|
حي على الفلاح موضوعات وحوارات ومقالات إسلامية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
خيرية الأمة الإسلامية ومكانتها عند رب البرية
الخطبة الأولى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى؛ فعند الله للأتقياء المَزيد، ولهم النجاةُ يوم الوعيد. أيها المسلمون: خلقَ الله الخلقَ، وفاضَلَ بينهم؛ فخلقَ آدم بيده، وأسجدَ له الملائكةَ تكريمًا له، ثم أهبطَه وزوجَه إلى الأرض، وتفرَّقَت ذريتُه في الأمصار، وطالَت بهم الأزمان، وجعلَهم في الأرض أُممًا مُتفاضِلين؛ قال سبحانه: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ﴾ [الأنعام: 165]، وخصَّ هذه الأمةَ بالفضلِ والتكريم على سائر الأُمَم، فهيَّا أيها الأحباب لنتعرف على خيرية الأمة الإسلامية ومكانتها عند الله تعالى. أولًا: أنه جعلنا خير أمة أخرجت للناس: أمة الإسلام هي خير الأمم، هكذا وصفها الله تعالى، وأخبر عنها في كتابه: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110]، غير أن هذه الخيرية ليست نابعة عن مجاملة أو محاباة أو اختصاص بلا مسوغ؛ وإنما علتها وسببها هو عين ما ذكره الله بعد ذلك معللًا هذه الخيرية، فقال: ﴿ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]. فمناط الخيرية في أمة الإسلام مرتبط تمامًا بقيامها بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المنبثق عن الإيمان بالله تعالى ورسوله، فمن حقَّق الشرط تحقَّق له المشروط، وقامت به الصفة؛ كما قال عمر رضي الله عنه: "مَنْ سرَّه أن يكون من هذه الأُمَّة فليؤدِّ شرط الله فيها"، قال الله تعالى: ﴿ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110]، والخطاب في هذه الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ ﴾ للمؤمنين الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم، ولمن أتى بعدهم، واتَّبَع تعاليم الإسلام إلى يوم الدين؛ ولذا قال ابن كثير: والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة، كل قرن بحسبه، وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم، كما قال سبحانه في الآية الأخرى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]، فالحمد لله الذي فضلنا على الناس، وسقانا من القرآن أروى كاس، وجعل نبينا خير نبي رعا وساس، وقال لنا: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110]. ثانيًا: أن الله تعالى أثنى علينا في الكتب السابقة، ووصفنا بأحسن الصفات: ومن مزيد العناية الربانية أن وصفنا رب البرية للأُمَّة السابقة، فأُمَّة الإسلام موصوفة في التوراة والإنجيل، قال رب الأرض والسماوات: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29]. قَالَ قَتَادَةُ: مَثَلُ أَصْحَاب مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِنْجِيلِ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ قَوْمٍ يَنْبُتُونَ نَبَاتَ الزَّرْعِ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. عن سعيد بن عبدالرحمن المعافري، عن أبيه، أن كعبًا رأى حبر اليهود يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ قال: ذكرت بعض الأمر، فقال كعب: أنشدك الله، لئن أخبرتك ما أبكاك لتصدقني؟ قال: نعم، قال: أنشدك الله، هل تجد في كتاب الله المنزَّل أن موسى نظر في التوراة، فقال: رب إني أجد أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر، ويقاتلون أهل الضلالة، حتى يقاتلون الأعور الدجال، فاجعلهم أُمَّتي، قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم، قال كعب: فأنشدك الله، هل تجد في كتاب الله المنزَّل أن موسى نظر في التوراة، فقال: يا رب إني أجد أمة هم الحمَّادون، رعاة الشمس، المحكمون إذا أرادوا أمرًا، قالوا: نفعله إن شاء الله، فاجعلهم أمتي، قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم، فقال كعب: فأنشدك الله، أتجد في كتاب الله المنزَّل أن موسى نظر في التوراة، فقال: يا رب، إني أجد أمةً إذا أشرف أحدهم على شرف كبَّر الله، وإذا هبط حمد الله؛ الصعيد طهورهم، والأرض لهم مسجد، حيثما كانوا يتطهَّرون من الجنابة، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء، حيث لا يجدون الماء، غرًّا مُحجَّلين من آثار الوضوء، فاجعلهم أمتي، قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم، قال كعب: فأنشدك الله، أتجد في كتاب الله أن موسى نظر في التوراة، فقال: يا رب، إني أجد أمة مرحومة ضعفاء أورثتهم الكتاب، فاصطفيتهم لنفسك، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات، فلا أجد أحدًا منهم إلا مرحومًا، فاجعلهم أمتي، قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم، قال كعب: أنشدك الله، أتجد في كتاب الله أن موسى نظر في التوراة، فقال: يا رب، إني أجد أمة مصاحفهم في صدورهم، يصفون في صلاتهم كصفوف الملائكة، أصواتهم في مساجدهم كدويِّ النحل، لا يدخل النار منهم أحد إلا من بريء من الحسنات مثلما بريء الحجر من ورق الشجر، قال موسى: فاجعلهم أمتي، قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم، فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله محمدًا وأُمَّته، قال: ليتني من أصحاب محمد، فأوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بهن: ﴿ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [الأعراف: 144]، ﴿ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأعراف: 159]، ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ ﴾ [الأعراف: 145]، قال: فرضي موسى كل الرضا، وهذه الفصول بعضها في التوراة التي بأيديهم، وبعضها في نبوَّة إشعيا، وبعضها في نبوَّة غيره. ثالثًا: أن الله اصطفانا واختارنا واجتبانا وسمَّانا بالمسلمين قبل أن نوجد: إخوة الإسلام، ومن عناية رب الأنام بأُمَّة نبينا عليه السلام أن سمَّاهم مسلمين قبل أن يوجدوا؛ فقال سبحانه: ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الحج: 78]. قال القرطبي رحمه الله: "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ اجْتَباكُمْ ﴾؛ أَيِ: اخْتَارَكُمْ لِلذَّبِّ عَنْ دِينِهِ وَالْتِزَامِ أَمْرِهِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالْمُجَاهَدَةِ؛ أَيْ: وَجَبَ عَلَيْكُمْ أَنْ تُجَاهِدُوا؛ لِأَنَّ اللَّهَ اخْتَارَكُمْ لَهُ". ﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ﴾: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ: "هُوَ: رَاجِعٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَالْمَعْنَى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ﴿ وَفِي هَذَا ﴾ [الحج: 78]؛ أَيْ: وَفِي حُكْمِهِ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ مُسْلِمٌ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ﴾ [البقرة: 128]. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ عُظَمَاءِ الْأُمَّةِ؛ رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمَّاكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ؛ أَيْ: فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وفي هذا القرآن". ثالثًا: أن الله أعطانا ما أعطى الأنبياء والرسل: أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن من العطاءات الربانية لأُمَّة خير البرية أن الله تعالى أعطاها ما أعطى الأنبياء والمرسلين من فضائل، وإليكم صورًا من تلك العطاءات: • إن كان الله تعالى كلم موسى عليه السلام، فقد كلمنا: فقد قال الله تعالى عن كليمه موسى عليه السلام: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164]. وأخبرنا الله تعالى أن من ذكره سبحانه ذكره، فقال: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152]، وذكرنا له تعالى مناجاة، والمناجاة كلام. واستمع إلى الحوار الذي يدور بين العزيز الغفَّار وبين عبادة الأطهار، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي شَطْرَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ))، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اقْرَؤوا: يَقُولُ الْعَبْدُ: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2]، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَيَقُولُ: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 3]، فَيَقُولُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، يَقُولُ: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 4]، فَيَقُولُ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، فَهَذَا لِي، وَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، يَقُولُ الْعَبْدُ: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]؛ يَعْنِي: فَهَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، وَآخِرُ السُّورَةِ لِعَبْدِي، يَقُولُ الْعَبْدُ: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 6، 7]، فَهَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ)) [1]. وإن الله تعالى قد أيَّد عيسى عليه السلام، فقد أيَّدنا؛ قال الله تعالى في شأن عيسى عليه السلام ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ [البقرة: 253]، وأيدنا كما أيده، فقال في شأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ﴾ [المجادلة: 22]. ﴿ وَأَيَّدَهُمْ ﴾ [المجادلة: 22]؛ أي: قوَّاهم ﴿ بِرُوحٍ مِنْهُ ﴾ [المجادلة: 22]؛ أي: من عنده عز وجل على أن من ابتدائية، والمراد بالرُّوح نور القلب، وهو نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده تحصل به الطمأنينة [2]. • أعطانا المحبَّة كما أعطى نبي الله موسى المحبة: الله تعالى منح اتباع النبي صلى الله عليه وسلم المحبة كما منحها نبي الله وكليمه موسى عليه السلام يقول الله تعالى لكليمه موسى عليه السلام: ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39]؛ أي: وألقيت عليك محبة عظيمة كائنة مني - لا من غيري - قد زرعتها في القلوب، فكل من رآك أحبَّك. ولقد كان من آثار هذه المحبة: عطف امرأة فرعون عليه، وطلبها منه عدم ***ه، وطلبها منه كذلك أن يتخذه ولدًا. وكان من آثار هذه المحبة أن يعيش موسى في صغره مُعزَّزًا مكرَّمًا في بيت فرعون مع أنه في المستقبل سيكون عدوًّا له. وهكذا رعاية الله تعالى ومحبَّته لموسى جعلته يعيش بين قوة الشرِّ والطغيان آمنًا مطمئنًّا. وقال الله تعالى عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ [المائدة: 54]. يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله أنه تعالى يحبهم؛ فالحب من الصفات التي أسندت إلى الله تعالى في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو تعالى يحب ويبغض كما يليق بشأنه، ولا يشبه حبه حب البشر؛ لأنه لا يشبه البشر: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [آل عمران: 31]، فجعل اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم سببًا لمحبة الله تعالى للمتبعين وللمغفرة، فكل من المحبَّة والمغفرة جزاء مستقل؛ إذ العطف يقتضي المغايرة [3]. • وإن كان صلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد صلَّى علينا: فقد قال الله تعالى في شأن نبيه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]. قال القرطبي رحمه الله ما ملخصه: هذه الآية شرَّف الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته وموته، وذكر منزلته منه، والصلاة من الله رحمته ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن الأمة الدعاء والتعظيم لأمره [4]. والضمير في: ﴿ يُصَلُّونَ ﴾ لله تعالى ولملائكته، وهذا قول من الله شرَّف به ملائكته. • والله تعالى صلى علينا كما صلى عليه صلى الله عليه وسلم، فقال: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]. قال القرطبي: قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ ﴾ [الأحزاب: 43]، قال ابن عباس: لما نزل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ﴾ [الأحزاب: 56]، قال المهاجرون والأنصار: هذا لك يا رسول الله خاصة، وليس لنا فيه شيء، فأنزل الله هذه الآية. ثم قال القرطبي: قلت: وهذه نعمة من الله تعالى على هذه الأمة من أكبر النعم، ودليل على فضلها على سائر الأمم، وقد قال: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110]، والصلاة من الله على العبد هي رحمته له، وبركته لديه، وصلاة الملائكة: دعاؤهم وللمؤمنين استغفارهم لهم؛ كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [غافر: 7] [5]. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا. رابعًا: إن الله تعالى أخبر موسى عليه السلام أنه كتب رحمته لهذه الأمة: ومن فضائل هذه الأمة المرحومة أن الله سبحانه وتعالى كتب لهم رحمته التي وسعت كل شيء، فقال سبحانه: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 156، 157]. قال القرطبي رحمه الله: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ﴾ هذه الألفاظ كما ذكرنا أخرجت اليهود والنصارى من الاشتراك الذي يظهر في قوله: ﴿ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾، وخلصت هذه العدة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس وابن جبير وغيرهما [6]. خامسًا: إن الله أعطانا ضِعف ما أعطى اليهود والنصارى من الأجر: إخوة الإيمان؛ من خيرية هذه الأمة أن الله تعالى أعطاها من الثواب والأجر ضعف ما أعطى للأمة السابقة رغم قصر أعمارهم؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((أَلَا إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَنْ سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُروبِ الشَّمْسِ، أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا، وَأُوتِيَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ الْإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، وَأُوتِينَا الْقُرْآنَ فَعَمِلْنَا إِلَى غُروبِ الشَّمْسِ فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ: أَيْ رَبَّنَا، أَعْطَيْتَهُمْ قِيرَاطَيْنِ وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا، وَنَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا مِنْهُمْ؟! فَقَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ)) [7]. سادسًا: إنه أعطانا الشهادة على جميع الأمم: ومن فضائل خير أمة أخرجت للناس أن جعلها الله تعالى شاهدة على الأمم السابقة، وهذا تزكية وتعديل من الله تعالى لهذه الأمة، فقال سبحانه: ﴿ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [الحج: 78]. يقول السعدي رحمه الله: لكونكم خير أمة أخرجت للناس، أمة وسطًا عدلًا خيارًا، تشهدون للرسل أنهم بلَّغوا أُممهم، وتشهدون على الأمم أن رسلهم بلغتهم بما أخبركم الله به في كتابه [8]. سابعًا: أنه جعلنا أول الأمم دخولًا إلى الجنة: إخوة الإسلام، مما فضلنا الله به أمة الإسلام أن جعلنا أول الأمم دخولًا الجنة، فالجنة مُحرَّمة على الأمم حتى يدخلها النبي صلى الله عليه وسلم؛ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((نَحْنُ الْآخِرُونَ الأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَاخْتَلَفُوا، فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، قَالَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَنَا، وَغَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ النَّصَارَى)) [9]. ثامنًا: إنه جعلنا أكثر أهل الجنة: ومن فضائل هذه الأمة أيها الإخوة: أن جعلها الله تعالى أكثر أهل الجنة؛ عَنْ عَبْدِاللهِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُبَّةٍ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ، فَقَالَ: ((أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟))، قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: ((أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟))، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: ((فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا نَفْسٌ مَسْلَمَةٌ، وَمَا أَنْتُمْ فِي الشِّرْكِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَحْمَرِ)) [10]. عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ: ثَمَانُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ)) [11]. الدعاء ... [1] (أخرجه مسلم (395) (38) و(41)، والترمذي (3184)، والنسائي في "الكبرى" (7959)). [2] تفسير الألوسي (20/ 403). [3] تفسير المنار (6/ 363). [4] تفسير القرطبي (14/ 205). [5] تفسير القرطبي (14/ 175). [6] تفسير القرطبي (7/ 262). [7] (أخرجه البخاري) 532، 2148، 2149، (والترمذي) 2871، (أحمد) 4508. [8] تفسير السعدي (ص: 546) [9] أخرجه أحمد (2/ 243، رقم 7308)، والبخاري (1/ 299، رقم 836)، ومسلم (2/ 586، رقم 855). [10] أخرجه أحمد (1/ 386) (3661)، والبخاري (8/ 136). [11] أخرجه أحمد (5/ 347، رقم 22990)، والترمذي (4/ 683، رقم 2546)، وقال: حسن. السيد مراد سلامة
__________________
|
العلامات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|