اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > قصر الثقافة > قضايا سياسية وأخبار مصرية وعربية وعالمية

قضايا سياسية وأخبار مصرية وعربية وعالمية منتدى يختص بعرض كافة الأخبار السياسية والإقتصادية والرياضية في جميع أنحاء العالم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 08-12-2011, 12:31 AM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
المدير التنفيذي
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,982
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond repute
افتراضي إجهاض الثورة وإبقاء الفورة

إجهاض الثورة وإبقاء الفورة : التوجُّسُ من السلفيين والخوفُ من الإخوان
( يوسف زيدان )


عقب انحسار الموجة (الأولى) من الثورة المصرية، فور تحقيقها الأهداف (الأولية) لها، وهى: إيصال صوت الشارع إلى أذن الحاكم بعد طول صممٍ منه وصراخٍ منهم بغير مجيب، تبديد مشروع توريث الحكم «الجمهورى» للنجل غير النجيب، إنهاء هيمنة أسرة «مبارك» وتنحيته عن الكرسى الذى التصق به، القضاء على رؤوس الفساد ومقاضاتهم.. وهى الأمانى العامة التى طالما راودت خيال الناس فى مصر، وجعلتها ثورة يناير واقعاً ملموساً، ما كان أحدهم يتوقع تحقيقه فى بضعة أسابيع.

وعلى نحوٍ حادِّ الانعطاف، بالغ الدرامية، بدا المشهد المصرى العام منذ بداية العام، على صورةٍ أخرى غير تلك التى كانت معتادة قبل الثورة. وكان من ملامح المشهد المدهش الجديد، استعلان وظهور الجماعات الدينية الإسلامية، ذات التوجهات السياسية، كالإخوان المسلمين والسلفيين والجماعات المسماة بالإسلامية.. وبالمناسبة،

فهذه التسميات كلها تحتاج إعادة نظر، فالأصل فى المسلمين جميعاً أنهم (إخوان)، فلماذا يختص بهذا الوصف فريق منهم؟ والسلفية سمةٌ عامة لفكرنا المعاصر، ولا يكاد معناها الاصطلاحى الجديد يقع على مفهوم محدَّد، فلماذا نسمِّى مَنْ أطلق لحيته واحتقر المرأة وكره السياحة بالسَّلفى؟ وقد يكون من المستساغ أن تكون فى «الغربة» جماعةٌ مغايرةٌ عقائدياً للمجتمع الذى تعيش فيه،

فيصحُّ آنذاك تسميتها بما يميزها عن بقية الناس المحيطين بهم، فيقال مثلاً الجماعة البوذية فى المجتمع المسيحى، أو الجماعة الهندوسية فى المجتمع الإسلامى! لكنه من غير المفهوم أن تكون داخل المجتمع الإسلامى العام، جماعة تتميز عن بقية «المسلمين» باسم الجماعة الإسلامية،

وإلا صار غيرهم خارج نطاق الإسلام.. المهم، أنه جرى فى غمرة انحسار الموجة الأولى من الثورة، بعد شهر مارس الماضى، التخطيط لإجهاض «الثورة» المصرية، بإحلال «الفورة» فى محلها، لتبديد الطاقة الهائلة الدافعة للتغيير، خشية امتداد الأثر الثورى المصرى الذى يهدِّد مصالح مصيرية (غير مصرية) داخلية وخارجية: داخلية من مثل الإمساك بخناق كبار العسكر ممن شاركوا فى حكم مبارك لعدة عقود، أو ملاحقة كبار المرتبطين بالنظام السابق الساقط، أو الثأر من رموز الشرطة التى صارت لها دولة غير مسبوقة فى تاريخ البلاد..

وخارجية من مثل تعويق مصر عن القيام بدور إقليمى يعيد لها الريادة فى المنطقة، أو تفريق الجهود الثورية العربية حتى لا تسير على نهج الثورة المصرية فتطيح بمصالح دولية، يدافع عنها المستفيدون منها، أو تقزيم الدور الذى تلعبه أمريكا وإسرائيل فى هذا الجزء من العالم.. ومن هنا اجتمعت عدة قوى توافقت أغراضها على ضرورة تشتيت عمومية «الثورة» والحطّ بها إلى المستوى الجزئى المتمثل فى «الفورة» وفرعياتها، ليسهل بذلك التعامل مع الثورة المصرية والتقليل من آثارها إذا امتد بها المسار.

■ ■ ■

ولما استطال انتظار مصر «الثائرة» وامتد التشويش بالربوع والنواحى «الفائرة»، وجد الثوار أن عليهم معاودة العزف على الإيقاع الثورى، بإطلاق الموجة الثانية من الثورة المصرية، فاحتشدوا فى ميادين التحرير من جديد، فوجدوا من جديد قوات «الأمن المركزى» وقد استعادت بعضاً من قواها القديمة، تقف لهم بالمرصاد.. وفى الشارع المسمَّى «محمد محمود» فى قول، وفى قول آخر يسمَّى «عيون الحرية»، سالت على الأسفلت دماءٌ مصرية بريئة، وفُقئت عيونٌ كانت ترنو لمستقبل أفضل للبلاد. فعاد الحاكمون إلى نهجهم السابق،

الرامى إلى إجهاض الثورة وإبقاء الفورة، بأن تم الإعلان الحاسم عن أن انتخابات مجلس الشعب سوف تجرى فى موعدها (بعد يومين) بينما دماءُ المقتولين لم تزل على الأسفلت طرية، وجثثُ القتلى (الشهداء) التى كانت قبل بضعة أيام ملقاة فوق أكوام القمامة، لم تزل فى المشرحة ولم تُدفن بعد.. وعبثاً، نادى بعض المخلصين بتأجيل «الانتخابات البرلمانية»، ولو لأسبوعين فقط.

وما كادت الانتخابات تبدأ، حتى أعلن المتحدث باسم (المجلس) أن البرلمان القادم لن يشكِّل الحكومة! وما كادت الانتخابات ينتهى يومها الثانى حتى صدحت الأبواق الإعلامية زاعقةً، بأن الإسلاميين قادمون للأخذ بزمام الحكم فى مصر! وما كادت الناس فى مصر تفرح بمرور يومىْ الانتخابات من دون «الانفلات الأمنى» الذى كان متوقعاً،

حتى خرجت نتائج أولية (ظهر لاحقاً أنها غير دقيقة) تقول إن الإخوان والسلفيين اكتسحوا صناديق الانتخابات كلها.. وما كانت الانتخابات أصلاً، فيما أرى، إلا دورة جديدة من دورات «الفوران» الذى سيمتد بنا لفترة، تثور خلالها المخاوف وتهيج الظنون وتكثر الطعون، فتبقى الأمور بيدِ (المجلس) من جديد، إلى حين إشعار آخر.. وإشهار آخر.. وإبهار آخر يشوِّس عيون «زرقاء اليمامة» الرانية نحو مستقبل مصر.

■ ■ ■

فى طريقى إلى لجنة الانتخابات سألنى أحد الأصدقاء مستنكراً: كيف تكون مناصراً للثورة المصرية ومتأكِّداً من أن الانتخابات خدعة لتشتيت الأنظار، ثم تذهب للإدلاء بصوتك؟ أجبته بضرورة أن نفعل هذا وذاك، فنشارك الراغبين فى ضبط الأمور بأداء الواجب الانتخابى، ونشارك الحالمين بمستقبلٍ أفضل بتأييد الموجة الثانية من الثورة المصرية. ومهما بدا من خلافٍ بين هذا الموقف، وذاك، فكلا الأمرين يرتجى الخير لمصر ولا بد من القيام به.. عاد الصديقُ فسألنى مستفهماً: وماذا عن الوزارة الجديدة التى يشكلها الآن «الجنـزورى»، أليست هى (حركة) جديدة لإجهاض الثورة وإبقاء الفورة؟ قلت: بلى.

وبلا تحفظٍ، ثارت المخاوفُ عقب تباشير الانتخابات، وعسعس التوجُّسُ من (الإسلاميين) حتى من قبل الإعلان عن النتائج الرسمية للدور الأول من المرحلة الأولى للانتخابات البرلمانية. وظهر بالإعلام بعض السلفيين مبتهجين، وساكبين على نار التوجُّس العام زيتاً جديداً. فمنهم مَنْ قال بأن أدب الأستاذ «نجيب محفوظ» يدعو للدعارة! ومنهم مَنْ قال إن وجه المرأة مثل فرجها! ومنهم مَنْ قال بأنهم حين يحكمون سوف يقبلون غيرهم، على مضضٍ،

لكنهم لن يسمحوا لمسيحى بتولِّى أىِّ منصبٍ قيادىٍّ ! ومنهم مَنْ أكد أن «السلفية» آتيةٌ للحكم لا محالة، والإسلاميين قادمون بلا بديل.. وما هذه كلها، فيما أرى، إلا ترهات إعلامية تقترب من التهريج والبهرجة التليفزيونية، بأكثر مما تتصل بطبيعة هؤلاء الناطقين باسم الإسلام الصحراوى الأصفر، فى وطن الإيمان السمح الأخضر.

وبلا تردُّد، أميلُ إلى القول بأن (السلفيين) ليسوا مؤهلين لقيادة مصر. فهم مهما كان من وفرة الأصوات الانتخابية التى أُعطيت لهم، ومهما سيكون من نتائج فى الخطى الانتخابية القادمة، ومهما سينتهى إليه النظر فى «الطعون» الكثيرة المقدَّمة ضدهم، ومهما كان من «الملاعبة» التى تجرى فى الخفاء بينهم وبين قادة العسكر الحاكمين.. فإن مصر لن تكون يوماً بلداً (سلفياً) بالمعنى الذى انتشر مؤخراً، والسلفيون ليسوا جماعة واحدة حتى تتآزر لقيادة البلاد، واللعب السياسى سوف يفسد السلفيين مثلما هو مفسدٌ للعسكر.

وبلا تطويل، فإن ما ينطبق على الموصوفين بالسلفية، ينسحب أيضاً على المعروفين بالإخوان المسلمين. فهؤلاء وأولئك، بينهم خلافات لا تكاد تقع تحت الحصر، وليس صحيحاً ما يشاع من أنهم سوف يتوافقون جميعاً على قلب رجلٍ واحد، تحت قبة البرلمان، إذا طُرح أحد الموضوعات التى تبدو صريحة الحكم فى الشريعة الإسلامية، كإباحة المشروبات الكحولية، أو تلك الموضوعات الملتبسة وليس فيها حكمٌ شرعىٌّ محدَّدٌ، كأن يثار مثلاً موضوع حظر السياحة لأنها نشاطٌ اقتصادى كريه، ولا تدعو إليه الشريعة،

ففى هذه الحالة سوف يجرى بينهم الخلاف على أسس شرعية أيضاً، وتُساق على لسان بعضهم حُجج تقدح فى موقف بعضهم الآخر. كأن يُستعمل المبدأ الشرعى القائل «درء المفاسد أولى من جلب المنافع» أو يُلتفُّ على الأمر بالقاعدة المطاطية «السياحة رديئها ردىء، وجيدها جيد».. وذلك على النحو الذى كان مطروحاً قبل عشرين عاماً على الساحة (السلفية) بصدد الموقف من التليفزيون، وكان معظم «السلفيين» لا يضعون فى بيوتهم أجهزة تليفزيونية، ثم أقبلوا على الأمر وصارت لهم بعد حين قنوات تليفزيونية خاصة، كثيرة، لا يملك مثلها اليساريون ولا العلمانيون ولا الليبراليون..

■ ■ ■

إن التوجُّس من السلفيين والخوف من الإخوان، أو الخوف والتوجس من كليهما، هو شعورٌ عامٌّ عامرٌ، إعلامياً، لكنه فى غير محله (بل غير مبرَّر)، وقد ساهم فى إذكائه وتهييجه أصحاب المصالح فى الإذكاء والتهييج، ابتداءً من البرامج الحوارية التليفزيونية «المنقِّبة» عن كل مثيرٍ لضمان رواج مؤشرات المشاهدة، وبالتالى جنى أرباح «الفقرة الإعلانية». وانتهاءً بالحاكمين الذين ذكرتُ فى مقالةٍ سابقةٍ أنهم لم يجلسوا يوماً على كرسى الحكم، ثم يتركوه طوعاً.. كانت المقالة بعنوان: هل ترك العسكريون حكم البلاد؟

يتساءلون: كيف نجح الإخوان والسلفيون فى الانتخابات؟ الإجابة عن هذا السؤال السهل سهلة. فالانتخابات هى أحد تجليات «اللعبة» السياسية، وقد كان «الملعب» خالياً. والانتخابات هى الحصر العددى لأصوات الناخبين والنسب المئوية لهذه الأعداد، والمناطق التى تصوِّت للسلفيين والإخوان هى الأكثر عدداً.. ومن هنا، فإن الأعداد والإعداد، كان كلاهما بيدِ أصحاب الاتجاهات الدينية بالضرورة، ومن اللازم أن يكون كلا الأمرين (العدة والعدد) بأيديهم.. لماذا؟ سوف أقصُّ أولاً، واقعة جرت قبل عامين:

مع ازدحام طريق الكورنيش صيفاً، لكثرة الوافدين على الإسكندرية، كنت أعود عصراً من مكتبة الإسكندرية إلى منـزلى بالمعمورة، بالالتفاف حول المدينة من الطريق المسمَّى الدائرى (وما هو بالدائرى فعلاً) وفى أحد الأيام كنت أثناء القيادة مشغولاً بمكالمة هاتفية، فدخلت فى غمرة الزحام من طريقٍ جانبىٍّ أسبق من الذى كان يجب أن أدخل منه.

وإن هى إلا دقائق معدودات حتى ضاق الطريق واختلفت المعالم المعتادة، فأنهيت المكالمة لأجد نفسى فى منطقةٍ ما كنت أظن أن يوجد بالإسكندرية مثلها. فما هى إلا مستعمرةٌ عشوائيةٌ لحقت بالإسكندرية على جوانب الشارع المهول المسمَّى (خمسة وأربعين)، وقد قضيت يومها ساعتين حتى خرجت من بين الشوارع الضيقة والأزقة التى لا يزيد عرض بعضها على مترين.. وشعرت بالعار العام لأن بمصر أناساً يعيشون بهذه الكثافة فى هذا البؤس،

وشعرت بعارٍ خاصٍّ، لأننى كنت قبلها أتوهَّمُ أننى أعرف كل شبر فى شوارع الإسكندرية، فإذا بى يومها يأخذنى «التيه» مع أول انحرافٍ يسيرٍ عن الطريق المرسوم.. بعدها بأيام رأيت من واجبى التعرف على الإسكندرية من جديد، لأن مدينتى التى هى مرآة وجودى، كان لها دوماً جانبان (منذ عصرها البطلمى الأول حتى سنوات قريبة) جانبٌ «شعبىّ» يضم مناطق محرم بك وكرموز وبحرى، وجانبٌ متفرنج يسمى «خط الرمل» لأنه يبدأ من محطة ترام الرمل،

ويمر بمناطق الشاطبى والإبراهيمية وكليوباترا وجليم ولوران. وكان كلا الجانبين نظيفاً، ومعتزاً بذاته (وهما فى واقع الأمر صورة معاصرة للحى الملكى، وحى المصريين بالإسكندرية البطلمية) وكان للجانبين دوماً، ملحقات تشبه «الضواحى» بالنسبة لمدينة الإسكندرية، فمن الغرب «العجمى» ومن الشرق «أبوقير» ومن الجنوب «أبيس» ولم نكن نسمِّى هذه الملحقات (الإسكندرية) لأنها خارجة عنها، وليست متصلة عُمرانياً بها.

ومع التحيُّز الحكومى للمناطق الحضرية، وإهمال برامج (التنمية) فى الريف والأطراف، جرى نزوحٌ عشوائىٌّ هائلٌ، أحاط سكانه بالمدن الكبيرة عموماً وبالإسكندرية خصوصاً، فاتصلت المناطق السكانية، التى كانت فيما سبق (ضواحى) ثم التحقت بها المناطق التى زرتها بعد يوم (التيه) الذى أشرت إليه، فلما مررت بالحواف الجديدة للإسكندرية،

رأيتُ الهول وفرط الفقر فى مناطق: «محسن الكبيرة» و«محسن الصغيرة» و«الطوبجية» و«المأوى» و«أبيس».. وغيرها، وكنت أيامها أكتب رواية (النبطى) وأستحضر فى ذاتى الشخصية الرئيسة فى الرواية «مارية»، فوجدتنى أقول على لسانها فى القسم الثانى من الرواية: أهذه البلاد بلادى؟

■ ■ ■

وملايين الناس الذين يعيشون بؤسهم فى هذه المناطق الجديدة كان لا بد لهم من وسائل ضبط اجتماعى. ومعروفٌ أن لهذا الضبط نوعين: ضبطاً (رسمياً) يتمثل فى القانون العام والسيطرة الشرطية، وضبطاً (غير رسمى) يتمثل فى منظومة الأعراف الاجتماعية وموروث التقاليد عند الجماعات المتجانسة.. ولأن هذا الحشد الكبير، غير المتجانس أصلاً،

جرى اجتماعه بهذه المناطق على نحوٍ عشوائى، من دون إقرارٍ لوسائل الضبط الرسمى وغير الرسمى. فقد كان أمام الناس هناك طريقان، إما أن تصير هذه المناطق مرتعاً للإجرام والانحراف بعيداً عن أى ضوابط، أو أن ينصاع الناسُ هناك للضبط البديل المتاح (الإسلاميين الجدد)، باعتبارهم قوة الضبط الوحيدة الفاعلة فى هذه التجمعات.

ومن هنا، توهَّم كثيرون أن الإسكندرية هى معقل للسلفيين، وأن نجاح الإسلاميين مضمون بالذات فى الإسكندرية! وفى واقع الأمر، ليست هذه المناطق أصلاً (الإسكندرية) التى عرفها التاريخ القديم والمعاصر، وهذه المستعمرات الملحقة بالمدينة ليس لأهلها بديلٌ عن الاستمساك بالإسلاميين، بل هم لا يعرفون غيرهم، وذلك من أجل إقرار أى «نظام» فى تلك الأحياء الجديدة العامرة. وفى واقع الأمر، فقد صنع نظام مبارك هذا الواقع بإهماله هؤلاء المصريين الذين لا ذنب لهم إلا أن الله خلقهم فى زمن مبارك،

ومن ثم فليس مدهشاً أن يتقدم الإسلاميون فى الانتخابات، فى هذا المكان الذى يجب أن نسميه (لواحق الإسكندرية) أو قطاعها الحضرى المتصل. لكن لا يجوز أن نعمِّم القول بأن الإسكندرية معقل السلفية، لأنه قول غير صحيح، إلا إذا قصد «ملحقات» الإسكندرية وأحياءها الفقيرة، لا قلب المدينة ذاتها.

وحين قامت الموجة الأولى من الثورة، هابها السلفيون الذين كانوا يعانون مع بقية المصريين من ظلم نظام مبارك، وقال بعض شيوخهم بتحريم الخروج على الحاكم (عموماً)، التزاماً منهم ببعض المواقف الفقهية القديمة، بينما تأخر الإخوان فى اتخاذ قرار. لكن الشباب من أولئك وهؤلاء، انهمكوا بدافعٍ وطنىٍّ (لا عقائدى) فى الثورة، وكانت لهم مواقف مجيدة منذ يوم الخزى الحكومى المسمَّى إعلامياً: موقعة الجمل.

ولما انحسرت الموجة الثورية، انكشف قاع المجتمع المصرى وتقلَّبت أرضه فأخرجت ما أدهش الناس. وكان من هذه المدهشات، انتشار المذهب السلفى فى عموم البلاد، وتغلغل الإخوان فى المجتمع.. ولم يدرك الجاهلون المندهشون، أن هذا (الظهور) كان أمراً طبيعياً لا بد أن يعقب الثورة، وهو لم يقتصر على (الإسلاميين) وحدهم وإنما دفع (المظاليم) كلهم، على كثرتهم، إلى قلب الأحداث وبؤرة المشهد.. فمثلما طفا على السطح الإسلاميون، ظهر أيضاً نقيضهم، وإلا فما بال تلك الفتاة التى تعرَّت على الملأ ونشرت صورها عاريةً ؟ وما هذا النجاح الكبير للفيلم الفقير فنياً، : شارع الهرم؟

ولماذا كان (شارع الهرم) ذاته، هو أول الأنشطة التى استعادت حيويتها بمصر، فور انحسار الموجة الأولى للثورة؟ وما سر انتشار قنوات (الرقص الشرقى) ، ! إنما مرادى هو الإشارة إلى أن تقليب بواطن المجتمع المصرى بعد الثورة، أظهر المتناقض (المختفى) من الأمور جميعها.

■ ■ ■

.

آخر تعديل بواسطة aymaan noor ، 11-12-2011 الساعة 09:23 PM
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 08-12-2011, 05:13 AM
الصورة الرمزية راغب السيد رويه
راغب السيد رويه راغب السيد رويه غير متواجد حالياً
معلم لغة عربية
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 9,278
معدل تقييم المستوى: 24
راغب السيد رويه is a jewel in the rough
افتراضي

موضوع رائع بارك الله فيك
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 09-12-2011, 06:59 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
المدير التنفيذي
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,982
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو لميس مشاهدة المشاركة
موضوع رائع بارك الله فيك
جزاك الله خيرا أستاذى الفاضل و بارك الله فيك
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 10-12-2011, 09:59 AM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
المدير التنفيذي
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,982
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond repute
افتراضي المسألة الإسرائيلية والحالة الحدودية

المسألة الإسرائيلية والحالة الحدودية

ما بين إخماد الروح الثورية فى مصر، وتأجيج هيجان الفوران بها. أو بعبارة أخرى، ما بين إجهاض الثورة العامة بكل ما فيها من نُبلٍ وشَجَنٍ وأملٍ عريض فى المستقبل، وإبقاء الفورة التفصيلية المعبر عنها حيناً بالمظاهرات الفئوية المطالبة بزيادة المرتبات وبحقوق الأقليات وبالفتك بالفلول «وغير ذلك من الأهداف الفرعية والمنافع الشخصية».. ما بين هذا وذاك، انتشر التشتيت فى ربوع البلاد وعقول العباد، فغابت عن الوعى المصرى وقائع مهمة تجرى على الساحة من دون أن يلتفت أحدٌ إليها، أو يوليها الاهتمام اللائق بخطورتها. ومن تلك الوقائع ما يمس المسألة الإسرائيلية على النحو الآتى بيانه:
نشرت وسائل الإعلام الأسبوع الماضى أخباراً مؤكَّدة «لم تُكذَّب» مفادها أن أبناء العم فى إسرائيل وأبناء الخالة فى قطر، اتفقوا بتوفيق من الله أو يهوه، على قيام قطر «الشقيقة» بتصدير الغاز المسال إلى إسرائيل، عوضاً عن الغاز الذى كان ينساب بيُسر، وبأرخص الأسعار، من مصر.. فلما غضب المصريون، بعد الثورة، من ذلك الإجحاف الفاحش والاتفاق المخجل الناهب لثروات البلاد لصالح أعداء البلاد «فى الداخل والخارج» وتوالت التفجيرات فى خط الأنابيب «الشريان» الممتد بسلامٍ من هنا إلى هناك. بدأت إسرائيل فى البحث عن مصدر آخر للطاقة، كيلا تتوقف فيها «عجلة الإنتاج» وحتى لا ينعدم «الدفء» فى بيوتهم، آملين بالطبع فى عودة «الوسية» المصرية إلى سابق عهدها، فتتدفق نحوهم الخيراتُ فى مجاريها السابقة المباركية والحسين سالمية.
وبحسب ما أُذيع ونُشر «ولم يُكذَّب» فإن إسرائيل تقوم حالياً بإنشاء رصيف بحرى خاص، لاستقبال الغاز القطرى المسال الذى سيصل إليها بالناقلات العملاقة القادمة من حوافِّ الخليج، مروراً بقناة السويس، ابتداءً من العام بعد القادم «2013» وهو تاريخ قد يبدو للمصريين بعيداً، لأنهم صاروا يعيشون يوماً بيوم، ولكنه قريبٌ جداً من زاوية الاتفاقيات الدولية.
وقبل أن يصيح أحد محترفى «الفورة» المصرية الحالية، ويزعق بكلامٍ مجانىٍّ من نوع: هذا الأمرُ لا يعنينا اليوم فى شىء، فالمهم بالنسبة إلينا، ألا تُهدر ثروات بلادنا وتُبذل بأبخس الأثمان لأولئك الأعداء، والأخت الشقيقة «قطر» حُرَّة فيما تفعله بثرواتها النفطية وتوجُّهاتها الدولية.. إلخ، إلخ. نقول: قبل ذلك، علينا أن نفهم أموراً لن يجدى تجاهلها، منها أن هناك اتفاقيات موقَّعة بالفعل بين مصر وإسرائيل، ولا بد من الالتزام بها «لأن الحكومات المتعاقبة متضامنة» ما دامت التعاقدات صحيحة من الناحية القانونية.. ومنها أن توقُّف ضخِّ الغاز إلى إسرائيل، لم يجعله متوفراً بمصر، بل صار وصوله إلى بعض النواحى المصرية منعدماً.. ومنها أن إسرائيل عقب الثورة المصرية عرضت علينا استعدادها لإعادة النظر فى أسعار حصولها على الغاز المصرى، فلم نهتم.. ومنها أن حكومة قطر التى تشجِّع الثورات العربية، تشجِّع أيضاً صادراتها لإسرائيل. ولكن الأهم من هذه الأمور المهمة، هو ضرورة أن ننظر إلى المسألة الإسرائيلية فى عمومها، لأنها بالغة الخطورة، فلا تشغلنا الفورات الحالية التى أعقبت الثورة، أو تمَّ تحويل الثورة إليها، عن الاهتمام بالمسألة الإسرائيلية والحالة الحدودية لبلادنا.
■ ■ ■
منذ عدة عقود، درجنا على النظر إلى «إسرائيل» بشكل غير متوازن، أو بالأحرى بشكلٍ عشوائىٍّ متطرِّف ما بين التهوين والتهويل. فمن ناحية، كنا دوماً نستهين بالمسألة الإسرائيلية، ونتوعد علانيةً بإلقاء إسرائيل ومَنْ وراء إسرائيل فى البحر «ثم ننهزم أمامها فى الحروب العسكرية» ومن ناحية مقابلة، كنا كثيراً ما نبالغ فى تقدير حجم هذا العدو «الاستراتيجى» عبر توهمات من مثل: الخطر اليهودى على الإنسانية، الماسونية، بروتوكولات حكماء صهيون، واحة الديمقراطية فى الشرق الأوسط.. إلى آخر هذه الخرافات.
وحتى على مستوى التناول العلمى والثقافى للمسألة الإسرائيلية، ظل هذا التهوين والتهويل مهيمناً على نظرتنا. وهو الأمر الذى ظهر واضحاً فى «الموسوعة اليهودية» التى وضعها الراحل الجليل د. عبد الوهاب المسيرى، وشاركتُ فيها، حيث تم تلخيص المسألة اليهودية «الإسرائيلية» فى ثلاث نقاطٍ كان أستاذنا الراحل يراها أدوات تفسيرٍ ومفاتيح فهمٍ لما يسميه «الظاهرة اليهودية» مؤكِّداً أن: الحلولية، والعلمانية الشاملة، والجماعة الوظيفية.. هى المداخل الثلاثة التى يمكن من خلالها إدراك طبيعة اليهود، ودولة إسرائيل، وهو الأمر الذى كنتُ أخالفه فيه «مع أنه كان منى بمنـزلة الأستاذ» لأن هذه الأدوات التفسيرية شديدة العمومية، وتنطبق على غير اليهود مثلما تنطبق عليهم، وحتى فى تراث الإسلام والعروبة، سوف نجد هذه «الحلولية، العلمانية الشاملة، الجماعة الوظيفية». ومن ثمَّ، فالمسألة اليهودية والإسرائيلية، أكثر تعقيداً وعمقاً «وخطورةً» من هذا التلخيص التفسيرى الذى كان يعتقده، رحمه الله، وقد ناقشتُه فى ذلك عدة مرات فى ندوات عامة، وفى مقالات كتبتها قبل أعوام.
■ ■ ■
إن المسألة الإسرائيلية، واليهودية، أعمقُ جذوراً وأكثرُ ارتباطاً بتراثنا وواقعنا ومستقبلنا، مما نظن. ولن يجدى نفعاً أن نهوِّن من أمرها لنرتاح نفسياً، أو نهوِّلها لنبرِّر فشلنا فى مواجهة اليهود. فهم على مستوى الديانة يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالديانتين الكبيرتين فى بلاد العرب «الإسلام، والمسيحية» وإن كان اليهود لا يعترفون بأى ديانةٍ منهما، بينما تصرُّ الديانتان على الالتحاق بالموروث اليهودى، على النحو الذى عرضته تفصيلاً فى كتابى «اللاهوت العربى وأصول العنف الدينى»، وعلى مستوى التاريخ والتطور الفكرى، حدث تأثير طويل وتفاعل عميق بين التراثيات اليهودية والمسيحية والإسلامية، بحيث يصعب فهم كل تراثٍ منها، مستقلاً عن غيره. وعلى مستوى الواقع المعاصر، لا يمكن تجاهل الحضور الإسرائيلى فى المنطقة، وفى العالم، وإلا فنحن فى النهاية خاسرون لأن الذى يتجاهل عدوه أو يقلل من شأنه، فسوف ينهزم أمامه لا محالة.
لن أخوض فى تفاصيل نظرية، مطوَّلة، كى لا أرهق القراء الذين يشتكون دوماً من صعوبة طرحى للموضوعات «وهم بالقطع معذورون فى ذلك، لاعتيادهم على الكتابة السهلة التى تملأ جرائدنا» مكتفياً فيما يلى برصد تجليات المسألة الإسرائيلية على الواقع المصرى الذى استهل العام الحالى بثورةٍ حقَّة، ما لبثت أن انقلبت مؤخراً إلى فورة بائسة، تهدر الأهم لصالح الأكثر تفاهة، وتتخلى عن السلوك الثورى الرشيد من أجل المتاع العاجل القليل.
■ ■ ■
أصيبت إسرائيل بصدمةٍ بالغةٍ عندما نجحت الثورة المصرية فى الإطاحة بمبارك ومن حوله، وحولتهم من فراعين إلى مُتهمين يراهم الناس خلف قضبان الحبس، وفى قبضة المحاكمات. ولم تكن إسرائيل يوماً مرعوبةً من مصر على هذا النحو، على الرغم من وقوع حروب عدة، وهو ما يدل على أن القوة الحقة لمصر من وجهة نظر إسرائيل، لا تتمثل فى القدرة العسكرية التى طالما تعاملت معها إسرائيل على المستوى الميدانى «وانتصرت»، وعلى المستوى الدبلوماسى «وارتاحت»، وعلى مستوى التعامل مع نظام مبارك «وأكلت الشهد المصفَّى».. لقد ظهر لهم بعد الثورة، أن قوة مصر الحقة تكمن فى حركة الجموع الهادرة التى استطاعت أن تحقق ما يفوق أحلامها. ولو كان أحدهم قد قال لنا فى مثل هذه الأيام من العام الماضى، إن المصريين سوف يتَّحدون معاً فيسقطون فكرة توريث الحكم التى نجحت فى سوريا، ويضعون رئيس الجمهورية فى القفص، ويرهبون عدو الله وعدوهم وآخرين من دونهم.. إلخ، لكان الجميع قد وصفوا هذا القائل بالجنون، واعتبروا كلامه يفوق الأحلام ولا يمكن أن يتحقَّق يوماً.
لكن الثورة المصرية حققت ما كانت تصبو إليه، فصدمت إسرائيل، ثم بدأت تقود مبادرات مبهرة بعد أسابيع قليلة من الثورة، فنجحت على الساحة الدولية فى إعلاء صورة المصريين بعد طول مهانة، وفى توحيد القوى الفلسطينية «فتح، حماس» بعد طول تقاتل بين الأشقاء، وفى الذهاب إلى منابع النيل بعد طول إهمالٍ يهدد البلاد بالظمأ والجفاف.. ثم ماذا؟ وماذا بعد؟ وبعدين مع المصريين؟.. سألت إسرائيل نفسها هذه الأسئلة، وسارعت إلى العمل لتلافى الحالة المصرية «الثورية» التى أخرجت فى الأسابيع الأولى للثورة أفضل ما فى المصريين. ولم تجد إسرائيل آنذاك طريقاً إلا البدء بإظهار الوداعة، وبدت بريئةً كالحمل الرضيع، الوديع، فتباكت يومين على مبارك «الذى كان محباً للسلام، وللمال» ثم استفاقت وأظهرت احترامها لثورة المصريين وحقهم فى الديمقراطية.. بل وصلت الوداعة الإسرائيلية الجديدة برئيس الوزراء الإسرائيلى «نتنياهو» إلى الظهور بوجهٍ برىءٍ فى برنامج تليفزيونى عربى، قال فيه للمذيع المصرى بالحرف الواحد «نحن نريد السلام، وأنا أكبر منك سناً، وقد رأيتُ من فظائع الحرب ما لم تشهده أنت، فقد أطلق المصريون الرصاص علىَّ وأنا أسبح فى قناة السويس قبل حرب أكتوبر، وكدت أموت، ولأننى رأيت الموت بعينى فإننى أريد للأجيال الجديدة الحياة والسلام».. يا سلام.
■ ■ ■
وبعدما أخرجت الثورة المصرية من شعبنا أفضل ما فيه، أفرزت منه «الفورة» الحالية أسوأ ما فيه.. قطع الطرق لانقطاع البنـزين، اللعب السياسى بالدين، سرقة السيارات، السعى للقضاء على الفلول والإفطار بالفول والتحلية بأم الخلول، شتيمة المجلس العسكرى لإظهار البطولة الثورية، التوك التوك يمرح فى شوارع المدن، رفع الشعار العجيب «عاوز حقى يا بلد» والشعار «إسلامية، إسلامية» كأن مصر دولة بوذية أو مجوسية.. ثم عمَّت حالة الفورة مع ملاعبة المجلس للجالسين على الأرصفة للمطالبة بالقضاء الفورى على الفساد، والراغبين فى زيادة رواتبهم الآن، والمتصدرين لشاشات التليفزيون باعتبارهم آباء الثورة والناطقين الأزليين باسمها، والحواة القانونيين والسياسيين الذين لا يسوسون.. وغير ذلك كثيرٌ من مظاهر الفورة التى انتهت إليها الثورة، أو توقفت عندها، لأن الوقود الثورى «الوعى العام» انعدم، فخرج «العادم» من مركبة الثورة وعلا من «الموتور» الزعيق، وكثر الطحن والتطاحن وقلَّ الطحين والدقيق.
وإسرائيل بجوارنا، تراقب من كَثَب، وتتخذ ما تراه ملائماً من تدابير تناسبها. كأن تجرِّب ما اعتادت عليه، ولم تعتذر عنه، من قتل بعض الجنود المصريين على الحدود بطريق الخطأ، أو بالالتفاف حول مصر بالهرولة نحو أثيوبيا والصومال وجنوب السودان، وغير ذلك من المواضع التى لا يعلمها إلا الله، أو بمحاولة التفرقة بين الفلسطينيين، من جديد، حتى ينشغلوا ببعضهم البعض فلا يشغلونهم عن الشأن المصرى الذى يتقلَّب كل يومٍ مرات، ولا يعرف أحد إلى أين سينتهى به المطاف.. وكان من أعجب هذه التدابير، ما جرى من مساومى الفلسطينيين الطامحين إلى الاعتراف عالمياً بدولتهم، بأن بعض الدول الأوروبية سوف تنظر بعين العطف إلى رغبة أهل فلسطين فى إقامة وطن قوى لهم، ولكن فى المقابل، يجب عليهم أولاً «الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل» كأنَّ يهودية إسرائيل بحاجةٍ إلى اعتراف، وهى أطلقت على نفسها منذ يومها الأول الاسم التوراتى للنبى يعقوب الذى صارع الله، على زعمهم، واستطاع أن ينتصر عليه ويطرحه أرضاً ويكسر حُقَّ فخذه «سبحانه» وينتزع منه الاعتراف بالنبوة والاسم الجديد «إسرائيل» الذى يعنى حرفياً: الذى غالب الله وغلبه!
وبطبيعة الحال، لم ننشغل فى مصر بمثل هذا المطلب التفاوضى، ولم ننتبه إلى خطورة الإقرار بيهودية الدولة «اليهودية» وما يؤدى إليه ذلك من تأكيد «إسلامية» مصر و«مارونية» أعالى لبنان و«شيعية» سهل البقاع و«علوية» شمال سوريا و«سنية» قلبها و«قبطية» بعض النواحى المصرية و«زيدية» بعض النواحى اليمنية.. وتصير المنطقة بعد حينٍ، ملعباً للصراعات المذهبية والدينية التى تحدِّد ملامح كل بلدٍ أو منطقة، فتكون السيادة فى نهاية المطاف للأكثر تنظيماً وتركيزاً وجاهزية للحرب إن لزم. لم نهتم بذلك، فى مصر، لأننا غافلون عما حولنا، ومشغولون بتجلِّيات الفورة التى أعقبت الثورة، ومنهمكون فى خلافات عجيبة من نوع «وثيقة السلمى» لتأمين قادة الجيش من المحاسبة، وتقاعس مصر عن تقديم المستندات لسويسرا بغية استرجاع المنهوب، والترقب لما سوف تسفر عنه الانتخابات القادمة «إذا جرت أصلاً» من تمامٍ على خير أو انفلات الأمور تماماً.. وغير ذلك من الشواغل المطروحة حالياً بقوة، مع أن البتَّ فيها لا يستلزم شيئاً إلا الحزم وتصحيح النية. لكن النوايا، فيما يبدو لى، لم تصحّ بعد فتكون نبراساً. والحزم، على الرغم من تمديد العمل بقانون الطوارئ، لم يتوفر فى أنحاء البلاد بالقدر الكافى لتسيير الأمور نحو أهدافٍ محدودة.
وفى غمرة هذه الحالة من «الفوران» التافه الذى انتهى إليه «الثوران» الذى فَقَدَ البوصلة، يتسع المجال أمام إسرائيل وتخلو لها الملاعب كلها. وهى خبيرةٌ فى اللعب. ثم تنقضى الأيامُ وتمرُّ الشهور، لنجلس جميعاً على حواف الحضارة نبكى اللبن المسكوب، ونتحسر على الأحوال.. كعادتنا دائماً.
■ ■ ■
والمسألة الإسرائيلية، على أهميتها، هى جزءٌ واحدٌ من أجزاء «الحالة الحدودية» التى تحيط مصر اليوم من النواحى كلها، عدا ناحية البحر، وتؤثِّر فيها بشكل عميق سواء على المستوى الآنى الحاضر، أو المستقبلى الآتى مع قادم الأيام. ، على أمل أن تستفيق بلادنا من البلادة التى تغشى العقول وتعوِّق مصر عن الوصول إلى الآفاق الثورية التى نتمناها، ويتمناها لنا المحبون لمصر، ويخشاها العدو الذى نعرفه وآخرون من دونه «لا تعلمونهم والله يعلمهم».

آخر تعديل بواسطة aymaan noor ، 10-12-2011 الساعة 10:03 AM
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 16-12-2011, 10:51 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
المدير التنفيذي
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,982
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond repute
افتراضي الحالة الحدوديةُ الحرجة.. ليبيا نموذجاً

الحالة الحدوديةُ الحرجة.. ليبيا نموذجاً

تأتى هذه المقالة متأخرةً عن موعدها بقرابة شهر، وقد أشرت إليها فى خاتمة مقالة (المسألة الإسرائيلية) على أنها المقالة القادمة التى تأتى فى إطار استعراض التأثر والتأثير المتبادل للعملية العجيبة الجارية فى مصر الآن، وهى عملية تفريغ الثورة المصرية التى انطلقت فى يناير الماضى، من محتواها، وإحلال الفورة (وبالأحرى الفورات) فى محلها، لصرف الأنظار عن المسار العام للثورة المصرية، بإشعال الحرائق (المحدودة) المشوِّشة على التوجهات الأساسية لثورة المصريين (الأولى) فى تاريخهم..

لماذا؟ لأن الثورة المصرية الحقة التى انطلقت فى يناير الماضى، تهدِّد سلطان البعض، أو بتعبير أدق: تهدد مصالح بعض الذين ارتبطوا بالسلطان السياسى (الساقط) الذى كان الرئيس المخلوع مبارك هو رمزه الأول، لكنه بالطبع لم يكن المستفيد الوحيد منه.

ولكن الأحداث التى التهبَت فجأةً فى البلاد، مع مجىء الموجة الثانية من الثورة المصرية، ثم قمعها فى شارع «محمد محمود» على النحو المريع الذى رأينا خلاله عيوناً تُفقأ وشهداء تُلقى جثثهم على أكوام القمامة (إلى آخر هذه الشناعات) ثم فورة الانتخابات وتهييج الخوف من جماعات الإسلام السياسى، وغير ذلك من الوقائع العجيبة التى رأيناها الأسابيع الماضية، وكان لابد معها من تأجيل النظر فى الآثار (الخارجية) للثورة المصرية، وتحويلها لفورات متتالية، من أجل النظر فى الأمور الداخلية الأكثر خطورةً وإلحاحاً.. ولكن ذلك لا يعنى بالطبع، أن المسائل الخارجية المرتبطة بالثورة، أقل أهمية.

■ ■ ■

وقد رأينا فى المقالة المشار إليها كيف كان تعاملنا مع المسألة الإسرائيلية غير رشيد (قبل قيام الثورة) وكانت ثورة يناير فرصة لإعادة بناء التصورات المصرية الإسرائيلية، على نحو مختلف يخالف النهج العشوائى (التهوينى والتهويلى) الذى هيمن على نظرتنا لإسرائيل.. غير أن خمود الروح الثورى وانقلاب الثورة الحقة إلى فورة فارغة، أدى بنا إلى العودة لعبثية المواقف المصرية تجاه إسرائيل، وتم اختزال المواجهات المعقدة فى (لعبة) إنـزال العلم الإسرائيلى من فوق (السفارة) التى هى مجرد شقة فى عمارة بوسط القاهرة، كانت محاطة قبل الاعتداء عليها بسور أسمنتى (جدار عازل) يثير السخرية، وفجأة أُخلى الطريق لإفساح المجال لمتسلقى مواسير الصرف الصحى، وصولاً إلى العلم المرفرف فوق العمارة العالية.. كأننا بذلك حققنا إنجازا ثورياً، وتم لنا الانتقام من إسرائيل.

وأشرت فى خاتمة المقالة إلى أن المسألة الإسرائيلية هى فى نهاية الأمر جانب واحد من جوانب (الحالة الحدودية) التى تحيط بمصر من الجهات جميعها، عدا جهة البحر.. وهو الأمر الذى سنتوقف عنده، عبر السطور التالية، لبيان الوضع (الحرج جداً) لهذه الحالة الحدودية، من الناحية الليبية.

■ ■ ■

عندما خرج الثائرون على القذافى من (بنى غازى) قاصدين إسقاط القذافى ودولته العتيدة، ومن قبل أن يتم دعم الثوار الليبـيين بالسلاح وقاصفات حلف الناتو، كتبت ما نصه: «أيام القذافى صارت معدودة، لكن دماءً كثيرة سوف تسيل على الأرض الليبية..» وكنت أيامها أتوقع من مصر، تحت ولاية المجلس العسكرى الحالى، الحاكم، أن تسرع بمد يد العون للثوار فى ليبيا.. لأن ذلك من الأمور التى يُفترض أن تجرى بشكل تلقائى، لعدة أسباب من أهمها:

أولاً : ابتدأت ثورة ليبيا من جانبها الشرقى، وتحديداً من بنى غازى، وهى المنطقة التى كانت دوماً امتداداً طبيعياً لمصر، بل ظلت جزءاً منها طيلة التاريخ.. فمنذ الزمن المصرى القديم، لم ينظر أهل مصر إلى شرق ليبيا على اعتبار أنه بلد آخر، ولم يجد المصريون القدماء غضاضةً فى أن تكون إحدى الأسرات التى حكمت مصر زمناً طويلاً (الأسرة المسماة: الاثنان والعشرون) ليبية.. لأن أجيالها كانت قد تداخلت مع الكيان المصرى المعاصر، ومع الجيش، من قبل وصولهم إلى حكم البلاد بفترة طويلة. وبالطبع، لم يكن هناك ما يسمى ليبيا، وإنما هى فحسب الإقليم الغربى لمصر.

وفى الزمن اليونانى الرومانى (البطلمى) الذى امتد لمئات السنين، كانت المنطقة الشرقية من ليبيا تسمى «بنتا بوليس» أى المدن الخمس الغربية التابعة للإسكندرية، عاصمة مصر آنذاك ومن هناك، جاء (مرقس الرسول) كاروز الديار المصرية، وجاء أيضاً (آريوس) الهرطوقى الأعظم فى نظر الكنيسة المرقسية. وهو الأمر الذى يدل على انعدام الفوارق الحدودية وعدم وقوفها حائلاً أمام الناس جميعهم، على اعتبار أنهم، فى نهاية الأمر، تابعون للإسكندرية ومصر، وليسوا غرباء.

وكذلك كان الحال فى الزمن الإسلامى، حيث كان (المكان الآخر) الذى يلى مصر من جهة الغرب، هو ما سماه العرب «أفريقيا» ونسميه اليوم (تونس) ولم يكن هناك تمييز نوعى لهذه المنطقة التى سميت قبل مائة عام فقط: ليبيا.. ولذلك، كان لابد لمصر الثورة أن تستعين بالوعى التاريخى، لوضع الأسس التى يقوم عليها التفاعل الرشيد مع الجهة الغربية للبلاد.

ثانياً : إن الثائر الحق، بكل ما فيه من نُبل، لا بد له من الالتحام مع الروح الثورية فى كل مكان، فضلاً عن الأماكن اللصيقة أو التى هى امتداد طبيعى لبلاده فى قول، وفى قولٍ آخر: جزء منها.. وقد رأينا مصر بعد ثورة 1952 (على اختلاف الآراء حولها) تلتحم مع الحكومات الثورية فى أنحاء الأرض من كوبا إلى باندونج. ومن ثم، فقد كان الأَوْلى بنا ما دمنا ثواراً حقيقيين، أن نتفاعل بعمق مع الثورة الليبية التى وإن كانت تجرى فى بلد مجاور (بالمعايير الحدودية الكولونيالية = الاستعمارية) إلا أنها فى نهاية الأمر ثورة تقوم بمحاذاة بلدٍ ثائر، ومن المنطقى أن تتفاعل الثورتان وتتمازجا..

لا سيما أن الهدف من وراء الثورتين المصرية والليبية، كان متشابهاً بل متطابقاً: إسقاط استبداد حاكم استمر فوق الكرسى عقوداً.. القضاء على فكرة التوريث لجمال مبارك ولسيف الإسلام القذافى.. إيقاف النـزيف العام والغشوم لثروات البلاد، اعتماداً على الذراع الاستخباراتية وسطوة الجيش.. وغير ذلك من أوجه الشبه بين الثورتين، مما يجعل المسارعة المصرية إلى دعم الثورة الليبية، أمراً منطقياً ومتوقعاً.

ثالثاً : يعيش فى شرق ليبيا وغربها، مئات الآلاف من المصريين الذين لا يعلم إلا الله عددهم، فالبعض يؤكد أن عددهم يبلغ المليون مصرى، بينما البعض الآخر يزيد العدد إلى ما فوق المليونين.. وأيا ما كان، فإن هؤلاء المصريين يعدُّون بمئات الآلاف، وكان الواجب على مصر (الثورة) أن تنشغل بهؤلاء المحصورين بين مطرقة السندان الثورى، وسندان الغباوة القذافية.

رابعاً : ما دامت مصر (الثورة) تريد استعادة الدور المصرى «الحيوى» فى المنطقة، فقد كان الواجب عليها المسارعة إلى إعلان موقف واضح من الثورة الليبية، ولو على مستوى التأييد السياسى للثوار.. وهو أمر لا يمكن الاحتجاج ضده بأننا كنا مشغولين بالداخل، فمهما كان من درجة هذا الانشغال، فهو لم يكن ليمنع من إعلان موقف «رسمى» من مصر، يدعم حركة التحرر الليـبى الوليدة.. ولا أريد أن أزيد أو أتزيد، بالإشارة إلى الدور الذى سارعت إليه «قطر» بينما مصر مشغولة باللعب السياسى بمسألة الأولية: الدستور أولاً، الانتخابات الرئاسية أولاً، محاكمة مبارك أولاً، استعادة ثروات مصر أولاً، إدارة عجلة الإنتاج أولاً.. إلخ، مع أننى لم أفهم حتى الآن، ما المانع فى أن تتم هذه الأمور جميعها (معاً) فى خطوط متوازية تهدف كلها إلى الخروج بمصر والمنطقة من حضرة الغياب الذى امتد عقوداً من الزمان.

■ ■ ■

غير أن الدواعى والأسباب السابقة، لم تحرِّك مصر فى اتجاه الدعم اللازم للثورة الليبية. أو بعبارة أدق، لم تدفع المجلس العسكرى لوضع (استراتيجية) للتعامل مع ما يجرى فى ليبيا، لأنه انشغل عنها بما يجرى فى الشارع المصرى، أو ما يجريه المجلس عن عمدٍ أحياناً، أو بغير قصدٍ فى أحيانٍ أخرى.. غير أن هذا (التقصير) لم يقتصر على المجلس العسكرى، بل شمل أيضاً القوى السياسية التى لم نر لها موقفاً معلناً مما يجرى فى ليبيا، كأن الأحزاب والجماعات السياسية المصرية لا تدرى بما يجرى من حولنا.. وحتى الجموع الثائرة فى مصر، غاب ذلك عن وعيها بسبب انشغالها بما يتفاقم فى (حوش البيت) المصرى، أو فى الحوش المصرى للبيت الليبـى.

ومع تصاعد العنف إبان المواجهات التى جرت بين الثائرين فى ليبيا وحاكمهم الدموى (والهزلى) معمر القذافى، عانى المصريون المغتربون فى ليبيا من ويلات عديدة، ولم يجدوا سبيلاً للخروج من هناك، حتى بادرت دول أخرى لنقلهم بالسفن والطائرات، ثم تحركت (القيادة المصرية) تحت الضغط، وأرسلت بعض السفن لنقل بعض هؤلاء البائسين، بينما دولة عربية مثل قطر (الواقعة جغرافياً عند أبعد نقطة عن ليبيا!) تضع يدها فى الأرض الليبية، وكأنها الأرض المجاورة للقطريين، لا للمصريين، وقد كان ذلك من عجائب الأمور.

■ ■ ■

طيب. لو قلنا إن ما جرى من تقصير مصرى تجاه الأحداث فى ليبيا، كان مرجعه إلى الاضطراب العام الواقع بمصر، بسبب الابتداء المفاجئ للثورة المصرية فى يناير الماضى، فماذا سنقول فى الإهمال الحالى للحالة الليبية والأحوال الحدودية كلها بعد شهور من قيام الثورة فى مصر.. هل سنظل متغافلين عما يجرى هناك؟ وإلى متى سيدوم هذا التغافل، على الرغم من الروابط الوثيقة بين البلدين والأثر القوى المتبادل بينهما؟

إن التشويش على الثورة المصرية، والحرص على إجهاضها وإحلال (الفورة) مكانها، بسبب التكالب على المكاسب أو لأى سبب آخر، يؤديان إلى إهمالٍ للوقائع التى تجرى بسرعة على الحدود المصرية، سواء فى ليبيا، أو السودان، أو السعودية، أو إسرائيل، وهو إهمال سوف ندفع ثمنه غالياً بعد حين لأن الأحداث المتلاحقة فى النواحى الحدودية اللصيقة، والبعيدة أيضاً، لا بد لها فى نهاية الأمر أن تنعكس بشكل مباشر على الواقع المصرى، وتؤثر فيه بشكل كبير لا يمكن التغافل عنه إلى الأبد، بل لا بد من توجيه أنظارنا نحوه، واتخاذ ما يلزم من تدابير تتلافى التقصير المصرى تجاه ليبيا.

على أن الأمور الليبية لم تستقر بعد مقتل القذافى والتنكيل بجثته، ولم تتوقف مع قطع أصابع ابنه عقاباً على إشارته بها وهو يهدد الناس أثناء الثورة الليبية، مستهيناً بالثائرين على طريقة (من أنتم ؟) التى ابتكرها أبوه.. ولم تقتصر على مشاهد العنف التى رأيناها على الشاشات والمشاهد الأخرى التى لم نرها، لأن الذين يتحكمون فى الإعلام لا يريدون لها أن تُرى.

أعنى مشاهد من نوع: مقتل قائد الثوار «عبدالحميد يونس» على أيدى الثوار! تغيير التحية المعتادة (السلام عليكم) لتكون بعد الثورة: الله أكبر! حوادث ال****** التى جرت من الفريقين (اعتداء الميليشيات، تجاوزات الثوار) ما لا حصر له من أسلحة مكدسة فى بيوت الناس، ومستعدة فى أى وقت للإطلاق على المخالفين للمسلَّحين.. قطع الطرق الحدودية مع مصر وتونس.. تهريب الأسلحة المتقدمة من ليبيا إلى مصر.. القلاقل التى تثور هناك فى كل حين ولا نعلم إلا القليل عن القليل منها.. التداخل بين القبائل الليبية الممتدة فى غرب مصر، وأصولها فى ليبيا.. ضرورة إعادة إعمار ليبيا بعد دفع تكاليف ثورتها (الباهظة).

■ ■ ■

لا مناص لنا من القول إننا فى مصر، لا نعيش فى العالم وحدنا، ولسوف نتأثر بشدة بكل ما يجرى من حولنا، خاصةً خلف حدودنا القريبة.. ولا بد من الإشارة إلى اعتقادى، وأتمنى أن أكون مخطئاً، بأن الحالة الليبية لا تزال حُبلى بحوادث عنف سوف تقع متفرقة، ثم تتأجج مع اقتراب الصيف المقبل وابتعاد الوهج الثورى (ومن ثم التغطية الإعلامية المكثفة).. وهذه الأمور كلها، لا ينبغى علينا فى مصر أن نهملها ونتقاعس عن النظر إليها بما تستوجب من اهتمام، لأنها ستكون مؤثرة لا محالة فى الواقع المصرى.

إن الواقع المصرى، والمستقبل أيضاً، لا يتشكل فى الفراغ بعيداً عن تلك الحوادث الجارية خلف الحدود فى ليبيا وفى غيرها من البلاد المتماسَّة معنا حدودياً، أو تلك الأبعد قليلاً من حيث الجغرافيا، لكنها ليست بعيدة من حيث المصالح والتوازنات الدولية..

غير أن المصالح والتوازنات (الداخلية) تذهلنا عن ذلك، وتتشوَّش الرؤى العامة بفعل الفورات المفاجئة التى تطفر فى مصر كل حين، ومعظمها لا مبرر له إلا حماية مصالح أفراد محدودين لا يتورَّعون عن إشعال الحرائق الصغيرة هنا وهناك، وليس هدفهم (النار) وإنما الدخان الذى يُعمى الأبصار إلى حين، حتى يتمكنوا من ترتيب أوضاعهم لتناسب الواقع الجديد الذى فرضته ثورة يناير على نواحى مصر..

ولا يسعنى هنا إيراد (الأمثلة) على هذه الفورات التى لا تكاد تقع تحت الحصر، فهى أمثلة مشهورة واضحة للعيان.. ولسوف نختتم هذه السباعية، الأسبوع القادم، بمثالٍ صارخ عليها. وهو مثال كما سنرى، بالغ الدلالة على الحالة المصرية وما يتم فيها خفيةً وعلانيةً، بغرض إجهاض الثورة وإبقاء الفورة.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 17-12-2011, 12:16 AM
أ/رضا عطيه أ/رضا عطيه غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 37,356
معدل تقييم المستوى: 0
أ/رضا عطيه is an unknown quantity at this point
افتراضي

شكراجزيلا

على المعلومات والمجهود الطيب
__________________
الحمد لله
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 18-12-2011, 01:56 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
المدير التنفيذي
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,982
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond repute
افتراضي ثورتنا المصرية تفقد البوصلة.. لماذا؟

ثورتنا المصرية تفقد البوصلة.. لماذا؟

لا شك فى أن مصر الثائرة منذ أشهر، ضاعت من يدها البوصلة وصارت تتخبط. ليس فقط على مستوى أحداث الأيام السابقة فى الإسكندرية ثم العباسية، وإنما أيضاً على مستوى الرؤية العامة التى تداخلت فيها الآراء واختلطت الأذهان (اختلاط الذهن مرض خطير، طالما تحدَّث عنه أطباؤنا القدامى) .. فدعونا نستكشف برفق، أسباب فقدان البوصلة الثورية، تحاشياً لمصير التائهين المرهقين الضالين المغضوب عليهم. ومن تلك الأسباب فيما نرى، ما يتعلق بجمهور المصريين وبجموع الثائرين وبالمجلس العسكرى وبالطموحات وبالمطامع وبالتآمر.. وعلى هذا الترتيب نبتدئ فى استكشاف الأسباب التى أدت إلى فقدان البوصلة، آملين فى العثور عليها قبل فوات الأوان.

■ ■ ■

فيما يتعلق بجمهور المصريين،
أىْ جميع أطياف الشعب المصرى. فلا بد من الإقرار بأن (الثورة) لم تكن مطلباً عاماً لجميع المصريين، وإن كانت مطلباً لكثيرين من المصريين الذين أعتبر نفسى واحداً منهم. ولكن هناك ملايين من الناس فى مصر، كانوا يستظلُّون بالنظام السابق (الساقط من قبل سقوطه) ويرضون عنه بدرجات متفاوتة، تتوزَّع بين عدة مستويات وشرائح، مثل: الذين كانوا يسمونهم الأغلبية الصامتة، أى الراضين بالقليل مهما كان قليلاً، والذين صاروا يُسَمَّون بعد الثورة بفلول النظام، والذين لم يشبعوا من النهب، ولن يشبعوا أبداً لأنهم لا يعرفون حَدَّ الشبع (وهذا مرضٌ آخر، يسمِّيه أطباؤنا القدامى: الجوع الكلبى) وبين هذه الطبقات، طبقاتٌ أخرى كانت تتقبَّل الحياة فى ظل الواقع المصرى الذى ظل يتدهور تدريجياً خلال السنوات الثلاثين الماضية، أو بالأحرى الستين.

وقد بوغت هؤلاء حين اندلعت الثورة المصرية، ومن ثم توزَّعت مواقفهم بالتدرج ما بين التخوف والترقُّب والرفض.. فلما استطال المدى الزمنى بلا أملٍ يلوح فى الأفق، صارت مواقفهم مرتبةً بعكس التدرُّج الأول، فصارت: الرفض والترقب والتخوف. وهى المواقف التى استعلنت مؤخراً فى ميدان روكسى، ومن قبله ميدان مصطفى محمود، ومن قبلهما وبعدهما فى عديد من مواقع الإنترنت وصفحات الفيس بوك.

إذن، مع مضىِّ الوقت من دون ثمارٍ ملموسة (تشفع لها) فإن الثورة المصرية سوف تخسر رويداً الرصيد العام (الاستراتيجى) المتمثل فى التأييد العام من كل المصريين، بمن فيهم أولئك الذين كانوا قبل شهور ينحازون جهاراً لسلطان مبارك، وصاروا اليوم يتحدثون باسم الثورة! حتى أولئك «المثقفون» أو بالأحرى الذين انتسبوا لدائرة الثقافة المصرية بسبب طول جلوسهم على المقاهى والمنتديات ودخولهم فى الشِّلَل وهم فى حالة شَلَل (لن أذكر أسماءهم فهم معروفون) هؤلاء، نسوا أنهم كانوا يسارعون قبل الثورة بأسابيع إلى لقاء مبارك والتقاط الصور بجانبه، وهو ما كان يسمى زوراً وبهتاناً لقاء الرئيس مع المثقفين (ليس فيهم شخصٌ يقل عمره عن الستين عاماً، وليس فيهم كاتبٌ يحظى بقبولٍ عند القراء) وقد صار هؤلاء مؤخراً، ويا للعجب، ناطقين بلسان الثورة.. وطرحوا عنهم أردية الخجل.

فإذا كان ذلك هو حال النخبة، أو بالأحرى حال (نُخبة الخيبة) فما بال حال الفقراء من الناس، وساكنى العشوائيات، وملايين المهمَّشين من المصريين، والمشرَّدين، وراغبى الزواج الذين لن يصبروا خمس سنوات إلى حين انتهاء الحكومة من بناء المليون شقة الموعودة.. خمس سنوات، كان «جحا» يقول بعدما تعهَّد للملك بأن يعلِّم حماره النطق بعد خمس سنوات: سيكون الحمار قد مات أو مات الملك أو مات جحا.. وفى مثل شعبى آخر، يقول المصريون: موت يا حمار حتى يأتيك العليق.

■ ■ ■

وأما عن ضياع البوصلة من يد الثورة، بسبب جموع الثائرين،
فلا بد لنا أولاً من الانتباه إلى أن الثورة المصرية تداخلت فى بحرها ثلاث موجات على الأقل، خلال الشهور العشرة الماضية. فمن قبل الثورة وحتى لحظة اندلاعها، كانت الموجة الأولى التى مهَّدت للثورة بالمعارضة الصريحة للنظام، وبإشاعة الأمل فى النفوس، وبالمواقف الشجاعة والمتهورة أحياناً (لكنها نبيلةٌ فى كل الأحيان).. ومن تلك الموجة أشخاص مرموقون توفَّاهم الله، مثل د. عبد الوهاب المسيرى الذى همس لى قبل وفاته بأسابيع بأنه يريد أن يموت معارضاً للنظام الفاسد، ولذلك تقبل رئاسة حركة كفاية. فهمستُ إليه بأن عليه تغيير اسم الحركة من (كفاية) التى تُقال فى فصيح اللغة للأمر الجيد، إلى (بس) التى تُستعمل فى اللغة الفصيحة للشىء المذموم .. ابتسم الدكتور المسيرى، وكانت ابتسامته آخر ما رأيته منه، لأنه مات بعدها بأسابيع.

ومن أهل الموجة الأولى الممهِّدة للثورة، كثيرون ممن يزالون أحياء يُرزقون تحت سماء مصر.. منهم مثلاً «محمد عبدالقدوس» الذى التقيت به مرةً واحدة صدفةً، قبل الثورة بشهور، حين جلسنا متجاورين فى ندوةٍ، فسألته وقد جرى بيننا نهر الكلام، عن ختام الحالة التى وصلت إليها مصر، فقال بحماس ما نصُّه: لا بد أن يحدث شىء كبير العام القادم، فمصر تمرُّ دورياً بثوراتٍ وفوراتٍ لا بد أن تحدث! وذلك وفقاً لحسبةٍ عجيبةٍ فى ذهنه، راح يشرحها لى وأنا غير مصدِّق بها. وحين رأيته يوم الجمعة 28 يناير على قنوات التليفزيون، محمولاً من أطرافه الأربعة بيدِ قوات الأمن المتصدية للمظاهرات، قلت ها هو حُلمه قد تحقق وصحَّت حسبته العجيبة.. وأشفقت عليه من الأيدى الباطشة.

غير أن أفراد (أبطال) هذه الموجة الممهِّدة للثورة، أعنى الأحياء منهم، سرعان ما انسحبوا من المشهد العام بعد الثورة بأسابيع.. ربما لأنهم أكثر نبلاً من الانهماك فى التقاط الثمرات، أو لأنهم اعتقدوا أنهم قدَّموا لهذا الوطن ما كانوا به يحلمون، أو لأنهم أرادوا إفساح المجال للموجة الثورية الجديدة (الثانية) التى دخلت إلى الميدان، يحدوها الحماس وتنقصها الخبرة.

التقت الموجتان الأولى والثانية لبضعة أسابيع، ثم استعلنت من الميادين رموز ثورية لم يكن الناس من قبلُ يسمعون عنهم أو يعرفونهم. ولكن لا بأس، فهم أيضاً «الثوار» ولا بد للثورة أن تجدِّد دماءها.. غير أن الدماء الجديدة اندسَّ فيها جماعة (المتحولون) الذين نظر الناسُ إليهم أول الأمر بريبةٍ وتشكك، ثم انصرفت عنهم الأذهان مع زحام الأحداث ودخول الموجة الثورية الثالثة إلى المشهد العام.. وهى الموجة الموجودة اليوم، ولها فى الإعلام السيادة، بعد ستة أشهر فقط من اندلاع الثورة المصرية.

ومعظم أفراد الموجة الثالثة سواء المشهورين منهم أو المغمورين، هم من الذين لم نعرف عنهم من قبلُ النـزوعَ الثورى، بل كان معظمهم حتى العام الماضى لا ينشغل أصلاً بالواقع السياسى العام، ولا يعنى عنده (الوعى الاستراتيجى) أى معنى.. ومن الطبيعى فى مثل هذه الحالة، أن يتم قبول هؤلاء للصيغ الثورية الجاهزة والشعارات سابقة التجهيز من مثل: الإسلام هو الحل، الديمقراطية هى الحل (من دون بيان للمشكلة التى سيكون الإسلام أو الديمقراطية حلاً لها).. ومن مثل: يسقط فلول النظام، يسقط حكم العسكر (من دون تحديد دقيق لمن هم الفُلول، ولماهية العسكر) .. ومن مثل: الثورة انحرفت عن المسار، ولا بد من إتمام الثورة إلى النهاية (من دون تبيان لما هو مسار الثورة أصلاً، وكيف ستكون الثورة فى المطلق حتى النهاية).

غير أن أشخاصاً بأعينهم مثل جورج إسحاق والبرادعى وأيمن نور (وغيرهم) ارتبطت أسماؤهم بالموجات الثورية السابقة، كلها، وأظنها ستظل مرتبطة بالموجات الآتية أيضاً.. وهؤلاء فيهم المخلصون والمراوغون والمنتفعون، لكنهم جميعاً مهدَّدون بالانطفاء من كثرة التعرض وكثرة التعريض بهم فى غمرة الاضطراب العام الملازم لأى ثورة.

■ ■ ■

وأما المجلس العسكرى
فهو الممثل للجيش الذى دعم الثورة، من دون أن يعلن تأييده الصريح لها. لكنه أعرب عن احترامه للثورة وإرادة الجماهير، ولم يفصح عن السبب، مع أن طبيعة الفعل (الثورى) تناقض على خط مستقيم طبيعة (النظام) العسكرى الصارم. وحسبما أرى، فقد حققت الثورة المصرية للجيش المصرى الهدف الأهم، ومن ثم استحقت بدايات الثورة حماية الجيش. كيف؟

مع أن يناير الماضى صار، مع توالى الأحداث المتسارعة، يبدو بعيداً عن أذهاننا وكأنه تاريخ قديم. إلا أننا نستطيع أن نتذكر السبب الرئيس، فى اندلاع الثورة ضد الرئيس، وهو: التوريث.. صحيحٌ أن الفساد المستشرى، وفقدان الأمل فى الإصلاح، وتراجع مكانة مصر إقليمياً ودولياً، والشراهة فى نهب الثروات، واحتقار الحكام للمحكومين، وحالة التناحة الرئاسية، وغير ذلك من الدواهى، كانت أسباباً منطقية لاندلاع ثورة يناير. غير أن الفتيل المفجِّر للثورة، كان سيناريو (التوريث) الزاحف نحو أرض «جمهورية» لن تلبث أن تصير مع التوريث مسخاً، لا هو بالجمهورية ولا بالملكية ولا أنزلَ الله به من سلطان.. وليس من قبيل الصدفة أن تندلع الثورات العربية، فى بلادٍ أورثت السلطة لأقارب الرئيس وزوجته (تونس) أو لابنه الصغير اللطيف (سوريا) وفى بلادٍ كانت تمضى قُدُماً على درب التوريث هى: مصر، ليبيا، اليمن.

والتوريث، كما أسلفنا، يناقض طبيعة النظام الذى يعرفه الجيش، وهو نظام: الأقدمية. بل إن «الأقدمية» تمثل عقيدة من عقائد الجيش الأساسية. ففى النظام العسكرى لا سبيل للارتقاء إلى سُدَّة القيادة، إلا بالترقى التدريجى الخاضع لمعيار لا جدال فيه، هو الأقدمية التى تفرز بشكل نظامىٍّ وصارم، القيادات.

إذن، كان الرئيس السابق مبارك يغازل الجيش ويغدق عليه، لكنه فى الوقت ذاته يطيح بالمبدأ العسكرى الأهم (مع أنه فى الأصل رجل عسكرى) حين يترك الحبل على الغارب لمن حوله من المدنيين والعسكريين الذين اختلطوا بالحياة المدنية ففسدوا، ويفسح لهم المجال للتمهيد لتوريث الحكم لجمال مبارك.

والناس فى مصر لم تحب جمال مبارك، ولم يكونوا ليقبلوا برئاسته، ولا كان الجيش سيقبل بها لأن التوريث يطيح بالنظام التصاعدى القائم على الأقدمية.. غير أن الغباء جعل حاشية الرئيس السابق تغفل عن هذا الأمر، ولا تفكر فى الكيفية التى سيقبل بها الجيش المصرى، فضلاً عن بقية المصريين، هذا الرئيس الوارث. هل سيكون هو القائد الأعلى للقوات المسلحة؟ وكيف يصح له ذلك وهو الذى لم يكن يوماً عسكريا، ولا تُعرف له مشاركة أو أقدمية؟.. والحياة المدنية فى نظر ضباط الجيش، لا بأس بها بالنسبة للمدنيين والنساء والأطفال، لكنها لا تصلح أبداً كسقفٍ أعلى للجيش، فى بلد خاض حروباً طويلة وانهزم كثيراً وانتصر قليلاً، ولا تزال الأخطار تحوطه من كل جانب.

إذن، حققت الثورة المصرية حلم الجيش المصرى بإسقاط مبارك وإلغاء فكرة (التوريث) إلى غير رجعة، فاستحقت حماية الجيش واحترامه للشهداء وأداء التحية العسكرية.. ولكن ذلك لا يعنى أن يقبل الجيش (لعب العيال) واستهبال الذاهبين لمحاصرة وزارة الدفاع أو المنطقة العسكرية الشمالية فى قلب الإسكندرية.. لماذا؟ لأن ذلك يخالف طبيعة الشخصية العسكرية التى نشأت على الانضباط وطاعة الأمر، والاعتداد بالذات، وتجريم شتم المجنَّدين، وعدم التهاون مع الميوعة، والإشادة بالرجولة، والاستخفاف بالأنوثة، وتعظيم التضحية فى سبيل الوطن.. وغير ذلك من الأمور التى لم يقدِّرها هؤلاء المتحمسون الذين ذهبوا صاخبين فى وجه الروح العسكرية الصارمة، الممثلة فى قيادة المنطقة العسكرية الشمالية بالإسكندرية وفى وزارة الدفاع بالطبع.

وبطبيعة الحال، فليس فى وُسْع الثورة المصرية الحالية مهما تفاقمت، أن تغيِّر العقائد الراسخة التى نشأ عليها الجيش المصرى، أو النظم الصارمة التى درج عليها خلال المائتى عام الأخيرة، أو الصيغ الرئيسة للحياة العسكرية: نفذْ الأمر ولو غلط، نفذْ ثم تظلَّم.. ومع ذلك، فالجيش لا يعادى ثورة يناير، لا سيما أنها حققت له هدفاً كان عسير المنال. وليس الشك وارداً فى وطنية قواد الجيش أو أعضاء المجلس العسكرى الأعلى، بل ليس هناك ما يمنعهم من (تفهُّم) الحالة الثورية التى تجتاح مصر، وإن كان الفعل الثورى فى حد ذاته (يناقض) جميع القواعد والنظم العسكرية.. وفى هذا الإطار، فلا بأس بعد أن يطمئن الجيش المصرى على أن زمام البلاد لن ينفلت، من قيامه بما يرى أنه ترضية للنفوس الثائرة، بالوسائل الممكنة التى لا تتعارض مع طبيعة الروح العسكرية الحقة. كأن يعرب عن احترامه للشعب ومطالبه، وأن يعين للمجلس العسكرى الأعلى مستشاراً ثقافياً واجتماعياً بدرجة (رئيس وزراء مصر) وأن يصبر بالروح الأبوى على الثائرين على كل سلطة أبوية «بطريركية» .. لكن الجيش لن يسمح أبداً ولأى سبب كان، بأن يُهان، أو يحاصر قيادته ثائرون حتى لو زعموا أنهم يريدون إعلان مطالبهم المعلَنة بالفعل، أو بالأحرى التى شبعت إعلاناً.

هل سيترك المجلس العسكرى السلطة؟.. لا بد لنا أولاً أن نفرِّق بين السلطة السياسية، والقيادة. وأعتقد أن الجيش الذى يمثله المجلس العسكرى الذى يمثله المشير طنطاوى، لن يسعى للاستيلاء على السلطة السياسية فى مصر، ولن ينقلب على الشعب فيأخذ بالزمام عنوةً، ولن يسير على الدرب (المدنى) المفسد للروح العسكرية.. لكنه فى المقابل، لن يسمح لنفسه بالانقياد لأمر الثائرين فى المطلق، أو لأمر غير العالمين ببواطن الأمور (من وجهة نظر الجيش بالطبع) أو لأمر القافزين على الكراسى من دون أقدمية تؤهلهم لذلك.. بعبارةٍ أخرى، فإن الجيش الذى يقوده قُوَّاد، لن يسمح بأن يقود قُوَّاده واحدٌ من هؤلاء المذكورين. لأن ذلك يطيح من جديد، بالروح العسكرية الحافظة للجيش وللبلاد، ويترك (الوطن) كريشةٍ فى مهب الريح، أو لعبة بيدِ الصغار غير الواعين.

ومن هنا، فإن أقرب المدنيين مكاناً ومكانة عند العسكريين، هم أولئك الملتزمون بالدين. فهم من وجهة نظر الجيش: يتميزون بالرجولة (الذكورية) وبالانضباط (الشرعى) وبالتقدير المتبادل منذ تعاون الضباط «الأحرار» مع الإخوان «المسلمين» وبالتسامح فى سبيل الوطن، مع أن الإسلاميين تعرضوا للقهر على يد السلطة السياسية.. ولذلك، فلا بد أن نشهد فى الفترة المقبلة تقارباً بين العسكر والإسلاميين، ليس على قاعدة (التآمر) على الثورة، وإنما وفقاً لما يراه أولئك وهؤلاء أفضل سبيل للخروج من المأزق الثورى الحالى، وتلافياً لهذا التساقط السريع للوزارات المدنية التى تتالت بعد الثورة، حتى لم يعد الناس يتذكرون عدد الوزراء الذين تم استبدالهم فى الشهور الستة الماضية.

■ ■ ■

وأما الطموحات الثورية،
فقد أدت إلى فقدان البوصلة لأن موجات الثائرين المتوالية، تظن الموجة الأخيرة منها أن الثورة.. الثورة.. الثورة (على طريقة القذافى) هى السبيل الوحيد والغاية القصوى! مع أنه لا توجد ثورة فى المطلق، ولا ثورة إلا بتحديد الأهداف المرجوَّة، ولا ثورة إلا وفى يدها بوصلة.. فإذا كانت الثورة المصرية قد اندلعت فى يناير الماضى من أجل القضاء على فكرة التوريث، فقد قضت على الفكرة. وإذا كانت الثورة قد قامت لإسقاط مبارك، فقد سقط. وإن كانت الثورة قد قامت لمحاكمة كبار الفاسدين، فها هم تجرى محاكمتهم. وإذا كانت الثورة قد قامت لردِّ الاعتبار للناس من بعد طول مهانة، فقد حدث ذلك.

ما هو المطلب الثورى اليوم؟
.. إن كثرة المطالب وتداخلها وتصارعها، وعدم الاتفاق على أهمها، كلها أمور منذرة باستنفاد الثورة لقوتها، فضلاً عن ضياع البوصلة الموجِّهة لحركة الجماهير الثائرة التى أتوقع أن تتناقص تدريجياً.. وتتناقض داخليا.. وتتراجع رويداً..

■ ■ ■

وأما المطامع والتقافز من أجل الحصول على ثمرات الثورة، حتى من قبل زرع الأشجار، فهو أحد الأسباب المهمة فى فقدان المؤشر العام لاتجاه الثورة المصرية، وفى تخليط الحابل بالنابل مما أصاب (الهمة الثورية) فى الصميم.. وبالتالى يضيع الصوت الثورى الرشيد، بين صخب الزاعقين الذين فى كل وادٍ يهيمون ولا يتبعهم إلا الغاوون، والفاقدون للخبرة، والحانقون على الجيش والحكومة بسبب لعبة التغييرات الوزارية الشكلية التى تأتى بوزراء شباب (بين السبعين والثمانين عاماً) وبمساعدى الوزراء قبل الثورة، ليكونوا هم الوزراء بعد الثورة.. فكيف لا تضيع البوصلة الثورية من بعد ذلك كله؟

■ ■ ■

وأما التآمر ضد الثورة (داخلياً وخارجياً)
فهو أمر لا ينكره إلا جاهل. وإلا، فهل سيغفل المتآمرون (الأباعد) عن وقائع أعقبت الثورة، مثل إعادة العلاقات الحميمة مع دول منابع النيل، التى كانت ملعباً لإسرائيل..ومثل إعادة النظر فى اتفاقية الغاز.. ومثل التلويح من بعيدٍ باتفاقية كامب ديفيد.. ومثل ضرورة قيام مصر بدور فاعل فى المنطقة؟

هذا عن الأباعد من المتآمرين، وأما (الأقارب) أى المصريون الذين أطاحت الثورة بمصالحهم، فهؤلاء من الطبيعى أن يعملوا لإفقاد الثورة البوصلة.. بالتخطيط الإجرامى (موقعة الجمل) وبالقول الملتبس (الأحاديث التليفزيونية) وباستقطاب الثائرين (إلقاء اللُّقَيْمات).. لأن المثل المصرى السائر يقول «عُض قلبى ولا تعض رغيفى» ولا شك فى أن نتائج الثورة المصرية، تعض قلوب هؤلاء وأرغفتهم، وبالتالى فهى تستحق كراهيتهم، وسعيهم لإجهاضها وتضييع البوصلة الموجِّهة لها.

■ ■ ■

وبعد.. فقد كان أطباؤنا القدامى من أمثال العباقرة (الرازى، ابن سينا، ابن النفيس) يقولون: إن تشخيص العَرَض هو أول طريق الشفاء من المرض. ويقولون: إن الأمراض تُعالج بضدِّ الأسباب التى أدَّت إليها. ويقولون: إن المبادرة إلى علاج المرض الحاد المؤدى إلى الموت أهم من معالجة الأمراض المزمنة.. اللهم إنى قد بلَّغت، اللهم فاشهد بأننى فى شوقٍ إلى لقائك إن كنتَ قد قدَّرتَ لهذه الثورة أن تنهزم، فلا أظننى سوف أحتمل مزيداً من الألم.. فأرفقْ بنا يا قيوم.


آخر تعديل بواسطة aymaan noor ، 18-12-2011 الساعة 02:21 PM
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 18-12-2011, 03:48 PM
الصورة الرمزية محبه للرسول وال بيته
محبه للرسول وال بيته محبه للرسول وال بيته غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ التسجيل: Dec 2011
العمر: 30
المشاركات: 152
معدل تقييم المستوى: 13
محبه للرسول وال بيته is on a distinguished road
افتراضي

بارك الله فيك
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 20-12-2011, 08:57 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
المدير التنفيذي
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,982
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أ/ رضا محمود مشاهدة المشاركة
شكراجزيلا

على المعلومات والمجهود الطيب
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محبه للرسول وال بيته مشاهدة المشاركة
بارك الله فيك
جزاكم الله خيرا و بارك الله فيكم
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 21-12-2011, 01:41 AM
الصورة الرمزية الاستاذ محمد سرور
الاستاذ محمد سرور الاستاذ محمد سرور غير متواجد حالياً
العبد الفقير الى الله
 
تاريخ التسجيل: May 2008
المشاركات: 3,915
معدل تقييم المستوى: 20
الاستاذ محمد سرور will become famous soon enough
افتراضي

لو كان اليبراليون والعلمانيون حصدوا اغلب الاصوات للوصول الى الاغلبية فى المجلس
ما كنا لنرى مثل هذه المقالات
ولكنه النفس الاخير لمحاولة البعض لالغاء الانتخابات
والاسئلة المطروحة فى هذا الموضوع
*نتفق جميعا ان المجلس العسكرى له اخطاؤه الفادحة ...ولكن من يقف امامه ليردعه
لابد من سلطة لديها الشرعية للوقوف امامه ...كما فعلوا هم مع النظام السابق ووقفوا امامه
ولو انهم لم يقفوا لحماية الثورة ..لكان حالنا مثل سوريا الان ..

* للاسف .... نحن لا نقدر قيمة الشعب المصرى الذى خرج بالملايين فى الثورة
ووقتها كان شعب واعى ..لكن عندما اعطى صوته للاسلاميين اصبح شعب جاهل وامى
ولو كان اعطى صوته لغيرهم لاصبح شعب واعى

وكأن اعضاء نقابة المعلمين والاطباء والصيادلة والمهندسين والمحامين ..وغيرهم ممن اعطوا صوتهم للتيارات الاسلامية
اميين وجهلة

* اخيرا لابد على كل طرف فى هذا الشعب ان يكف عن الكلام المرسل والطعن فى الاخريين وليضع لنفسه برنامج يستطيع من خلاله المشاركة فى النهوض بهذه البلد ....بدلا من مقالات وبرامج حوارية كل قصدها محاربة الاخر
__________________
تمنيت أن أسجد لله سجدة لا أنهض بعدها أبدا" إلا لأرى ربى

اقتباس:
فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضّاً فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت)

صححه الالبانى

لو دخلتوا الجنة ومالقتونيش ...
إسألوا على واشفعولى عند ربى
رد مع اقتباس
  #11  
قديم 21-12-2011, 01:09 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
المدير التنفيذي
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,982
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond reputeaymaan noor has a reputation beyond repute
افتراضي تعليقُ الحكم ومأساةُ مكتبة الإسكندرية

تعليقُ الحكم ومأساةُ مكتبة الإسكندرية

ما قيمةُ «العقل» وما هى فائدته؟ العقلُ هو ما به يتميَّز الإنسانُ عن البهائم، وبه يكون تمييز الأشياء والحكم عليها، تمهيداً للوقوف منها موقفاً رشيداً والتصرف حيالها بحكمة.. ما معنى «الحضارة» وما أهميتها؟ الحضارة هى الموروثُ الفكرى والمادى (أو اللامحسوس والملموس) للجماعة الإنسانية، وهى الخبرةُ المتراكمة فى العقل الجمعى عبر الأجيال، وصولاً بالفرد والجماعة إلى حالة «التحضر» التى يمكن معها الحكم على الأشياء بشكل رشيد والتصرف حيالها بحكمة..

ما الصلة إذن، بين العقل والحضارة؟ الصلةُ هى التفاعلُ الداخلىُّ بينهما. فالحضارة نتاج العقل والتعقل والرشد الإنسانى، وفى المقابل من ذلك، فإن قدرات العقل تتطور بفعل الموروث الحضارى الجامع للأحكام والأفعال الرشيدة.

ما ورد فى الفقرة السابقة، هو (بديهيات) إذا غابت عن الأذهان، حطَّت من مكانة الإنسان وجعلته فى مرتبة الكائنات الدنيا، بل جعلته أدنى من الحيوان الأدنى. لأن الفرد والجماعة الإنسانية، كليهما، إذا غاب عنهما الحكمُ العقلى والفعلُ المتحضِّر صارا أسوأ حالاً من بهيمة الأنعام.

وفى مبتدأ هذه «السباعية» كتبتُ عن حالةٍ ذهنية خطيرةٍ تمر بها اليوم عقولنا الفردية وعقلنا الجمعى، هى حالة (المواجهة مع الجنون)، التى أشار إليها الفيلسوف الفرنسى الشهير «ديكارت» فى كتابه الأشهر: التأملات.. واليوم فى ختام (السباعية) أشير إلى حالةٍ ذهنيةٍ خطيرةٍ هى الأخرى، وهى الحالة التى طالما أشار إليها الفلاسفة، بل جعلها بعضهم كما سنرى موقفاً عاماً من الوجود.. هو الموقف المعروف فى تاريخ الفكر الإنسانى، باسم: مذهب تعليق الحكم.

حسبما يرى غالبية المؤرخين، فقد بدأت «الفلسفة» من اليونان القديمة. وإن كنتُ أرى خلافاً لهم أن اليونان القديمة لم تخترع الفلسفة (ولا المنطق) ولكنها كتبتها ونشرتها، بعدما تسلَّمت أصولها من مصر القديمة ثم طوَّرتها وتفنَّنت فيها. فليس مصادفةً أن أوائل فلاسفة اليونان وكبارهم، جاءوا إلى مصر وتعلَّموا فيها، فمن هؤلاء: طاليس «أول الفلاسفة» وفيثاغورس «أبدع الفلاسفة» وأفلاطون «أشهر الفلاسفة».. وقد ظل العقل اليونانى الوهَّاج يتطور بالفكر الفلسفى والعلمى،

حتى بلغ القمة مع العملاق (أرسطو) الذى أسماه العرب المسلمون: المعلِّم الأول. ولكن، لا يبقى بعد بلوغ القمة غير النـزول والانحدار، إذ لا يمكن المكوث فوق أى (قمة) فإما أن يواصل الإنسان الصعود أو يبدأ فى الهبوط من الجهة الأخرى.

وقد «استراح» العقل الإنسانى برهةً من بعد أرسطو، وهو الأمر الذى هبط بمستوى الفلسفة فى اليونان، فظهرت هناك ثم انتشرت المذاهبُ الفلسفيةُ المتأخرةُ، التى منها مذهب «الشكاك» الذين قرروا مبدأ: تعليق الحكم.

فى الفترة اليونانية المتأخرة، التى هى الفترة المبكرة من المسيحية، انتشرت مذاهب فلسفية متواضعة ومرهقة الذهن، رأت أنه من (المريح) للإنسان أن يتخذ من العالم موقفاً سلبياً رافضاً، وهو الأمر الذى نراه عند «الكلبيين» و«الشكاك»، الذين قال بعضهم إنه من العسير على العقل الإنسانى أن يحكم على الأشياء بالإيجاب أو بالسلب، لأن الحجج كلها متعادلة.

ففى كل خيرٍ شرٌّ، وبالعكس. وفى كل حقٍ شىءٌ من الباطل الملتبس معه، وبالعكس. وفى كل موقفٍ صائبٍ جانبٌ من الخطأ إذا نظرنا من زاوية أخرى، وبالعكس.. وعلى هذا الأساس، رأى هؤلاء أن (الأسلم) والأكثر راحة للذهن، هو عدم اتخاذ أى موقف من أى شىء، وتعليق الحكم (العقلى) على أى قضية.

وقد طوَّر الفيلسوف الألمانى الشهير «إدموند هوسِّرل» هذه الفكرة، وذهب بها مذهباً جديداً فى إطار فلسفته المسماة الظاهراتية (الفينومينولوجيا)، مستخدماً الكلمة اليونانية القديمة «إيبوخى» للتعبير عن المصطلح الفلسفى، الذى صار اليوم مشهوراً على الألسنة، ويستعمله كثيرٌ من الناس وهم لا يعلمون أصله وفحواه، وهو مصطلح: الوضع بين قوسين.. وهى الفكرة التى يشرحها لنا د. زكريا إبراهيم فى كتابه (دراسات فى الفلسفة المعاصرة) بقوله: لا تستطيع الفينومينولوجيا عند هوسرل،

اصطناع منهج الشك الديكارتى، الذى يرتاب فى كل شىء، بل تتبع منهج التوقف عن الحكم، وهو ما يسميه «هوسرل» إيبوكيا (إيبوخى) بأن يضع بعض القضايا بين قوسين، دون الاهتمام بالتوقف عندها، أو الاهتمام بها والحكم عليها..

هذا ما قرره «هوسِّرل»، الذى اخترع تعبير (الوضع بين القوسين) واستعمله كمبرر للتوقف عن إصدار الأحكام فى حالات معينة. وحسبما أرى، فإن فكرة «هوسرل» هذه، نقضٌ للفلسفة ونقيض لها، لأن العقل حين يتوقف عن إصدار الأحكام، ويستطيب «تعليق الحكم» يكون قد فقد قيمته وقلَّل من جدواه.. فإذا صار «العقل الجمعى» يفعل الشىء ذاته، حدث فى الجماعة الإنسانية ما يحدث مع الفرد حين يستسهل اللجوء إلى «تعليق الحكم»، وهو الحالُ الذى نمر به فى مصر الآن، كما سيأتى بيانه.

فى الليلة التى كتبتُ فيها هذه المقالة (السبت الماضى) كانت النار تأكل مبنى الجمعية العلمية المصرية (المجمع العلمى) وكانت أرواحٌ مصرية بريئة تُزهق فى الشوارع بغير رحمة، فيزيد فى الأمهات المصريات عدد الثكالى ويتأكد فشل «المجلس العسكرى» فى إدارة شؤون مصر، مع فضيحة جديدة تنضاف للرصيد الثقيل، الجامع لفضائح من مثل: فقء العيون بالطلقات فى شارع محمد محمود، الصفقات الخفية مع ممثلى الإسلام السياسى،

اللعب بورقة الانتخابات لاختيار برلمان «محدود الصلاحيات» والتبشير برئيس للبلاد سيأتى بعد شهور «محدود الصلاحيات» وتأكيد أن الشيخ الجنـزورى لديه صلاحيات غير محدودة..

ومن قبل ذلك: تسريب مشاهد فيديو موحية بأن «العسكر» هم الذين انقلبوا على «مبارك» وليس الثوار المصريون هم الذين قلبوه من فوق الكرسى إلى مزبلة التاريخ. مع أن الحقيقة التى لا يمكن الشك فيها، أو تعليق الحكم عليها، هى أن ثوار مصر هم الذين (قلبوا) مبارك،

وسوف يقلبون من بعده كل الذين يستحقون الإلقاء فى المزابل، مهما بادر هؤلاء بالقهر وبإلقاء جثث الشهداء فوق أكوام القمامة، وقاموا بتعرية الفتيات فى الطرقات وبِدَسِّ أصابع بعضهم فى مكمن الكاتبة الصحفية وبالكشف عن عذرية المتظاهرات فى ميدان التحرير إمعاناً فى إهانتهن.. ومهما كان من ترديد العبارة الجوفاء «الجيش حمى الثورة» من دون تمييز بين الجيش ومجلسه العسكرى، ومن دون بيان لمن تمت الحماية منه.

قطعٌ لازم.. إلى هذه المرأة المصرية (أياً مَنْ كانت) التى سحلها جنود الخسة والخيبة، وقاموا فى يوم عارٍ عليهم بتعرية جسمها إهانةً لشرفها.. إلى هذه المرأة المصرية الشريفة الحرة أقول: إن عُريك العلنى الذى رأيناه بعين الحسرة، هو عنوان شرفك وقد تعرَّت من قبلك، وسُحلت، الفيلسوفة السكندرية البديعة «هيباتيا» فما زادها ذلك إلا شرفاً وهيبة. ولو جرى مع ابنتى «آية» الويل الذى جرى معك، لافتخرتُ بها بقية عمرى ثم قضيته ثائراً لها.

قلبى يسيل بين ضلوعى، دمعات ألمى تسقط الآن على الأوراق، وأشطب كثيراً من الكلمات.. لا أستطيع مواصلة الكتابة.. سوف أكمل هذه المقالة فجر الغد، بعدما أبثُّ للبحر بعضاً من لوعتى وجزعى على ضمير مصر المهان على الملأ، على يد فئة فقدت الضمير فى شوارع مصر، وفى قنوات التليفزيون المصرية.. مصر التى أبدعت للإنسانية، لأول مرة،

فكرة الضمير. حسبما أكد «هنرى برستيد» فى كتابه (فجر الضمير).. كيف سأنام اللية.. لو ينفجر دماغى، فأستريح للأبد..

إن ما يجرى الآن أمام مجلس الوزراء موصولٌ بما جرى من قبل أمام ماسبيرو، وبما سيجرى مستقبلاً أمام كل أمام.. وقد صار واضحاً للجميع أنها فورات مصنوعة (مقصودة) تهدف للانحراف بمسار الثورة المصرية وتأخير نتائجها بقدر المستطاع،

وتشتيت التوجهات العامة بالإصرار على إجهاض الثورة وإبقاء الفورة.. صار هذا واضحاً اليوم للجميع، ومع ذلك فإن غيوماً إعلامية وإجهاداً ذهنياً مدعوماً بما لا حصر له من ألاعيب سياسية، أدى بعموم المصريين إلى حالة من فقدان القدرة على إصدار الأحكام، أو بعبارة أوضح: أوصل الناس إلى حالة تعليق الحكم.

لم يعد المصريون فى مجموعهم يتفقون على حكم واحد بصدد أى موقف، والأنكى من ذلك أننا صرنا نصدر أحكاماً متناقضة على الشىء ذاته. وصار فينا من يقول هذا أو يقول ذاك، على الرغم من التناقض التام بين القولين: الثوار هم ضمير مصر الحى،

الثوار هم نكبةٌ على البلاد.. الثورة تعنى الإصلاح الجذرى للفساد العام، الثورة تعنى الفوضى وقطع الأرزاق.. الجنـزورى مقبول كرئيس للوزراء، الجنـزورى مرفوض كرئيس للوزراء.. الجيش حمى الثورة بإخلاص قواده للبلاد، الثورة حمت الجيش وحققت مصالح قواده فى البلاد.. القواد قواد حقاً، حقاً القواد قواد.. المشيرُ بشيرٌ، المشيرُ خطيرٌ.. إلخ.

ولا يظننَّ واحدٌ من الساذجين أو البُلهاء، أن ما سبق من تناقض هو دليلٌ على «الديمقراطية» أو الرأى والرأى الآخر أو الخلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية.. إلى آخر هذه التعبيرات الساقطة الممجوجة. فالذى يجرى حقاً، هو حالة من التخبط المقصود إحداثه، للوصول بالناس إلى «الحيرة» ومن ثم إلى «تعليق الحكم».

ولكن موقف (تعليق الحكم) فى هذه الفترة الحرجة، معناه أن تزداد الفترة المقبلة حرجاً وإحراجاً وإخراجاً للثورة المصرية عن مسارها، وهو ما سوف يقود إلى كوارث مقبلة أشنع مما رأيناه سابقاً ونراه حالياً.. هذا ما ينطبق على (المأساة) فى عموم الديار المصرية، فماذا عن مأساة مكتبة الإسكندرية؟

قبل قيام ثورة يناير بقرابة عامين، كانت حكومة مبارك وأهل بيته قد قلبوا للمكتبة ظهر المِجَنّ (أى انقضى شهر العسل وبدأت أيام البصل) وهو ما ظهر واضحاً فى انصراف الرئيس المخلوع عن الاهتمام بأمر المكتبة، التى من المفروض أنه رئيسها.

وندرت زيارات زوجته التى كانت تزعم قبلها أن المكتبة أحد إنجازاتها العالمية (وهو زعم غير صحيح بالمرة، فالمكتبة صرح شيدته أيادٍ مصرية مخلصة خلال التسعينيات، بمعاونة دولية كبيرة)..

وقد ظهر هذا الحالُ الرئاسىُّ الجديد تجاه المكتبة، فى عدة تجليات أشهرها تقليص الميزانية السنوية، والاستيلاء على وديعة المكتبة وتبرعاتها التى بلغت مليار جنيه مصرى، أدخلها الرئيس المخلوع فى حساب خاص له ثم دخل لينام عليها مستدفئاً برصيدٍ مالىٍّ لا يعلم إلا الله مقداره.

وقبل قرابة عام، كان الشاغل الرئيس لنا فى مكتبة الإسكندرية، هو كيف يمكن ضبط إيقاع الأنشطة ونفقات الإدارات، لتناسب التخفيض المتوالى للميزانية الحكومية (مع أن للمكتبة وديعة منهوبة تتجاوز المليار جنيه) وكان الطريق الأنسب هو عمل شراكات مع الجهات الدولية لإنجاز أعمال مموَّلة. وهو الأمر الذى كان نجاحه قد بدأ، مع عدة مشروعات مشتركة وفرت كثيراً من وجوه التمويل لأنشطة المكتبة (الأمثلة على ذلك لا تقع تحت الحصر).

وقبل عدة شهور، بدأ البعض هجوماً إعلامياً على المكتبة ومديرها، وتقلصت الميزانية التى كانت متقلِّصة من قبل، واعترف المخلوع بنهبه أموال المكتبة، لكن المنهوب لم يعد ملكاً للمكتبة (لا تسألنى لماذا؟) وبدأت القلاقل تزحف إلى ساحة المكتبة المسماة «البلازا» فصارت محلاً للمتظاهرين وللمطالبين بالإصلاح وللناعقين الزاعقين فى كل وادٍ.

. واضطربت الأحوال، فارتبك المدير (د . إسماعيل سراج الدين) وكادت المشروعات والخدمات تتوقف مع إهمال المسألة برمتها، نظراً للانشغال العام بما هو أعمّ. وقبل شهرين، انتشرت شائعة أو خبر خطير يقول إن مدير المكتبة «إسماعيل سراج الدين» ينوى إنهاء تعاقد ستة من العاملين، تعسفياً، فخرج جماعة من العاملين للتظاهر فى ساحة المكتبة،

وأعلنوا على لافتة كتبوها على عجل، عبارة (عفواً المكتبة مغلقة للإصلاح) فنـزل إليهم المدير للتحاور فحاصروه وكادوا يفتكون به، فجاء إليهم ضابط من الجيش وأخبرهم بما نصه «سيادة المشير مهتم شخصياً بمطالبكم، وسوف يأتيكم رده خلال ساعات، أو غداً على الأكثر» فهاجت مع هذا التشجيع الضمنى خواطرُ الكثير من العاملين،

وانضموا للمتظاهرين ضد المدير، وأجمعوا على مطلب واحد هو رحيل إسماعيل سراج الدين (دون طرح بديل له) وجمعوا على ذلك توقيعات بلغت ألفاً وسبعمائة.. وبعد ثلاثة أيام، أعلن مجلس الوزراء (حكومة شرف)، الذى كان يقوم بدور السكرتارية للمجلس العسكرى، عن تجديده للثقة فى المدير..

قطعٌ آخر: رنَّ جرس تليفونى طويلاً، فتركت الكتابة لأردَّ على المتصل اللحوح، فجاءنى صوت شاب مصرى قال إنه واحد من قرائى، وإنه يتكلم من أمام مبنى «المجمع العلمى» ومعه أوراق كثيرة وخرائط أثرية من التى كانت محفوظة هناك (الساعة الآن بلغت الثانية عشرة من ظهر الأحد 18 ديسمبر) وأكَّد لى أن هناك الآلاف من هذه الوثائق النادرة ملقاة فى الطرقات، وهو يريدنى أن أرسل سيارة من مكتبة الإسكندرية لنقل هذا التراث، لأن بعض الناس يقدمونه للجيش وهو ليس جهة اختصاص.. قلت له، ضع ما معك فى كنيسة «قصر الدوبارة» مع ما تم جمعه هناك منذ الأمس،

فسألنى: هل سترسل سيارة الآن؟ قلت: لا أعرف، فالعمل معطل فى المكتبة لأن الموظفين المناصرين لإسماعيل سراج الدين خرجوا فى تظاهرة لمواجهة الموظفين الثائرين ضده، وقد يتقاتل الجمعان أو يندسُّ بينهم من يؤجج نار الخلاف فتحتدم المأساة.

جدَّد مجلس الوزراء (ومجلس الأمناء) الثقة فى إسماعيل سراج الدين مديراً للمكتبة فهاج الثائرون ضده ونشروا ما سموه (ملفات الفساد) وسماه المدير (أخطاء إدارية سوف يتم تصحيحها).. اللافت للنظر هنا، أن أكثر من مائة واقعة من هذه الموصوفة بالوصفين المذكورين، يجرى التحقيق فيها فى (النيابة) منذ عدة شهور. ولم تصل النيابة إلى قرار، فلا هى حفظت التحقيقات وأبرأت ذمة المدير من التهم، ولا هى أحالتها إلى المحكمة كى يدافع عن نفسه بالطرق القانونية.. وظل الأمر معلَّقاً، واختلفت الآراء مع المدير وضده، حتى صار من العسير إصدار حكم على المسألة. بعبارةٍ أخرى،

أدت حالة (تعليق الحكم) وعدم (حسم الحكم) إلى مأساة مكتبة الإسكندرية، التى تنذر بانهيارٍ ودمارٍ تامٍّ لن تستطيع مصر (المحروسة) ولا غير مصر، تعويضه.

. بينما تتسارع مستويات الهبوط والانحدار، ويجرى حالياً تبادل الاتهام بين أولئك وهؤلاء (المؤيدين للمدير والمعارضين).. المدير ومؤيدوه يؤكدون أنهم ماضون قُدماً فى طريق الإصلاح، لكن الثائرين يصرون على تعطيل العمل.

. المدير يقول إنه بدأ بالفعل فى تصحيح الأخطاء السابقة (التى تشفع لها إنجازات كثيرة) والثائرون على المدير يقولون إنه يسير على خُطى مبارك، ويخرِّب المكتبة بسيلٍ من القرارات التى لا يمكن معها إصلاح المكتبة مستقبلاً..

والمراقبون للأمر والمتابعون له من قريب ومن بعيد، لا يملكون فى غمرة هذا الاضطراب (المقصود وقوعه) اتخاذ موقف واضح، لغلبة الحيرة ونـزعة (تعليق الحكم) على أذهانهم..

ماذا بعد؟.. لن نقع فى فخ «تعليق الحكم» أكثر من ذلك، بل نقول بإصرارٍ وعقلانية وتحضُّر: مهما كان من حالة الذهول الذهنى العام، ومن المواجهة العامة مع الجنون، ومن فقدان العقل الجمعى للقدرة على الحكم العقلانى، ومن الصخب المفتعل المشوِّش على الناس، ومن الحيل التى كانت مستورة فصارت مكشوفة.. مهما كان من ذلك كله، فلسوف تستفيق هذه البلاد وتنتصر ثورتها فى خاتمة المطاف.. لا محالة.

رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 05:07 PM.