|
#1
|
||||
|
||||
من آخر سورة القمر
من آخر سورة القمر
من قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) : ففيه : تعظيم يقتضيه سياق عموم المشيئة الكونية بتقدير الكائنات وإخراجها إلى عالم الشهادة وفق علم الله ، عز وجل ، الأول . فضلا عن دلالة "إن" : التوكيدية . وتقديم المعمول لكونه محط الفائدة ، فعموم : "كل" : محفوظ لا مخصص له ، فلا يرد عليه المحال ، إذ ليس بشيء ليخلق ، فلا يتعلق بالقدرة على سبيل الإيجاد ، وإن تعلق بالعلم على سبيل الفرض ، فكل شيء كائن إنما قدر في الأزل وخرج إلى عالم الشهادة بقدر الله ، عز وجل ، الكوني النافذ ، إذ شاء خلقه فقال له : "كن" فكان ، بلا تراخ ، فالكلمة التكوينية النافذة : علة تامة لخلق الكائنات فلا يتراخى عنها معلولها بل يعقبها مباشرة كما قد علم من دلالة الفاء التعقيبية . وفي السياق إيجاز بحذف عامل تقدم : "كل" لاشتغال المتأخر عنه بضميره ، على تقدير : إنا خلقنا كل شيء خلقناه ، فيكون في ذلك توكيد آخر ، إذ التكرار ، ولو مقدرا غير مذكور ، مظنته ، وإنما حذف لفظا كراهة التكرار ، وقدر معنى إرادة التوكيد ، فاجتمع له من حسن اللفظ : الحذف إيجازا ، ومن حسن المعنى : الإطناب تكرارا . وقوله : "بقدر" : حال مؤسسة لمعنى أريد النص عليه بعينه ، وإن كانت فضلة من جهة الصناعة النحوية ، فالكلام بدونها من جهة التركيب اللفظي مستقيم : إنا كل شيء خلقناه ، ولكنه محتمل لا يرفع احتمال خلق الكائنات بلا قدر سابق ، كما ذهب إلى ذلك القدرية نفاة مرتبة الخلق ونفاة مرتبة العلم من باب أولى ، فهم أفحش الناس مقالة في باب القدر ، فجاء النص بالحال على القدر الكوني النافذ الذي به تكون الكائنات فرعا عن كلماته ، عز وجل ، التكوينيات ، فهي أمره النافذ في خلقه ، إذ الأمر الكوني أحد قسمي الأمر الإلهي : الشرعي الحاكم والقدري النافذ ، فهو أحد قسمي الكلام الإلهي : الشرعي والكوني ، فالكلام الشرعي : وحيه ، والكلام الكوني : قدره ، وقد زيد في بيان ذلك المعنى الجليل ، بالنص على الأمر على جهة التعيين : (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) فهو ، كما تقدم ، علة تامة مؤثرة يعقبها المعلول بلا تراخ فلا يفصل بينهما إلا فاصلٌ كلمح بالبصر ، فنفاذ أمره ، عز وجل ، في كونه ، واقع على سبيل الحتم ، وقد أكد ذلك المعني بإيراده في سياق قصر بأقوى أساليبه : النفي والاستثناء ، وعظم المتكلم بإيراد : "نا" على ما اطرد في الآية الأولى ، وخص الأمر ، وإن أطلق ، بالأمر الكوني ، لدلالة السياق على ذلك ، إذ هو في معرض بيان عموم خلقه ، عز وجل ، لكل الكائنات : حيها وميتها ، مؤمنها وكافرها ، برها وفاجرها ............... إلخ . فضلا عن دلالة العقل على ذلك : فإن الإله المطاع بالتأله لا يكون إلا ربا تام القدرة ، كامل التصرف في خلقه بما شاء كيف شاء ، فله تمام العلم المحيط والحكمة البالغة والقدرة النافذة ، إذ لا يكون الخلق إلا بتلك على حد قوله تعالى : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) : فهذا العلم . و : (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) : فهذه الحكمة والإتقان . و : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) : فهذه القدرة . ودلالة الحس على ذلك ، فإن أمره الكوني لا يتخلف ، فمن شاء أحياه ولو كان عليلا ، ومن شاء أماته ولو كان صحيحا ، ومن شاء أغناه من عيلة ، ومن شاء أفقره من غنى ، فــ : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) . وانتظام أمر هذا الكون بجريانه على سنن كونية محكمة خير شاهد على وحدة الأمر التكويني المجري لها ، فــ : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) ، فالسنن الكونية فرع كلماته التكوينيات ، فلا ينتج السبب مسبَّبه ، وإن كانت قوة التأثير فيه مودعة ، إلا إذا شاء الله ، عز وجل ، إعمالها ، باستيفاء شروطها وانتفاء موانعها ، إذ لا علة مخلوقة تؤثر بنفسها تأثيرا كاملا لا يفتقر إلى غيرها من العلل المكملة ، فكل سبب مخلوق : مفتقر إلى خالقه ، عز وجل ، ليظهر أثره في عالم الشهادة ، مفتقر إليه ليخلق له من الأسباب ما يكمله ، وينفي عنه من الموانع ما يعرقله ، فلا ينفك عن وصف الفقر ، وإن ظهر في عالم الشهادة ، لمن قصر نظره وكثف طبعه ، أنه الفاعل المستقل ، فهو فاعل مؤثر في إيجاد المفعول من وجه ، ولكنه من وجه آخر : مخلوق مربوب لا يستقل بفعله على جهة الخلق والإيجاد ، فوصف الفاعل به قائم ، ووصف الخالق عنه منتف ، إذ لا خالق إلا الله ، عز وجل ، كما دل على ذلك سياق الآية الأولى ، فرعا عن كونه : لا آمر إلا هو ، كما دل على ذلك سياق الآية الثانية ، فبأمره وحده لا بأمر غيره توجد الكائنات . ونفاذ الأمر في الآية الثانية : قرينة سياقية أخرى تدل على إرادة الأمر الكوني ، فإن دلالة الحس ، أيضا ، تدل على بطلان حمله على الأمر الشرعي التكليفي ، مناط الابتلاء ، إذ به نزل الوحي وإليه دعت النبوات : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ، فذلك الأمر مما يجوز عقلا ويقع حسا خرقه ، وحال عصاة الأمم خير شاهد على ذلك على حد قوله تعالى : (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) ، وليس ذلك بقادح في حكمة الرب ، جل وعلا ، ولا قدرته ، إذ ما خرقوا أمره الشرعي الحاكم إلا بأمره الكوني النافذ ، فإراداتهم سواء أكانت بالخير وفاقا أم بالشر خلافا لا تخرج عن إرادته الكونية النافذة ، وإن خرجت عن إرادته الشرعية الحاكمة ، فهم وأفعالهم مربوبون مخلوقون لله ، عز وجل ، لا طاقة لهم بالخروج عنها ، على حد قوله تعالى : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) على القول بحمل : "ما" على المصدرية الحرفية ، فيؤول الكلام إلى : والله خلقكم وعملكم . ولو حمل على الموصول الاسمي على تقدير : والله خلقكم والذي تعملونه من الأصنام المنحوتة فإن ذلك لا يعارض ما تقدم ، إذ المنحوت مخلوق ، والسبب الذي به وجد وهو فعلهم : مخلوق ، والفعل المخلوق لا يقوم إلا بمخلوق ، فأعيانهم كذلك مخلوقة فآل الأمر إلى خلقهم وخلق أفعالهم التي هي علل مؤثرة ، وإن لم تكن كاملة ، في إيجاد المفعولات المخلوقة ، فكل ما عدا الله ، عز وجل ، مخلوق ، كما قد علم بداهة . وإلى طرف من ذلك أشار الحافظ ابن كثير ، رحمه الله ، في تفسيره ، وابن أبي العز ، رحمه الله ، في "شرح الطحاوية" . وفي السياق من فنون البلاغة : إيجاز بحذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه على تقدير : وما أمرنا إلا كلمة واحدة . وتلك قرينة ثالثة تدل على إرادة الأمر الكوني ، فإن الكلمة هي : "كن" ، و : "كن" ، كما تقدم ، العلة المؤثرة التي تستلزم معلولها من الكائنات على سبيل التعقيب والفور فــ : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) . فضلا عن التشبيه الذي حذف وجهه لدلالة المشبه به عليه ، فلمح البصر مظنة الفور الذي تقدمت الإشارة إليه ، فيكون ذكر وجه الشبه حشوا لا حاجة إلى إيراده بل قد يذهب ذلك بجزالة اللفظ الموجز الذي يقع من النفس أبلغ موقع في مقام الإنذار كما اطرد في القرآن المكي ذي المباني الموجزة والدلالات القوية المحكمة . وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ : التفات من الغيبة في قوله تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) إلى الخطاب ، وهو خبر سيق مساق التهديد ، فله دلالة إنشائية ، وحسن لذلك التوكيد بلام القسم و : "قد" ، إذ ذلك أبلغ في الزجر ، على حد ما اطرد من كلام البلاغيين من زيادة المعنى فرعا عن زيادة المبنى ، والتهديد فيه جار ، أيضا ، على ما اطرد من قياس الطرد ، وهو أحد أقيسة القرآن العقلية ، فإن فيه تعريضا بالمخاطب إذ سار على طريقتهم فله إن لم يرجع عن غيه نظير ما لهم من الإهلاك ، فهذا الطرد المنطوق به ترهيبا ، ولكل طرد : عكس مسكوت عنه ، فمن تاب ورجع فله من النجاة عكس ما وقع لهم من الإهلاك ، فهذا العكس المسكوت عنه ، ففيه من الترغيب ضد ما في الطرد من الترهيب ، وهذا أصل في كل نصوص الطرد والعكس في القرآن ، إذ الاقتران بينهما لازم عقلا ، فضلا عن كونه جاريا على ما اطرد في التنزيل من جمع المتقابلات في سياق واحد : الترعيب والترهيب ، الإيمان والكفر ، ولو كان أحدهما مسكوتا عنه ، كما في هذا السياق ، فإن المذكور دال عليه بدليل الخطاب أو مفهوم المخالفة أو قياس العكس . وانتظام اللفظ الواحد لتلك المعاني المتعددة مئنة من : بلاغة التنزيل وقوة حجته ، فهو : (هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) ، ففيه الخبر السمعي الصادق ، وفيه البرهان العقلي القاطع . ودلالة الاستفهام على التحضيض في مقام الاعتبار دليل على إرادة الزجر بطرد النتيجة في الآخرين فرعا عن الأولين ، فإن من تأمل وقوعهم في عين ما وقع فيه أسلافهم ، ظهر له أن مصيرهم كمصيرهم ، إذ سنة الإهلاك فرعا عن التكذيب سنة كونية نافذة ، فالحكم دائر مع علته وجودا وعدما ، فمتى كان التكذيب كان الإهلاك ، ومتى انتفى الأول انتفى الثاني ، على حد قوله تعالى : (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) : فلما آمنوا وصدقوا انتفت علة الإهلاك ، فكشف الله ، عز وجل ، عنهم العذاب ، فدل ذلك بمفهومه ، فضلا عن منطوق نصوص إهلاك الأمم المكذبة ، على أن من لم يؤمن لم يكشف عنه العذاب فكان من الهالكين . وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ : فــ : "كل" : نص في العموم ، وذلك إمعان في النذارة ، وتقرير لما تقدم من عموم إحاطته ، عز وجل ، بأعمال عباده فهي مسطورة في اللوح المحفوظ أزلا ، مسطورة في الزبر التي بأيدي الكتبة عليهم السلام على جهة الإحصاء إمعانا في إقامة الحجة . فــ : "أل" في "الزبر" : عهدية ذهنية تشير إلى كتب بعينها هي كتب الحفظة عليهم السلام . وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ : وكل صغير وكبير : زيادة في البيان بعد الإجمال ، فــ : "كل" : عموم مجمل ، و : "صغير وكبير" : تفصيل له ببيان أفراده على جهة الاستيفاء لأوجه القسمة العقلية المحيطة بأعمال العباد على حد قوله تعالى : (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) . وفيه بيان لإجمال الظرفية في : "في الزبر" ، فهو كائن فيه مسطورا سطر المكتوب في الصحف . والله أعلى وأعلم .
__________________
تهانينا لقد تم تحميل السرطان بنجاح
|
#2
|
|||
|
|||
جزاك الله خيرا علي هذا الموضوع الرائع
|
#3
|
||||
|
||||
اللهم اشرح بالقرآن صدورنا، وفرج به همومنا، وازح ببركته ونوره وهداه ظلام قلوبنا .... آمين
__________________
اللهم اجعلنا من الذين سرحت أرواحهم في دار العلى و حطّت همم قلوبهم في غاية التقى و جنوا من ثمار رياض التسنيم و استظلّوا تحت ظلّ الكرامة الظليل اللهم ألبسنا لباس التقوى واكفنا ما أهمنا وارزقنا من واسع كرمك واغفر لنا واحمنا بحمايتك واحفظنا من كل شر وارزقنا الطمأنينة وراحة البال وأدخلنا الجنة يا ذا الجلال والإكرام . |
#4
|
|||
|
|||
جزاكم الله خيرااا
|
#5
|
|||
|
|||
جزاكم الله خيرااا
|
العلامات المرجعية |
|
|