|
#1
|
|||
|
|||
إبليس والشيطان في القرآن الكريم
ورَد ذِكر إبليس في القرآن الكريم في إحدى عشرة آية من آيات القرآن الكريم[1]، بينما ورد ذكر الشيطان على جهة الإفراد والجمع في ثمانٍ وثمانين آية[2].
والقرآن وهو يستعمل هذين اللَّفظين يعطي لكلِّ لفظ دلالته؛ فنرى النصوص التي تحدَّثَت عن إبليس تَذكر إبليس على أنه علَم لذلك المتمرِّد الذي عصى ربَّه، وتذكر الطبيعة التي خُلق منها، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ﴾ [البقرة: 34]، وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ﴾ [الأعراف: 11]، وقال تعالى: ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 31]. وفي بيان أصل خِلقته قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴾ [الكهف: 50]. أمَّا النصوص التي ذكرَت الشيطان، فذكرَته على أنَّه وصف لإبليس، ووصفَت به كذلك كلَّ من سلك مسلكه كما أشَرنا في أثناء التفريق بين إبليس والشيطان، والنصوص حذَّرَت من الشيطان وعداوته لبني آدم ومداخله على بني آدم. فالنصوص التي تحدَّثَت عن الشيطان كان الحديث فيها مركزًا على العموم على كل من سلَك طريق الشيطنة، سواء أكان اللَّفظ على جهة الإفراد أو الجمع. قال تعالى: ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ [البقرة: 36]، وقال تعالى: ﴿ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ [البقرة: 168]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ﴾ [النساء: 38]. وعلى جهة الجَمع قال تعالى: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾ [البقرة: 102]، وقال تعالى: ﴿ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ ﴾ [الأنعام: 71]، وقال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ﴾ [الأنعام: 112]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ﴾ [الأنعام: 121]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 27]. وهكذا الكثير من النُّصوص الأخرى التي بيَّنَت حقيقة الشيطان، وحذَّرَتنا منه، وأمرتنا باستفراغ الجهد لمعاداته، وبيَّنَت أنَّه عدو لدود[3]. وتحسن الإشارة - هنا - إلى الاستعمال الخاطئ لمصطلَح الشيطان عند الناس؛ بحيث لم يَعد بمقدور المسلم العادي أن يتَّخذ موقفًا واقعيًّا محسوسًا من الشياطين وأضاليلهم، وصار محرجًا للمسلم المثقَّف أن يتطرَّق لمناقشة عمَل الشياطين وآثارها؛ لما يرى في ذلك من إمكانية الوقوع في شرك الخُرافة أو الاتِّهام بالتفكير الخرافي. إنَّ القرآن كما لاحظنا يطلِق لفظ (الشيطان) على المنشطن؛ أي: المنحرف الضالِّ من قصد وإصرار[4]، والشيطان في القرآن كما لاحظنا من النصوص السابقة وغيرها قسمان: الأول؛ هو الشيطان الجنِّي الذي لا يُرى ولا يُسمع من البشر العاديين متمثلًا في إبليس وذرِّيته، وقد ذَكر القرآن هذا النَّوع في معرض تعريفه بعناصر الوجود المحيط، وتفاعل الإنسان معها، ويخبِر أن هذا الشيطان الجنِّي ضعيف الكيد والتدبير، وأنَّ عمله في الغالب بين بني جنسه. والنوع الثاني: هو الشيطان الإنسي الذي ينشطن؛ أي: ينحرف عن قَصد وإصرار عن منهج الله، ويتبنَّى منهاجًا مضادًّا في الفِكر والسلوك، ويجعل من الانحراف والضَّلال فِكرًا صائبًا، وعملًا صالحًا، وإنجازًا حضاريًّا متقدمًا، ثم يكرِّس حياته وجهودَه للدعوة إلى هذا الانحراف والضَّلال وإشاعتهما؛ وهذا هو المعني بالصراع مع الإنسان في محاولة صَرفه عن الطَّريق القويم. إنَّ عداوة الشيطان التي بيَّنها القرآن لنا تتركَّز على شياطين الإنس أكثر من شياطين الجن، وهذا ما أكَّده الحديث النَّبوي أيضًا؛ فعن أبي ذَر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذَر، تعوَّذ من شياطين الإنس والجن))، فقلت: وللإنس شياطين؟! قال: ((نعم، شرٌّ من شياطين الجن))[5]. إذًا، التركيز الصَّحيح هو على شياطين الإنس؛ لأنَّ هذا التصوُّر الذي قدَّمه القرآن الكريم والحديث النَّبوي للشيطان سيَجعل هناك شيطانَ الفكر، وشيطان التربية، وشيطان الثقافة، وشيطان الآداب، وشيطان الفنون، وشيطان الإعلام، وشيطان ال*****ة، وشيطان الأزياء، ومن أحبَّ أحدًا من هؤلاء الشياطين أو قلَّده، فهو وليٌّ له، وهم أولياء له؛ باعتبار أن لكلِّ هؤلاء اهتمامات مشتركة تعمل في الاتجاه المضاد للإسلام وأخلاقياته[6]. هذا الفهم للشَّيطان هو الذي يَنبغي أن يَسود، وعلى ضوئه يجِب تصحيح المفاهيم التي سادَت في عصور الجمود والاستبداد، والتي انحرفَت في فهم الشيطان، وغاصت في الغيبيات بحثًا عن شياطين الجن التي لا تُرى ولا يُحس لها أثَر، وشغلَت تفكير الناس بذلك حتى انتهَت بكثير منهم إلى الوسوسة والجنون؛ لذلك يجِب أن نعيد تَصحيح مفاهيمنا على ضَوء القرآن الكريم والسنَّة النبوية. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما الحِكمة من عدِّ شياطين الإنس شرًّا من شياطين الجن؛ كما يقرِّر الحديث النبوي الذي مرَّ ذكره؟ الجواب: هو ما يوجِّه إليه قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 98 - 100]. إنَّ القراءة ممارسة فكريَّة، ينبغي أن يَسبقها ابتعاد عن كلِّ المفاهيم الضالَّة والمشكِّكة حول النَّص القرآني؛ فالشيطان الجنِّي مَخلوق خَفي، لا فاعلية له إلَّا في بيئات الظُّلم والفساد والفاحشة، التي تسهل عملَه على إيقاع البشر في المعاصي؛ تمامًا كما لا تعمل الجراثيم والفيروسات إلَّا في بيئات التلوُّث والقذارة التي تيسِّر لها التكاثر والفَتك بالأصحَّاء؛ لذلك لا سلطان للشَّيطان في بيئات الإيمان بالله وتطبيقاته النَّظيفة، وإنما سلطانه حين (يتولَّاه) المنشطنون من البشَر، و(يشركون) به، و(يؤمنون) بالضلال الذي يريده، و(يهاجرون) إلى تطبيقات هذا الضَّلال، و(يجاهدون) لتلويث البيئة العامَّة بهذه الفواحش، و(يؤوون) روَّادها، ويسبغون عليهم المالَ والجاه والمكانة الوظيفيَّة، ويجتهدون في نصرتها وحراستها[7]. هل علمنا الآن لماذا كان شياطين الإنس أشرَّ مِن شياطين الجن؟ إذًا، هذا الفهم هو الذي يَنبغي أن يَسود حول الشَّيطان. وبقيَت قضية أرى من الضروري أن أشير إليها؛ وهي ذات صِلة بما سبَق الحديث عنه، هذه القضيَّة متمثلة في أنَّ أمَّتنا الإسلامية في زَمانها الجديد قد بُليَت بأبناء يَحملون رايات التنوير، وينتسب بعضهم إلى علوم الدِّين، ممَّن حاولوا التوفيق بين الإسلام وبين أوضاع مختلفات من إفرازات الحضارة الأوربية الحديثة والمعاصرة، في مجال الأفكار والفلسفات؛ كما في مجال العلوم والتجارب، وكان المنحنى الأبرز في ذلك الجهد، هو محاولة (عقلَنة الدلالات الإسلامية) حسب ظن هؤلاء وفهمهم، ومن ثمَّ أتوا على الكثير من المعاني الإسلامية الكبرى، ممَّا ثبَت في كتاب الله أو سنَّة رسوله، ليحاولوا تأويلها تأويلًا متعنتًا؛ لكي يضفوا على دلالتها معاني (عقلانية) تستسيغها الحضارة الحديثة[8]. وعلى الرغم من الخطأ المبدئي في هذا المنحنى؛ أعني: (الانحراف الشرعي) في التعامل مع نصِّ الوحي، إلَّا أن الأمر الذي نشير إليه في هذا السِّياق أنَّ هذا المنحى الجديد قد أضرَّ بالإسلام وقضيَّته على صَعيد الواقع الدعوي، ولم يحقِّق أدنى فائدة ممَّا زعموها لوجهتهم الجديدة؛ فقد باعَد هذا المنحى التفسيري بين العقل الإسلامي وبين مدركات دينه الصحيحة، في حين لم يقرب العقل الأوربي خطوة من مدارات الوَحي الإلهي والإسلام، وكان الحديث عن (الشيطان في القرآن الكريم أحد الوجوه التطبيقية لهذا المنحى التفسيري المنحرف؛ حيث راح بعضهم يُنكِر وجودَه بطريق غير مباشر؛ عن طريق وصفه بأنه "رمز معنوي" لقوى الشرِّ)[9]، وآخرون قالوا: (هو تَعبير عن وساوس النَّفس)، وغير ذلك من بدع الفِكر وطرائف التأويل التي لا تَليق بحال بمجال البحث والتعرُّف على كتاب الله وأصول الديانة. وكان من مآلات هذا التفسير المنحرِف ما سبق أن ذكَرناه قبل أسطر؛ من أنْ خفَّ احتِفاء بعض المسلمين بمسألة (الشيطان)، وأصبحَت دلالات آيَة جليلة مثل قول الحق تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ [فاطر: 6]، أصبحت مشوشة وغير مَفهومة، والأكثر خطورة أنها غير ذات مَردود عَملي في سلوك المسلم، ممَّا أورث ويورث المزالقَ والمهالِك والمنكرات؛ لأنَّ إحساس المسلِم بحقيقة وجود الشيطان، يجعل مَعنى (الصِّراع) معه حافزًا لصموده أمام الفِتَن والشهوات وطرائقِ الباطل، فإذا غاب هذا الإحساس، غاب إدراك مَعنى الصِّراع، وغاب معه أو ضَعُف الصُّمود أمام هذه المكايد الشيطانية. إن ألفاظ القرآن الكريم ذات دلالات محدَّدة، ومفاهيم واضحة، لا تلد شيئًا من هذه الصور الغريبة التي ولَّدها منها أصحاب الشَّطحات الخياليَّة، مدَّعو التعقل في الفهم. والإسلام في بنائه للعقلية المسلمة قد راعى بناءَ مفاهيم الألفاظ، قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [فصلت: 3]، وفي صحيح البخاري: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأحَد أصحابه، وهو البراء بن عازب، وهو يعلِّمه دعاء النوم: ((آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ، وبنبيِّك الذي أَرسلتَ))، فقال البراء: "ورسولك الذي أَرسلتَ" فقال النَّبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ((قل: ونبيِّك الذي أرسلتَ))[10]. وهذه ليست أخطَر ممَّا نحن بصدده من تَحريف للكثير من دلالات المفاهيم الإسلامية بدعوى التعقُّل والعقلانيَّة؛ إنَّها والله الفوضوية والتملُّص من معاني هذا الدِّين، ومدخل من مداخل الشيطان على هؤلاء العقلانيين. هذا ما أردتُ الإشارةَ إليه بين يدي ذِكر الشيطان في القرآن، وسيتَّضح الأمر أكثر عند عَرضنا لصور صِراع الشيطان مع الإنسان. [1] ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم - محمد فؤاد عبدالباقي، ص (134). [2] المصدر نفسه، ص (382 - 383). [3] ينظر: روح المعاني ج (15)، ص (94)، والسنن الإلهية في الحياة الإنسانية - د. شريف الشيخ صالح ج (1)، ص (121). [4] ينظر: جامع البيان - الطبري - ج (1)، ص (49)، وتفسير ابن كثير ج (1)، ص (52). [5] أخرجه أحمد في مسنده ج (5)، ص (178)، والنسائي في الصغرى ج (8)، ص (275)، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من شر شياطين الجن والإنس. [6] ينظر: أهداف التربية الإسلامية - د. ماجد عرسان الكيلاني - مؤسسة الريان - بيروت - لبنان - 1419هـ - 1998م، ص (348 - 349). [7] ينظر: أهداف التربية الإسلامية - د. ماجد عرسان الكيلاني - ص (350). [8] من هؤلاء صادق جلال العظم في كتابه نقد الفكر الديني - طبعة دار الطليعة للطباعة والنشر - بيروت، ص (81)، وما بعدها؛ فقد كان متجرِّئًا في التهجم على العقلية المسلمة والتشكيك في ثوابتها؛ ذلك أنه أسمى فصلًا من كتابه الذي ملأه بالتهجم على ثوابت الدِّين: أسماه "مأساة إبليس"، وأظهر إبليس كأنَّه ضحية الطاعة للأمر الإلهي، وليس التمرُّد عليه، وملأ كتابه بهرطقات باطلة لا يقوم عليها دليل سوى نُقول من مقالات باطنيَّة، إنَّ هؤلاء يلتقون جميعًا في الدعوة إلى عقلنة المصطلحات الإسلامية والانبِهار بالحضارة الغربية، وكأنَّ من سبقونا لم يَحملوا لواء العقلنة في فَهمهم لنصوص القرآن الكريم؛ نعم، لقد أصاب الأمَّةَ فترةٌ من الركود والجمود، ولكن ذلك لم يَمنع أن تظلَّ الدلالات القرآنيَّة ثابتة وواضحة وبيِّنة، فليتهم أعملوا عقولهم في العودة إلى المصطلحات القرآنيَّة الواضحة الدلالة، لا الانبهار بالغرب والطَّعن في العقل المسلم. [9] ينظر: تفسير المنار ج (1)، ص (281 - 284). [10] أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب فضل من بات على الوضوء ج (1)، ص (97). د. سيف صفاء عبدالكريم الدوري
__________________
|
#2
|
|||
|
|||
جزاك الله كل خير
|
العلامات المرجعية |
|
|