اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > التاريخ والحضارة الإسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19-05-2015, 10:14 PM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
العمر: 60
المشاركات: 4,132
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي عهد الولاة راغب السرجاني

عهد الولاة
راغب السرجاني



ماذا نقصد بعهد الولاة؟ يعني أن يحكم الأندلس ولاة يتبعون الخليفة الأموي في دمشق، وينقسم إلى فترتين: فترة ازدهار وتقدم وهي الفترة الأولى، وفترة ضعف واضمحلال وهي الفترة الثانية.
الفترة الأولى: من عهد الولاة من سنة 95هـ/ 714م حتى سنة 123 هـ/741م.
لماذا كانت فترة تقدم وازدهار؟ وذلك يرجع إلى الاهتمام بنشر الدين الإسلامي، وإلغاء الطبقية، ونشر الحرية العقائدية، والاهتمام بالحضارة المادية، واتخاذ قرطبة عاصمة للمسلمين، ونشأة جيل المولدين الذي أدى لامتزاج العرب بالأندلسيين، وتقليد الأسبان للمسلمين في كل شيء.
ويُعدّ الجهاد في فرنسا من أهم عوامل ازدهار هذه الفترة؛ لأنه إذا اهتمت الدول بالجهاد ونشر تعاليم الإسلام، يكون ذلك سببًا في تقدمها، أما إذا تركت ذلك فسيكون هلاكُها.
وكان هناك ولاة لهم دور في الجهاد مثل: السمح بن مالك الخولاني (ت 107هـ/ 725م) الذي فتح كل منطقة الجنوب الغربي لفرنسا، و بسبب انشغال المسلمين بالغنائم، فكانت هزيمة المسلمين.
وبعد موقعة بلاط الشهداء تولى عقبة بن الحجّاج السلولي، وقد قام بأكثر من سبع حملات داخل فرنسا، ولقد استشهد سنة 123هـ/ 741م.
عَنْبَسَة بن سُحَيْم (ت 107هـ/ 725م) الذي وصل في جهاده إلى مدينة سانس، ولا ننسى عَبْد الرّحْمَن الغَافِقِيّ (ت 114هـ/ 732م) الذي يعدّ من أشهر ولاة الأندلس؛ إذ إنه وحّد صفوف المسلمين، وفتح مدنًا كثيرة إلا أنه هزم في بلاط الشهداء؛ وأثناء انشغال المسلمين بهذه الفتوحات لم تحدث أي ثورة من قبل أهل الأندلس، ولعل السبب في ذلك أن أهل الأندلس كانوا يعيشون قبل الإسلام في ظلم وجهل، وجاء الإسلام وأخرجهم من هذا الظلم، فلماذا يقومون بثورات إذن؟!.
الفترة الثانية: من عهد الولاة: من سنة 123هـ/ 741م حتى سنة 138هـ/ 755م
وهي فترة الضعف والانهيار، ويرجع السبب في ذلك إلى حب الدنيا والسعي إليها، وتفاقم العنصرية والقبلية، وظلم الولاة، وترك الجهاد، وكنتيجة طبيعية لذلك فُقدت كل الأراضي الإسلامية في فرنسا باستثناء مقاطعة "سبتمانيا"، وظهرت مملكة نصرانية تسمى مملكة ليون، وانقسمت الأندلس إلى فرق عديدة متناحرة.
ومن ثَمَّ نجد تشابهًا كبيرًا بين الأمس واليوم، فالنزاعات بيننا على أشدها، وترك الجهاد، والانقسام إلى فرق وطوائف، وحب الدنيا؛ ولذلك كان لا بد من قراءة التاريخ للاستفادة منه.
بعد انتهاء عهد الفتح السابق يبدأ عهد جديد في تاريخ الأندلس يسمى في التاريخ: عهد الولاة، وهو يبدأ من سنة 95 هـ= 714 م، ويستمر مدة اثنين وأربعين عامًا حيث ينتهي سنة 138 هـ= 755 م.
وعهد الولاة يعني أن حُكم الأندلس في هذه الفترة كان يتولّاه رجل يتبع الحاكم العام للمسلمين، وهو الخليفة الأموي الموجود في بلاد الشام في دمشق.
كان أول الولاة على الأندلس هو عبد العزيز بن موسى بن نصير (ت 97 هـ= 716 م)، وذلك بأمر من سليمان بن عبد الملك - رحمه الله -، وكان كأبيه في جهاده وتقواه وورعه، كان يقول عنه أبوه موسى بن نصير: عرفته صوّاما قوّاما...
وقال عنه الزركلي في الأعلام: أمير فاتح، ولاه أبوه إمارة الأندلس، عند عودته إلى الشام سنة 95 هـ= 714 م فضبطها، وسدد أمورها، وحمى ثغورها، وافتتح مدائن، وكان شجاعاً حازماً، فاضلاً في أخلاقه وسيرته...
وقد حكم عبد العزيز بن موسى بن نصير الأندلس، ووطّد فيها الأركان بشدة، وتوالى من بعده الولاة.
وإذا نظرنا إلى عهد الولاة الذي استمر اثنين وأربعين عامًا؛ نرى أنه قد تعاقب فيها على حكم الأندلس اثنان وعشرون واليًا.. أو عشرون واليًا، تولى اثنان منهم مرتين..، فيصبح مجموع فترات حكم الأندلس اثنين وعشرين فترة خلال اثنتين وأربعين سنة، أي أن كل والٍ حكم سنتين أو ثلاث سنوات فقط.
ولا شكّ أن هذا التغيير المتتالي للحكام قد أثّر تأثيرًا سلبيًا على بلاد الأندلس، إلا أن هذا التغيير في الواقع كان له ما يبررّه؛ حيث كان هناك في بادئ الأمر كثير من الولاة الذين يستشهدون أثناء جهادهم في بلاد فرنسا، وبعد مرحلة ما كان هناك أيضاً كثير من الولاة الذين يُغيَّرون عن طريق المكائد والانقلابات والمؤامرات وما إلى ذلك.
أي أن هناك فترتين من عهد الولاة، الفترة الأولى تختلف بالكلية عن الفترة الثانية، ومن هنا نستطيع أن نقسّم عهد الولاة بحسب طريقة الإدارة، وطريقة الحكم إلى فترتين رئيسيتين:
الفترة الأولى: وهي فترة جهاد وفتوح، وعظمة للإسلام والمسلمين، وتمتد من بداية عهد الولاة من سنة 95هـ= 714م وحتى سنة 123هـ= 741م أي سبع وعشرين سنة.
أما الفترة الثانية: فهي فترة ضعف ومؤامرات ومكائد وما إلى ذلك، وتستمر من سنة 123 هـ= 741 م وحتى سنة 138 هـ 755 م أي مدة خمس عشرة سنة، وفي تناولنا لفترتي عهد الولاة هاتين لن ندخل في ذكر تفاصيل كل منهم، وإنما سنقتصر فقط على بعض الولاة لما لهم من الأهمية في دراستنا هذه.
الفترة الأولى من عهد الولاة.
بصفة عامة تميزت الفترة الأولى من عهد الولاة بعدة أمور، كان من أهمها:
1- نشر الإسلام في بلاد الأندلس.
وذلك أن المسلمين بعد أن تمكنوا من توطيد أركان الدولة الإسلامية في هذه البلاد، بدءوا يُعلّمون الناس الإسلام، ولأن الإسلام دين الفطرة فقد أقبل عليه أصحاب الفِطَر السوية من الناس عندما عرفوه، واختاروه بلا تردد...
وجد الأسبان في الإسلام دينًا متكاملًا شاملًا ينتظم كل أمور الحياة، وجدوا فيه عقيدة واضحة وعبادات منتظمة، وجدوا فيه تشريعات في السياسة والحكم والتجارة والزراعة والمعاملات، وجدوا فيه تواضعًا كبيًرا جدًا للقادة، ووجدوا فيه كيفية التعامل والتعايش مع الأخ والأب والأم والزوجة والأبناء والجيران والأقرباء والأصدقاء، وجدوا فيه كيفية التعامل مع العدو والأسير، ومع كل الناس...
لقد تعوّد الأسبان في حياتهم قبل ذلك فصلًا كاملًا بين الدين والدولة، فالدين عندهم لا يعدو أن يكون مجرد مفاهيم لاهوتيه غير مفهومه، يتعاطونها ولكن لا يستطيعون تطبيقها، وفي التشريعات والحكم يشّرع لهم من يحكمهم وفق هواه، وحسبما يحقق مصالحه الشخصية.
أما في الإسلام فقد وجدوا أن الأمر يختلف عن ذلك كثيرًا؛ فلم يستطيعوا أن يتخلّفوا عن الارتباط به، والانتساب إليه، فدخلوا فيه أفواجًا...
وفي مدةٍ قليلة أصبح عموم أهل الأندلس -السكان الأصليين- يدينون بالإسلام، وأصبح المسلمون من العرب والبربر قلّة بينهم، وأصبح أهل الأندلس هم جند الإسلام وأعوان هذا الدين، وهم الذين اتّجَهُوا بعد ذلك إلى فتوحات بلاد فرنسا.
2- نشأة جيل المولّدين.
كان من جرّاء انصهار وانخراط الفاتحين بالسكان الأصليين أن نشأ جيل جديد عُرف باسم "جيل المولَّدين"، فقد كان الأب عربي أو بربري والأم أندلسية.
3- إلغاء الطبقية ونشر الحرية العقائدية.
ألغى المسلمون الطبقية التي كانت سائدة قبل ذلك؛ حيث جاء الإسلام وساوى بين الناس جميعًا، حتى كان الحاكم والمحكوم يقفان سويًا أمام القضاء للتحاكم في المظالم، وعمل المسلمون في هذه الفترة على إتاحة الحريّة العقائدية للناس، فتركوا للنصارى كنائسهم، وما هدموها أبدًا، وما كانوا يحوّلونها إلى مساجد إلا إذا وافق النصارى على بيعها لهم، وكان بيع الكنائس للمسلمين يقدّر بأثمان باهظة، أما إن رفضوا بيعها تركها المسلمون لهم.
وهذه المواقف العظيمة إنما كانت تحدث والنصارى محكومون من قِبَل المسلمين، وعلينا أن نَعِي هذا الأمر جيدًا، ونقارن صنيع المسلمين هذا بما فعله النصارى بعد انتهاء الحكم الإسلامي في بلاد الأندلس، فيما عُرف باسم محاكم التفتيش الأسبانية.
4- الاهتمام بالحضارة المادية.
اهتمّ المسلمون في هذه الفترة كذلك بتأسيس الحضارة المادية أو المدنية، فأسسوا الإدارة، وأقاموا العمران، وأنشأوا القناطر والكباري، ومما يدل على براعتهم في هذا الأمر تلك القنطرة العجيبة التي تسمى: قنطرة قُرْطُبَة، وهي من أعجب القناطر الموجودة في أوروبا في ذلك الزمن، كذلك أنشأ المسلمون ديارًا كبرى للأسلحة وصناعة السفن، وبدأت الجيوش الإسلامية تقوى وتتعاظم في هذه المنطقة.
5- تقليد الأسبان للمسلمين في كل شيء
كان من السمات المميّزة أيضاً في هذه الفترة الأولى من عهد الولاة أن الأسبان بدءوا يقلدون المسلمين في كل شيء، حتى أصبحوا يتعلمون اللغة العربية التي يتكلمها الفاتحون، بل كان الأسبان النصارى واليهود يفتخرون بتعليم اللغة العربية في مدارسهم.
6- اتخاذ المسلمين قُرْطُبَة عاصمة لهم.
كذلك كان من بين السمات المميزة لهذه الفترة أيضًا أن اتخذ المسلمون "قُرْطُبَة" عاصمةً لهم؛ وقد كانت "طُلَيْطِلَة" في الشمال قبل ذلك هي عاصمة الأندلس، ولكن وجد المسلمون أنها قريبة من فرنسا وقريبة من منطقة الصخرة، وهما من مصادر الخطر عليهم، فرأوا أن "طُلَيْطِلَة" بذلك مدينة غير آمنة، ومن ثَمّ فلا يمكن أن تكون هي العاصمة، فكان أن اختاروا مدينة قُرْطُبَة في اتجاه الجنوب؛ لانتفاء الأسباب السابقة، وأيضاً حتى تكون قريبة من المدد الإسلامي في بلاد المغرب.
7- الجهاد في فرنسا
الجهاد في فرنسا كان من أهم السمات المميزة جدًا لهذه الفترة الأولى من عهد الولاة، وقد كانت له خطوات كبيرة في هذه الفترة، ونذكر هنا بعض الولاة الذين كان لهم سبق وظهور حاضر في عملية الجهاد في بلاد فرنسا، فكان منهم على سبيل المثال: السمح بن مالك الخولاني، وعنبسة بن سحيم، وعبد الرحمن الغافقي.
السمح بن مالك الخولاني (ت 102هـ/ 721م)
من حسنات الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - (61 - 101 هـ=781 - 720 م) ولاية السَّمْحُ بن مالِك الخوْلاني - رحمه الله - على الأندلس، فقد حكم عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - المسلمين سنتين ونصف على الأكثر، من سنة 99 هـ= 718 م إلى سنة 101 هـ= 720 م، وفي هذه الفترة الوجيزة عمّ الأمن والرخاء والعدل كل بلاد المسلمين...
اختار عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - السمحَ بن مالك الخولاني، ذلك القائد الربّاني المشهور في التاريخ الإسلامي، وهو القائد الذي انطلق إلى بلاد فرنسا مجاهدًا، وكان بفرنسا مدينة إسلامية واحدة هي مدينة "أربونة"، تلك التي فتحها موسى بن نصير - رحمه الله - بسرية من السرايا، لكن السمح بن مالك الخولاني فتح كل منطقة الجنوب الغربي لفرنسا، ثم أسّس مقاطعة ضخمة جدًا وهي مقاطعة "سبتمانيا"، وتسمى الآن بساحل "الريفييرا"، وتعدّ من أشهر المنتجعات السياحية في العالم.
أخذ السمح الخولاني في استكمال الفتوح في جنوب غرب فرنسا، وفي ذات الوقت أرسل يعلم الناس الإسلام، سواء في فرنسا أو في الأندلس إلى أن لقي ربه شهيدًا يوم عرفة سنة 102 هـ= 9 من يونية 721م.
عنبسة بن سحيم (ت 107هـ/ 725م)
تولى بعد السمح الخولاني بعض الولاة نتجاوزهم حتى نصل إلى عَنْبَسَةُ بْن ُسُحَيْم - رحمه الله -، وكان قائدًا تقيًا ورعًا، وهو الإداري العسكري المشهور، كان مجاهدًا حق الجهاد، وقد حكم بلاد الأندلس من سنة 103 هـ= 721 م إلى سنة 107 هـ= 725 م، وقد وصل في جهاده إلى مدينة "سانس"، وهي تبعد عن العاصمة "باريس" بنحو ثلاثين كيلو مترًا، و"باريس" هذه ليست في وسط فرنسا وإنما تقع في أقصى الشمال منها، وهذا يعني أن عَنْبَسَةُ بْن ُسُحَيْم - رحمه الله - قد وصل إلى ما يقرب من 70% من أراضي فرنسا، ويعني هذا أيضا أن 70% من أراضي فرنسا كانت بلادًا إسلامية، فقد أوغل عنبسة بن سحيم - رحمه الله - كما يذكر صاحب الأعلام - في غزو الفرنج، ويرى " إيزيدور " أسقف باجة في ذلك العصر، أن فتوحات عنبسة كانت فتوحات حذق ومهارة أكثر منها فتوحات بطش وقوة، وقال المتشرق رينو: لذلك تضاعف في أيامه خراج بلاد الغال - فرنسا -، وافتتح قرقشونة صلحًا بعد أن حاصرها مدة. وأوغل في بلاد فرنسا فعبر نهر " الرون " إلى الشرق، وأصيب بجراحات في بعض الوقائع، فاستشهد عَنْبَسَةُ بْن ُسُحَيْم - رحمه الله - وهو في طريق عودته.
عبد الرحمن الغافقي (ت 114هـ/ 732م).
بعد استشهاد عَنْبَسَةُ بْن ُسُحَيْم - رحمه الله - بدأت الأمور في التغيّر؛ فقد تولّى حكم الأندلس من بعده مجموعة من الولاة على غير عادة السابقين، كان آخرهم رجل يدعى الهيثم الكلابي، وكان عربيًا متعصبًا لقومه وقبيلته.
ومن هنا بدأت الخلافات تدبُّ بين المسلمين، فالمسلمون العرب من جهة، والمسلمون البربر من جهة أخرى، خلافات بحسب العرق وبحسب العنصر، وهو أمر لم يحدث في تاريخ المسلمين منذ فتح المسلمون هذه المناطق حتى هذه اللحظة.
لم تمرّ خلافات العصبيات هذه مرور الكرام، وإنما دارت معارك ومشاحنات بين المسلمين العرب وبين المسلمين البربر، حتى منّ الله على المسلمين بمن قضى عليها ووحّد الصفوف من جديد، و بدأ يبثّ في الناس روح الإسلام الأولى التي جمعت بين البربر وبين العرب، والتي لم تفرّق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، ذلك هو عَبْدُ الرّحْمَن الغَافِقِيُّ - رحمه الله -.
مَنْ هُو عَبْدُ الرَّحْمَن الغَافِقِيّ؟
هو عبد الرحمن بن عبد الله بن بشر بن الصارم الغافقي العكي، ينتسب إلى قبيلة (غافق) وهي فرع من قبيلة (عك) باليمن، ويكنى أبو سعيد، أمير الأندلس، من كبار القادة الغزاة الشجعان، وهو أحد التابعين - رحمه الله -.
مولده:
ربما يكون ولد في اليمن ورحل إلى إفريقية، ثم وفد على سليمان بن عبد الملك الأموي، في دمشق. وعاد إلى المغرب، فاتصل بموسى بن نصير وولده عبد العزيز أيام إقامتهما في الأندلس، وولي قيادة الشاطئ الشرقي من الأندلس...
فكر الغافقي العسكري:
يتميز القائد عبد الرحمن الغافقي من الناحية العسكرية بالحسم، وهو مبدأ في غاية الأهمية، ويحتاج إليه القائد حتى لا تتشتت الأمور، ويبعد الهدف في ظل التراخي عن اتخاذ القرار، وتأخير ذلك عن وقته.
أيضاً تميز أسلوبه العسكري النابع من فكره الصائب بالتوازن بين ما يملك من قوى وما يريد من أهداف، إضافة إلى اعتماد مبدأ الإعداد قبل التلاقي –أي: إعداد الجنود والشعب كله قبل المعركة إعدادً قويًا من كافة النواحي-، والتأكد من توافر كل أنواع القوة، بداية من قوة الإيمان بالله، مرورًا بقوة التماسك والأخوة بين أفراد الجيش جميعًا، بل وأفراد الشعب، وانتهاءًا بقوة الساعد والسلاح، وهي القوة المادية، وعدم الاستهانة أو التقليل من شأن أي نوع من أنواع هذه القوى، فإن أي قصور في أي نوع منها كفيل بجلب الهزيمة على الجيش كله...
الأخلاقيات "الإنسان"
كان التابعي الجليل والقائد العظيم عبد الرحمن الغافقي، من أحسن الناس خلقًا، وكانت إنسانيته هذه تنبع من تربيته الإسلامية الصحيحة على يد صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا عجب إذن إذا رأينا منه حسن السيرة في أخلاقه مع رعيته، لا عجب إذا رأينا العدل والورع والصبر على الرعية، وإسداء المعروف للناس دون انتظار أي مقابل، فهو ليس بحاجة إلى أحد من الناس، فهو أمير وقائد، ويمتلك مقومات كثيرة، غير أنه ينتظر الأجر من الله - سبحانه وتعالى -...
قالوا عن عبد الرحمن الغافقي...
قال عنه ابن الأثير المؤرخ: اشتهر عبد الرحمن الغافقي بورعه وتقواه وصلاحه وإيمانه القوي...
وقال عنه الذهبي في تاريخ الإسلام: عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أمير الأندلس، وعاملها لهشام بن عبد الملك. روى عن ابن عمر. وعنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وعبد الله بن عياض.
وذكره عبد الواحد المراكشي فيمن دخل الأندلس من التابعين قال: ومنهم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي يروي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
وقال عنه الحميدي في كتابه: "جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس": وعبد الرحمن الغافقي هذا من التابعين يروى عن عبد الله، عمر بن عبد العزيز، وعبد الله بن عياض، استشهد في قتال الروم بالأندلس سنة خمس عشرة ومائة، ذكر ذلك غير واحد، وكان رجلاً صالحاً جميل السيرة في ولايته، كثير الغزو للروم، عدل القسمة في الغنائم، وله في ذلك خبر مشهور؛ أخبرنا به في الإجازة لفظاً وكتابة أبو القاسم عبد الرحمن بن المظفر بالقسطاط بسنده قال: غزا عبد الرحمن يعنى ابن عبد الله العكى إفرنجه، وهم أقاصي عدو الأندلس، فغنم غنائم كثيرة، وظفر بهم، وكان فيما أصاب رجل من ذهب، مفصصة بالدر والياقوت والزبرجد، فأمر بها فكسرت، ثم أخرج الخمس، وقسم سائر ذلك في المسلمين الذين كانوا معه، فبلغ ذلك عبيدة -يعنى ابن عبد الرحمن القيسي الذي هو من قبله- فغضب غضباً شديداً، وكتب إليه كتاباً يتواعده فيه، فكتب إليه عبد الرحمن: إن السموات والأرض لو كانتا رتقاً لجعل الرحمن للمتقين منها مخرجًا.
بعد أن وحّد عبد الرحمن الغافقي المسلمين وتيقن أن قوة الإيمان قد اكتملت، توجّه بهم ناحية فرنسا؛ ليستكمل الفتح من جديد، ودخل مناطق لم يدخلها السابقون، فوصل إلى أقصى غرب فرنسا، وأخذ يفتح المدينة تلو المدينة، ففتح مدينة "آرل"، ثم مدينة "بودو" -وهي موجودة الآن-، ثم مدينة "طلوشة"، ثم مدينة "تور"، ثم وصل إلى "بواتيه"، وهي المدينة التي تسبق باريس مباشرة، والفارق بينها وبين باريس حوالي مائة كيلو متر تقريبًا إلى الغرب منها، وبينها وبين "قُرْطُبَة" حوالي ألف كيلو متر، أي أنه توغّل كثيرًا جدًا في بلاد فرنسا في اتجاه الشمال الغربي.
وفي مدينة "بواتيه" عسكر عبد الرحمن الغافقي في منطقة تسمى البلاط -البلاط في اللغة الأندلسية تعني القصر-، عند قصر قديم مهجور كان بها، ثم بدأ في تنظيم جيشه لملاقاة جيش النصارى، وكان عدد جيشه يصل إلى خمسين ألف مقاتل؛ ولذا تُعدّ حملة عَبْدُ الرّحْمَن الغَافِقِيُّ هي أكبر حملة تدخل إلى بلاد فرنسا.
الكثرة والغنيمة من عوامل الهزيمة:
رغم ضخامة حملة عَبْدُ الرّحْمَن الغَافِقِيُّ تلك إلا إنه كانت هناك مشكلة كبيرة تكاد تفتك بها، وهي أن هذه الحملة كانت قد فتحت مدنًا كثيرة حتى وصلت إلى بواتيه، ومن ثم فقد جمعت من الغنائم الكثير الذي زاد وثقل في أيدي المجاهدين، وهنا بدأ المجاهدون ينظرون إلى هذه الغنائم، ويُفتنون بهذه الأموال الضخمة التي حصّلوها.
ونتيجة هذا فقد اشتهر بين الناس فكرة العودة إلى بلاد الأندلس؛ لحفظ هذه الغنائم هناك؛ حتى لا يحصل عليها الفرنسيون، لكن عَبْد الرّحْمَن الغَافِقِيّ - رحمه الله - جمع الناس، وقال مخاطبا إياهم: ما جئنا من أجل هذه الغنائم، وما جئنا إلا لتعليم هؤلاء الناس هذا الدين، ولتعبيد العباد لرب العباد - سبحانه وتعالى -، وأخذ يحفزّهم على الجهاد والموت في سبيل الله، ثم انطلق بالجيش إلى "بواتيه" رغمًا عن أنف الجنود.
عندما وصل عَبْدُ الرّحْمَن الغَافِقِيُّ بالجيش إلى "بواتيه" ظهرت ثمة أمور أخرى جديدة؛ فقد تجددت العصبيات التي كانت قد اندحرت في بلاد الأندلس بين العرب والبربر من جديد؛ وذلك بسبب كثرة الغنائم، فقد اختلفوا في توزيعها رغم أنه أمر معروف ومتفق عليه، أخذ كلّ ينظر إلى ما بيد الآخر، وكلّ يريد الأكثر، يقول العرب: إنهم أحق لأفضليتهم، ويقول البربر: نحن الذين فتحنا البلاد، ونسي الجميع أن الفاتحين الأوائل ما فرقوا أبدًا بين عرب وبربر، بل ما فرّقوا بينهم وبين من دخل الإسلام من الأندلسيين بعد ذلك، وإضافة إلى العصبية وحب الغنائم والحرص عليها فقد اجتمع إلى جوارهما الزهو والاغترار بالكثرة والعدد الضخم، فخمسون ألفًا من المجاهدين عدد لم يسبق في تاريخ الأندلس، فأخذتهم العزة، وظنوا أنهم لن يغلبوا بسبب كثرتهم هذه، ومن بعيد تلوح في الأفق حُنينًا جديدة (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة: 25] فالمسلمون لم ينتصروا أبدًا بعددهم ولا عتادهم، وإنما كانوا ينتصرون بطاعتهم لله، ومعصية عدوهم له - سبحانه وتعالى -، وللأسف الشديد فرغم وجود هذا القائد الرباني التقيّ الورِع عَبْدُ الرّحْمَن الغَافِقِيُّ إلا أن عوامل الهزيمة داخل الجيش الإسلامي كانت أقوى منه.
يقول الدكتور/ عبد الحليم عويس في كتابه: دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية.
القسم الأول: تحت عنوان من قصص سقوطنا في أوروبا.
آخر خطواتنا في أوربا.
قصة " الغنيمة " في تاريخنا غريبة، والدرس الذي تلقيه علينا - كذلك - أغرب!!.
لقد بدأت أولى هزائمنا بسبب الغنيمة، ولقد وقفنا مرغمين - عند آخر مدى وصلت إليه فتوحاتنا، بسبب الغنيمة - كذلك!!.
فقصة الغنيمة.. هي قصة الهزيمة في تاريخنا.
كان قائد المعركة الأولى هو الرسول - عليه الصلاة والسلام -.. وخالف الرماة أمره، وخافوا من أن تضيع فرصتهم في الغنيمة.. فكانت "أحد"، وشهد الجبل العظيم استشهاد سبعين رجلاً من خيرة المسلمين بسبب الغنيمة، نعم بسبب الغنيمة!!.
وكان قائد المعركة الأخيرة "عبد الرحمن الغافقي" آخر مسلم قاد جيشاً إسلامياً منظماً لاجتياز جبال البرانس، ولفتح فرنسا، وللتوغل - بعد ذلك - في قلب أوروبا.
وهزم الغافقي، سقط شهيدا في ساحة " بلاط الشهداء " إحدى معارك التاريخ الخالدة الفاصلة، وتداعت أحلام المسلمين في فتح أوروبا، وطووا صفحتهم في هذا الطريق، وكان ذلك لنفس السبب الذي استفتحنا به دروس الهزيمة.. أعني بسبب الغنيمة.
ومنذ تم الاستقرار في المغرب العربي، وإسبانيا الإسلامية، وهم يطمحون إلى اجتياز جبال البرانس، وفتح ما وراءه، هكذا أراد " موسى بن نصير " لكن الخليفة الوليد بن عبد الملك " خشي أن يغامر بالمسلمين في طريق مجهولة، ثم فكر على نحو جدي " السمح بن مالك الخولاني " والي الأندلس ما بين عامي (100 - 102 هجرية)، وتقدم فاستولى على ولاية (سبتماية) إحدى المناطق الساحلية المطلة على البحر الأبيض المتوسط جنوب فرنس، وعبر - بذلك - " السمح " جبال البرانس، وتقدم فنزل في أرض فرنسا منعطفاً نحو الغرب حيث مجرى نهر الجارون، مستولياًَ في طريقه على ما يقابله من البلدان، حتى وصل إلى - تولوز - في جنوب فرنسا -، لكن لم يستطع أن يستقر فيه، و*** السمح، وتراجعت فلول جيشه تحت قيادة أحد قواده (عبد الرحمن الغافقي)، فكأن السمح لم ينجح إلا في الاستيلاء على سبتماية.
بلاط الشهداء أشرس معركة إسلامية على الإطلاق.
ما رأيناه كان الحال الذي عليه جيش المسلمين، أما جيش النصارى فقد قَدِم من باريس بنحو أربعمائة ألف مقاتل، أي ما يقرب من ثمانية أضعاف الجيش الإسلامي، وكان على رأسهم رجل يسمى تشارل مارتل، ويطلقون عليه في العربية: قارلة، أما مارتل فهو لقبه ويعني المطرقة، وقد لقّبه به بابا إيطاليا؛ لأنه كان شديدًا على أعدائه، وكان من أقوى حكام فرنسا على الإطلاق، كانت ضخامة جيش الأعداء أمر قد اعتاد عليه المسلمون أو الفاتحون الأوائل، فلم تكن لتهزّهم مثل هذه الأرقام التي قدم بها النصارى من باريس، لكن جيش المسلمين كان فيه من عوامل الضعف الكثير، وفوق ذلك فهو يبعد عن أقرب مركز إمداد له وهو قُرْطُبَة بنحو ألف كيلو متر كما ذكرنا قبل قليل.
في منطقة "بواتيه"، وفي موقعة من أشرس المواقع الإسلامية على الإطلاق، التقى الجمعان ودارت رحى حرب عظيمة، جَمْع المسلمين بما فيه من العوامل التي ذكرناها سابقًا من جهة، وجَمْع النصارى الذي يفوق جيش المسلمين بنحو ثمانية أضعاف كاملة من جهة أخرى، وكانت البداية في شهر رمضان من سنة 114 هـ= نوفمبر 732 م، واستمر القتال لمدة عشرة أيّام متصلة، ورغم عدم تكافؤ القوتين لصالح النصارى، إلا أن الغلبة في بداية المعركة كانت للمسلمين على قلّة عددهم، لكن النصارى في نهاية المعركة فَطِنوا إلى كمية الغنائم الضخمة التي كانت خلف الجيش الإسلامي، فالتفّوا حول الجيش وهاجموا الغنائم وبدءوا يسلبونها، ولأن حبّ الغنائم كان قد أخذ موقعًا في قلوب بعض المسلمين، فكان أن ارتَبَك المسلمون وأسرعوا لحماية الغنائم الكثيرة، فحدثت هزة في وحدة صفّ الجيش الإسلامي، وحدث ارتباك شديد كانت نهايته هزيمة قاسية للجيش الإسلامي في هذه الموقعة، موقعة بواتيه، أو موقعة بلاط الشهداء -بلاط هو القصر الذي دارت عنده الحرب، والشهداء لكثرة شهداء المسلمين في هذه المعركة-.
لم تذكر الروايات الإسلامية حصرًا دقيقًا لشهداء المسلمين في بلاط الشهداء، إلا أن بعض الروايات الأوروبية بالغت كثيرًا في أعداد ***ى المسلمين فيها، فتذكر بعضها أن ***ى المسلمين في بلاط الشهداء بلغ خمسة وسبعين وثلاثمائة ألف مسلم، وهو بلا شك رقم مبالغ فيه جدًا؛ لأن جيش المسلمين في الأساس لم يتعد حاجز الخمسين ألفًا.
وفي رواياتهم يقول الأوروبيون متخوّفين أنه لو انتصر المسلمون في بلاط الشهداء على الفرنسيين لفتحت أوروبا كلها، ولدُرِّس القرآن في جامعات أوكسفورد وغيرها من الجامعات الأوروبية، ووالله إنها لتعاسة لهم وخسران أن المسلمين لم ينتصروا في هذه المعركة، ولو انتصروا لانتشر الخير في هذه البلاد، لكنهم ظلّوا في ضلالاتهم، وظلوا في غيّهم يعمهون، ويعبدون غير الله - سبحانه وتعالى - ويشركون به.
بعد هذه المعركة انسحب المسلمون إلى الداخل، ومع أنهم هُزموا وانسحبوا إلا أنها لم تكن هزيمة ساحقة كما صورها الأوربيون، ومما يدل على ذلك أن جيش النصارى لم يتبع جيش المسلمين حين انسحبوا، وكان من عادة الجيوش أنها تتتبع الجيش الفارّ، ولكنهم اكتفوا بما أخذوه من الغنائم وما أصابوه من ال***ى...
انتصار الفرنجة هو سبب تخلّفهم عن ركب الحضارة:
ربما يبدو هذا العنوان غريبًا على البعض، لكنه في الحقيقة كان ما أثبته الواقع، وشهد به التاريخ، ولقد فطن إلى هذا المعنى بعض المنصفين من مؤرخي أوروبا، قال أناتول فرانس: إن أهم تاريخ في حياة فرنسا هو معركة بواتيه - بلاط الشهداء - حين هزم شارل مارتل الفرسان العرب - المسلمين – في بواتييه سنة 732 م، ففي ذلك التاريخ بدأ تراجع الحضارة العربية أمام الهمجية والبربرية الأوربية... [شوقي أبو خليل - بلاط الشهداء ص:44]
وقفة مع معركة بلاط الشهداء
يقول الله - تعالى -في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ) [فاطر: 5]. فالملاحظ أن المسلمين قد اغتروا بهذه الدنيا التي فتحت عليهم فتنافسوها، وقد جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف الأنصاري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فَوَاللَّهِ، مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ)).
فسنّة لله - تعالى - في خلقه أنه إن فُتحت الدنيا على المسلمين وتنافسوها كما تنافسها من كان قبلهم من الأمم السابقة، فإنها ستهلكهم لا محالة كما أهلكت تلك الأمم السابقة (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا) [فاطر: 43].
أمر آخر كان في جيش المسلمين، وكان من عوامل الهزيمة وهو العنصرية والعصبيّة القبليّة التي كانت بين العرب والبربر في هذه الموقعة، ولقد شاهد الفرنسيون أثر هذا الذي نشأ بين العرب وبين البربر، ووعت الكتب الفرنسية هذا الأمر جيدًا، وظل في ذاكرتها على مدار التاريخ حتى مرت الأيام والسنوات، ودخلت فرنسا بلاد الجزائر واحتلتها من سنة 1830م حتى سنة 1960، وقامت الحركات الاستقلاليّة منذ سنة 1920م وما بعدها، وفكرت فرنسا في القضاء على هذه الحركات الاستقلالية الناشئة، ولم تجد أمامها إلا إشاعة الفتنة بين العرب والبربر، وضرب بعضهم ببعض، فكانت تشيع داخل البربر أنهم قريبون من العنصر الآري -وهو العنصر الأوروبي-، وبعيدون عن العنصر السامي -وهم العرب-، أي أنتم منا ونحن منكم والعرب بيننا غرباء؛ وذلك للتشابه الكبير بين البربر والأوروبيين في الشكل الخارجي، الأمر الذي لا يعترف به الإسلام، ولا يقرّه على الإطلاق؛ فمعيار التفاضل في الإسلام هو التقوى.
ولم تكتف فرنسا بذلك، بل قامت بتكثيف تعليم اللغة الفرنسية في مناطق البربر، في حين منعت تعليم اللغة العربية في هذه المناطق؛ وذلك حتى يتم فصل البربر عن العرب تمامًا في منطقة الجزائر، وهي وإن كانت قد نجحت في أمر اللغة بعض الشيء إلا إنها لم تفلح على الإطلاق في تحويل ديانة البربر الإسلامية إلى النصرانية، فظل البربر على إسلامهم وإن كانت لغتهم قد تغيّرت، في بادئ الأمر كان البربر الذين يعيشون في منطقة الجزائر تسمى قبائل الأمازيغ، وكانوا يمثّلون 15% من شعب الجزائر، ورغم أن لهم لغة خاصة بهم وهي الأمازيغية إلا أنهم كانوا يتمسكون بالعربية، لكن حين قامت فرنسا بهذا الأمر بدأت تُذْكي الروح البربريّة في اللغة المنفردة لهذه القبائل؛ فبدأت تعلم اللغة الأمازيغية، حتى إنها أنشأت في فرنسا عام 1967م أكاديمية خاصة لتعليم اللغة الأمازيغية، وبدأت تكتب اللغة الأمازيغية بحروف لاتينية رغم أنها كانت لغة منطوقة، وليست مكتوبة، قامت فرنسا كذلك بحذف الكلمات العربية التي كانت قد دخلت هذه اللغة وأبدلتها بأخرى أصيلة في اللغة البربرية، وبدأت بالفعل في اجتذاب الشباب من البربر؛ لتعليمهم اللغة الأمازيغية في فرنسا، حتى إنه في عام 1998م أنشأت ما يُسَمّى بالأكاديمية العالمية للبربر، فبدأت تجمع البربر من مناطق المغرب العربي وغرب إفريقيا وتعلمهم اللغة الخاصة بهم، وكل ذلك لفصل العرب عن البربر، تلك الجموع التي ما هي إلا جموع إسلامية ارتبطت برباط العقيدة والدين، لكنها رأت آثار ذلك في وادي برباط وما تلاها فلم تتوان، وفي ذات الوقت الذي تعمل فيه فرنسا جاهدة على إقامة لغة غير العربية في بلد عربي، كانت هي نفسها التي رفضت المشروع الذي تقدم به "جوسبان" رئيس وزرائها إلى شيراك سنة 1999م بإقرار بعض اللغات المحلية داخل فرنسا، والذي ردّ عليه شيراك بقوله: إنك بهذا تريد بلقنة فرنسا
-أي: جعلها كدول البلقان، بلاد متفرقة بحسب العرق وبحسب العنصر-، فهذا الأمر حلال على الجزائر حرام على فرنسا!!.
بعض الأسئلة والرد عليها
بعد استشهاد عَبْد الرّحْمَن الغَافِقِيّ - رحمه الله - في موقعة بلاط الشهداء في منطقة "بواتيه"، وبعد هزيمة المسلمين فيها؛ انسحب المسلمون، وتوقفت الفتوحات الإسلامية في هذه المنطقة. وقبل استكمال الطريق والخوض في تفاصيل ما حدث بعد بلاط الشهداء، هناك بعض الأسئلة المهمّة، والتي نودّ الإجابة عليها وهي:
السؤال الأول: لماذا لم يقم أهل الأندلس بالثورات في عهد الفتح، وأوائل عهد الولاة، رغم ضآلة الحاميات الإسلامية عليهم؟
كان قوام الجيش الإسلامي في بلاد الأندلس أربعة وعشرين ألف مقاتل، كان مع طارق بن زياد اثنا عشر ألفًا، وقد استشهد منهم في وادي برباط ثلاثة آلاف، واستشهد مثلهم في الطريق من وادي برباط إلى طليطلة، فوصل طارق بن زياد إلى "طليطلة" بستة آلاف فقط من الرجال، ثم عبر موسى بن نصير بثمانية عشر ألفًا، فأصبح قوام الجيش الإسلامي أربعة وعشرين ألف مقاتل تم توزيعهم على كل مناطق الأندلس الواسعة، وبعض جنوب فرنسا، كحاميات إسلامية وفاتحين لمناطق أخرى لم تفتح...
فكان التعجب لماذا لم يقم أهل هذه البلاد- على سعتها- بالثورة على المسلمين، أو على الحاميات الإسلامية الموجودة عليهم رغم قلتها الملحوظة، التي لا تقارن بعدد السكان على الإطلاق؟!
ومثل هذا السؤال هو العجب كل العجب، فالسؤال الذي يجب أن يُسأل هو لماذا يثور أهل الأندلس؟ وليس لماذا لم يثوروا؟ كان أهل الأندلس قبل دخول الإسلام يعيشون ظلمًا مريرًا، وضنكًا شديدًا، تُنهب أموالهم، وتنتهك أعراضهم فلا يعترضون، حكامهم في الثروات والقصور يتنعمون، وهم لا يجدون ما يسد الرمق، يزرعون الأرض وغيرهم يأكل ثمارها، بل إنهم يُباعون ويُشترون مع تلك الأرض التي يزرعونها.
فلماذا إذن يثور أهل الأندلس؟! أيثورون من أجل هذا الذي أذاقهم العذاب ألوانًا؟! أم يثورون من أجل ظهور لوذريق أو غيطشة جديد؟! أم يثورون من أجل ذكريات أليمة، مليئة بالجوع والعطش، والنهب والسرقة، والظلم وال***** والتنكيل، والفساد والرشوة والجبروت؟!.
ثم ماذا كان البديل المطروح؟ إنه الإسلام الذي حملته أرواح المسلمين الفاتحين، إنه الإسلام الذي حرّم كل ما سبق وجاء ليقول لهم: تعالوا أعطكم بدلاً من الظلم عدلًا ليس هبة مني، لكنه حق لكم ولقومكم وأولادكم ولذريتكم من بعدكم، إنه الإسلام الذي لم يفرق بين حاكم ولا محكوم، فإن حدث لأي منكم مظلمة قام القاضي لا يفرق بين مسلم ولا يهودي ولا نصراني أيًا كان شكله أو لونه أو ***ه.
إنه الإسلام الذي لا يرفع من قيمة الأشخاص بقدر أموالهم أو صورهم أو أجسامهم، إنما بقدر أعمالهم، والأعمال مفتوحة لكم جميعًا، الغني والفقير، الحاكم والمحكوم، إنه الإسلام الذي يقول الحاكم فيه لك: قد رفعنا عنك كل الضرائب إن كنت من المسلمين وكنت غنيًا فلن تدفع إلا (2. 5 %) زكاة لأموالك إذا بلغت النصاب، وحال عليها الحول، وإن كنت فقيرًا فلن تدفع شيئاً، بل ستأخذ من بيت مال المسلمين إلى أن تغتني.
أما إن كنت من غير المسلمين وكنت غنيًا وقادرًا على القتال- وليس غير ذلك- فستدفع جزية هي أقل بكثير من زكاة المسلمين، نظير أن يدافعوا عنك، وإن هم فشلوا في الدفاع عنك فسترد إليك أموالك.
إنه الإسلام، خلاص الشعوب؛ حين عرفه أهل الأندلس تمسّكوا به واعتنقوه اعتناقًا ولم يرضوا عنه بديلًا، فكيف يحاربونه ويضحّون بهذا النعيم المقيم في الدنيا والآخرة، من أجل حياة المرارة والعذاب والذل والحرمان؟!.
السؤال الثاني: هل من المعقول أن كل أهل الأندلس أُعجبوا بهذا الدين، ولم يكن هناك ولو رجل واحد يثور ويعترض حبًا في سلطان أو مصلحة كانت قد ضيّعت عليه؟!.
والإجابة عن هذا السؤال هي: نعم؛ كان هناك كثير من الناس من أصحاب المصالح الذين كان لهم أعوان كثيرون أرادوا أن يثوروا على حكم الإسلام؛ ليسترجعوا مجدهم، ويحققوا مصالح كانت لهم، أمّا لماذا لم يثوروا؟ فالجواب عنده - سبحانه وتعالى - في قوله: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) [الحشر: 13].
فالمؤمن في الفتوحات الإسلامية كانت له رهبة في قلوب النصارى واليهود، وفي قلوب المشركين بصفة عامة، فالله - سبحانه وتعالى - يلقي على المؤمن جلالاً ومهابةً فيخافه القريب والبعيد، يقول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه البخاري: ((نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ)). ويقول - سبحانه وتعالى -: (فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) [الحشر: 2].
والعجب أن هذا الرعب لم يكن متولدًا عن بشاعة في الحرب، أو عن إجرام منقطع النظير، إنما هي هبة ربانية لجنده ولأوليائه ولحزبه - سبحانه وتعالى -، بل على عكس ذلك تمامًا كانت حرب الإسلام رحمةً للناس كل الناس، فها هو - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في صحيح مسلم عن بُريدة - رضي الله عنه - حين كان يودع الجيوش فكان يخاطبهم قائلا: ((اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا)). وفي رواية: ((وَلَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلَا طِفْلًا صَغِيرًا وَلَا امْرَأَةً)).
فأين هذا من حروب غير المسلمين مع المسلمين؟! أين هذا من *** مائتي ألف مسلم من المدنيين في البوسنة والهرسك وكوسوفو؟! أين هذا من فعل الروس في الشيشان، وفعل الهنود في كشمير، وفعل اليهود في فلسطين، وفعل أمريكا في العراق؟!.
فرغم أن الرهبة والرعب أُلقيت في قلوب الأعداء، إلا أن حروب المسلمين كانت رحمة على العالمين، حتى لقد سعد الذين لم يدخلوا في الإسلام من اليهود والنصارى في ظل حكم الإسلام أيما سعادة (لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8].
فقد تُركَتْ لهم كنائسُهم، وكان لهم قضاء خاص بهم، ولم يفرّق بين مسلم ونصراني ويهودي في مظلمة، فكان العجب حقًا أن يثوروا، العجب كل العجب أن ينقلبوا على الإسلام، والعجب كل العجب أن يرفضوا حكم الإسلام، وقد جاء من عند حكيم خبير، يعلم ما يصلح كونه وأرضه وعبيده (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 19].
السؤال الثالث: وهو خاص بعوامل الهزيمة في بلاط الشهداء، إذ كيف تتعلق قلوب هذا الجيل القريب من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - وهو جيل التابعين أو تابعي التابعين - بالغنائم وحب الدنيا، وكيف تظهر فيهم هذه العنصرية القبلية؟!.
وللإجابة على الشق الأول من هذا السؤال، نقول: إذا كانت هذه العوامل قد حدثت في سنة 114 هـ= 732م، فإنها قد حدثت مع الصحابة -رضوان الله عليهم- في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - سنة 3هـ= 625م وذلك في غزوة أُحد، والتي نزل فيها قوله - تعالى - مخاطبًا صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ) [آل عمران: 152]. وكأن غزوة أُحدٍ تعيد نفسَها من جديد في "بلاط الشهداء".
فقد نزلت هذه الآية في الصحابة -رضوان الله عليهم- حين خالفوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزل الرماة وتركوا مواقعهم بعد أن تيقنوا بالنصر، وذلك طلبًا للغنيمة، فكانت الهزيمة بعد النصر، حتى إن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ما كنت أحسب أن منا من يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية: [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ] [آل عمران: 152].
وهكذا في بلاط الشهداء، كانت الغلبة للمسلمين في أول المعركة في أول يومين أو أول ثلاثة أيام، ثم لما التفّ النصارى حول الغنائم يأخذونها، وكان قد وقع حبها في قلوب المسلمين، حدث الانكسار في الجيش ثم هُزموا.
يقول ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قوله - تعالى -: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 152]. يقول: لقد عفا عنكم أي: لم يستأصلكم في هذه الموقعة، وأعطاكم الفرصة للقيام من جديد.
وهكذا أيضاً في بلاط الشهداء، لم يُستأصل الجيش الإسلامي، لكنه عاد وانسحب ليقوم من جديد.
وإذا جئنا إلى ما قبل أُحد وإلى الرعيل الأول من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في غزوة بدر وجدنا أيضًا صورةً من صور بلاط الشهداء، وذلك حين انتصر المسلمون ثم اختلفوا على الغنائم، حتى إن سورة الأنفال التي نزلت بعد ذلك تعظّم من هذا النصر المجيد قد بدأت بقوله - تعالى -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 1]. كلام له وقع السهام على الصحابة، لكنه أمر قد حدث، وهو أصيل في النفس البشرية.
ومن هنا فما حدث في بلاط الشهداء ليس بجديد؛ لأنه من عيوب النفس، وقد حدث مثله في بدر، وفي أحد، لكن كان هناك اختلافًا، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد غزوة أحد تدارك الأمر بسرعة؛ فحمّس المسلمين على الجهاد، وذكّرهم بالآخرة، حتى قاموا في حمراء الأسد فكانت الغلبة وردّ الاعتبار، أما في بلاط الشهداء فإن كان قد قام من جديد رجل من المسلمين وهو عقبة بن الحجاج - رحمه الله - يحمّس المسلمين، ولكن بعد العودة إلى الأندلس، إلا إنه لم تحدث موقعة بعد بلاط الشهداء كما حدثت حمراء الأسد مباشرة بعد أحد.
كذلك كان الاختلاف في أن غالب جيش المسلمين في بلاط الشهداء باستثناء عبد الرحمن الغافقي - رحمه الله - الذي استشهد لم يزل حب الدنيا وحبّ الغنائم رابضًا في قلبه، فهم يريدون الدنيا، أما في أُحد فقد قال عنهم - سبحانه وتعالى -: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ) [آل عمران: 152]. ولذلك لم يعد المسلمون بعد بلاط الشهداء مباشرة كما عادوا بعد أحد.
ومن أوجه الشبه الكبير أيضاً بين "أحد" "وبلاط الشهداء"، أنه عندما أُشيع خبر وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أحد حدث الانكسار، وحدث الفرار والهزيمة المرّة، وكذلك بالنسبة إلى بلاط الشهداء، فحين *** عبد الرحمن الغافقي - رحمه الله - انسحب المسلمون، وانكمشوا على أنفسهم إلى الداخل، وهنا تكمن العبرة والعظة من أحداث المسلمين المتكررة والشديدة الشبه.
مسألة القومية والعنصرية
وهي الشق الثاني من السؤال، وكسابقتها فإن مسألة القومية والعنصرية كانت قد ظهرت أيضاً في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا لا يعد قدحًا في هذا العهد أو في هؤلاء الصحابة بقدر ما هو بيان لأمور فُطرت وجُبلت عليها النفس الآدمية، لكن فرق بين أن تعود هذه النفس إلى طريق بارئها وبين أن تتمادى في غيّها.
ولعلنا نذكر هنا تلك الحادثة المشهورة التي حدثت بين أبي ذر وبين بلال - رضي الله عنهما -، حين عيّره أبو ذر بأمه في خلاف بينهما قائلاً لبلال: يا ابن السوداء، فذهب بلال إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغاضبًا يحكى له ما حدث، فما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن غضب غضبًا شديدًا وقال لأبي ذر: ((طَفُّ الصَّاعِ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلْ، وَلْيُلْبِسهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ)).
وفي رواية أَنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((وَالَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُحَمَّدٍ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، أَنْ يَحْلِفَ مَا لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٍ إِلَّا بِعَمَلٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا كَطَفِّ الصَّاعِ)).
والعبرة هنا بردّ فعل أبي ذر - رضي الله عنه - حيال هذا الغضب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحيال هذا الذنب الذي اقترفه، فما كان من أبي ذر إلا أن وضع رأسه على التراب مُصرًا على أن يطأ وجهه بلال - رضي الله عنه - بقدمه حتى يكفّر عن خطيئته تلك، وكان ردّ فعل بلال - رضي الله عنه - أن غفر لأبي ذر، ورفض أن يطأ وجهه، وقد حدث مثل هذا أيضًا بين الأوس والخزرج حين فَتَنَ بينهم شاسُ بنُ قيس، فقال الأوس: يا للأوس، وقال الخزرج: يا للخزرج، وحينها أيضًا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهَ اللَّهَ! أَبْدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرْكُمْ، دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ)) والحديث في البخاري ومسلم.
وليس أدل على تلك القبلية مما حدث بمجرد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من فتنة بني حنيفة، واجتماع الناس حول مسيلمة الكذاب، حتى سُئل رجل من أتباع مسيلمة: أتعلم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - صادق ومسيلمة كاذب؟ فأجاب قائلاً: والله أعلم أن محمدًا صادق، وأن مسيلمةَ كاذب، ولكن كاذب بني ربيعة، أحب إليّ من صادق مضر. هكذا كانت النظرة قَبَلِيّة تمامًا في نظر هذا الرجل، ولو لَمَسَ الإيمانُ قلبه ما قال مثل قولته هذه.
إذن فقد ظهرت العنصرية والقبلية منذ عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتدارك هذا الأمر بسرعة، ويحفّز الناس بالإيمان ويقرّبهم إلى ربهم، ويذكّرهم بالآخرة (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ) [الذاريات: 55]. فسرعان ما يتجاوزن ما حدث ولا يعودون، روى البيهقي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهُ مُنَادِيًا يُنَادِي: أَلَا إِنِّي جَعَلْتُ نَسَبًا وَجَعَلْتُمْ نَسَبًا، فَجَعَلْتُ أَكْرَمَكُمْ أَتْقَاكُمْ، فَأَبَيْتُمْ إِلَّا أَنْ تَقُولُوا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ خَيْرٌ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، فَأَنَا الْيَوْمَ أَرْفَعَ نَسَبِي وَأَضَعُ نَسَبَكُمْ)). ويقول - سبحانه وتعالى - في كتابه الكريم: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) [المؤمنون: 101-103].
الأحداث بعد بلاط الشهداء وعودة المسلمين إلى الأندلس.
بعد عودة المسلمين إلى الأندلس، قام فيهم عقبة بن الحجّاج السلولي - رحمه الله -، وتولّى الولاية من سنة 116 هـ= 734 م إلى سنة 123 هـ= 741 م، ويُعدّ آخر المجاهدين بحقٍّ في فترة عهد الولاة الأُول.
وقد خُيّر هذا الرجل بين إمارة إفريقيا بكاملها -كل الشمال الأفريقي- وبين إمارة الأندلس، ففضل إمارة الأندلس؛ لأنّها أرض جهاد حيث ملاصقتها لبلاد النصارى، فأقام مجاهدًا فاتحًا حتى بلغ أربونة، وفتح معها جليقية وبنبلونة، وكان إذا أسر الأسير لم ي***ه حتى يعرض عليه الإسلام، ويقبح له عبادة الأصنام [الأعلام للزركلي جـ 4 ص 220].
قال صاحب البيان المغرب في أخبار الأندلس و المغرب (جـ 1 / ص 151): وأقام عقبة بالأندلس بأحسن سيرة وأجملها، وأعظم طريقة وأعدلها...
وقال المقرّي في نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (جـ 1 / ص 236): وولي عقبة بن الحجاج السّلولي من قبل عبيد الله بن الحبحاب، فأقام خمس سنين محمود السيرة مجاهداً مظفّراً...
وقد قام - رحمه الله - خلال سنوات إمارته السبع بأكثر من سبع حملات داخل فرنسا، وكان ينزل إلى الأسرى بنفسه يعلّمهم الإسلام، حتى إنه أسلم على يديه ألفان من الأسرى ((لَأَنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ))، فكيف بألفين!.
ولقد استشهد عقبة بن الحجّاج - رحمه الله - سنة 123 هـ= 741م، وباستشهاده يكون قد انتهى عهد الولاة الأُول أو الفترة الأولى من عهد الولاة.
الفترة الثانية: من عهد الولاة وأهم سماتها
تبدأ هذه الفترة من انتهاء العهد الأول من عهد الولاة سنة 123 هـ= 741 م وحتى سنة 138 هـ= 755 م، وترجع بذور هذا العهد إلى موقعة "بلاط الشهداء"، حيث حبّ الغنائم والنزعة العنصرية والقبلية...
أهم سمات هذه الفترة:
1- حب الدنيا:
في أول هذا العهد كانت الأموال كثيرة، والغنائم ضخمة، وفتحت الدنيا عليهم، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ مِمَّا أَخَاُف عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا)). وهكذا فُتحت الدنيا على المسلمين، وانخرطوا فيها؛ فتأثّر بذلك إيمانُهم.
2- تفاقم العنصرية والقبلية:
وتبعًا لتأثّر الإيمان ظهرت العنصرية بصورة كبيرة، وحدثت انقسامات كثيرة في صفوف المسلمين داخل الأندلس، حدثت انقسامات بين العرب والبربر، وكانت جذور هذه الانقسامات منذ بلاط الشهداء، ثم حدثت انقسامات بين العرب أنفسِهم، بين المضريين والحجازيين، وبين العدنانيين (أهل الحجاز) والقحطانيين (أهل اليمن)، حتى إنه كان هناك خلافات وحروب كثيرة بين أهل اليمن وأهل الحجاز.
ولقد وصل الأمر إلى أن حدثت انقسامات بين أهل الحجاز أنفسِهم، بين الفهريين وبين الأمويين، بين بني قيس وبني ساعدة، وهكذا انقسم أهل الحجاز بعضهم على بعض.
3- ظلم الولاة:
وإضافة إلى حبّ الغنائم وتفاقم القبلية والنزعة العنصرية، وكخطوة لاحقة لهذا ظهر ما يمكن أن نسميه ظلم الولاة، فقد تولّى أمر المسلمين في الأندلس ولاة ظلموا الناس، وألهبوا ظهورهم بالسياط، كان منهم - على سبيل المثال - عبد الملك بن قَطَن، ملأ هذا الوالي الأرض ظلمًا وجورًا، قسم الناس بحسب العنصرية وبحسب القبلية، أعطى المضريين وحدهم من الغنائم، ومنع البربر وغيرهم، فانقسم الناس عليه وانقلبوا.
وعلى دربه سار يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي تولى من سنة 130 هـ= 748 م وحتى آخر هذه الفترة وآخر عهد الولاة كلية سنة 138 هـ= 755 م فقد انفصل هذا الوالي بالحكم كليّة عن الخلافة الأموية، وادعى أن إمارة الأندلس إمارة مستقلة، بالإضافة إلى إذاقة الناس من العذاب ألوانًا، فحدثت انكسارات جديدة، وثورات عديدة، بلغت أكثر من ثلاثين ثورة داخل بلاد الأندلس.
4- ترك الجهاد:
منذ قليل كنا نتحدث عن الانتصارات الإسلامية، والتاريخ المجيد، وفتح الأندلس، وفتح فرنسا، ثم ها هي الدنيا إذا تمكنت من القلوب، وها هي العنصرية، وها هو ظلم الولاة يسلم الناس إلى هذه الثورات، وكرد فعل طبيعي جدا لكلِّ هذا، ترك الناس الجهاد، وتوقفت الفتوحات في فرنسا، وتوقفت الحروب ضد النصارى في الشمال الغربي في منطقة الصخرة، والتي كان يتمركز بها مجموعة لا بأس بها من النصارى منذ الفتح الأول لبلاد الأندلس، وكقاعدة ربانية وسنة إلهية فما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، يروي أبو داود عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ -نوع من الربا-، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)). وهكذا كان حين ترك المسلمون الجهاد في فرنسا وأرض الأندلس، فسلط الله عليهم الذلّ، وانقسموا على أنفسهم، وانشغلوا بدنياهم.
أهم أحداث الفترة الثانية من عهد الولاة.
نظرًا لتفاعل الأمور السابقة بعضها مع بعض، نستطيع بإيجاز شديد أن نلّخص أهمّ الأحداث التي تمخّضت عنها الفترة الثانية والأخيرة من عهد الولاة فيما يلي:
أولاً: فُقدت كل الأراضي الإسلامية في فرنسا باستثناء مقاطعة "سبتمانيا"، والتي كانت قد فُتحت بسرية من سرايا موسى بن نصير، كما ذكرنا قبل ذلك.
ثانياً: ظهرت مملكة نصرانية في المنطقة الشمالية الغربية عند منطقة الصخرة تسمى: "مملكة ليون".
ثالثاً: انفصل إقليم الأندلس عن الخلافة الإسلامية - الأموية في ذلك الوقت -، وذلك على يد يوسف بن عبد الرحمن الفهري، كما ذكرنا قبل قليل.
رابعاً: انقسمت الأندلس إلى فرق عديدة متناحرة، وثورات لا نهائية، كلٌّ يريد التملك والتقسيم وفق عنصره وقبيلته.
خامساً: أمر خطير جدًا وهو ظهور فكر الخوارج الذين جاءوا من الشام، واعتناق البربر له، وذلك أن البربر كانوا يعانون ظلمًا شديدًا وعنصرية بغيضة من قِبل يوسف بن عبد الرحمن الفهري؛ فاضطروا إلى قبول هذا الفكر الخارج عن المنهج الإسلامي الصحيح واعتناقه؛ خلاصًا مما يحدث لهم ممن ليسوا على فكر الخوارج.
سادساً: زاد من خطورة هذا الموقف ذلك الحدث الجسيم الذي صدع الأمة الإسلامية في سنة 132 هـ= 750 م وهو سقوط الخلافة الأموية، وقيام الخلافة العباسية، والذي كان قيامًا دمويًا رهيبًا، انشغل فيه العباسيون بالقضاء على الأمويين، ومن ثَمّ فقد ضاعت قضية الأندلس وغابت تمامًا عن الأذهان
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 06:00 AM.