|
#1
|
|||
|
|||
الغلاء وحسن التدبير
مشكلة الغلاء:
إن مشكلة غلاء الأسعار مما عمَّ بها البلوى، وكثرت منه الشكوى، وطار خبره وانتشر، وصار حديث الناس في مجالسهم ومنتدياتهم. * وهذه المشكلة لا بد من النظر إليها بمنظار الشريعة؛ لأنها إذا لم تعالج معالجةً صحيحةً أدَّتْ إلى كوارث ونتائج سيئة؛ كانتشار الفقر، والبطالة، واليأس، والسرقة، والإجرام، وإلحاق كثير من الطبقة المتوسطة بالفقراء، وشيوع الربا والزنا، وقلة الزواج والعفاف، وكثرة الأيامى، وحصول الهم والغم والحزن وغيرها، فكان لا بد من الوقوف على أسباب هذه الأزمة لنقدر على علاجها. * أسباب الأزمة: 1-التمادي في الذنوب والمعاصي: إن المؤمن ليعلم علمَ يقينٍ أن ما يقع في الناس من مصائب وكوارث ووباء وبلاء وغلاء؛ إنما يكون ابتداءً بسبب ذنوبهم وإعراضهم عن ربهم؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]، وقال تعالى: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 165]، وقال تعالى: ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [السجدة: 21]؛ أي: لنُذيقَنَّ هؤلاء الذين خرجوا عن الطاعة من المحن والبلاء والغلاء في الدنيا قبل العذاب المُعدِّ لهم في الآخرة، لعلهم بذلك يرجعون إلى رشدهم، وينيبون إلى ربهم. * فكيف يُستغرب الغلاء وقد كثر الربا وشاع الزنا؟! كيف يُستغرب الغلاء، والغش والرشوة صارا هما الأصل في المعاملات؟! كيف يُستغرب الغلاء وقد ضُيِّعت الصلوات، واتُّبِعت الشهوات؟! كيف يُستغرب الغلاء وقد شاع الظلم والتبرُّج والسفور والخمور والقطيعة والعقوق؟! كيف يُستغرب الغلاء وقد تُرك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما ظهر الربا والزنا في قوم إلا أحلُّوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل))[1]. * ويعم العقاب إذا لم يُنكر المُنكر؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الناس إذا رأوا المنكر، فلم يُغيِّروه، أوشك الله أن يعمهم بعقابه))[2]. * ويقول صلى الله عليه وسلم: "يا معشر المهاجرين، خمسُ خصال إذا ابتليتم بهن - وأعوذ بالله أن تدركوهن - لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يُعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أُخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم"[3]. * العلاج: وعلاج ذلك بالعودة الصادقة إلى الله: العودة الصادقة إلى القرآن، وإلى السنة، وإلى دين الله؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]، وقال تعالى: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: 123]. * ورسم القرآن طريق الحياة الطيبة؛ حياة النعيم والرغد والغِنى الحقيقي والسعادة الفعلية، فيقول الله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]. * فالغلاء والوباء وسائر البلاء يعالج بالتفرُّغ للعبادة، والتفرغ للعبادة ليس معناه الانقطاع عن الكسب؛ وإنما معناه: أن يكون العبد حاضر القلب والجسد أثناء العبادة، وألا ينشغل بالعمل عن العبادة، وألا يترك الصلاة من أجل العمل، وألا يؤخر الصلاة من أجل العمل، وألا يقف في الصلاة شارد الذهن مشغولًا بالدنيا. * قال تعالى: ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 96]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [الجمعة: 11]، قال ذلك بعد أن قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الجمعة: 9]. * وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يقول: يا بن آدم تفرَّغ لعبادتي، أملأ صدرك غنًى وأسد فقرك وإلا تفعل؛ ملأت يديك شغلًا ولم أسد فقرك))[4]. * وقال صلى الله عليه وسلم: ((من كانت الآخرة همَّه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همَّه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له))[5]. * علاج الغلاء والوباء وسائر البلاء بالتوبة إلى الله والاستغفار: قال تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، فالبلاء لا ينزل إلا بذنب ولا يُرفع إلا بتوبة. * والاستغفار من أعظم مفاتيح الرزق لمن يداوم عليه، ويجعله من أوراده؛ قال تعالى: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10، 12]. * قال القرطبي: "هذه الآية دليل على أن الاستفغار يُستنزل به الرزق والأمطار"[6]. وفي الحديث: ((من أكثر من الاستغفار، جعل الله له من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ورزقه الله من حيث لا يحتسب))[7]. * ومن أسباب الغلاء: 2-كفران النعم: إن لله تعالى في هذه الدنيا سننًا وقواعد لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، ومن هذه السنن أن الطاعة والشكر سببٌ للنعمة ودوامها، وأن المعاصي والجحود سببٌ للعذاب بالنعمة وزوالها؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]، فكثير من الناس ما داموا في نعمة، ينشغلون بها عن المنعم، ولا يشكرون الله على فضله وجوده وإحسانه، فيسلبهم الله النعمة! * وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأنفال: 53]. * وتأمل لتُصدِّق: قال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112]. * وتأمَّل كذلك لتتيقَّن: قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾ [سبأ: 15 -17]. * كانت سبأ من الحضارات العريقة والقوى العظمى التي ليس لها مثيل في زمانها، كانت تملك قوةً عسكرية جبارة، تأمل ثقتهم بأنفسهم كما في سورة النمل؛ قالوا لملكة سبأ "بلقيس": ﴿ نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴾ [النمل: 33]. * قال قتادة: إن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار، وعلى رأسها المكتل فتتساقط الثمار من الأشجار حتى تملؤه دون قطاف؛ وذلك لكثرته ونضوجه واستوائه[8]. * وقيل: لم يكن ببلدهم شيء من الذباب ولا البعوض، ولا شيء من الهوام؛ وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج[9]. * أعطاهم الله كل هذه النعم؛ ليعبدوه ويشكروه: ﴿ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ [سبأ: 15]. فماذا كان منهم؟ انشغلوا بالنعمة عن المنعم، وأعرضوا عن طاعة الله، واستخدموا النعمة فيما يُغضب الله! * فماذا كانت النتيجة؟ سلب الله منهم النعمة، وضيق عليهم في الرزق، وأبدلهم بهذه الرفاهية والرخاء صعوبة وبلاء وشدة، أرسل عليهم سيل العرم - وهو سيل جارف يحمل في طريقه من شدَّته الحجارة - فأغرق أرضهم، وماتت أشجارهم وثمارهم، وأبدلهم بهذه الجنان صحراء قاحلة، تتناثر فيها الأشجار الخشنة، وما ذلك من الظالمين ببعيد. * العلاج: قال عمر بن عبد العزيز: "قيدوا النعم بالشكر"[10]. إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم وحافظ عليها بشكر الإله فإن الإله سريع النقم * والشكر حقيقته عمل؛ لذلك لما أمر الله آل داود أن يشكروه قال: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ﴾ [سبأ: 13]؛ أي: اعملوا عملًا تكونون قد أدَّيتم به شكر الله عليكم. * قال ابن القيم عليه رحمة الله: "وهو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه شهودًا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادًا وطاعة. * والشكر مبنيٌّ على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بها، وألا يستعملها فيما يكره، فهذه الخمس: هي أساس الشكر، وبناؤه عليها، فمتى عُدِم منها واحدة، اختلَّ من قواعد الشكر قاعدة"[11]. * ♦ ومن العلاجات الناجعة لهذه الأزمة: الدعاء واللجوء لرب الأرض والسماء: الدعاء أقصر الطرق لقضاء الحاجات، يختصر لك المسافات؛ قال رب الأرض والسماوات: ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 43]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء ينفع مما نزل، ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء، فيعتلجان إلى يوم القيامة))[12]. * وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك))[13]. * ♦ ومن العلاجات الناجعة لهذه الأمة: صلة الرحم: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سرَّه أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصِل رحمه))[14]. * إن قطيعة الرحم سببٌ للعقوبة في الدارين، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من قطيعة الرحم والبغي))[15]. * وفي المقابل: صلة الرحم سبب للغنى والبركة والزيادة والنماء في الأموال والأولاد وفي كل شيء. * يقول صلى الله عليه وسلم: ((إن أعجل الطاعة ثوابًا لصلة الرحم حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة، فتنموا أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا))[16]. * إن كثيرًا منا بحاجة ماسة إلى أن يعيدوا حساباتهم مع أنفسهم تجاه أقاربهم وذوي أرحامهم، فالقطيعة داءٌ وبيل شر مستطيل. * ♦ ومن العلاجات الناجعة لهذه الأزمة: إحياء حقوق الأخوة بين المسلمين: وأقصد إحياء معاني الجود والكرم والبر والإيثار والإحسان، حتى يُغيِّر الله ما بنا؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطُفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى)) [17]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه))[18]. * وحقوق الفقراء والضعفاء قبل غيرهم؛ فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم))، فعدم الاعتناء بالفقراء، وإهمال حقوقهم، من أسباب الوباء والغلاء والحرمان، وفي قصة أصحاب الجنة في سورة القلم لما بخل الأغنياء ببعض ثمار بستانهم على الفقراء، ماذا حدث لبستانهم؟ قال تعالى: ﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ﴾ [القلم: 19، 20]؛ أي: محترقة فانية. * ومن العلاجات الناجعة لهذه الأزمة: • الاقتصاد وحسن التدبير وترك الإسراف: قال الله تعالى: ﴿ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأنعام: 141]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((كلوا، واشربوا، وتصدَّقوا، والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة))[19]. * تعاهدوا المسرفين في كل زمان ومكان، تجدوا أن الله حوَّل عليهم النعمة، مَرَّ جابر بن عبدالله، ومعه لحم، على عُمرَ رضي الله عنهما، فقال: ما هذا يا جابر؟ قال: هذا لحم اشتهيته فاشريته، فقال: "أو كلما اشتهيت شيئًا اشتريته! أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ ﴾ [الأحقاف: 20]؟![20]. * كما لا بد من تربية الأولاد على هذا المبدأ؛ ليسايروا سائر الأحوال، ولتكون الأسرة متحدة في هذه التدابير، وذلك مما يعالج به الغلاء. * قيل لإبراهيم بن أدهم: إن اللحم قد غلا! فقال: "أرخصوه"؛ أي: لا تشتروه، وأنشد في ذلك وإذا غلا شيء عليَّ تركته *** فيكون أرخص ما يكون إذا غلا * فليس المسلم الحكيم بالذي يُرهق نفسه بكثرة الشراء، ويهدر الأوقات والأموال والأعمار، وفي كثير من الأحيان يكون مصير ما اشتراه براميل القمامة. * كان أبو الدرداء يقول: "إن من فقه الرجل رفقه في معيشته"[21]، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29]. * قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالذين يقتصدون في المآكل نعيمهم بها أكثر من نعيم المسرفين فيها، فإن أولئك إذا أدمنوها وألفوها لا يبقى لهذا عندهم كبير لذَّة مع أنهم لا يصبرون عنها وتكثر أمراضهم بسببها" [22]. * ومن العلاجات الناجعة لهذه الأزمة: • حسن إدارة الأزمة: فيتم اختيار المسلم صاحب الكفاءة والعلم والأمانة؛ إذ إن الأزمة ليست أزمة موارد، إنما هي أزمة أمانة وعلاقة بالله وإدارة؛ فقد مرت بكثير من البلاد في كثير من العصور أزمات ونكبات وسنون عجاف، ففي مصر مثلًا في عهد يوسف عليه السلام، كانت السنون العجاف؛ لكن الملك جعلها في عنق يوسف حين قال: ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55]، فنجا بالأمة من الأزمة. * وفي عام الرمادة - في بداية العام الثامن عشر من الهجرة – في عهد عمر رضي الله عنه، وقعت أزمة طاحنة تمثلت في حصول قحط شديد حتى تجمَّع في المدينة من غير أهلها قرابة الستين ألفًا، قلَّ الطعام وجفَّت الينابيع، وغارت المياه حتى كانت الوحوش تأوي إلى الناس، واستمرت هذه الأزمة تسعة أشهر، وسمَّوه عام الرمادة، قيل لأن الريح كانت تأتي على الأرض فلا تسفي إلا ترابًا كالرماد. * ماذا فعل عمر رضي الله عنه؟ 1- حث الناس على التوبة والإكثار من الدعاء، واللجوء إلى الله والصلاة. 2- طلب الغيث من الله. 3- كتب إلى عُمَّاله في الأمصار طالبًا الإعانة، فبعث إليه عمرو بن العاص - والي مصر - ألف بعير تحمل الدقيق، وبعث في البحر عشرين سفينة تحمل الدهن، وبعث بخمسة آلاف كساء، كما أمدَّه سعد بن أبي وقاص ومعاوية رضي الله عنهما. 4- أما عن عمرَ رضي الله عنه، فكما قال مولاه أسلم: كنا نقول: لو لم يرفع الله المَحْلَ عام الرمادة، لظننا أن عمر يموت همًّا لأمر المسلمين. * ومن العلاجات الناجعة لهذه الأزمة: الصدق في المعاملات: فالمسلم لا يحتال، ولا يكذب ولا يغش؛ بل يكون صادقًا أمينًا صافيًا سمحًا إذا باع وإذا اشترى، وإذا قضى وإذا اقتضى، والتاجر له دورٌ عظيم، فالتاجر المسلم يتحلَّى بحسن النية والرفق بالمسلمين، وأن يوفر لهم الجيد بالثمن المناسب، وليحذر أن يزداد ربحه على حساب معاناة الآخرين. * فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى البقيع والناس يتبايعون، فنادى: ((يا معشر التجار، فاستجابوا له، ورفعوا إليه أبصارهم، فقال: إن التجارَ يُبعثون يوم القيامة فجارًا إلا من اتقى وبرَّ وصدق))[23]. * وفي رواية: "إن التجار هم الفجار، فقالوا: يا رسول الله، أليس قد أحلَّ الله البيع؟ فقال: بلى؛ ولكنهم يحلفون فيأثمون، ويُحدِّثون فيكذبون))[24]. * ومن أعظم ما يعالج به الأزمة: القناعة والرضا: فلقد أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم أن ننظر في أمور دنيانا إلى من هو دوننا، ونهانا أن ننظر إلى من هو فوقنا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله))[25]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه))[26]. * هي القناعة فالزمها تعش ملكًا لو لم يكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن [1] متفق عليه. [2] أخرجه أحمد، وابن حبان، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع. [3] رواه ابن ماجه، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع، وصحيح الترغيب والترهيب. [4] رواه الترمذي وابن ماجه، وصحَّحه الألباني. [5] رواه الترمذي، وصححه الألباني. [6] الجامع لأحكام القرآن. [7] أخرجه الإمام أحمد، وصحَّحه الشيخ أحمد شاكر. [8] تفسير ابن كثير. [9] تفسير ابن كثير. [10] حلية الأولياء: أبو نعيم. [11] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين. [12] رواه الترمذي، وحسنه الألباني. [13] رواه مسلم من حديث ابن عمر. [14] رواه البخاري. [15] رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني. [16] رواه ابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الجامع. [17] رواه مسلم. [18] رواه مسلم. [19] رواه أحمد وابن ماجه والنسائي والحاكم، وصححه الألباني. [20] الزهد: الإمام أحمد. [21] نضرة النعيم، نقلًا عن الزهد؛ لهناد السري. [22] قاعدة في المحبة: ابن تيمية. [23] رواه ابن حبان، وصححه الألباني في الصحيحة. [24] رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب. [25] رواه مسلم. [26] رواه مسلم. د. شريف فوزي سلطان
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|