|
#1
|
|||
|
|||
الكتاب الخالد
بسم الله الرحمن الرحيم
القرآن روضة غَنّاء لا يذبل زهرها، ومعين فيّاض لا ينضب ماؤه، عطاؤه متجدد، وخيره لا ينقطع، والانشغال به غنيمة العمر، والتدبر لآياته ركاز الأيام والليالي. والقرآن دستور الزمن لا يتخلف عن ركب الأحداث قيد شعرة، فهو نبراس الماضي والحاضر، وطريق هداية للسلف والخلف، يتناغم من آليات الحضارة على اختلاف مواقعها في الزمان والمكان، وهذا سرٌّ من أسرار إعجازه، وآية من آيات جلاله. قال تعالى: {لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ ۖ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:166]. رُوِي أن يهوداً جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم وأبلغهم أنه رسول الله صدقا وحقا ودعاهم إلى الإِيمان به وبما جاء به من الدين الحق فقالوا: "من يشهد لك بالرسالة؟ إذ كانت الأنبياء توجد في وقت واحد، فيشهد بعضهم لبعض، وأنت من يشهد لك؟". فأنزل الله تعالى قوله: {لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ ۖ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ۖ }، يريد إنزال كتابٍ إليك شهادةً منه لك بالنبوة والرسالة، أنزله بعلمه بأنك أهلٌ للاصطفاء والإِرسال، وبكل ما تحتاج إليه البشرية في إكمالها وإسعادها إذ حوى أعظم تشريع تعجز البشرية لو اجتمعت أن تأتي*بمثله، أليس هذا كافيا في الشهادة لك بالنبوة والرسالة، بلى، والملائكة أيضاً يشهدون {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا}. فلا تطلب شهادةً بعد شهادته تعالى لو كانوا يعقلون. والمعنى: لم يشهد أهل الكتاب لكنّ الله شهد، وشهادة الله خير من شهادتهم. وعطفُ شهادة الملائكة على شهادة الله: لزيادة تقرير هذه الشهادة بتعدّد الشهود. {لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ ۖ }: الاستدراك ب"لكن" يقتضي تقدم جملة محذوفة، لأنّ لكن لا يُبتدأ بها، فالتقدير ما رُوي في سبب النزول وهو: أنه لما نزل {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء من الآية:163] قالوا: "ما نشهد لك بهذا"، لكن الله يشهد، وشهادته تعالى بما أنزله إليه إثباته بإظهار المعجزات كما تَثبت الدعاوى بالبينات. {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ۖ } أي: متلبسًا بعلمه الخاص به، وهو العلم بتأليفه على نَظم يعجز عنه كل بليغ .. قال ابن القيم: "أي أنزله وفيه علمه الذي لا يعلمه البشر". ومعنى ذلك أنه مُعجزٌ لفظا ومعنى، فكما أعجز البلغاء من أهل اللسان أعجز العلماء من أهل الحقائق العالية. وقال الزمخشري: "أنزله ملتبساً بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره، وهو تأليفه على نظمٍ وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وموقعه مما قبله موقعُ الجملة المفسرة، لأنه بيان للشهادة بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت للقدر".** أو متلبسًا بعلمه الذي يحتاج الناس إليه في معاشهم ومعادهم. أو بعلمه المتعلق بمن يستأهل نزول الكتب إليه .. قال ابن جريج: "أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه".. قال ابن القيم: "ومن نظر في ذلك وتأمله علم أن الله سبحانه شهد لرسوله أصدق الشهادة وأعدلها وأظهرها وصدّقه بسائر أنواع التصديق بقوله الذي أقام البراهين على صدقه فيه وبفعله وإقراره وبما فطر عليه عباده من الإقرار بكماله وتنزيهه عن القبائح وعما لا يليق به وفي كل وقت يُحدِث من الآيات الدالة على صدق رسوله ما يقيم به الحجة ويزيل به العذر ويَحكم له ولأتباعه بما وعدهم به من العز والنجاة والظفر والتأييد ويَحكُم على أعدائه ومكذبيه بما توعدهم به من الخزي والنكال والعقوبات المُعجَّلة الدالة على تحقيق العقوبات المؤجلة، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا فيظهره ظهورين: ظهورا بالحجة والبيان والدلالة وظهورا بالنصر والظفر والغلبة والتأييد حتى يُظهره على مخالفيه ويكون منصورا". والقرآن معين الحق، قال تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء من الآية:105]. بَيّن جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أنزل هذا القرآن بالحق: أي متلبساً به متضمناً له. فكل ما فيه حق. فأخباره صدق، وأحكامه عدل. كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام من الآية:115]، وكيف لا وقد أنزله جل وعلا بعلمه. كما قال تعالى: {لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ ۖ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ}.*وقوله: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}، يدل على أنه لم يقع فيه تغيير ولا تبديل في طريق إنزاله. قال ابن عطية: "هذه الآية من أقوى متعلقات أهل السنة في إثبات علم الله تعالى، خلافاً للمعتزلة في أنهم يقولون: عالم بلا علم". فالمعتزلة نافين صفات المعاني، قائلين: إنه تعالى عالم بذاته، لا بصفة قامت بذاته، هي العلم، وهكذا في قولهم: قادر مريد، حي سميع، بصير متكلم، فإنه هنا أثبت لنفسه صفة العلم بقوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ}، ونظيره قوله تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ} [الأعراف من الآية:7] {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة من الآية:282]، وهي أدلة قرآنية صريحة في بطلان مذهبهم الذي لا يشك عاقل في بطلانه وتناقضه. والمعنى عند أهل السنة: أنزله وهو يعلم إنزاله ونزوله. ومذهب المعتزلة في هذه الآية: أنه أنزله مقترناً بعلمه، أي فيه علمه من غيوب وأوامر ونحو ذلك، فالعلم عبارة عن المعلومات التي في القرآن كما هو في قول الخضر:*"ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من هذا البحر". * من المصادر: "البحر المحيط" لأبي حيان التوحيدي، "التحرير والتنوير" لابن عاشور، "الكشاف" للزمخشري. * alnaggar66************* المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام. خالد سعد النجار
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|