كان يجب أن يقال, وساخطا على نفسه لأنه بذلك القول عرضها لشر عظيم, وهو أن إشفاق الفتاة عليه وضيقها به, وظن أنها تريد أن تصرفه (تبعده) عنها وأن تقي (تضع) بينها ونبيه حجابا يقطع الأسباب العذاب (م/ عذبة أي الجميلة) التي كانت تتيح لهما اللقاء والاستمتاع العقلي والشعوري بما يقرآن من الآداب الفرنسية. وظن كذلك أن هذه الكلمة التي قالها بدون تدبر قد ترده إلى التي ظن أنه خرج منها, بل قد يبحث له عن مسكن ’خر لا يسمع فيه الصوت العذب ولا صاحبته, ويعيش ساخطا حزينا بعدما كان راضيا سعيدا. وهكذا عاش الفتى أياما مضطرب بين الرضا والسخط, فلم ينتف بالقراءة أو الدرس ولم يذق للحياة طعما. لقاء صاحبة الصوت العذب بعد شفائها وانجلت غمرة العلة (شدة المرض) بعد أيام ولقي الفتى صاحبته, وكانت كما تعود عليها, لم تزدد إقبالا عليه ولم يجد منها إعراضا عنه (صد) أو نفورا منه, وإنما ظلت على عهدها به ترفق به وتقرأ له كما تعودت وتبين له ما يشكل (يغمض ويلتبس) عليه أثناء القراءة. أثر عودة العلاقة بين الفتى وصاحبته هذا الحال الذي لم يتغير جعل الفتى يشعر ببعض الأمن والدعة وراحة البال, وانقضت أياما على ذلك حتى برز ذلك الشعور الخفي الذي ظهر فجأة ثم استحيا وعاد إلى مستقره, ولكنه هذه المرة لم يتحدث مع الفتاة ولا الفتى ولكنه ظهر في تحفظ وأناة (حلم ووقار), فقد كمن في مستقره في أعماق الضمير. الأرق يصيب الفتى بالمرض: (متى كان يظهر حب الفتى لصاحبته؟) ولم يكن يخرج شعور الفتى له إلا مع الليل حيث يخلو بنفسه ليستقبل النوم, فيزود (يبعد) النوم عن عينيه حتى يوشك الصبح ثم يعود إلى مكمنه مرة أخرى ويسلم الفتى لنوم قصير وتظهر آثار الأرق المتصل على الفتى ويلحظها أهل البيت وصاحبة الصوت العذب, فيسألونه عن أمره فيلتوي بالجواب وإذا أرادوا أن يعرضوه على طبيب رفض وزعم أنه ليس به بأس (شدة /ج/ أبؤس). الفتاة تعرف سبب أرق الفتى ويزداد الأمر سوءا على الفتى حتى يصيبه بعض الضر (سوء الحال) فتسأله الفتاة ذات يوم عن حاله بعد أن خلت إليه لتقرأ له, فيريد أن يلتوي بالجواب (يهرب ويبتعد) فتلح عليه إلحاحا شديدا فيخبرها بأمره كله. ولكنها تسكت ثم أخذ في القراءة حتى إذا انتهت سألته في رفق وإذن ماذا تريد؟, فرد عليها لا أريد شيئا. وعد بالمراسلة والتفكير في الأمر فأخبرته أنها فكرت طويلا فيما أخبرها به ولم تنته لرد بعد, وقد أوشك الصيف على أن يقبل وسيفترقان, وطلبت منه ان يصبر ووعدته أنها سترسل له كما تعودا فإذا قرأ في بعض رسائلها أنها تدعوه إلى قضاء بقية الصيف معهم فليعلم أنها وافقت على ما يريد, وإن لم تدعه في خلال الصيف, فإنها الصداقة الصادقة فقط لا غير. أثر وعد الفتاة على الفتى شعر بسعادة بالغة بذلك الحديث, وكانت آية سعادته أنه أطرق (سكت حائرا) ولم يقل شيئا قدوم الصيف والدعوة لقضاء الصيف معها وقدم الصيف وذهبت الفتاة إلى قرية في أقص الجنوب وأقام الفتى في باريس,واتصلت الرسائل بينهما, ولكنها قبل أن تغادر كلفت زميلة من زملائها أن تكون هي القارئة الكاتبة للرسائل بينهما حتى لا يطلع عليها أحد من زملائه. وبعد شهر من الفراق المراسلة جاءته الدعوة المرتقبة آخر الشهر, فعلم أنه قد أجيب لطلبه وتحقق أمله وأعلن لأصدقائه المصريين انه سيقضي بقية الصيف معها وأسرتها. فحاول الأصدقاء رده عن ذلك فلم تفلح محاولتهم, فقد أصر على قراره فصحبه الدرعمي ذات مساء غلى القطار ووصى به بعض الركاب, وانصرف عنه وبعد ليلة كاملة قضاها الفتى في القطار تلقاه صاحبة الصوت العذب في رفق وحنان فشعر انه ولد خلقا جديدا الفصل التاسع المرأة التي أبصرت بعينها استأنف الفتى حياة جديدة متأثر بكلمة أبي العلاء المعري الذي قال عن نفسه أنه " إنسي الولادة, وحشي الغريزة" ويقصد بلك, انه منتمي للناس ويعيش مثلهم, ولكنه يشعر بوحشة غريزية جعلته لا يأنس لأحد. أثر المقولة على الفتى عاش الفتى حياته بكل معاني هذه الكلمة, فهو مولود كما ولد الناس, ويعيش كما يعيشون ويقضي وقته كما يقضون أوقاتهم, ولكنه مع ذلك لم يأنس (لم يسكن) لأحد ولم يطمئن إلى شيء, بل ضرب بينه وبين الناس والأشياء حجابا (حاجز /ج/ حُجُب) ظاهره الرضا والأمن وباطنه السخط والخوف والقلق والاضطراب, فكأنه يعيش في صحراء موحشة ليس لها حدود ولا أعلام (جبال) ولا يتبين له طريقا يسلكه (يسير فيه) ولا غاية (هدف /ج/ غايات غاي) يسعى إليها. ما الذي خفف على الفتى هذه الحياة لقد كان الشخص الحبيب إلى الفتى (صاحبة الصوت العذب) له أثر كبير على حياة الفتى, فقد دفعته بحبه لها إلى التخفف (التخلص وإزالة) من غريزته الوحشية, ويحس بعض الأنس إلى بعض الناس, ثم يزداد هذا الأنس ويتخطى حبيبة الفتى إلى الاطمئنان إلى غيرها من الناس. غربة الفتى المتصلة لقد كان يرى نفسه غريبا أينما كان, وحيثما حل (أقام ونزل), لا فرق عنده بين وطنه وبين فرنسا, فهو غريب في كلاهما, ذلك أنه ضرب حجابا صفيقا (سميكا) بغيضا (كريها) بينه وبين الناس حتى أحاط الحجاب به من كل جوانبه, فكان يرى أن حياة الناس مجرد ظواهر لا تغني عنه شيئا, فهو يسمع أصواتهم ويحس حركاتهم ولكنه لا يمكنه أن ينفذ إلى ما وراء هذه الحركات أو تلك الأصوات. الطبيعة بالنسبة للفتى كانت الطبيعة بالقياس إليه (بالنسبة له) كلمة يسمعها ولكنه لا يعقلها ولا يحقق من أمرها شيئا, فكأنما بينه وبينها بابا مغلقا لا سبيل للنفاذ منه إليها, حتى أنكر الأشياء وأنكر نفسه وشك في وجوده. إنكار الفتى لنفسه وحيرته وأثر ذلك عليه لقد وصل الأمر بالفتى إلى أن أنكر نفسه, فكان بين الحين والآخر يتساءل ما هذا الشخص الذي يشعر به مفكرا مضطربا في ضروب (أنواع) النشاط؟ حتى يصل الأمر به إلى الذهول (الغفلة) عن نفسه بعض الوقت, فإذا ثاب (رجع) إلى نفسه أشفق من هذا الذهول وتساءل هل هناك من الناس من يذهل كما يذهل هو عن نفسه؟ وهل هناك من ينكر نفسه كما ينكرها هو ؟ وهل هناك من يشعر بما يشعر به من حيرة وقلق واضطراب؟ لقد كانت حياته إذا خلا إلى نفسه حيرة متصلة, لا يملك أمره (يتحكم) إلا حين يتحدث إلى الناس أو يسمع لهم أو يختلف إلى الدرس أو يصغي لما كان يقرأ عليه, وعند ذلك ينجاب (ينكشف ويزول) كل هذا عنه ويدل في الحياة كأنه لم يعرفها من قبل. أثر حبيبته على نفسه وحياته لقد كان الشخص الحبيب إليه هو الذي أخرجه من غرفته المنكرة, فألغى في رفق وجهد متصل ما كان بين الفتى والناس والأشياء من حجب وأستار. وذلك أنه كان يحدثه عن ... النساء فيلقي في روعه (يتخيل بخواطره وأفكاره) أنه يراهم وينفذ إلى أعماقهم. الطبيعة فيشعر الفتى بها شعور من يعرفها من قرب, ومنها انه حدثه عن... الشمس حين تملأ الأرض نورا, والليل حين يملأ الأرض ظلك وعن مصابيح السماء حين ترسل سهامها إلى الأرض وعن الجبال حين تتخذ من الجليد تيجانا ناصعة وعن الأشجار حين ينشر الظل من حوله والروح الجميلة, وعن الأنهار حين تجري عنيفة والجداول حين تسعى (تنساب) رشيقة وحدثته عن غير ذلك الكثير والكثير من مظاهر الجمال ومظاهر القبح فيمن يحيطون به من الناس ومن الأشياء, فكان يخيل إليه أنه يكشف له عن حقائق كانت مستخفيه عليه, ولم تكن غريبة بالقياس له, كأنه عرفها من زمن بعيد ثم نسيها فذكرته محبوبته بها. ثقة الفتى بنفسه والراحة للآخرين وقد كان لفتاته أثر كبير على نفسه, فقد أخذت الثقة بنفسه تثوب إليه (ترجع), وأصبح أكثر راحة إلى غيره,وانكشف عنه الشعور بالغربة والضيق والملل والوحدة, وقد عبر عن نفسه في غير تكثر ولا غلو (مبالغة) حينما كتب فيما كتب "إن فتاته تلك جعلت شقاءه سعادة,وضيقه سعة, وبؤسه نعيما,وظلمته نورا". خطوبة الفتى والفتاة (سوزان) لم ينفق المخطوبان صيفهما فيما ينفقه المحبون في أيام حبهم الأولى, من التمتع بالحياة الهائمة الناعمة التي تخلص من المشقة وتتخفف من الجهد وتفرغ لرضا النفس وسرور القلب والحياة في الخيال والأحلام, وإنما عرفا أن وقتهما محدود للغاية, فالفتى أمامه وقت محدود ليقوم بما جاء إلى فرنسا من أجله, وهو مسئول أمام الجامعة التي لا تعرف التسامح والمزاح مع من ترسلهم لأوربا ليطلبوا العلم. وذلك أنها لم ترسلهم إلى أوربا للحب والخيال, بل أرسلتهم من أجل العلم والاجتهاد. كيف تذكر الفتى أيام الصيف وما بعدها؟ تذكر الفتى كثيرا أيام الصيف التي خطب فيها الفتاة, والأشهر التي جاءت بعدها, فكان يرضى عن نفسه وعن محبوبته كل الرضا بلا شائبة سخط أو إنكار. كيف قضى الفتى والفتاة الصيف (أيام حبهم الأولى)؟ أنفق المخطوبان أكثر الصباح مع درس اللاتينية, حين يرتفع الضحى ينتقلان إلى قراءة الترجمة الفرنسية لمقدمة بن خلدون, وعند وقت الغداء يلمان بالمائدة فيصيبان منها بعض الطعام, ثم يقبلان على تاريخ اليونان والرمان فيقرآن منهما ما يشاء الله لهما. وفي الساعة الخامسة ينصرفان عن الأدب الروماني واليوناني إلى الأدب الفرنسي . فقد كانا ينفقان نهارهما كله في القراءة إلا ريثما (حينما) يخرجان ساعة أو أقل منها للتريض (التنزه) في القرية التي يعيشان فيها, ثم يقبلان إلى المائدة فيصيبان شيئا من الطعام ثم يجتمعان بالأسرة كلها لتقرأ عليهما صاحبة الصوت العذب كتابا ما. وإذا تقدم الليل قليلا تفرقت الجامعة وأوى كل واحد منهم إلى غرفته, وخلا صاحبنا بنفسه يذكر ماضيه الغريب وينعم بحاضره السعيد ويفكر في مستقبله المجهول. كيف ينفق الفتى ليله؟ إذا تفرقت الأسرة وخلا كل واحد إلى غرفته وخلا الفتى إلى نفسه فكر في ماضيه الغريب وحاضره السعيد ومستقبله المجهول, فينفق أكثر الليل مؤرقا (ممتنعا عنه النوم) لا يكره الأرق ولا ينتظر النوم,ولكن يغلبه النوم آخر الليل فإذا أصبح قضى يومه كما قضى أمسه أيام الفتى بعد الصيف وبعد أن انقضى الصيف عاد مع الأسرة من الريف إلى باريس فيستأنف حياته الجامعية مختلفا إلى السوربون صباحا ومساءا, خاليا إلى قارئته وإلى أستاذ الفرنسية يوما وأستاذ اللاتينية يوما آخر. عزم الفتى وتمنع المصريين أزمع (عزم وجدّ) الفتى على أن يظفر بدرجة الليسانس ثم يتقدم إلى درجة الدكتوراه, ولم يكن المصريون في ذلك الوقت يقبلون على درجة الليسانس, فقد كانت تكلفهم الكثير من العناء والمشقة, ومن ذلك أنها تكلفهم إتقان الفرنسية أولا ليؤدوا الامتحان التحريري فيما يدرسون من العلم, وليكتبوا كما يكتب الطلاب الفرنسيون بلا أخطاء, كما كانت الليسانس تكلفهم إتقان درس اللاتينية ليؤدوا الامتحان تحريرا كذلك. مصاعب دراسة اللاتينية لم تكن اللاتينية تدرس في مصر لا في الثانوية العامة ولا المدارس العالية, فلم يسمع بها المصريون إلا بعد قدومهم إلى فرنسا,وبالتالي رأوا أنهم لن يستطيعوا مجاراة زملائهم الفرنسيين الذين درسوها ست سنوات كاملة في التعليم الفرنسي ثم يدرسونها في الجامعة قبل أن يتقدموا لامتحان الليسانس. ولذلك كان المصريون يعرضون عها يعرضون عن الليسانس التي لا سبيل للظفر بها إلا بهذه اللغة. نماذج من المصرين الذين عزموا الحصول على الليسانس الأول: جد وكد وتقدم للامتحان فأخفق, ثم أخذ يستعد ليؤدي الامتحان العام المقبل, ولكن العلة (المرض) أدركته فاضطرب أمره واختلط عقله, فردته الجامعة غلى مصر فعاش أياما بين اليأس والكآبة حتى توفاه الله بعد زمن قليل. الثاني: الدكتور صبري السوربوني وهو طالب جد واجتهد وتقدم مرة ومرة ولكن عقدة اللاتينية أدركته, فكان إذا تقدم للامتحان وتلقى النص اللاتيني الذي يجب ترجمته إلى الفرنسية, نظر إليه نظرة سريعة ثم طوى الصفحة وقدمها بيضاء للممتحنين وانصرف ضاحكا وهو يتمثل بيتا لا تينيا قديما يبن اليأس والقنوط (شدة اليأس) . ولكنه لم يعرف اليأس ولم يذعن (يستسلم) لصعوبة أو عقبة, وإنما حاول وألح حتى جاء يوم تقدم للامتحان وتلقى النص اللاتيني ولم ينظر إليه نظرة سريعة مثل كل مرة بل أقبل عليه مترجما وقدم للممتحنين صفحة أتاحت له الفوز والنجاح. الثالث: طه حسين وكان صاحبنا هو ثالث هذين الزميلين, وكان قد عرف ما يحتمله الصاحبان من المشقة وما يبذلانه من جهد, وما يتعرضان له من إخفاق, فلم يفل عزمه, وإنما مضى في درس اللاتينية في بيته وفي الجامعة مصمما على الظفر بهذه الدرجة مهما كانت العقبات. أخطر مشكلة هددت الفتى في فرنسا وقد تعرض الفتى لمشكلة خطير كادت تفسد كل أمره, ولم تكن متعلقة بالدرسي, ولكنها مشكلة خطوبته التي أتت بعد تردد طويل من الفتاة وامتناع وإباء (رفض) من أسرتها, وذلك أنه نسي أنه أعطى الجامعة في مصر عهدا كان جميع أعضاء البعثة يعطونه وهو ألا يتزوج أثناء إقامته خارج مصر طالبا للعلم. هل نقض الفتى العهد؟ يرى الكاتب أن الفتى لم ينقض العهد وذلك نه خطب ولم يتزوج, ولكنه كان عجل (متعجل) في أمر الزواج, ولذلك قرر أن يحصل على الأذن من الجامعة أو أن ينقض العهد مع الجامعة. ولكنه فكر طويلا في أمر طلبه من الجامعة ,ويتساءل كثيرا ماذا يحدث له إن لم تأذن له الجامعة؟ حتى كان التفكير في ذلك ينغص حياته من حين آخر, ولكنه قرر في النهاية أن يرسل إلى الجامعة يطلب منها الإذن, وكانت الجامعة أرأف (أرحم) به , فقد أذنت له بعد خطوب (مصائب) كثيرة لم يعرفها إلا بعد أن ظفر بالدرجة وعاد لمصر. كيف تعامل الفتى والفتاة مع إذن الجامعة؟ صحيح أن الجامعة أذنت للفتى فيما أرد, ولكنه لم يأذن لنفسه بل إن الفتاة لم تأذن له, حتى يحصل على درجة الليسانس, التي لم يحصل عليها مصري من قبل, حتى يبين للجامعة أنه مجد نشيط, غير كسول ولا مشتغل بنفسه عما يجب عليه من الدرس والتحصيل. الليسانس والدكتوراه: والغربي من أمر الفتى أنه لم يكن يجهز نفسه في ذلك العالم لدرجة الليسانس فقط بل كان يعد رسالة الدكتوراه في ذات الوقت, وقد زاد إذن الجامعة له بالزواج من إصراره وكده ونشاطه, حتى كان العم الأول لخطبته غريبا كلف فيه نفسه وخطيبته المشقة والعسر. التنزه والكتب لم ينسى الفتى قط أنه قضى آيام الآحاد هو وخطيبته يخرجان بين الحين والآخر يتنزهان في باريس, ولم يكونا بمفردهما قط, فقد كان يصحبهما دائما كتابا ضخما من تلك الكتب التي ترهق القارئين من عسرها وشدتها. ومن ذلك كتب أوجست كونت التي عرفت بأسلوبها ومعانيها وألفاظها العسيرة, فقد كانا يختلفان إلى إحدى الغابات المنتشر حول باريس ويجلسان تحت ل شجرة ويقرآن كلاما ليس بينه وبين حبهما صلة من بعيد أو قريب. التقدم لامتحان الليسانس ومع بوادر أوائل/م/ بادرة) الصيف بدأ الفتى يستعد للامتحان, ثم دفع (تقدم) إليه في شهر يونيو ولم يتردد ولم يتلكأ (يتباطأ) وأقدم في عناد على الرغم من أنه لم يكن مطمئنا لنتيجة الامتحان ولم يكن واثقا بالنجاح, ولكنه كان يقول لنفسه "إن أتيح النجاح فرمية من غير رام, وإن كتب عليّ الإخفاق, فما أكثر الذين أخفقوا." رمية من غير رام: مثل عربي قديم يقال لمن يصيب ومن عادته الإخفاق. الفصل العاشر يوم سقطت القنبلة على بيتي لم يمهل الفتى نفسه بعد أن فرغ من امتحان الدكتوراه إلا قليلا من الأيام قليلة, ثم أقبل على درس التاريخ كما تعود منذ أن أقام في باريس, وذلك لأنه أحب هذا الدرس حبا شديدا وأحب أستاذه كذلك. ولما أنهى الأستاذ من الدرس أقبل عليه صاحبنا خزيانا وجلا (خائف) وأخبره بأنه يطلب إذنه في أن يشرف على رسالة له في التاريخ القيم لينال بها دبلومة الدراسات العليا, فقبل الأستاذ أحسن القبول, وضرب له موعدا غدا ليحدد معه موضوع الرسالة, فانصرف الفتي راضيا مشفقا. فقد كان راضيا للعمل مع هذا الأستاذ العظيم. وكان مشفقا من العمل معه, فهو يعلم أن على الرغم من حب الأستاذ لطلابه فهو يكلفهم بالعسير والشاق من الأعمال ويحاسبهم عليها حسابا لا رفق فيه ولا لين. موضوع الرسالة في الغد أقبل صاحبنا على الأستاذ فاستقبله الأستاذ متضاحكا وهو يقول له لقد اخترت لك موضوعا قيما حقا, لأنه سيتيح لك التمتع بما تقرأ, ولما سأل صاحبنا أستاذه عن الموضوع, قال له ستدرس القضايا التي أقيمت في روما على حكام الأقاليم الذين أهانوا جلال (عظمة) الشعب الروماني وغضوا (انتقصوا) من شرفه, كما صورها المؤرخ العظيم (ناسيت). وأكد الأستاذ أن صاحبنا سيسعد للقراءة لهذا المؤرخ سعادة لم يسعدها في قراءته لأديب أو مؤرخ آخر. ثم أحصى له (عدد) مجموعة من الكتب لابد أن يقرأها كما أحصى عليه مجموعة أخرى من الكتب يقرأ منها بعض الفصول. أثر الموضوع على الفتى لم يستطع الفتى أن يناقش أستاذه أو يجادله في موضوع الرسالة العسير, وإنما سمع له وأطاع وانصرف قلقا مستخذيا (مستسلما خاضعا) مشكلة المراجع خلا الفتى لنفسه ثم فكر في أمر المراجع التي لابد أن يقرأها والتي لا بد أن يقرأ منها بعض الفصول, فوجد أنه لا يستطيع استعارتها من مكتبة الجامعة لكثرة احتياج الطلاب إليها وترددهم عليها, كما أنه لا يستطيع شراءها لأنها ستكلفه مشقة كبيرة ومرتب شهرين كاملين. كيف حل الفتى مشكلة المراجع؟ أرسل الفتى للجامعة يستعين بها لشراء الكتب فرفضت الجامعة طلبه في أول الأمر, وكانت مكرهة على ذلك بسبب الظروف المالية الصعبة, ولما ضاقت به السبل راجع الجامعة وطلب منها معاونته على شراء الكتب فقبلت الجامعة بعد خطوب وأمور شديدة, ولكنها اشترطت أن تكون الكتب ملكا لها وأن يردها الفتى إلى الجامعة بعد أن يعود إلى مصر. معاملة الجامعة للطلاب المبعوثين كانت الجامعة شديدة البخل على الطلاب, وكانت مكرهة على ذلك بسب الظروف المادية الصعبة, فلم تكن تعينهم على المرض ولا على شار الكتب, بل تعطيهم مرتبا وأجر ما يحتاجون من الدروس الخاصة التي تتبين أنه لابد منها, ثم تخلي (تترك) بينهم وبين الحياة يصنعون بها أو تصنع بهم ما تشاء. وكان على الطلاب أن يثبتوا الجد والاجتهاد والتقدم في الدرس, فإن ثبت تقصير أو قصور من جانب أي طالب لم تتردد الجامعة في رده إلى مصر وتوفير نفقاته. مشاق الرسالة وموضوعاها أخذ صاحبنا يتهيأ لهذا الموضوع الخطير, فقد كان بالنسبة له خطيرا , وذلك أنه لم يعهده من قبل ولم يسمع عنه قبل ذلك في مصر التي درس فيها في الأزهر بعلومه الموروثة ولا في الجامعة المصرية التي لا صلة بين دروسها وبين تاريخ الرومان واليونان شيء. وكانت الصعوبة الثانية بالقياس لصاحبنا هي العكوف (التفرغ) على هذا المؤرخ الروماني العظيم العسير في أسلوبه وأساليبه. الصعوبة الثالثة (منهج الرسالة) فكان لابد أن يقرأ كتبه وأن يحصي (يعدد) ما فيها من أخبار تلك القضايا, ثم يفهم هذه القضايا من نواحيها القانونية الخالصة, ثم يعرضها بعد ذلك عرضا واضحا مستقيما. أثر مشاق الموضوع على الفتى لقد أحس في نفسه شيئا من الندم أنه لم يختر رسالة في التاريخ العربي الذي يحسنه والذي لا يكلفه قراءة اللاتينية ولا قراءة ما يشبه اللاتينية, ولكنه ورط في ذلك نفسه, ولا مفر من مواجهة مشكلته,مهما يكلفه ذلك من جهد وعناء. يوم سقوط القنبلة على بيتي ويحكي الكاتب أنه بعد أيام مكن قراءته, انقطع فجأة عن القراءة وترك باريس وفر بنفسه وزوجته إلى جنوب فرنسا طلبا للأمن واجتنابا للخطر. وذلك أن في منتصف إحدى الليالي من شهر فبراير كان كل شيء هادئ من حوله, ولما انصرف من القراءة إلى مضجعه (مكان نومه /ج/ مضاجع) وهو يسعى للنوم سمع النذير (الإنذار بالشر /ج/ نذر) بالغارة الجوية فسخر منها ولم يحفل بها ولم يشأ أن يظهر لأهل البيت ذعرا (شدة الخوف) أو خوفا فأبى أن ينهض من مضجعه, وهو يرى أهل البيت يتهيئون للهبوط من الطابق السادس إلى المخبأ وهو ما زال ثابتا لا يريم (يبرح) مضجعه. فكثيرا ما سمعوا النذير من الغارة والمغرين ولم يحدث شيء, فيكثر المهتمون ويكثر الساخرون, وتنجلي الغارة دون حدوث شيء, فظن أن هذه الليلة كغيرها من الليالي. ولكنه سمع صوتا مروعا (مخيف) فوجد نفسه يهبط مع الهابطين مسرعا لا يحفل بما يمكن أن يلقاه من عقبات,ولا يثوب (يرجع) إلى نفسه إلا بعد أن يستقر في المخبأ مع اللاجئين إليه من أهل الحي. ما أثر هروب الفتى المتسرع مع أهليه على نفسه جلس مع من جلس في الملجأ مستخذيا (ضعيفا مستذلا) في نفسه ومستخذا من أهله,ولكن ماذا يصنع وقد كانت الغريزة (الطبيعة /ج/ غرائز) أقوى من عقله وإرادته؟ أثار الغارة على الفتى وزوجته انجلت الغمرة(الشدة والغمة) ويأوي الناس لمضاجعهم وفي الصباح رأوا شرا عظيما, فقد سقطت القنابل في الحي اللاتيني نفسه ودمرت أبنية قريبة من درا الفتى, وأحس في طريقه صباحا إلى السوربون بآثار هذا التدمير وسمع الناس يتحدثون عما حدث. واضطر بأمر الطبيب أن يهجر باريس بسبب ظروف زوجته الحامل, فقرر الهجرة معها إلى مونبيليه حتى يصل المولود ثم يعوا إلى باريس بعد ذلك. تفكير الفتى في دراسة الحقوق وبعد أن استقر في مونبيليه هم أن يدرس الحقوق ويتخرج في القانون, على أن يبدأ الدرس في فرنسا ويتمه في مصر بعد عودته إليها, ولكن الرسالة التي كان يعدها شغلته عن ذلك, ولكنه لازم نفسه كثيرا بعد ذلك لأنه لم يتم ما حاول من دراسة القانون, وذلك أن حياته ألمت بها كثير من المحن والخطوب. أسباب ندم الفتى على عدم دراسة القانون: (مسئولية الفتى أمام أسرته) كان صاحبنا مسئولا عن أسرة من طفلين وأم لا دخل لهم بما يحدث في مصر ولم يخاصما السلطان يوما, ورأى أنه اقترب من العجز عن رعاية أسرته والقيام بحقها في تلك الأيام. ولذلك كان إذا تذكر رغبته في دراسة القانون التي لم تتم, ندم وقدر (تخيل وظن) أنه لو أتم ذلك لتجنب التبطل وعصم (منع وحمى) هذه الأسرة مما تعرضت له من بؤس وضيق حياة الفتى في مونبيليه أقبل الفتى على درسه (الرسالة) وعلى درس اللاتينية واليونانية واليونانية, وزوجته تشاركه في هذا الدرس فكانت حياته في مونبيليه راضية, وفيها من النعيم الكثير ومنه نعيم العقل؛ الذي وصل إليه الفتى بالإمعان في الدرس والأخذ كل يوم بسبب جديد من أسباب المعرفة. نعيم الأمل؛ الذي برز بانتظار هذا الطفل الذي يسعى إلى الحياة في أناة ورفق. نعيم الرضا؛ ووصل إليه صاحبنا بالقناعة بالرزق الذي مهما يكن مقترا (شديد البخل × جوادا) فقد كان يقيم الأود (الصلب أو الظهر أو الجسم أي يحفظ حياته) ويرضي الزوجين عن نفسيهما لأنهما يحسنان التدبير والاحتمال. مشكلة المال لقد كان الزوجان يحسنان التدبير والاحتمال. وربما تعرضا لبعض الهم حين يوشك الشهر على الانتهاء ويوشك المال أن ينفد, فيثبتان في صرامة (شدة وعزيمة × لين) حتى تنجلي عنهما الغمرة ويعود إليها اليسير العسير أول الشهر. رسالة ابن خلدون تنقذ الزوجين أرسل الفتى حوالي مئة نسخة من رسالته عن ابن خلدون إلى صديق في مصر ليتصرف فيها كيفما شاء بعد أن أخذت الجامعة عشرين نسخة وأهدى إلى بعض أصدقائه عدد من النسخ الأخرى. وبعد وقت غير قصير نسي الفتى أمر النسخ, فوصل ذات ضحا كتابا من الصديق وفيه حوالة إلى أحد المصارف وبها مبلغ من المال يبلغ عشرين جنيها, فشعر الزوجين بالرضا والسعادة البالغة لهذا المال الذي أنقذهما من العذاب والخوف والإشفاق على هذا المولود المنتظر قدومه, لاسيما أن قدومه قد اقترب, ولابد من إكرامه والتهيؤ (الاستعداد) للقائه بحفاوة (تكريم وترحيب) تليق بمقدمه. استقبال المولودة الجديدة أمينة في احد أيام شهر يونيو استقبل الكاتب ابنته أمينة مع الصبح فاختلط بكاؤها بغناء الطير فكانت موسيقى حلوة أنست الزوجين ما وجدا في ليلتهما تلك من روع (فزع × سكون) وما تعرضا له من هول. كيف وجدت أمينه أبويها جاءت أمينة فوجدت أبويها غير مهتمين (حزينين) ولا مضيقا عليهما في استقبالها فقد أتاح لهم ابن خلدون رحمه الله من السعة ما مكنهما من حسن استقبال المولود الجديد. كيف انقضى الصيف؟ وكيف واجهه الزوجان؟ انقضى الصيف ثقيلا, طويلا يضطرب فيه الزوجان, بين السعة أول الشهر والضيق آخره, ولكنهما يستعينان على السعة والضيق بتنشئة أمينة وإعداد الرسالة ودرس الرومانية, حتى إذا أقبل شهر سبتمبر عادا مع جوهرتهما إلى باريس. انشغال الكاتب عن الرسالة قدر (ظن وتخيل) صاحبنا انه بمجرد وصوله باريس سيفرغ للدراسة فراغا تاما ويلقى أستاذه الذي حدد له الرسالة أول العام الجامعي, ليعرض عليه ما قرأ وما فهم. ولكنه بمجرد وصوله ينصرف عن كل ذلك صرفا عنيفا دام شهرين كاملين, فقد وجد رفيقا مصريا وصديقا من أصدقاء البعثة وقبلها قد ألم به مرض عصبي خطير ولا يوجد من يرعاه في باريس, خصوصا أن إدارة البعثة نقلت من باريس إلى لندن, فكان عليه أن يعتني بصديقه, فكان يعرضه للأطباء ويكتب للجامعة بأمره. ونفذ ما أمر به الأطباء فنقله إلى مكان بعيد عن باريس والضوضاء والعجيج (صوت مرتفع) وكان يزوره بين الحين والآخر, وكثيرا ما كان يتلقى دعوة من صاحب الفندق فيسرع إلى صديقه ليسمع من صاحب الفندق ما يملأ قلبه لوعة ( ألما وحرقة) ويثير أمامه من المشكلات ما يعجز عن حلها. الجامعة تريح الفتى بعد عناء طويل وأثناء ذلك كان يتلقى من الجامعة ومدير البعثة رسائل متناقضة ويتلقى أموال قليلة لينفق على المريض الذي كان يسرف في الإنفاق, ويتلقى في الوقت نفسه من الجامعة مطالبته بتأدية الحساب الدقيق عما أنفق, ولم تنجلي هذه الغمرة (الشدة) حتى تلقى خطابا من الجامعة بإعادة صديقه المريض إلى القاهرة؟ السلام وطلب مصر الاستقلال وفي أثناء ذلك تضع الحرب أوزارها (الحمل الثقيل أي انتهت الحرب ولم يعد هناك قتال) وتعلن الهدنة, فيبتهج الفرنسيون ونزلاءهم (ضيوفهم) بذلك. وما كاد يمضى في رسالته إلا وجاءت الأخبار من مصر لتصرفه عن الرسالة صرفا عنيفا ولكنها أخبار سعيدة ملأت قلبه غبطة ورضا وثقة بالنفس وإعجابا, وهي أن مصر تطلب استقلالها إلى المحتل المنتصر (انجلترا). تعنت الإنجليز وثورة المصريين وجاءت أخبار محزنة وهي أن الإنجليز تعنتوا أمام المطالب المصرية وأنكروها, بل إنهم أخرجوا عنوة (بالقوة) بعض المصريين من بلادهم واتخذوهم رهائن في مالطة, وجاءت الأخبار بأن مصر غضبت لأبنائها وثارت على أعدائها. أثر الأخبار على الفتى والمصريين في فرنسا وقعت هذه الأخبار على قلوب المصريين موقع الماء من ذي الغلة (شدة العطش)الصادي (شديد العطش), فالمصريون (مصر الإفريقية) يثورون لكرامتهم طموحا للاستقلال مثلما فعل الأوربيون وأمريكا والإنجليز والفرنسيون والأمريكيون وكثير من الدول الغربية. الآمال تداعب المصريين عاش المصريون في فرنسا تملأ الآمال الواسعة قلوبهم ويملأ الكبرياء نفوسهم, وأضاعوا كيرا من الوقت وأعرضوا عن كثير من الدرس للتفرغ لأحاديث الثورة والثائرين التي لا تنتهي. أما صاحبنا فقد كان مؤثرا العزلة, لا يلتقي رفاقه المصريين إلا قليلا فقد كثر لقاؤه معهم وخوضه معهم في أحاديث الثورة منذ أن بدأت الصحف الفرنسية تنشر أنباء مصر وما يجري فيها. الفتى ورسالته لم يهمل الفتى دراسته رغم كل ما يجري ولم عرض عن أستاذه المشرف عليها, قد مضى في عمله حفيا به (علما به لطيفا به /ج/ حفواء) وكان حريصا على الجلد (الصبر والتحمل) فيه كأن أنباء مصر زادته إقداما على إقدام وجد, هذا بالإضافة إلى أن هذه الأنباء شوقته لأن ينهي دراسته سريعا ليعود إلى مصر ليشهد الأحداث عن كثب (قرب × بعد) لعله يستطيع أن يشارك في بعضها مما يتاح له أن يشارك فيها. الكاتب يملي رسالته في التاريخ على قارئته لم ينسى الفتى قط (أبدا) كيف كان يتلقى قارئته مع الصبح , فيغرق في قراءة الفقه المدني والفقه الجنائي والمني الروماني في كتابي المؤرخ الألماني العظيم (ممش) ولم يصدق الفتى أنه بعد هذه السنين قرأ هذه المجلدات الأحد عشر في وقت قصير على ما فيها من عسر وشدة وكثرة التعليقات والنصوص الأدبية. وكذلك فقد كان يسمع للقارئة وهو يحمل أمينة بين ذراعيه ليتيح لزوجه أن تفرغ لشئون البيت, وكذلك كان يملي فصول الرسالة وهو يحمل صبيته (ابنته /ج/ صبايا) بين ذراعي ويمشي في غرفته الضيقة والقارئة تسمع منه وتكتب. وربما طال الأمر فطلبت القارئة منه أن يريح نفسه من حمل الفتاة وأن يريحها هي من الكتابة وتأخذ أمينة بين ذراعيها وتمشي بها في الغرفة, وتغني لها بعض أغاني الأطفال, وزوجته في المطبخ تعد الغداء أو العشاء. لقاء الكاتب بسعد زغلول ورفاقه وفي ذات يوم أقبل رفاق البعثة يخبروه أن سعد وأصحابه سيصلون إلى باريس وأنهم يتهيئون لاستقبالهم, وطلبوا منه مشاركتهم ولكنه اعتذر لأنه لا يحسن مثل هذه الأمور. وانتظر الفتى حتى إذا استقر سعد رحمه الله ورفاقه في باريس أخذ زوجته ذات ضحا وانطلق وقابل سعد زغلول ورفاقه حيث يقيمون, وفيهم أستاذه الرفيق به العطوف عليه أحمد لطفي السيد , وكذلك فيهم صديقه المشجع له والذي شمله بالرعاية طالبا في الجامعة وكاتبا بالجريدة والرعاية حينما كان في عضوا البعثة الجامعية باريس وهو عبد العزيز فهمي رحمه الله. وكذلك كان فيهم غير هذه ين الصديقين آخرون كان يعرفهم بأسمائهم ثم اتصلت بينه وبينهم المودة بعد ذلك كما اتصلت بينه وبينهم الخصومة بعد ذلك. ولما لقي الكاتب وزوجه سعد أتيح له أن يؤدي دينا كان عليه لسعد استحى أن يؤديه طالبا وأتيح أن يديه بعد أن كاد يتم درسه في باريس. الفصل الحادي عشر ( رفضت أن أحضر مؤتمر للعميان ) حياة الزوجين في مصر متعثرة بدأت حياة الزوجين في مصر متعثر, بين تبسم الأمل مرة, وعبس 0تهجم) الضرورات مرة أخرى, فكانت تمر حلوة وعسيرة. واستضاف أخو الفتى صاحبنا وزوجته, ولكنهما علما بأن الضيافة لا يجب أن تطول, ولا يجب أن يعيشا عيالا (معتمدين) على قريب أو بعيد, فهو يرى أن استقلال الأفراد مثل استقلال الجماعات, لا ينل من السماء ولا ينجم من الأرض بل يحتاج إلى سعي يبتغي به (يطلب) الوسائل والسبل. هل كان الفتى يملك هذه الوسائل والسبل؟ كان الفتى يعرف الوسائل والسبل التي تحقق له وزوجته الاستقلال ولكنه لم يكن يملك تلك الوسائل ولا تلك السبل, فهو لا يملك من المال درهما ولا دينار, حتى أن الجامعة بخلت عليه بمكافئة العودة من البعثة , وكانت مكرهة على ذلك لما تمر به من أزمة مالية. حل مشكلة المسكن ولم يجد صاحبنا الفتى أمامه إلا أن يقترض من المال ما يتيح له ولأسرته المأوى, الذي يعيشان فيه كما يريدان لا كما يراد لهما. وهون (خفف) عليه أحد الأصدقاء الأمر وهو الأستاذ محمد رمضان, فأخذه إلى شركة التعاون المالي وضمنه عندها فأقرضته مائة جنيه, واقتطعت الفائدة ثم أعطته سائرها (بقيتها). أثر المال على الفتى سعد الفتى سعادة بالغة, وقدّر أنه امتلك ثروة ضخمة, ذلك أنه لم يملك مثل هذا المال قبل اليوم, فقد عاش زمنا طويلا أقصى ما يقع في يده لا يبلغ غالبا جنيها واحدا, ثم عاش زمنا آخر أقصى ما يقع في يده عشرين جنيه. وكان يراه ضخما حينما نجح في الجامعة المصرية وحينما نجح في السوربون بباريس. كيف تصرف الفتى في المائة جنيه تناقص المال في يد الفت سريعا وذلك أنه أدى دينا عليه إلى زميله الذي أعانه على انتظار آخر الإضراب في مارسيليا. ثم اشترى لزوجته سهما بمصرف (الكريدي ليونيه) طمعا في الجائزة التي تصل لمليون جنيه. ولم يتبق معه من المال إلا خمسون جنيها فأسرع ليجهز بيتا متواضعا في حي السكاكيني ويشتري له أثاثا من سقط المتاع لأن ما بقي من المال لا يكفي بيتا مرضيا. مصرف الكريدي ليوينيه وأحلام الثراء أثناء مروره بمصرف الكريدي ليونيه قرأت عليه زوجته إعلانا أن المصرف يعلن عن سهاما في قرض فرنسي, وأنه يجرى سحب بين الحين والحين ليفوز أحد هذه السهام بمليون فرنك فرنسي, أي ما يعادل عشرين ألف جنيه مصري. فعزم على شراء سهما لزوجته لعلها تفوز بهذه الجائزة الضخمة, وأسرع وألح عليها إلحاحا شديدا غلا (بالغ) فيه فاضطرت مكرهة لأن تستجيب له وتدخل معه المصرف. أثر شراء السهم على الفتى جعلت (بدأت) الآمال تداعب الفتى وجعل يقيس ما بقي من مال معه (خمسون جنيه) بالألوف العشرين التي يمكن أن تساق لزوجته من ربحها من ذلك السهم, فكان يأخذه شيئا يشبه الدوار (الدوران بأخذ الرأس) من الفائز في القرعة الأولى جرى الاقتراع الأول وربح سهما مصريا ولكنه لم يكن سهم زوجة الفتى, بل كان سهم مظلوم باشا رحمه الله, فلما قرأ الزوجان هذا النبأ ضحكا كثيرا لما صحّ ما سمعاه بان المال يدعو المال وأن العسر لا يدعو السير إلا قليلا. مصير سهم زوجة الفتى وبعد مرور الشهور والأعوام جعل الفرنك ينحُلُ (يضعف) ويتضاءل وتنحُلُ (تضعف) معه قيمة الأسهم حتى بلغت قيمة السهم (سبعة جنيهات) ثم خمسة ثم انتهت إلى ثلاثة ثم انقطعت أنباؤه كأنه ذاب كما يذوب الملح في الماء. دار الفتى في حي السكاكيني نظر الفتى فيما بقي في يده فلم يجد أكثر من خمسين جنيه, فرأى نفسه أقصر يدا, أضيق ذراعا من أن ييلغ ما يريده من المسكن أو أن يؤسسه تأسيسا يرضى وزوجته عنه. ولأنه لابد لهما من مسكن وأساس فقد استأجر لهما الأستاذ محمد رمضان رحمه الله دارا في حي السكاكيني, وعمدا (قصدا) إلى سقط المتاع (الرديء الحقير من المتاع والطعام) فاشتريا منه ما يحتاجان من أساس. أثر قصر اليد على الفتى وزوجته لم يكن أشد على الفتى من منظر زوجته وهو يراها تغالب دموعها وهي تختار بين ذلك السخف (الضعيف الرديء) من الأساس الذي لم يكن منه مفر حتى ييسر الله بعد ذلك العسر ويجعل بعد ضيقا فرجا. وأوى الزوجان إلى الدار وهما يخدعان (يصدقان الخدعة) نفسيهما عما فيها ويطمئنان إلى ما يجب الاطمئنان له. أول درس في الجامعة المصرية صرف صاحبنا وقتا طويلا عن الاستعداد لإلقاء درسه الأول في الجامعة التي ستبدأ بها الدراسة بعد أيام, فكان لابد له أن يتهيأ ويعد نفسه لإلقاء هذا الدرس على مستمعيه في ذلك الحفل, الذي من المقرر أن يقدمه فيه أحد أعضاء مجلس الإدارة. عودة إلى الصوت العذب أسرع صاحبنا فعاد إلى الكتب وعاد إليه الصوت العذب يقرأ له وعاد الزوجان يشتركان في الحياة الصافية النقية التي لم يكدرها (يسيء إليها ويعكر صفوها) ولا ينغصها (يعكرها) الحرمان, والتي تسليهما عن اليأس والبؤس والحرمان. ثروت باشا يقدم صاحبنا وفي اليوم الموعود قدم ثروت باشا أحد أعضاء مجلس إدارة الجامعة الفتى للمستمعين فألقى صاحبنا درسه فرضي عنه الناس ورضي عنه ثروت باشا. وعاد الزوجان إلى دارهما محبورين (مسرورين) راضيين كل الرضا, وملأ قلبيهما الأمل وأزال عنهما وضر (قذارة والمراد شر وألم) ما احتملاه من شقاء, وزادت هذه السعادة وهذا الرضا مع إلقائه لدرسه الثاني. موضوع الدرس تاريخ اليونان اختار صاحبنا موضوع درسه لهذا العام تاريخ اليونان, ولابد له مع ذلك الدرس أن يقدم وصفا جغرافيا للبلاد التي يدرس تاريخها, فقدم ذلك الوصف فملك قلوب من استمعوا له وملا نفوسهم رضا وإعجابا, ولهو لم يصنع في إعداد هذا الدرس إلا أنه سمع لزوجته وأطاع. كيف صورت الزوجة لزوجها الوصف الجغرافي لليونان أرادت أن تفهمه الوصف الجغرافي لليونان فأخذت قطعة من الورق وصاغتها (شكلتها) كما صاغت الطبيعة شكل اليونان. ثم أرادت أن تصور له ما فيها من جبال وسهول تضيق أحيانا وتتسع أحيانا أخرى, وأن تصور له البحار التي تأخذ (تحيط) اليونان من اكثر جهاتها, فصورت ذلك بارزا على الورق. ثم أخذت يد الفتى ومررتها على الورق بعد أن افترضت معه أنها تبدأ من الجنوب غلى الشمال ثم تنحرف شرقا مرة وغربا أخرى, لتبين له مواقع البحر, والأماكن التي تضيق أحيانا وتتسع أحيانا, والتي كانت تقوم فيها المدن القديمة. ومازالت (استمرت) على ذلك حتى فهم الوصف حق الفهم وأعاده عليها فاطمأنت إليه. طه حسين يستعين بخريطة اليونان لوصفها تعجب الموظفون في لجامعة عندما طلب منهم صاحبنا قبل الدرس أن يعرضوا خريطة اليونان في قاعة الدري, وأنكروا الأمر ولكنهم أضمروا ذلك (أخفوا) وأجابوه لما يريد. أقبل الفتى على مجلسه وأنبأ المستمعين أنه سيعرض عليهم وصف بلاد اليونان من جنوبها إلى شمالها وأن عليهم أن يسمعوه بآذانهم ويتبعوه بأبصارهم على هذه اللوحة المصورة. وأخذ صاحبنا يشرح ويصف لهم دون أن يتلجلج (يضطرب) أو يتردد, حتى أتم الفتى وصفه للبلاد, وكان ثروت باشا فيمن استمعوا له فلما انتهى أقبل عليه ثروت باشا وأشبعه ثناء وتقريظا (ثناء ومدح) وتشجيعا. مقابلة رئيس الديوان السلطاني وبعد أيام على هذه الليلة السعيدة أقبل شاب من موظفي القصر على دار لصبي يخبره بأن رئيس الديوان السلطاني يرد مقابلته, ولم يخبره سبب المقابلة لأنه لم يعرف, ولم يكن يعرف صاحبنا رئيس الديوان ولا رآه وظن بأن رئيس الديوان لم يعرفه ولم يراه قط ولكنه ذهب مع الشاب . صفات رئيس الديوان السلطاني شكري باشا وجد الفتى أن رئيس الديوان السلطاني رجلا سمح النفس عذب الحديث خفيف الظل, له مشاركة في الأدب العربي الذي يحبه الناس في القرن الماضي, من سجع وجناس وتورية وحسن فكاهة. وروى شكري باشا على ذلك أبيات من شعر المتأخرين فلم يحفظ منها الفتى إلا بيتا واحدا, فلم يكد يسمع الفتى هذه الأشعار إلا وغلبه الضحك على ما يجب أن يكون من الوقار والهيبة في مجلس رئيس الديوان السلطاني, حتى أن رئيس الديوان ضحك لضحك الفتى. البت الذي حفظه الفتى من هذا المجلس لم يحفظ الفتى إلا هذا البيت الذي قال عنه شكري باشا في نغمه لا تخلو من حزن أنهم كانوا إذا قرءه امتلأت نفوسهم رضا وإعجابا, أما شباب اليوم فلا يملؤهم هذا البيت إلا ضحكا وتندرا (سخرية) به وبأمثاله وهو أخذ الكِرا مني وأحرمني الكَرَى ويجب أن تقرأ (الكرا) في أول البيت بكسر الكاف وهي بمعنى الأجر, وأن تقرأ (الكرى) في آخر الشطر الأول بفتح الكاف وهي بمعنى النوم, أما الموقف فهو المكان الذي تقف فيه الحُمُرُ لتحمل الناس إلى حيث يريدون.بيني وبينك يا ظلوم الموقف. والشاعر يريد أن يقول, إن صاحب الحمار أخذ منه الأجرة واشتط عليه فيها (جاوز الحد) فذاد (دفع عنه وأبعد) عنه النوم, فشكا الشاعر من ظلم صاحب الحمار وجعل موقف الحساب يوم القيامة بينهما لينصفه الله. وفتن رئيس الديوان وأضحك الفتى ظاهر الجناس بين (الكرا والكرى) والتورية في الموقف بين موقف الحمير وموقف يوم الحساب,, وأما الهمزة التي زيدت في كلمة (حرمني) فقد دعت إليها ضرورة الوزن (والضرورات تبيح المحذورات) طال مجلس الفتى مع رئيس الديوان ثم أقل بعض الزائرين فاستأذن الفتى فأذن له رئيس الديوان وقبل أن ينصرف همس في أذنه بأن مولانا يحب أن يراه, فلم يعرف صاحبنا كيف يرد عليه. مقابلة السلطان وفي المساء أقبل موظف القصر الشاب مرة أخرى وهو يحمل كتابا من كبير الأمناء بأ، المقابلة التي التمس التشرف الفتى قد حدد لها تمام الحادية عشر صباح الغد. فقال الفتى ولكني لم ألتمس شيئا فقال الموظف في صوت يجري فيه الخوف, لا تقل ذلك فمقابلة مولانا السلطان تقتضي أن تطلب دائما. وسأله الموظف هل عندك سترة الردنجوت؟ فقال الفتى: نعم فقال الموظف ما شاء الله, كنت أريد أن أعيرك سترتي, فرد الفتى بأنه أتخذها حين كان يتهيأ للزواج. مقابلة السلطان في صباح غد أقبل موظف القصر رحمه الله فصحب الفتى إلى القصر وأسلمه لأحد الأمناء الذي أخذ يحدثه حتى حان موعد المقابلة, فصحب الفتى إلى مكتب السلطان. واستقبله السلطان أحسن استقبال, وأجلسه بالقرب من مائدته وسأله عما درس في فرنسا, وعن الدرجات الجامعية التي نالها, فلما أنبأه الفتى بما درس وما نال أهر السلطان الرضا وأثنى عليه لأنه درس اللغتين القديمتين. وذكره السلطان بأنه كان رئيس الجامعة حينما كان الفتى طالبا فيها, فأطرق الفتى (نظر وسكت) ولم يجب فقال له السلطان, لقد ذكرتك بذلك لأدعوك إلي كلما ضقت بشيء أو احتجت عون. فحاول الفتى أن يشكر السلطان فاضطرب لسانه بالشكر, ودق السلطان الجرس ووقف الفتى وأقبل الأمين فصحبه وأسلمه لموظف القصر ليرده إلى داره. شعور الفتى قبل أن يلقى السلطان اضطرب الفتى قبل أن يلقى السلطان لأنه تذكر قصة بينه وبين السلطان عندما كان رئيسا للجامعة, ولما ذكره السلطان بأنه كان رئيسا للجامعة ازداد اضطرابه حتى كاد أن يغلبه على أمره لولا ؟أن السلطان رده إلى الهدوء بلطف حديثه وحسن استقباله. قصة الفتى مع السلطان ومؤتمر العميان وفي ذلك الوقت انعقد مؤتمر للمكفوفين, واهتم له سكرتير الجامعة أحمد زكي بك, وألقى فيه حديثا وقدم كتابا عربيا قديما ينبئ بأن العرب قد سبقوا إلى اختراع الكتابة البارزة. وأثناء سير الفتى في ذات مساء ذاهبا إلى غرفة الدرس استوقفه رجلا وأخذ بمجامع جبته وقفطانه (مكان التقاء الثياب عند الرقبة) وقال له في لغة ملتوية (غير سليمة) تعرف أن في مصر الآن مؤتمرا يبحث في شئون العميان؟ فقال الفتى في ***: وما أنا وذاك؟ فقال الرجل: تلقي فيه خطبة. قال الفتى: لن ألقي شيئا. فخلاه الرجل (تركه) ومضى وهو يقول: مش فاهم مش فاهم. ولم يكد يصل الفتى إلى غرفة الدرس حتى أحاط به ثلاثة أو أربعة من أعضاء مجلس الإدارة, وسألوه هل يعرف من كلمه, فقال لا أعرفه ولا يعنيني أن أعرفه. فقال أحدهم أنه أفندينا الأمير رئيس مجلس الإدارة ولا أقل من أن تجيبه في أدب حين تتحدث إليك., فلم يجب الفتى عليهم فانصرفوا عنه وأحدهم يقول دعوه إنه شيخ. استقالة الفتى من الجامعة لم يمض وقت طويل حتى تعقدت الأمور بين الفتى والجامعة, فقد تبين أن زوجته لا تستطيع أن تمنحه من وقتها ما يحتاج إليه للقراءة وإعداد الدرس, ولا تستطيع أن تصحبه دائما إلى الجامعة, ولا أن تخرج معه كلما أراد ذلك, وذلك أنه لابد لها أن تعنى (تهتم) بصبيتها (ابنتها) وأن تقوم بأمر دارها. فأيقن صاحنا أنه يحتاج إلى رفيق يقرأ له ويصبحه إلى الجامعة ويخرج معه, ولا يمكنه أن يقتطع أجره من مرتبه الضئيل (ثلاثة وثلاثين جنيها), وذلك أنه يقتطع منه كل شيء ما يؤدي به دينه لشركة التعاون. فطلب الفتى من الجامعة أن تزيد في مرتبه ما يعينه على الرفيق فرفضت الجامعة طلبه كأنها ضاقت بكثرة مطالبه, فاستقال في لهجة شديدة غضب لها مجلس الإدارة غضبا شديدا. فقال سكرتير الجامعة للطالب ذات مساء أن المجلس مزمع أن يقبل استقالتك وأن يطالبك بأن ترد على الجامعة ما أنفقت عليك في أثناء إقامتك في فرنسا نصيحة الزوجة تعيده إلى الجامعة واستمع صاحبنا إلى ذلك (تهديد الجامعة بقبول الاستقالة وطلب ما أنفقته عليه) فعاد إلى زوجته محزونا وقص عليها الأمر فهونت عليه وأقنعته بأنه كغيره من الناس يخطئ ويصيب, وبأنه أخطأ حين تسرع في أمر الاستقالة, ويجب عليه الرجوع إلى الصواب لأنه خير من الإصرار على الخطأ. وأقنعته أنه أسرف حين أساء للجامعة التي أحسنت إليه, والرجوع إلى القصد خير من التمادي في الإسراف, فليس عليه بأس (حرج) أن يسترد استقالته وليس عليه حرج أن يعتذر من لهجته القاسية. فأصبح صاحبنا فاسترد الاستقالة راغما (كارها) واعتذر إلى الجامعة راغما, واقتطع مرتبه أجر الرفيق الشيخ الذي كان يقرا له ويغدو معه ويروح. السلطان يعلم بأمر الاستقالة ارتفع الأمر إلى السلطان ولم يعلم الفتى كيف وصل إليه الأمر ولكنه جد موظف القصر يزوره ذات مساء ويقول في صوت متضاحك, لقد التمست التشرف بمقابلة عظمة السلطان, وقد حدد لهذا المقابلة منتصف الثانية عشر من الغد, ودفع إليه كتاب كبير الأمناء بهذا المعنى وانصرف وهو يقول سأصحبك غدا إلى القصر. استقبال السلطان للفتى للمرة الثانية استقبل السلطان صاحبنا استقبالا حسنا وتحدث إليه فأطال الحديث ثم أخبره فجأة أنه علم بأمر الاستقالة وقال له بأنه أحسن بالعدول (الرجوع) عن هذه الاستقالة وطلب منه أن يصبر ويحتمل الكثير من الجهد, لان هؤلاء الذين يعملون في الجامعة بينهم وبين الذوق وقت طويل, وطلب منه أن يذكر دائما ما قاله له في المرة الأولى. ودق الجرس فأقبل الأمين وأخذ الفتى خارج الغرفة. هدية الفتى للسلطان شعر الفتى منذ ذلك اليوم أن عليه دينا لابد أن يؤديه , ومضت شهور قليلة وأتم فيها أول كتاب له بعد عودته من فرنسا, وهو (صحف مختارة من الشعر التمثيلي اليوناني) فأهداه للسلطان في مقابلة ثالثة طلبها هو بنفسه وأجيب إليها. وظن الفتى أنه قد أدى حق السلطان عليه وشكر له عطفه وبره به, ولكن يبدو ، السلطان كان ينتظر منه شيئا آخر وشكرا آخر غير إهداء كتابا مهما يكن موضوعه,وهذا الشكر وهو العلم.
__________________
(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً }الطلاق2 |
#8
|
||||
|
||||
جزاك الله ألف خير ..
أتمنى الحصول على الكتاب pdf .. إذا أمكن ..
__________________
|
#9
|
|||
|
|||
شكراعلى هذا المجهود
|
#10
|
|||
|
|||
شكرا جزيلا لك وبارك الله لك
|
#11
|
|||
|
|||
جزاك الله خيرا
|
#12
|
|||
|
|||
ربنا يحميك
|
#13
|
|||
|
|||
جزاك الله خيرا
|
#14
|
|||
|
|||
أكرمك الله
|
#15
|
|||
|
|||
بارك الله لك أخي، مجهود كبير ومشكور - إن شاء الله - وإيثار نحسب أجره كبيرا عند الله - عز وجل -.
أدعو الله لك أن يمنحك السعادة في الدنيا والآخرة. |
العلامات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|