|
محمد ﷺ نبينا .. للخير ينادينا سيرة سيد البشر بكل لغات العالم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
السيرة النبوية -عرض وقائع وتحليل احداث
الجـزء الأول د.على محمد الصلابى بسم الله الرحمن الرحيم مقدمـــــة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ([آل عمران:102]. )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا([النساء:1] )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا` يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا([الأحزاب:70-71] يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، ولك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى، أما بعد: فإن دراسة الهدي النبوي أمر له أهميته لكل مسلم، فهو يحقق عدة أهداف من أهمها: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال معرفة شخصيته وأعماله وأقواله وتقريراته، وتكسب المسلم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وتنميها وتباركها، ويتعرف على حياة الصحابة الكرام الذين جاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتدعوه تلك الدراسة لمحبتهم والسير على نهجهم واتباع سبيلهم، كما أن السيرة النبوية توضح للمسلم حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، بدقائقها وتفاصيلها, منذ ولادته وحتى موته، مرورًا بطفولته وشبابه ودعوته وجهاده وصبره، وانتصاره على عدوه، وتظهر بوضوح أنه كان زوجًا وأبًا وقائدًا ومحاربًا، وحاكمًا، وسياسيًا ومربيًا وداعية وزاهدًا وقاضيًا، وعلى هذا فكل مسلم يجد بغيته فيها([1]) فالداعية يجد له في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أساليب الدعوة، ومراحلها المتسلسلة، ويتعرف على الوسائل المناسبة لكل مرحلة من مراحلها، فيستفيد منها في اتصاله بالناس ودعوتهم للإسلام، ويستشعر الجهد العظيم الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل إعلاء كلمة الله، وكيفية التصرف أمام العوائق والعقبات، والصعوبات وما هو الموقف الصحيح أمام الشدائد والفتن؟ ويجد المربي في سيرته صلى الله عليه وسلم دروسًا نبوية في التربية والتأثير على الناس بشكل عام, وعلى أصحابه الذين رباهم على يده وكلأهم بعنايته، فأخرج منهم جيلاً قرآنيًا فريدًا، وكوَّن منهم أمة هي خير أمة أخرجت للناس, تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وأقام بهم دولة نشرت العدل في مشارق الأرض ومغاربها، ويجد القائد المحارب في سيرته صلى الله عليه وسلم نظامًا محكمًا، ومنهجًا دقيقًا في فنون قيادة الجيوش والقبائل والشعوب والأمة، فيجد نماذج في التخطيط واضحة، ودقة في التنفيذ بينة, وحرصًا على تجسيد مبادئ العدل وإقامة قواعد الشورى بين الجند والأمراء والراعي والرعية، ويتعلم منها السياسي كيف كان صلى الله عليه وسلم يتعاملمع أشد خصومه السياسيين المنحرفين، كرئيس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر والبغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف كان يحوك المؤامرات، وينشر الإشاعات التي تسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لإضعافه وتنفير الناس منه، وكيف عامله صلى الله عليه وسلم ، وصبر عليه وعلى حقده, حتى ظهرت حقيقته للناس فنبذوه جميعًا حتى أقرب الناس له وكرهوه والتفوا حول قيادة النبي صلى الله عليه وسلم. ويجد العلماء فيها ما يعينهم على فهم كتاب الله تعالى؛ لأنها هي المفسرة للقرآن الكريم في الجانب العملي، ففيها أسباب النزول، وتفسير لكثير من الآيات فتعينهم على فهمها, والاستنباط منها, ومعايشة أحداثها، فيستخرجون أحكامها الشرعية، وأصول السياسة الشرعية، ويحصلون منها على المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة، وبها يدركون الناسخ والمنسوخ وغيرها من العلوم، وبذلك يتذوقون روح الإسلام ومقاصده السامية، ويجد فيها الزهاد معاني الزهد وحقيقته ومقصده، ويستقي منها التجار مقاصد التجارة وأنظمتها وطرقها، ويتعلم منها المبتلون أسمى درجات الصبر والثبات، فتقوى عزائمهم على السير في طريق دعوة الإسلام وتعظم ثقتهم بالله عز وجل، ويوقنوا أن العاقبة للمتقين([2]). وتتعلم منها الأمة الآداب الرفيعة، والأخلاق الحميدة، والعقائد السليمة، والعبادة الصحيحة، وسمو الأخلاق، وطهارة القلب، وحب الجهاد في سبيل الله, وطلب الشهادة في سبيله؛ ولهذا قال علي بن الحسن: «كنا نُعلَّم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نُعلَّم السورة من القرآن» سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت عمي الزهري يقول: «في علم المغازي علم الآخرة والدنيا»([3]). وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: «كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدها علينا ويقول هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها» ([4]). إن دراسة الهدي النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة، يساعد العلماء والقادة والفقهاء والحكام على معرفة الطريق إلى عز الإسلام والمسلمين, من خلال معرفة عوامل النهوض، وأسباب السقوط، ويتعرفون على فقه النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأفراد وبناء الجماعة المسلمة، وإحياء المجتمع، وإقامة الدولة، فيرى المسلم حركةَ النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة, والمراحل التي مر بها وقدرته على مواجهة أساليب المشركين في محاربة الدعوة، وتخطيطه الدقيق في الهجرة إلى الحبشة، ومحاولته إقناع أهل الطائف بالدعوة، وعرضه لها على القبائل في المواسم، وتدرُّجه في دعوة الأنصار ثم هجرته المباركة إلى المدينة. إن من تأمل حادثة الهجرة، ورأى دقة التخطيط ودقة التنفيذ من ابتدائها إلى انتهائها, ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها, يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قائم، وأن التخطيط جزء من السنة وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم. إن المسلم يتعلم من المنهاج النبوي كل فنون إدارة الصراع والبراعة في إدارة كل مرحلة وفي الانتقال من مستوى إلى آخر, وكيف واجه القوى المضادة من اليهود والمنافقين والكفار والنصارى, وكيف تغلب عليها كلها بسبب توفيق الله تعالى والالتزام بشروط النصر وأسبابه التي أرشد إليها المولى عز وجل في كتابه الكريم. إن قناعتي الراسخة في التمكين لهذه الأمة وإعادة مجدها وعزتها وتحكيم شرع ربها منوط بمتابعة الهدي النبوي, قال تعالى: ( قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) [النور:54]. فقد بينت الآية الكريمة أن طريق التمكين في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاءت الآيات التي بعدها تتحدث عن التمكين وتوضح شروطه قال تعالى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ` وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[النور:55-56]. وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بتحقيق شروط التمكين، فحققوا الإيمان بكل معانيه وكافة أركانه، ومارسوا العمل الصالح بكل أنواعه وحرصوا على كل أنواع الخير وصنوف البر، وعبدوا الله عبودية شاملة في كافة شؤون حياتهم، وحاربوا الشرك بكل أشكاله وأنواعه وخفاياه، وأخذوا بأسباب التمكين المادية والمعنوية على مستوى الأفراد والجماعة, حتى أقاموا دولتهم في المدينة؛ ومن ثم نشروا دين الله بين الشعوب والأمم. إن تأخر المسلمين اليوم عن القيادة العالمية لشعوب الأرض نتيجة منطقية لقوم نسوا رسالتهم، وحطوا من مكانتها، وشابوا معدنها بركام هائل من الأوهام في مجال العلم والعمل على حد سواء، وأهملوا السنن الربانية، وظنوا أن التمكين قد يكون بالأماني والأحلام. إن هذا الضعف الإيماني والجفاف الروحي، والتخبط الفكري والقلق النفسي، والشتات الذهني، والانحطاط الخلقي الذي أصاب المسلمين بسبب الفجوة الكبيرة التي حدثت بين الأمة والقرآن الكريم والهدي النبوي الشريف، وعصر الخلفاء الراشدين، والنقاط المشرقة المضيئة في تاريخنا المجيد. أما ترى معي ظهور الكثير من المتحدثين باسم الإسلام, وهم بعيدون كل البعد عن القرآن الكريم والهدي النبوي، وسيرة الخلفاء الراشدين، وأدخلوا في خطابهم مصطلحات جديدة ومفاهيم مائعة نتيجة الهزيمة النفسية أمام الحضارة الغربية، وأصبحوا يتلاعبون بالألفاظ ويَلْوُونها، ويتحدثون الساعات الطوال، ويدبجون المقالات، ويكتبون الكتب في فلسفة الحياة والكون والإنسان، ومناهج التغيير ولا نكاد نلمس في حديثهم أو نلاحظ في مقالاتهم عمقا في فهم فقه التمكين، وسنن الله في تغير الشعوب وبناء الدول من خلال القرآن الكريم والمنهاج النبوي الشريف أو دعوة الأنبياء والمرسلين لشعوبهم أو تقصيًّا لتاريخنا المجيد، فيخرجوا لنا، عوامل النهوض عند نور الدين محمود، أو صلاح الدين، أو يوسف بن تاشفين، أو محمود الغزنوي، أو محمد الفاتح ممن ساروا على الهدي النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة, بل يستدلون ببعض الساسة أو المفكرين والمثقفين من الشرق أو الغرب ممن هم أبعد الناس عن الوحي السماوي والمنهج الرباني. وأنا لست ممن يعارض الاستفادة من تجارب الشعوب والأمم فالحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنَّى وجدها، ولكنني ضد الذين يجهلون أو يتجاهلون المنهاج الرباني، وينسون ذاكرة الأمة التاريخية المليئة بالدروس والعبر والعظات، ثم بعد ذلك يحرصون على أن يتصدروا قيادة المسلمين بأهوائهم وآرائهم البعيدة عن نور القرآن الكريم والهدي النبوي الشريف. ومن أجمل ما قاله ابن القيم: والله ما خوفي من الذنوب فإنها لعلى --- طريق العفو والغفران لكنما أخشى انسلاخ القلب عن تحكيم --- هذا الوحي والقرآن ورضا بآراء الرجال وخرصها --- لا كان ذاك بمنة الرحمن إننا في أشد الحاجة لمعرفة المنهاج النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة، ومعرفة سنن الله في الشعوب والأمم والدول، وكيف تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم عندما انطلق بدعوة الله في دنيا الناس حتى نلتمس من هديه صلى الله عليه وسلم الطريق الصحيح في دعوتنا والتمكين لديننا، ونقيم بنياننا على منهجية سليمة مستمدة أصولها وفروعها من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم قال تعالى:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا)[الأحزاب:21]. فقد كان فقه النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأمة وإقامة الدولة شاملاً ومتكاملاً ومتوازنًا, وخاضعًا لسنن الله في المجتمعات وإحياء الشعوب وبناء الدول، فتعامل صلى الله عليه وسلم مع هذه السنن في غاية الحكمة وقمة الذكاء، كسنة التدرج، والتدافع، والابتلاء، والأخذ بالأسباب، وتغيير النفوس، وغرس صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه المنهج الرباني وما يحمله من مفاهيم وقيم وعقائد وتصورات صحيحة عن الله والإنسان، والكون والحياة والجنة والنار، والقضاء والقدر، وكان الصحابة رضي الله عنهم يتأثرون بمنهجه في التربية غاية التأثر ويحرصون كل الحرص على الالتزام بتوجيهاته فكان الغائب إذا حضر من غيبته يسأل أصحابه عما رأوا من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وعن تعليمه وإرشاده وعما نزل من الوحي حال غيبته، وكانوا يتبعون خطى الرسول صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة، ولم يكونوا يقصرون هذا الاستقصاء على أنفسهم، بل كانوا يلقنونه لأبنائهم ومن حولهم. ففي هذا الكتاب تقصٍّ لأحداث السيرة، فيتحدث عن أحوال العالم قبل البعثة، والحضارات السائدة والأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخلقية في زمن البعثة، وعن الأحداث المهمة قبل المولد النبوي، وعن نزول الوحي، ومراحل الدعوة، والبناء التصوري والأخلاقي والتعبدي في العهد المكي، وعن أساليب المشركين في محاربة الدعوة، وعن الهجرة إلى الحبشة، ومحنة الطائف، ومنحة الإسراء والمعراج، والطواف على القبائل، ومواكب الخير وطلائع النور من أهل يثرب, والهجرة النبوية، ويقف الكتاب بالقارئ على الأحداث مستخرجا منها الدروس والعبر والفوائد لكي يستفيد منها المسلمون في عالمنا المعاصر. -------------------------- ([1]) انظر: السيرة النبوية دراسة وتحليل، د. محمد أبو فارس، ص50. ([2]) انظر: مدخل لدراسة السيرة، د. يحيى اليحيى، ص14. ([3]) البداية والنهاية: لابن كثير(3/256، 257) ط/ دار المعرفة، (3/242) ط2/1978م مكتبة المعارف – لبنان ، مكتبة النصر- الرياض. ([4]) انظر: البداية والنهاية (2/242). |
#2
|
||||
|
||||
وتحدث عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم منذ دخوله المدينة إلى وفاته, وبين فقه النبي صلى الله عليه وسلمفي إرساء دعائم المجتمع وتربيته ووسائله في بناء الدولة، ومحاربة أعدائها في الداخل والخارج، فيقف الباحث على فقه النبي صلى الله عليه وسلم في سياسة المجتمع ومعاهداته مع أهل الكتاب التي سجلت في الوثيقة, وحركته الجهادية، ومعالجته الاقتصادية والارتقاء بالمسلم نحو مفاهيم هذا الدين, الذي جاء لإنقاذ البشرية من دياجير الظلام، وعبادة الأوثان، وانحرافها عن شريعة الحكيم المتعال، وقد حاولت أن أعالج مشكلة اختزال السيرة النبوية في أذهان الكثير من أبناء الأمة، ففي العقود الماضية ظهرت دراسات رائعة في مجال السيرة النبوية، وكتب الله لها قبولاً وانتشارًا، كالرحيق المختوم، لصفي الدين المباركفوري، وفقه السيرة للغزالي، وفقه السيرة النبوية للبوطي، والسيرة النبوية لأبي الحسن الندوي، وكانت هذه الدراسات مختصرة، ولم تكن شاملة لأحداث السيرة، واعتمدت بعض الجامعات هذه الكتب، وظن بعض طلابها أن من استوعب هذه الكتب فقد أحاط بالسيرة النبوية، وهذا – في رأيي-خطأ فادح وخطير في حق السيرة النبوية المشرفة، وقد تسرب هذا الأمر إلى بعض أئمة المساجد وبعض قيادات الحركات الإسلامية، وانعكس ذلك على الأتباع فأحدث تصورًا ناقصًا للسيرة عند كثير من الناس، وقد حذر الشيخ محمد الغزالي من خطورة هذا التصور في نهاية كتابه فقه السيرة فقال: قد تظن أنك درست حياة محمد صلى الله عليه وسلم إذا تابعت تاريخه من المولد إلى الوفاة، وهذا خطأ بالغ. إنك لن تفقه السيرة حقًّا إلا إذا درست القرآن الكريم والسنة المطهرة، وبقدر ما تنال من ذلك، تكون صلتك بنبي الإسلام([1]). ففي هذه الدراسة يجد القارئ تسليط الأضواء على البعد القرآني الذي له علاقة بالسيرة النبوية، كغزوة بدر، وأحد، والأحزاب، وبني النضير، وصلح الحديبية، وغزوة تبوك، فبيَّن الباحث الدروس والعبر، وسنن الله في النصر والهزيمة، وكيف عالج القرآن الكريم أمراض النفوس من خلال الأحداث والوقائع؟ إن السيرة النبوية تعطي كل جيل ما يفيده في مسيرة الحياة، وهي صالحةٌ لكل زمان ومكان ومُصلِحةٌ كذلك. لقد عشت سنين من عمري في البحث في القرآن الكريم والسيرة النبوية, فكانت من أفضل أيام حياتي، فنسيت أثناء البحث غربتي وهجرتي، وتفاعلت مع الدرر والكنوز والنفائس الموجودة في بطون المراجع والمصادر، فعملت على جمعها وترتيبها وتنسيقها وتنظيمها حتى تكون في متناول أبناء أمتي العظيمة، وقد لاحظت التفاوت في ذكر الدروس والعبر والفوائد والأحداث بين كتاب السيرة قديما وحديثا، فأحيانًا يذكر ابن هشام ما لم يذكره الذهبي، ويذكر ابن كثير ما لم يذكره أصحاب السنن هذا قديما، أما حديثا فقد ذكر السباعي ما لم يذكره الغزالي، وذكر البوطي ما لم يذكره الغضبان، وهكذا. ووجدت في التفسير، وشروح الحديث، كفتح الباري، وشرح النووي، وكتب الفقهاء ما لم يذكره كُتَّاب السيرة قديمًا ولا حديثًا؛ فأكرمني الله تعالى بجمع تلك الدروس والعبر والفوائد، ونظمتها في عقد جميل يسهل الاطلاع عليه، ويساعد القارئ على تناول تلك الثمار اليانعة بكل سهولة. إن في هذا الكتاب حصيلة علمية وأفكار عملية جمعت من مئات المراجع والمصادر، وقد أثرى هذا الجهد بالحوار والنقاش والندوات، فأفاد بعضهم في الإشارة إلى بعض المراجع والمصادر النادرة وعمل على توفيرها، والبعض الآخر أرشد إلى ضرورة التركيز على السنن والقوانين التي تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم في حركته المباركة، كقانون الفرصة في فتح خيبر، وفتح مكة، وأشار البعض إلى أهمية ربط السيرة التاريخية بالسيرة السلوكية, والسيرة المعبر عنها بحديث شريف أو فعل نبوي والسيرة كما يقررها القرآن الكريم- ببعضها ومزجها في منهجية متناسقة- تمد أبناء الجيل بعلم غزير، وفقه عميق، وعاطفة جياشة، فهي غذاء للروح، وتثقيف للعقول وحياة للقلوب، وصفاء للنفوس. إن السيرة النبوية غنية في كل جانب من الجوانب التي تحتاجها مسيرة الدعوة الإسلامية، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يلتحق بالرفيق الأعلى إلا بعد أن ترك سوابق كثيرة لمن يريد أن يقتدي به في الدعوة والتربية والثقافة والتعليم والجهاد، وكافة شؤون الحياة، كما أن التعمق في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يساعد القارئ على التعرف على الرصيد الخلقي الكبير الذي تميز به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل البشر ويتعرف على صفاته الحميدة التي عاش بها في دنيا الناس فيرى من خلال سيرته مصداق قول حسان بن ثابت t عندما قال: وأجمل منك لم تر قط عيني --- وأفضل منك لم تلد النساء خُلقت مبرءا من كل عيبٍ --- كأنك قد خلقت كما تشاء هذا ولا أدعي أني أتيت بما لم تستطعه الأوائل، فشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبير، وتوضيح بعض معالم سيرته يحتاج إلى نفس أرق، وفقه أدقّ وذكاء أكبر وإيمان أعمق، كما أنني لا أدعي لعملي هذا العصمة أو الكمال، فهذا شأن الرسل والأنبياء، ومن ظن أنه قد أحاط بالعلم فقد جهل نفسه، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)[الإسراء:85]. فالعلم بحر لا شاطئ له وما أصدق الشاعر إذ يقول: وقل لمن يدّعي في العلم فلسفة --- حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء يقول الثعالبي: لا يكتب أحد كتابا فيبيت عنده ليلة إلا أحب في غيرها أن يزيد فيه أو ينقص منه، هذا في ليلة، فكيف في سنين معدودة؟ وقال العماد الأصبهاني: إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابًا في يومه إلا قال في غده، لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر.. وأخيرًا أرجو من الله تعالى أن يكون عملاً لوجهه خالصًا, ولعباده نافعًا, وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثيب إخواني الذين أعانوني بكافة ما يملكون من أجل إتمام هذا الكتاب قال الشاعر: أسير خلف ركاب القوم ذا عرج --- مؤملا جبر ما لاقيت من عوج فإن لحقت بهم من بعد ما سبقوا --- فكم لرب السماء في الناس من فرج وإن ظللت بقفر الأرض منقطعا --- فما على أعرج في ذاك من حرج سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورضوانه علي محمــــــد الصلابي 18رجب 1421هـ 16 أكتوبر 2000م ----------------- ([1]) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص476.
|
#3
|
||||
|
||||
الفصل الأول أهم الأحداث التاريخية من قبل البعثة حتى نزول الوحي المبحث الأول الحضارات السائدة قبل البعثة ودياناتها أولاً: الإمبراطورية الرومانية: كانت الإمبراطورية الرومانية الشرقية تعرف بالإمبراطورية البيزنطية، فكانت تحكم دول اليونان والبلقان وآسيا وسوريا وفلسطين وحوض البحر المتوسط بأسره, ومصر وكل إفريقيا الشمالية، وكانت عاصمتها القسطنطينية، وكانت دولة ظالمة مارست الظلم والجور والتعسف على الشعوب التي حكمتها، وضاعفت عليها الضرائب، وكثرت الاضطرابات والثورات، وكانت حياتهم العامة قائمة على كل أنواع اللهو واللعب والطرب والترف. أما مصر فكانت عرضة للاضطهاد الديني والاستبداد السياسي، واتخذها البيزنطيون شاة حلوبا يحسنون حلبها، ويسيئون علفها. وأما سوريا فقد كثرت فيهم المظالم والرقيق، ولا يعتمدون في قيادة الشعب إلا على القوة والقهر الشديد، وكان الحكم حكم الغرباء، الذي لا يشعر بأي عطف على الشعب المحكوم، وكثيرا ما كان السوريون يبيعون أبناءهم ليوفوا ما كان عليهم من ديون([1]). كان المجتمع الروماني مليئا بالتناقض والاضطرابات، وقد جاء تصويره في كتاب «الحضارة ماضيها وحاضرها» كالآتي: «كان هناك تناقض هائل في الحياة الاجتماعية للبيزنطيين، فقد رسخت النزعة الدينية في أذهانهم، وعمت الرهبانية، وشاعت في طول البلاد وعرضها، وأصبح الرجل العادي في البلاد يتدخل في الأبحاث الدينية العميقة، والجدل البيزنطي، ويتشاغل بها، كما طبعت الحياة العادية العامة بطابع المذهب الباطني، ولكن نرى هؤلاء - في جانب آخر- حريصين أشد الحرص على كل نوع من أنواع اللهو واللعب، والطرب والترف، فقد كانت هناك ميادين رياضية واسعة تتسع لجلوس ثمانين ألف شخص، يتفرجون فيها على مصارعات بين الرجال والرجال أحيانًا، وبين الرجال والسباع أحيانًا أخرى، وكانوا يقسمون الجماهير في لونين: لون أزرق ولون أخضر، لقد كانوا يحبون الجمال، ويعشقون ال*** والهمجية، وكانت ألعابهم دموية ضارية أكثر الأحيان، وكانت عقوبتهم فظيعة تقشعر منها الجلود، وكانت حياة سادتهم وكبرائهم عبارة عن المجون والترف، والمؤامرات والمجاملات الزائدة، والقبائح والعادات السيئة»([2]). ثانيًا: الإمبراطورية الفارسية: كانت الإمبراطورية الفارسية تعرف بالدولة الفارسية أو الكسروية، وهي أكبر وأعظم من الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وقد كثرت فيها الديانات المنحرفة كالزرادشتية والمانية التي أسسها ماني في أوائل القرن الثالث الميلادي، ثم ظهرت المزْدكية في أوائل القرن الخامس الميلادي التي دعت إلى ال*****ة في كل شيء؛ مما أدى إلى انتشار ثورات الفلاحين وتزايد النهابين للقصور فكانوا يقبضون أو يأسرون النساء ويستولون على الأملاك والعقارات فأصبحت الأرض والمزارع والدور كأن لم تسكن من قبل. وكان ملوكهم يحكمون بالوراثة، ويضعون أنفسهم فوق بني آدم، لأنهم يعتبرون أنفسهم من نسل الآلهة، وأصبحت موارد البلاد ملكًا لهؤلاء الملوك يتصرفون فيها ببذخ لا يتصور, ويعيشون عيش البهائم، حتى ترك كثير من المزارعين أعمالهم أو دخلوا الأديرة والمعابد فرارًا من الضرائب والخدمة العسكرية، وكانوا وقودًا حقيرًا في حروب طاحنة مدمرة قامت في فترات من التاريخ دامت سنين طوال بين الفرس والروم لا مصلحة للشعوب فيها إلا تنفيذ نزوات ورغبات الملوك([3]). ------------------- ([1]) انظر: السيرة النبوية للندوي ص31.
([2]) انظر: السيرة النبوية ص31. (2) نفس المصدر ص32، 33. |
#4
|
||||
|
||||
ثالثـًا: الهند: اتفقت كلمة المؤرخين على أن أحط أدوارها ديانة وخلقا واجتماعا وسياسة - ذلك العهد الذي يبتدئ من مستهل القرن السادس الميلادي، فانتشرت الخلاعة حتى في المعابد؛ لأن الدين أعطاها لونًا من القدس والتعبد، وكانت المرأة لا قيمة لها ولا عصمة، وانتشرت عادة إحراق المرأة المتوفى زوجها، وامتازت الهند عن أقطار العالم بالتفاوت الفاحش بين طبقات الشعب، وكان ذلك تابعا لقانون مدني سياسي ديني وضعه المشرعون الهنديون الذين كانت لهم صفة دينية، وأصبح هو القانون العام في المجتمع ودستور حياتهم، وكانت الهند في حالة فوضى وتمزق, انتشرت فيها الإمارات التي اندلعت بينها الحروب الطاحنة، وكانت بعيدة عن أحداث عالمها في عزلة واضحة يسيطر عليها التزمت والتطرف في العادات والتقاليد, والتفاوت الطبقي والتعصب الدموي والسلالي، وقد تحدث مؤرخ هندوكي- أستاذ للتاريخ في إحدى جامعات الهند- عن عصر سابق لدخول الإسلام في الهند فقال: «كان أهل الهند منقطعين عن الدنيا، منطوين على أنفسهم، لا خبرة عندهم بالأوضاع العالمية، وهذا الجهل أضعف موقفهم، فنشأ فيهم الجمود، وعمت فيهم أمارات الانحطاط والتدهور، كان الأدب في هذه الفترة بلا روح، وهكذا كان الشأن في الفن المعماري، والتصوير، والفنون الجميلة الأخرى»([1]). «وكان المجتمع الهندي راكدًا جامدًا، كان هناك تفاوت عظيم بين الطبقات وتمييز معيب بين أسرة وأسرة، وكانوا لا يسمحون بزواج الأيامى، ويشددون على أنفسهم في أمور الطعام والشراب، أما المنبوذون فكانوا يعيشون مضطرين خارج بلدهم ومدينتهم»([2]). كان تقسيم سكان الهند إلى أربع طبقات: 1- طبقة الكهنة ورجال الدين، وهم (البراهمة). 2- ورجال الحرب والجندية وهم (شترى). 3- ورجال الفلاحة والتجارة وهم (ويش). 4- ورجال الخدمة وهم (شودر) وهم أحط الطبقات، فقد خلقهم خالق الكون من أرجله -كما يزعمون-، وليس لهم إلا خدمة هذه الطبقات الثلاث وإراحتها. وقد منح هذا القانون البراهمة مركزا ومكانة لا يشاركهم فيها أحد، والبرهمي رجل مغفور له ولو أباد العوالم الثلاثة بذنوبه وأعماله، ولا يجوز فرض جباية عليه، ولا يعاقب بال*** في حال من الأحوال، أما (شودر) فليس لهم أن يقتنوا مالا، أو يدخروا كنزا، أو يجالسوا برهميًّا، أو يمسوه بيدهم، أو يتعلموا الكتب المقدسة([3]). رابعًا: أحوال العالم الدينية قبل البعثة المحمدية: كانت الإنسانية قبل بزوغ فجر الإسلام العظيم تعيش مرحلة من أحط مراحل التاريخ البشري في شؤونها الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتعاني من فوضى عامة في كافة شؤون حياتها، وهيمن المنهج الجاهلي على العقائد والأفكار والتصورات والنفوس، وأصبح الجهل والهوى والانحلال والفجور، والتجبر والتعسف من أبرز ملامح المنهج الجاهلي المهيمن على دنيا الناس([4]). وضاع تأثير الديانات السماوية على الحياة أو كاد بسبب ما أصابها من التبديل والتحريف والتغيير الذي جعلها تفقد أهميتها باعتبارها رسالة الله إلى خلقه، وانشغل أهلها بالصراعات العقدية النظرية التي كان سببها دخول الأفكار البشرية، والتصورات الفاسدة على هذه الأديان، حتى أدى إلى الحروب الطاحنة بينهم، ومن بقي منهم لم يحرف ولم يبدل قليل نادر, وآثر الابتعاد عن دنيا الناس ودخل في حياة الخلوة والعزلة طمعًا في النجاة بنفسه يأسًا من الإصلاح، ووصل الفساد إلى جميع الأصناف والأجناس البشرية، ودخل في جميع المجالات بلا استثناء. ففي الجانب الديني تجد الناس إما أن ارتدوا عن الدين أو خرجوا منه أو لم يدخلوا فيه أصلا، أو وقعوا في تحريف الديانات السماوية وتبديلها، وأما في الجانب التشريعي، فإن الناس نبذوا شريعة الله وراءهم ظهريًا, واخترعوا من عند أنفسهم قوانين، وشرائع لم يأذن بها الله, تصطدم مع العقل وتختلف مع الفطرة. وتزعم هذا الفساد زعماء الشعوب والأمم من القادة والرهبان والقساوسة والدهاقين والملوك، وأصبح العالم في ظلام دامس وليل بهيم, وانحراف عظيم عن منهج الله سبحانه وتعالى. فاليهودية: أصبحت مجموعة من الطقوس والتقاليد لا روح فيها ولا حياة, وتأثرت بعقائد الأمم التي جاورتها واحتكت بها، والتي وقعت تحت سيطرتها فأخذت كثيرا من عاداتها وتقاليدها الوثنية الجاهلية، وقد اعترف بذلك مؤرخو اليهود([5]) فقد جاء في دائرة المعارف اليهودية: «إن سخط الأنبياء وغضبهم على عبادة الأوثان يدل على أن عبادة الأوثان والآلهة، كانت قد تسربت إلى نفوس الإسرائيليين، ولم تستأصل شأفتها إلى أيام رجوعهم من الجلاء والنفي في بابل، وقد اعتقدوا معتقدات خرافية وشركية. إن التلمود أيضًا يشهد بأن الوثنية كانت فيها جاذبية خاصة لليهود»([6]). إن المجتمع اليهودي قبل البعثة المحمدية قد وصل إلى الانحطاط العقلي وفساد الذوق الديني، فإذا طالعت تلمود بابل الذي يبالغ اليهود في تقديسه, والذي كان متداولاً بين اليهود في القرن السادس المسيحي، تجد فيه نماذج غريبة من خفة العقل وسخف القول، والاجتراء على الله، والعبث بالحقائق والتلاعب بالدين والعقل([7]). أما المسيحية: فقد امتحنت بتحريف الغالين، وتأويل الجاهلين واختفى نور التوحيد وإخلاص العبادة لله وراء السحب الكثيفة([8])، واندلعت الحروب بين النصارى في الشام والعراق، وبين نصارى مصر حول حقيقة المسيح وطبيعته، وتحولت البيوت والمدارس والكنائس إلى معسكرات متنافسة وظهرت الوثنية في المجتمع المسيحي في مظاهر مختلفة وألوان شتى، فقد جاء في تاريخ المسيحية في ضوء العلم المعاصر: «لقد انتهت الوثنية، ولكنها لم تلق إبادة كاملة، بل إنها تغلغلت في النفوس واستمر كل شيء فيها باسم المسيحية وفي ستارها، فالذين تجردوا عن آلهتهم وأبطالهم وتخلوا عنهم أخذوا شهيدًا من شهدائهم ولقبوه بأوصاف الآلهة، ثم صنعوا له تمثالا، وهكذا انتقل هذا الشرك وعبادة الأصنام إلى هؤلاء الشهداء المحليين، ولم ينته هذا القرن حتى عمت فيه عبادة الشهداء والأولياء، وتكونت عقيدة جديدة، وهي أن الأولياء يحملون صفات الألوهية، وصار هؤلاء الأولياء والقديسون خلقا وسيطا بين الله والإنسان يحمل صفة الألوهية على أساس عقائد الأريسيين، وأصبحوا رمزا لقداسة القرون الوسطى وورعها وطهرها، وغيرت أسماء الأعياد الوثنية بأسماء جديدة، حتى تحول في عام 400 ميلادي عيد الشمس القديم إلى عيد ميلاد المسيح»([9])، وجاء في دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة: «تغلغل الاعتقاد بأن الإله الواحد مركب من ثلاثة أقانيم في أحشاء حياة العالم المسيحي وفكره، منذ ربع القرن الرابع الأخير، ودامت كعقيدة رسمية مسلَّمة، عليها الاعتماد في جميع أنحاء العالم المسيحي، ولم يرفع الستار عن تطور عقيدة التثليث وسرها إلا في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر الميلادي»([10]). لقد اندلعت الحروب بين النصارى وكفَّر بعضهم بعضًا، و*** بعضهم بعضًا، وانشغل النصارى ببعضهم عن محاربة الفساد وإصلاح الحال ودعوة الأمم إلى ما فيه صلاح البشرية([11]). وأما المجوس: فقد عرفوا من قديم الزمان بعبادة العناصر الطبيعية, أعظمها النار، وانتشرت بيوت النار في طول البلاد وعرضها, وعكفوا على عبادتها وبنوا لها معابد وهياكل، وكانت لها آداب وشرائع دقيقة داخل المعابد، أما خارجها فكان أتباعها أحرارًا يسيرون على هواهم لا فرق بينهم وبين من لا دين له. ويصف المؤرخ الدنماركي طبقة رؤساء الدين ووظائفهم عند المجوس في كتابه «إيران في عهد الساسانيين» فيقول: «كان واجبًا على هؤلاء الموظفين أن يعبدوا الشمس أربع مرات في اليوم، ويضاف إلى ذلك عبادة القمر والنار والماء، وكانوا مكلفين بأدعية خاصة، عند النوم والانتباه والاغتسال ولبس الزنار والأكل والعطس وحلق الشعر وتقليم الأظافر، وقضاء الحاجة وإيقاد السرج، وكانوا مأمورين بألا يدعوا النار تنطفئ، وألا تمس النار والماء بعضها بعضا، وألا يدعوا المعدن يصدأ لأن المعادن عندهم مقدسة»([12]). وكان أهل إيران يستقبلون في صلاتهم النار، وقد حلف (يزدجرد) آخر ملوك الساسانيين – بالشمس مرة وقال: «أحلف بالشمس التي هي الإله الأكبر». وقد دان المجوس بالثنوية في كل عصر وأصبح ذلك شعارًا لهم، فآمنوا بإلهين اثنين، أحدهما النور أو إله الخير والثاني الظلام أو إله الشر([13]). أما البوذية:في الهند وآسيا الوسطى، فقد تحولت وثنية تحمل معها الأصنام حيث سارت، وتبني الهياكل، وتنصب تماثيل بوذا حيث حلت ونزلت([14]). أما البرهمية:دين الهند الأصلي، فقد امتازت بكثرة المعبودات والآلهة, وقد بلغت أوجها في القرن السادس الميلادي، ولا شك أن الديانتين الهندوكية والبوذية وثنيتان سواء بسواء، لقد كانت الدنيا المعمورة من البحر الأطلسي إلى المحيط الهادي غارقة في الوثنية, وكأنما كانت المسيحية واليهودية والبوذية والبرهمية تتسابق في تعظيم الأوثان وتقديسها، وكانت كخيل رهان تجري في حلبة واحدة. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عموم هذا الفساد لجميع الأجناس وجميع المجالات بلا استثناء فقد قال صلى الله عليه وسلم ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل ما نحلته([15]) عبدًا حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم: عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب»([16]). والحديث يشير إلى انحراف البشرية في جوانب متعددة كالشرك بالله، ونبذ شريعته وفساد المصلحين من حملة الأديان السماوية وممالأتهم للقوم على ضلالهم([17]). *** ([1]) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص38. (2) نفس المصدر، ص39. ([3]) راجع القانون المدني الاجتماعي المسمى منو شانز، الأبواب 1-2-8-9-10. نقلا عن السيرة النبوية للندوي، ص38. ([4]) انظر: الغرباء الأولون، سلمان العودة ص57. (1) انظر: السيرة النبوية، أبو الحسن الندوي ص20. (2) المصدر نفسه، ص20. (3) المصدر السابق نفسه ص21.(4) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص21. (1) انظر: السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي ص23.
([10]) دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة، مقال التثليث (14/395). ([11]) انظر: فتح العرب لمصر، تعريب محمد أبو حديد ص37، 38، 48. ([12]) إيران في عهد الساسانيين ص155، نقلا عن السيرة النبوية للندوي، ص27. ([13]) انظر: السيرة النبوية، للندوي ص27. (2) المصدر السابق، ص28. ([15]) نحلته: أعطيته (النهاية في غريب الحديث) (5/29). ([16]) مسلم، كتاب الجنة، باب الصفات (4/2197) رقم 2197 (5) انظر: الغرباء الأولون ص59. |
#5
|
||||
|
||||
المبحث الثاني أصول العرب وحضارتهم أولاً: أصول العرب: قسم المؤرخون أصول العرب إلى ثلاثة أقسام بحسب السلالات التي انحدروا([1]) منها: 1- العرب البائدة: وهي قبائل عاد، وثمود، والعمالقة، وطَسْم، وجَديس، وأمَيْم، وجُرهم وحضرموت ومن يتصل بهم, وهذه درست معالمها واضمحلت من الوجود قبل الإسلام وكان لهم ملوك امتد ملكهم إلى الشام ومصر([2]). 2- العرب العاربة: وهم العرب المنحدرة من صلب يَعْرُب بن يشجُب بن قحطان وتسمى بالعرب القحطانية([3]) ويعرفون بعرب الجنوب([4]) ومنهم ملوك اليمن، ومملكة معين، وسبأ وحمير([5]). 3- العرب العدنانية: نسبة إلى عدنان الذي ينتهي نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام, وهم المعروفون بالعرب المستعربة، أي الذين دخل عليهم دم ليس عربيًّا, ثم تم اندماج بين هذا الدم وبين العرب، وأصبحت اللغة العربية لسان المزيج الجديد. وهؤلاء هم عرب الشمال، موطنهم الأصلي مكة، وهم إسماعيل عليه السلام وأبناؤه, والجراهمة الذين تعلم منهم إسماعيل عليه السلام العربية، وصاهرهم، ونشأ أولاده عربًا مثلهم، ومن أهم ذرية إسماعيل (عدنان) جد النبي صلى الله عليه وسلم الأعلى، ومن عدنان كانت قبائل العرب وبطونها فقد جاء بعد عدنان ابنه معد، ثم نزار، ثم جاء بعده ولداه مُضَر وربيعة. أما ربيعة بن نزار فقد نزل من انحدر من صلبه شرقا، فقامت عبد القيس في البحرين، وحنيفة في اليمامة، وبنو بكر بن وائل ما بين البحرين واليمامة، وعبرت تغلب الفرات فأقامت في أرض الجزيرة بين دجلة والفرات، وسكنت تميم في بادية البصرة([6]). أما فرع مضر: فقد نزلت سليم بالقرب من المدينة، وأقامت ثقيف في الطائف، واستوطنت سائر هوازن شرقي مكة، وسكنت أسد شرقي تيماء إلى غربي الكوفة، وسكنت ذُبيان وعَبس من تيماء إلى حوران([7]) وتقسيم العرب إلى عدنانية وقحطانية هو ما عليه جمهرة علماء الأنساب وغيرهم من العلماء. ومن العلماء من يرى أن العرب: عدنانية، وقحطانية ينتسبون إلى إسماعيل([8]) عليه الصلاة والسلام. وقد ترجم البخاري في صحيحه لذلك فقال: باب نسبة اليمن إلى إسماعيل عليه السلام، وذكر في ذلك حديثًا عن سلمة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم يتناضلون بالسهام، فقال: «ارموا بني إسماعيل، وأنا مع بني فلان» -لأحد الفريقين- فأمسكوا بأيديهم، فقال: «ما لكم؟» قالوا: كيف نرمي وأنت مع بني فلان؟ فقال: «ارموا وأنا معكم كلكم»([9]) وفي بعض الروايات «ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا». قال البخاري: وأسلم بن أَفْصَى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة، يعني: أن خزاعة فرقة ممن كان تمزق من قبائل سبأ حين أرسل الله عليهم سيل العرم([10]). ووُلد الرسول صلى الله عليه وسلم من مضر، وقد أخرج البخاري عن كليب بن وائل قال: حدثتني ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت أبي سلمة قال: «قلت لها: أرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أكان من مضر؟ فقالت: فممن كان إلا من مضر؟ من بني النضر بن كنانة»([11]). وكانت قريش قد انحدرت من كنانة وهم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة وانقسمت قريش إلى قبائل شتى من أشهرها جمح وسهم وعدي ومخزوم وتيم وزهرة وبطون قصي بن كلاب، وهي عبد الدار بن قصي وأسد بن عبد العزى بن قصي، وعبد مناف بن قصي، وكان من عبد مناف أربع فصائل: عبد شمس ونوفل والمطلب وهاشم. وبيت هاشم هو الذي اصطفى الله منه سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ([12]). قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»([13]). ثانيًا: حضارات الجزيرة العربية: نشأت من قديم الزمان ببلاد العرب حضارات أصيلة، ومدنيات عريقة من أشهرها: 1- حضارة سبأ باليمن: وقد أشار القرآن الكريم إليها، ففي اليمن استفادوا من مياه الأمطار والسيول التي كانت تضيع في الرمال، وتنحدر إلى البحار، فأقاموا الخزانات والسدود بطرق هندسية متطورة، وأشهر هذه السدود (سد مأرب) واستفادوا بمياهها في الزروع المتنوعة، والحدائق ذات الأشجار الزكية، والثمار الشهية، قال عز شأنه: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ` فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ` ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ)[سبأ:15-17]. ودل القرآن الكريم على وجود قرى متصلة في الزمن الماضي ما بين اليمن، إلى بلاد الحجاز، إلى بلاد الشام، وأن قوافل التجارة والمسافرين كانوا يخرجون من اليمن إلى بلاد الشام، فلا يعدمون ظلا، ولا ماء، ولا طعاما، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ` فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)[سبأ: 18،19]. 2- حضارة عاد بالأحقاف: وكانوا في شمال حضرموت وهم الذين أرسل الله إليهم نبي الله هودا عليه السلام، وكانوا أصحاب بيوت مشيدة، ومصانع متعددة، وجنات، وزروع وعيون([14]) قال تعالى: (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ` إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ` إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ` فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ` وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ` أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ` وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ` وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ` فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ` وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ` أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ` وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الشعراء:123 134]. 3- حضارة ثمود بالحجاز: دل القرآن الكريم على وجود حضارة في بلاد الحِجْر، وأشار إلى ما كانوا يتمتعون به من القدرة على نحت البيوت في الجبال، وعلى ما كان يوجد في بلادهم من عيون وبساتين وزروع([15])، قال تعالى: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ` إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ` إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ` فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ` وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ` أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ` فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ` وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ` وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ` فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)[الشعراء:141-150]. وقال فيهم أيضا: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)[الأعراف:74]. لقد زال كل ذلك من زمن طويل، ولم يبق إلا آثار ورسوم وأطلال، فقد اضمحلت القرى والمدن، وتخربت الدور والقصور، ونضبت العيون، وجفت الأشجار وأصبحت البساتين والزروع أرضا جُرُزًا([16]). *** ([1]) انظر: فقه السيرة النبوية، للغضبان ص45. (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/46). ([3]) فقه السيرة، للغضبان ص45. (4) مدخل لفهم السيرة ص98. ([5]) السيرة النبوية لأبي شهبة (1/47). (6) مدخل لفهم السيرة ص98، 99. ([7]) انظر: الطريق إلى المدائن، عادل كمال ص40. (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شبهة (1/48). ([9]) البخاري، كتاب الجهاد والسير (3/298) رقم 2899. (3) انظر السيرة النبوية لأبي شهبة (1/48). ([11]) البخاري، كتاب المناقب (4/185) رقم 3491. (5) انظر: فقه السيرة النبوية، للغضبان ص47. ([13]) رواه مسلم، باب فضل نسب النبي (4/1782) رقم 2276. ([14]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/50). (2) نفس المصدر (1/51). ([16]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/51)
|
#6
|
||||
|
||||
المبحث الثالث الأحوال الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية عند العرب أولاً: الحالة الدينية: ابتليت الأمة العربية بتخلف ديني شديد، ووثنية سخيفة لا مثيل لها، وانحرافات خلقية، واجتماعية, وفوضى سياسية، وتشريعية, ومن ثم قل شأنهم وصاروا يعيشون على هامش التاريخ، ولا يتعدون في أحسن الأحوال أن يكونوا تابعين للدولة الفارسية أو الرومانية، وقد امتلأت قلوبهم بتعظيم تراث الآباء والأجداد واتباع ما كانوا عليه مهما يكن فيه من الزيغ والانحراف والضلال ومن ثم عبدوا الأصنام، فكان لكل قبيلة صنم، فكان لهذيل بن مدركة: سواع، ولكلب: ود، ولمذحج: يغوث, ولخيوان: يعوق، ولحمير: نسر، وكانت خزاعة وقريش تعبد إسافًا ونائلة، وكانت مناة على ساحل البحر، تعظمها العرب كافة والأوس والخزرج خاصة، وكانت اللات في ثقيف، وكانت العزى فوق ذات عرق، وكانت أعظم الأصنام عند قريش([1]). وإلى جانب هذه الأصنام الرئيسية يوجد عدد لا يحصى كثرة من الأصنام الصغيرة والتي يسهل نقلها في أسفارهم ووضعها في بيوتهم. روى البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العُطاردي قال: «كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرا آخر هو أخيرُ منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا جُثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به»([2]). وقد حالت هذه الوثنية السخيفة بين العرب, وبين ومعرفة الله وتعظيمه وتوقيره والإيمان به، وباليوم الآخر وإن زعموا أنها لا تعدو أن تكون وسائط بينهم وبين الله، وقد هيمنت هذه الآلهة المزعومة على قلوبهم وأعمالهم وتصرفاتهم، وجميع جوانب حياتهم وضعف توقير الله في نفوسهم قال تعالى: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)[الأنعام:36]. أما البقية الباقية من دين إبراهيم عليه السلام فقد أصابها التحريف، والتغيير والتبديل، فصار الحج موسما للمفاخرة والمنافرة، والمباهاة وانحرفت بقايا المعتقدات الحنيفية عن حقيقتها وألصق بها من الخرافات والأساطير الشيء الكثير. وكان يوجد بعض الأفراد من الحنفاء الذين يرفضون عبادة الأصنام, وما يتعلق بها من الأحكام والنحائر وغيرها، ومن هؤلاء زيد بن عمرو بن نفيل، وكان لا ي*** للأنصاب، ولا يأكل الميتة والدم، وكان يقول: أربًّا واحدًا أم ألفَ رب؟؟ --- أدين إذا تقسِّمت الأمورُ؟ عزلتُ اللات والعزى جميعًا --- كذلك يفعل الجلد الصبورُ فلا العزى أدين ولا ابنتيها --- ولا صنمي بني عمرو أزورُ ولا غنمـًا أدين وكان ربا --- لنا في الدهر، إذا حلمي يسيرُ إلى أن قال: ولكن أعبد الرحمن ربي --- ليغفر ذنبي الربُّ الغفور([3]) وممن كان يدين بشريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، قُس بن ساعدة الإيادي, فقد كان خطيبًا، حكيمًا، عاقلاً، له نباهة، وفضل، وكان يدعو إلى توحيد الله، وعبادته، وترك عبادة الأوثان، كما كان يؤمن بالبعث بعد الموت، وقد بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد روى أبو نعيم في دلائل النبوة عن ابن عباس قال: «إن قس بن ساعدة كان يخطب قومه في سوق (عكاظ) فقال في خطبته: سيعلم حق من هذا الوجه وأشار بيده إلى مكة، قالوا: وما هذا الحق؟ قال: رجل من ولد لؤي بن غالب يدعوكم إلى كلمة الإخلاص، وعيش الأبد، ونعيم لا ينفد، فإن دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه» وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ومات قبل البعثة([4]). ومما كان ينشده من شعره: في الذاهبين الأوليـ --- ن من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا --- للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها --- يمضي الأصاغر والأكابر لا يرجع الماضي إليّ --- ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محا --- لة حيث صار القوم صائر([5]) كان بعض العرب قد تنصر، وبعضهم دخل في اليهودية، أما الأغلبية فكانت تعبد الأوثان والأصنام.
|
#7
|
|||
|
|||
اللهم صلى وسلم على اشرف الخلق محمد
|
#8
|
||||
|
||||
|
#9
|
||||
|
||||
- دروس وعبر: أ- بركة النبي صلى الله عليه وسلم على السيدة حليمة: فقد ظهرت هذه البركة على حليمة السعدية في كل شيء، ظهرت في إدرار ثدييها وغزارة حليبها، وقد كان لا يكفي ولدها، وظهرت بركته في سكون الطفل ولدها، وقد كان كثير البكاء مزعجًا لأمه يؤرقها ويمنعها من النوم، فإذا هو شبعان ساكن جعل أمه تنام وتستريح، وظهرت بركته في شياههم العجفاوات التي لا تدر شيئًا, وإذا بها تفيض من اللبن الكثير الذي لم يُعهد. ب- كانت هذه البركات من أبرز مظاهر إكرام الله له، وأكرم بسببه بيت حليمة السعدية التي تشرفت بإرضاعه، وليس من ذلك غرابة ولا عجب([1])، فخلف ذلك حكمة أن يُحب أهل هذا البيت هذا الطفل ويحنوا عليه ويحسنوا في معاملته ورعايته وحضانته، وهكذا كان فقد كانوا أحرص عليه وأرحم به من أولادهم([2]). جـ- خيار الله للعبد أبرك وأفضل: اختار الله لحليمة هذا الطفل اليتيم وأخذته على مضض؛ لأنها لم تجد غيره، فكان الخير كل الخير فيما اختاره الله، وبانت نتائج هذا الاختيار مع بداية أخذه وهذا درس لكل مسلم بأن يطمئن قلبه إلى قدر الله واختياره والرضا به، ولا يندم على ما مضى وما لم يقدره الله تعالى. د- أثر البادية في صحة الأبدان وصفاء النفوس، وذكاء العقول: قال الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله-: وتنشئة الأولاد في البادية, ليمرحوا في كنف الطبيعة، ويستمتعوا بجوها الطلق وشعاعها المرسل، أدنى إلى تزكية الفطرة وإنماء الأعضاء والمشاعر، وإطلاق الأفكار والعواطف. إنها لتعاسة أن يعيش أولادنا في شقق ضيقة من بيوت متلاصقة كأنها علب أغلقت على من فيها، وحرمتهم لذة التنفس العميق والهواء المنعش. ولا شك أن اضطراب الأعصاب الذي قارن الحضارة الحديثة يعود –فيما يعود– إلى البعد عن الطبيعة، والإغراق في التصنع، ونحن نقدر لأهل مكة اتجاههم إلى البادية لتكون ***اتها الفساح مدارج طفولتهم، وكثير من علماء التربية يودون لو تكون الطبيعة هي المعهد الأول للطفل حتى تتسق مداركه مع حقائق الكون الذي وجد فيه ويبدو أن هذا حلم عسر التحقيق([3]). وتعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بادية بني سعد اللسان العربي الفصيح، وأصبح فيما بعد من أفصح الخلق، فعندما قال له أبو بكر t يا رسول الله ما رأيت أفصح منك. فقال صلى الله عليه وسلم: «وما يمنعني وأنا من قريش وأرضعت في بني سعد» ([4]). --------------- ([1]) فقه السيرة النبوية للبوطي, ص44. (2) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص105. ([3]) انظر: فقه السيرة ص60، 61.
([4]) الروض الأنف للسهيلي (1/188). |
#10
|
||||
|
||||
2- ما يستفاد من حادثة شق الصدر: تعد حادثة شق الصدر التي حصلت له عليه الصلاة والسلام أثناء وجوده في مضارب بني سعد من إرهاصات النبوة ودلائل اختيار الله إياه لأمر جليل([1]). وقد روى الإمام مسلم في صحيحه حادثة شق الصدر في صغره، فعن أنس بن مالك: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه([2])، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه –يعني ظئره– فقالوا: إن محمدًا قد ***، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال إنس: وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره([3]). ولا شك أن التطهير من حظ الشيطان هو إرهاص مبكر للنبوة، وإعداد للعصمة من الشر وعبادة غير الله، فلا يحل في قلبه إلا التوحيد الخالص، وقد دلت أحداث صباه على تحقق ذلك فلم يرتكب إثمًا، ولم يسجد لصنم([4]) رغم انتشار ذلك في قريش([5]). وتحدث الدكتور البوطي عن الحكمة في ذلك فقال: يبدو أن الحكمة في ذلك إعلان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتهييؤه للعصمة والوحي منذ صغره بوسائل مادية ليكون ذلك أقرب إلى إيمان الناس به وتصديقهم برسالته، إنها إذن عملية تطهير معنوي، ولكنها اتخذت هذا الشكل المادي الحسي، ليكون فيه ذلك الإعلان الإلهي بين أسماع الناس وأبصارهم([6]), إن إخراج العلقة منه تطهير للرسول صلى الله عليه وسلم من حالات الصبا اللاهية العابثة المستهترة, واتصافه بصفات الجد والحزم والاتزان وغيرها من صفات الرجولة الصادقة، كما تدلنا على عناية الله به وحفظه له، وأنه ليس للشيطان عليه سبيل([7]). ------------------------ ([1]) انظر: فقه السيرة للبوطي ص47.
([2]) جمعه وضم بعضه إلى بعض (شرح النووي على مسلم 2/216). ([3]) مسلم، كتاب الإيمان، (1/45)رقم 259. ([4]) زعم المستشرق نيكلسون أن حديث شق الصدر أسطورة نشأت عن تفسير الآية ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) وأنه لو كان لها أصل فعلينا أن نخمن أنها تشير إلى نوع من الصرع، وهذا الذي زعمه نيكسون سبقه إليه المشركون حين اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون فنفى الله عنه ذلك ( وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ). ([5]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/104). ([6]) انظر: فقه السيرة للبوطي, ص47. ([7]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص106، 107. |
#11
|
||||
|
||||
خامسًا: وفاة أمه وكفالة جده ثم عمه: توفيت أم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة، وكانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به إلى مكة,([1]) ودفنت بالأبواء, وبعد وفاة أمه كفله جده عبد المطلب، فعاش في كفالته، وكان يؤثره على أبنائه أي أعمام النبي صلى الله عليه وسلم - فقد كان جده مهيبًا, لا يجلس على فراشه أحد من أبنائه مهابة له، وكان أعمامه يتهيبون الجلوس على فراش أبيهم، وكان صلى الله عليه وسلم يجلس على الفراش ويحاول أعمامه أن يبعدوه عن فراش أبيهم, فيقف الأب الجد بجانبه, ويرضى أن يبقى جالسًا على فراشه متوسمًا فيه الخير، وأنه سيكون له شأن عظيم([2]) وكان جده يحبه حبًا عظيمًا، وكان إذا أرسله في حاجة جاء بها وذات يوم أرسله في طلب إبل فاحتبس عليه([3]) فطاف بالبيت وهو يرتجل يقول: رب رد راكبي محمدا --- رده لي واصنع عندي يدا فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وجاء بالإبل فقال له: يا بني, لقد حزنت عليك كالمرأة حزنًا لا يفارقني أبدًا([4]). ثم توفي عبد المطلب والنبي صلى الله عليه وسلم في الثامنة من عمره([5])، فأوصى جده به عمه أبا طالب فكفله عمه وحنّ عليه ورعاه([6]). أرادت حكمة الله أن ينشأ رسوله يتيمًا، تتولاه عناية الله وحدها، بعيدًا عن الذراع التي تمعن في تدليله, والمال الذي يزيد في تنعيمه، حتى لا تميل به نفسه إلى مجد المال والجاه، وحتى لا يتأثر بما حوله من معنى الصدارة والزعامة، فيلتبس على الناس قداسة النبوة بجاه الدنيا، وحتى لا يحسبوه يصطنع الأول ابتغاء الوصول إلى الثاني([7]) وكانت المصائب التي أصابت النبي صلى الله عليه وسلم منذ طفولته كموت أمه ثم جده بعد أن حرم عطف الأب وذاق كأس الحزن مرة بعد مرة، كانت تلك المحن قد جعلته رقيق القلب مرهف الشعور، فالأحزان تصهر النفوس وتخلصها من أدران القسوة والكبر والغرور، وتجعلها أكثر رقة وتواضعًا. ------------------ ([1]) ابن هشام في السيرة (1/168) وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث. ([2]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص101. (3) صحيح السيرة النبوية للعلي ص 56. ([4]) أخرجه الطبراني في الكبير:5524، و صححه إبراهيم العلي في صحيح السيرة النبوية ص56. ([5]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص101. (6) انظر: مدخل لفهم السيرة، اليحيى ص119. ([7]) انظر: فقه السيرة للبوطي ص46.
|
#12
|
||||
|
||||
سادسًا: عمله صلى الله عليه وسلم في الرعي:
كان أبو طالب مُقلاًّ في الرزق فعمل النبي صلى الله عليه وسلم برعي الغنم مساعدة منه لعمه، فلقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه الكريمة وعن إخوانه من الأنبياء أنهم رعوا الغنم، أما هو فقد رعاها لأهل مكة وهو غلام وأخذ حقه عن رعيه، ففي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم» فقال: أصحابه: وأنت؟ قال: «نعم, كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» ([1])، إن رعي الغنم كان يتيح للنبي صلى الله عليه وسلم الهدوء الذي تتطلبه نفسه الكريمة، ويتيح له المتعة بجمال الصحراء، ويتيح له التطلع إلى مظاهر جلال الله في عظمة الخلق، ويتيح له مناجاة الوجود في هدأة الليل وظلال القمر ونسمات الأشجار، يتيح له لونًا من التربية النفسية من الصبر والحلم والأناة, والرأفة والرحمة, والعناية بالضعيف حتى يقوى, وزم قوى القوي حتى يستمسك للضعيف ويسير بسيره، وارتياد مشارع الخصب والري وتجنب الهلكة ومواقع الخوف من كل ما لا تتيحه حياة أخرى بعيدة عن جو الصحراء وهدوئها وسياسة هذا الحيوان الأليف الضعيف([2]). وتذكرنا رعايته للغنم بأحاديثه صلى الله عليه وسلم التي توجه المسلمين للإحسان للحيوانات([3]) فكان رعي الغنم للنبي صلى الله عليه وسلم دربة ومرانًا له على سياسة الأمم. ورعي الغنم يتيح لصاحبه عدة خصال تربوية منها: 1- الصبر: على الرعي من طلوع الشمس إلى غروبها، نظرا لبطء الغنم في الأكل، فيحتاج راعيها إلى الصبر والتحمل، وكذا تربية البشر([4]). إن الراعي لا يعيش في قصر منيف ولا في ترف وسرف، وإنما يعيش في جو حار شديد الحرارة، وبخاصة في الجزيرة العربية، ويحتاج إلى الماء الغزير ليذهب ظمأه، وهو لا يجد إلا الخشونة في الطعام وشظف العيش، فينبغي أن يحمل نفسه على تحمل هذه الظروف القاسية، ويألفها ويصبر عليها([5]). 2- التواضع: إذ طبيعة عمل الراعي خدمة الغنم, والإشراف على ولادتها، والقيام بحراستها والنوم بالقرب منها، وربما أصابه ما أصابه من رذاذ بولها أو شيء من روثها فلم يتضجر من هذا، ومع المداومة والاستمرار يبعد عن نفسه الكبر والكبرياء، ويرتكز في نفسه خلق التواضع([6])، وقد ورد في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» فقال رجل: الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا؟ فقال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس» [7]). 3- الشجاعة: فطبيعة عمل الراعي الاصطدام بالوحوش المفترسة، فلا بد أن يكون على جانب كبير من الشجاعة تؤهله للقضاء على الوحوش ومنعها من افتراس أغنامه([8]). 4- الرحمة والعطف: إن الراعي يقوم بمقتضى عمله في مساعدة الغنم إن هي مرضت أو كُسرت أو أصيبت، وتدعو حالة مرضها وألمها إلى العطف عليها وعلاجها والتخفيف من آلامها, فمن يرحم الحيوان يكون أشد رحمة بالإنسان، وبخاصة إذا كان رسولاً أرسله الله تبارك وتعالى لتعليم الإنسان, وإرشاده وإنقاذه من النار وإسعاده في الدارين([9]). 5- حب الكسب من عرق الجبين: إن الله قادر على أن يغني محمدا صلى الله عليه وسلم عن رعي الغنم، ولكن هذه تربية له ولأمته للأكل من كسب اليد وعرق الجبين، ورعي الغنم نوع من أنواع الكسب باليد. روى البخاري عن المقدام t عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أكل أحد طعاما قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده» ([10]). ولا شك أن الاعتماد على الكسب الحلال يكسب الإنسان الحرية التامة والقدرة على قول كلمة الحق والصدع بها([11]) وكم من الناس يطأطئون رؤوسهم للطغاة، ويسكتون على باطلهم، ويجارونهم في أهوائهم خوفًا على وظائفهم عندهم([12]). إن إقبال النبي صلى الله عليه وسلم على رعي الأغنام لقصد كسب القوت والرزق يشير إلى دلائل هامة في شخصيته المباركة منها: الذوق الرفيع والإحساس الدقيق اللذان جمّل الله تعالى بهما نبيه صلى الله عليه وسلم ، لقد كان عمه يحوطه بالعناية التامة، وكان له في الحنو والشفقة كالأب الشفوق، ولكنه صلى الله عليه وسلم ما إن آنس في نفسه القدرة على الكسب حتى أقبل يكتسب ويتعب نفسه لمساعدة عمه في مؤونة الإنفاق، وهذا يدل على شهامة في الطبع وبر في المعاملة، وبذل للوسع([13]). والدلالة الثانية: تتعلق ببيان نوع الحياة التي يرتضيها الله تعالى لعباده الصالحين في دار الدنيا، لقد كان سهلاً على الله أن يهيئ للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو في صدر حياته من أسباب الرفاهية ووسائل العيش ما يغنيه عن الكدح ورعاية الأغنام سعيًا وراء الرزق. ولكن الحكمة الربانية تقتضي منا أن نعلم أن خير مال الإنسان ما اكتسبه بكد يمينه ولقاء ما يقدمه من الخدمة لمجتمعه وبني ***ه ([14]). |
#13
|
||||
|
||||
اللهم صل وسلم وبارك على محمد واله وصحبه وسلم
جزاكم الله خيرا استاذ محمد
__________________
^-^بخِمارى انا ملكه ^-^ |
#14
|
||||
|
||||
عليه اقضل صلاة وازكى سلام بارك الله فيكِ |
#15
|
|||
|
|||
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد
|
العلامات المرجعية |
|
|