|
#1
|
|||
|
|||
قصة آدم عليه السلام
تبدأ الخليقة البشرية على الأرض بخَلْق آدم عليه السلام؛ فاقتضت حكمة الله تعالى أن يعمر الأرض بالبشر؛ فخلق آدم، ولم يكن خلق آدم سرًّا أو أمرًا مكتومًا، وإنما لقي إشاعة للخبر وحوارًا بين الله وملائكته في شأن هذا المخلوق ووفائه بالالتزام لِما خلق له، ثم أُجري لهذا المخلوق حفلٌ تكريمي مهم، حضره كافة ملائكة الله وفيهم إبليس، وكان قمة التكريم لهذا المخلوق أن أمَر الله هؤلاء الحضور بالسجود لآدم، فسجد الملائكة كلهم أجمعون؛ طاعة لله، إلا إبليس، أبى أن يكون مع الساجدين، والقُرْآن الكريم يبين تسلسل خلق آدم من حين أن كان طينًا؛ قال الله تعالى: ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ﴾ [الرحمن: 14، 15]، وفي الحديث أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن اللهَ خلَق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض؛ فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن وبين ذلك، والخبيث والطيب وبين ذلك))، كما ورد أن الله خلَق آدم بيده، وشكله على الهيئة التي خلقه عليها، فكان نموذجًا، فبقي هكذا صلصالًا كالفخار أربعين سنة، فكان إبليس ينقر عليه بيده فيصدر صوتًا كما لو نقر على جرة من الفخار، ثم نفخ الله فيه الروح فسَرَتْ في جسمه حتى وصلت إلى رأسه، فعطس آدم، فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال الله تبارك وتعالى: يرحمك الله، وفي رواية: رحمك ربك يا آدم، وأما عن بدء خَلْق الإنسان، فقد قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ﴾ [السجدة: 6، 7]، وقد أخبر الله تعالى ملائكته أنه قضى وقدر خلق الإنسان؛ قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ﴾ [ص: 71]، فكان أصل هذا البشر (آدم)؛ حيث شكَّله الله تعالى بيديه، وتركه على باب الجنة صلصالًا كالفخار أربعين سنة، ولما نفخ فيه الرُّوح أمر الملائكة أن يسجدوا له سجودَ تكريم، كما أخبر الله تعالى ملائكته بمهمة هذا الإنسان؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]، واستفهام الملائكة بقولهم: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ [البقرة: 30]، قياسًا منهم على ما كان من أمر الجن حين انفردوا بسكناها، ف*** بعضهم بعضًا، وسفَك بعضهم دماء بعض، والملائكة يتأذَّوْن من هذه المناظر كما يتأذَّوْن مما يُفعل على الأرض من منكَرات؛ فقد ورد في الأحاديث الشريفة ((أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب أو تمثال أو تصاوير، وأنها لا تصحب رفقة معهم كلب أو جرس))، وتتأذى من أكَلة الثُّوم أو البصل إذا دخلوا المسجد؛ ففي الحديث عند مسلم: ((مَن أكل البصل والثُّوم والكراث فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكةَ تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم))، وتتأذى من تعرِّي الإنسان إلا في الخلاء، وطُلب من الإنسان أن يستتر وهو في الحمام، وأن الملائكة الكرام الكاتبين لا تفارق الإنسان إلا عند الجنابة أو الغائط أو الغسل، فتبتعد عنه، وتتأذى من المنكَرات ومجالس اللهو والخَنا والمسكِرات والموبِقات، وهذا ما خشِيَتْه من هذا المخلوق الجديد لما أخبرها المولى - عز وجل - أنه سيستخلفه في الأرض، وأما من قال باعتراضهم على الله، أو عصيانهم عند سماع خبر إيجاد هذا المخلوق، فقوله: "وهمٌ" وخطأ؛ فهو لم يعرف طبيعة الملائكة؛ فالله خالقُهم قال عنهم: ﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]، وكما ينزعجون من أخطاء الإنسان، يسعَدون أيضًا بطاعته وعبادته، ومجالس القُرْآن والذِّكر والعلم، ويقفون على أبواب المساجد يوم الجمعة يسجلون الحضور حسب تبكيرهم وقدومهم، فإذا صعِد الخطيب على المنبر طوَوْا صحفهم وجاؤوا يستمعون الذِّكر؛ قال ابن كثير في البداية والنهاية: ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30]، فأخبرهم بذلك على سبيل التنويه بخلق آدم وذريته، كما يخبر بالأمر العظيم قبل كونه، فقالت الملائكة سائلين على وجه الاستكشاف والاستعلام عن وجه الحكمة لا على وجه الاعتراض والتنقص لبني آدم والحسد لهم، كما يتوهَّمه بعض جهلة المفسرين، وأما جواب الله تعالى لهم: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]، فليس تبرئة للإنس من سلوك هذا السبيل، وإنما لإعلامهم أن إخبارهم بما أراد هو للعلم لا للمشورة، وأن هذا النوع الذي سيخلف الجان في إعمار هذه الأرض سيكون من نوع مختلف عنكم وعن الجان، فإن كنتم من النوع الصرف الذي يوحد ولا يذنب، فإن المخلوق الجديد سيكون في امتحان عسير، يتنازعه طريقان، طريق الخير وطريق الشر، وأيهما غلب عليه سيحتم له المصير الأبدي؛ إما إلى جنة وإما إلى النار، وقولهم: ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ [البقرة: 30]، كأنهم يريدون أن ينفردوا بالوجود، وألا يشاركهم مخلوق في هذا، لا حسدًا؛ لأنهم لا يعرفون الحسد، وإنما كيلا يتأذَّوا من جحود المخلوق وكفره ونكرانه - كما ذكرنا - ولكي يثبت لهم ربهم أهمية هذا المخلوق زوده بالعقل، وزينه بالعلم؛ فعلَّمه أسماء الأشياء الحسية والمعنوية ولغة التخاطب، فكان ناطقًا، وهذا يدل على أن الأشياء خُلقت قبله من حيوان وجماد، فاحتاج لتعلُّم أسمائها، وجعلت الأرض مسكنًا صالحًا له؛ حيث ظلت ملايين السنين تتقلب من حال إلى حال، وطَور إلى طَور، حتى ناسبت سكناه، وأصبح ما فيها مسخرًا له، وقد أخبر الله تعالى عن هذا بقوله: ﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ﴾ [فصلت: 9، 10]، فكان خَلْقها وتكوينها وخَلْق ما فيها من أقوات في أربعة أيام من أيام الله، التي لا يعلم مداها الزمني وَفْق سنواتنا إلا الله، وبقية خلق الكون في يومين، ليكتمل الخلق للسموات والأرض في ستة أيام، وهكذا خضعت الأرض لهذا التشكيل الرباني لتناسب عيش الإنسان، ومن هذه الآيات نستنتج أنه لا توجد حياة تناسب الإنسان على الكواكب الأخرى؛ لأنها عُدَّت من بقية الكون التابعة للسموات ولم يشملها ما جرى للأرض، وأما هذا العدد من الأيام للخلق فتلك حكمة الله، والله تعالى قادر أن يخلقها بكلمة (كُنْ)؛ ﴿ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [البقرة: 117]، ولعل هذا الحديث يوضح الخَلْق بكلمة (كُنْ)؛ فقد ورد أن الملائكة طلبوا من ربهم الجنة لهم، فكان الجواب: لن أجعل صالحَ مَن خلقتُ بيديَّ كمن قلت له: كن، فيكون، وهذا يدل على أن خلق آدم الذي استغرق زمنًا قبل نفخ الروح فيه ليس كمثل الملائكة الذين خُلقوا بكلمة (كن)، ولله الأمر من قبل ومن بعد في كيفية خلق عباده كما يشاء بما يريد.
* وبعد اكتمال الصورة الإنسانية لآدم عليه السلام، قدمه الله للملائكة، وأمرهم بالسجود له، سجود تكريم ورفعة شأن.. غير أن إبليس لم يستجب لأمر الله في السجود، فأبى أن يكون مع الساجدين: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [ص: 71 - 76]، والسجود لآدم من قِبل الملائكة هو سجود ينسحب على كافة ذريته؛ فالعاقل مِن البشر عندما يستذكر ذلك ينشط في طاعة الله عرفانًا منه لهذا التكريم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 34]، وقال في سورة أخرى يظهر فيها جدال إبليس وتبرير فَعلته بعدم السجود: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 11، 12]، ولهذه المخالفةِ من إبليس وإغضابه ربَّه وعصيانه العلني استحقَّ غضبَ الله، والطردَ واللعن والخلود في جهنم، لكن إبليس الذي علم مصيره المحتوم في جهنم لم يشأ أن يدخلها قبل أن يبثَّ كامل شره بين الخَلق حتى يدخلها بمرتبة الأذى العليا؛ لذلك تنمَّر وكشر عن أنيابه وما تأجج في داخله من غضب وحقد، فابتدأ عداوته السافرة لآدم، وطلب من ربه أن يؤخِّرَه إلى يوم القيامة؛ لكي يقومَ بإغوائه وإغواء ذريته؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ﴾ [الإسراء: 61 - 63]، أرأيتَك بمعنى أخبرني، لأحتنكنَّ بمعنى لأستولين عليهم ولأستميلنهم، وقد أورد النصُّ القُرْآني تبرير إبليس بعدم السجود لآدم، فقال تارة: ﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 12]، وقال: ﴿ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ﴾ [الإسراء: 61]، وقال: ﴿ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ [الحجر: 33]، لقد قال إبليس كل هذا، وهذا دليلُ حقده وحسده، ومحاولته إيجاد مبرر لفَعلته النكراء، وهذا فعل كل حسُود وحقُود، يصعد في التسويغ وسوق الحجج كي تقبل منه، لكنه لا بد وأن يقع بزلة لسانه، التي أخبرت عن حقده وحسده وجحوده: ﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأعراف: 12]. * وبدأتِ العداوة بين إبليس وآدم بشدة؛ فآدم يتقيه بالاستعانة بالله والبعد عنه ما أمكن إلى ذلك سبيلًا، وإبليس قد توعد آدم وذريته بالويل والثبور وعظائم الأمور، لا يكف عن الإغواء ساعة من زمن، خصوصًا لمَّا لعنه الله وطرده من رحمته، وعرَف مصيره المحتوم في النار، فأصبح محمومًا يريد الشر لكل مخلوق؛ قال الله تعالى: ﴿ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [الحجر: 32 - 42]، تأمَّل هذه المحاورة لكي تتعرف على حقد إبليس على آدم ومِن بعده على بنيه، أنه يعلم أنه خسر كل شيء للأبد، وطرد مما كان فيه من نعيم؛ {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر: 34]، سواء الضمير في منها راجع إلى الجنة أو إلى المكانة التي كان عليها قبل العصيان، فقد تبدل حُسنه يومَ كان ذا مكانة عالية إلى قُبح بعد أن سفل؛ فهو أقبح مخلوق في هذا الكون، إنه يستشيط غضبًا ولا يبالي بما يفعل، يود لو أن له شيئًا من قوة لدمر الكون، ولكن هيهات، فهو أضعف من ذبابة أمام صمود المؤمن وتمسكه بتعاليم خالقه، إنه القهر الذي يذله؛ فلقد أذله آدم الإنسان الذي بدا له ضعيفًا، فحرمه من مجده ومكانته، حيث أظهر كامن حقده وحسده وتكبره، فليس عنده - بعد أن صب الله عليه اللعنة - مهادنة أبدًا ولا تراجع عن حقده وكراهيته للبشر، لقد أعد لهم الشرور، وتفنَّن في التنويع والتنكيل، ولكن إيذاؤه للإنسان لا يكون إلا بقدر ما يستجيب هذا الإنسان لوسوسته؛ فاتقاؤه بالتمسك بالدِّين، وما وصانا به الله - عز وجل - عن طريق رسله صلوات الله عليهم أجمعين؛ لذلك عرَّفنا اللهُ أن الطريق إلى الله واضحة مستقيمة، فمن سلكها وتمسك بها كان مستثنًى من الإغواء، فلا يصل إليه شر الشيطان: ﴿ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [الحجر: 41، 42]، أما آدم فقد علا ذكره وشاع خبره بين الملأ الأعلى، وفاز بالتكريم، كما فاز بسُكنى الجنة: ﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 19]، وفي سورة البقرة: ﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 35]، فمِن أين لآدم الزوجة ونعلم أنه لم يكن معه زوجه عند الأمر بالسجود له؟ فهذا الخطاب على ما سيكون؛ لأن زوجته معه يحملها أحد أضلاعه، قال في فتح القدير: "قال: لما سكن آدمُ الجنة كان يمشي فيها وحشًا ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ وإذا عند رأسه امرأة قاعدة، خلَقها الله من ضلعه"، وهناك كانت لباسًا له، وكان لباسًا لها، وسكَنَ لها، وسكنَتْ له: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ [النساء: 1]، وفي [الأعراف: 189]: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾، ويمكُثُ آدم وزوجه في الجنة بحياة رغيدة هنيئة، طمأنه ربُّه فيها: ﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى ﴾ [طه: 118]، لكن هذه العيشة الهانئة مشروطة بشرط سهل التنفيذ، ليس فيه أي تأثير على مسيرة حياة آدم وزوجه في الجنة، ولا يحدُّ مِن رغباتهما مطلقًا؛ فهو محظور واحد أمام مباحات لا حد لها؛ قال الله تعالى: ﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 35]، شجرة واحدة هي الممنوعة فقط، وذكر المفسِّرون أنها الكرم، وقالت طائفة منهم: الحنطة، وقال آخرون: النخلة، والتزم آدم وزوجه بهذا الشرط، وعاشَا في هناء وصفاء ورغَد من العيش، غير أن إبليس الذي هدد وتوعد آدم بأن ينغص عيشه ويسوقه إلى درب الهلاك والعصيان قد مكر وخبَّأ لآدم الشر والدواهي؛ ليوقِعَه في المحظور: ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 20، 21]، ومع القسَم بأنه ناصح لهما وهو كاذب عاد للخداع وزخرف الكلام؛ ﴿ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [الأعراف: 22]، لا يمكِننا أن نقول: كيف تورَّط آدم وزوجه من الأكل من الشجرة؟ وكيف استطاع إبليس بالوسوسة والإغواء الإيقاع بهما؟ فقد ورد في الحديث الشريف عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حاجَّ موسى آدمَ عليهما السلام، فقال له: أنت الذي أخرجتَ الناس بذنبك من الجنة وأشقيتهم، قال آدم: يا موسى، أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر قد كتبه الله عليَّ قبل أن يخلقني، أو قدره عليَّ قبل أن يخلقني))، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فحجَّ آدمُ موسى))؛ رواه البخاري ومسلم وغيرهما، فهذا أمر قدره الله لأمر يريده وحكمة يعلمها، وآدم نفذ ذلك مختارًا، فقد تصرف وفق الطبيعة البشرية التي وضعها الله فيه: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 115]، وهو التذكير بما سبق من وصية آدم بعدم الأكل من الشجرة وعدم طاعة الشيطان، لكنه نسي كل هذه الوصايا؛ لِمَا رُكِّب في الإنسان من طبيعة النسيان، فرغم كل التحذيرات من مكر الشيطان وأنه العدو الأول للإنسان، فقد زلت قدم آدم ووقع في العصيان؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ﴾ [طه: 116، 117]، وقدَّم الله تعالى لآدم ما يطمئن باله ويريح خاطره وتفكيره من عناء مستقبله، فكانت الضمانات من العلي القدير بدوام العيشة الهنيئة، إذا ما التزم بالبعد عن الشجرة وعدم الإصغاء إلى وسوسة إبليس؛ ﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ﴾ [طه: 118، 119]، وهل هناك أهنأُ مِن هذه العيشة وألذ منها؟! طعام جاهز يبعد غائلة الجوع، وشراب لذيد متى ما شعر بالعطش، وليس فيها ما يخيف من حر الشمس وقت الضحى، فلا شمس أصلًا في الجنة، سعادة ما بعدها سعادة، ثم ماذا كان بعد ذلك؟ لقد تطلَّع - بعد وسوسة الشيطان - إلى الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها؛ ﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾ [طه: 120، 121]، والوسوسة هي شيء خفي يدب في النفس ويسيطر عليها ويسيِّرها، فلا تنفك من إسار هذه الوسوسة إلا بذكر الله، لكن تجمَّعت على آدم الوسوسة مع قسم إبليس له بأنه ناصح، وأنه إن أكل من هذه الشجرة فإنه سيكون خالدًا مع مُلك لا يبلى: ﴿ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ﴾ [الأعراف: 22]؛ أي: أوقَعهما في التهلُكة، وأنزل رتبتهما مِن عليائها وعزتها؛ ﴿ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ﴾ [الأعراف: 22]، وكانا مستورينِ بهالةٍ مِن نور لا يرى أحدهما سوءة الآخر، ولا حتى سَوءته، وسُميت السوءة بهذا الاسم؛ لأن ظهورَها للآخرين يسُوءُهم، ربما كان هذا لباسهم في الجنة (النور)؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ﴾ [الأعراف: 27]، وربما كان لباسًا من حرير وإستبرق، وهو لباس أهل الجنة، فلما ارتكبا الخطيئة بالأكل من الشجرة، تعرَّيَا بسبب العصيان: ﴿ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ﴾ [الأعراف: 22]، فارتاعَا لهذا التغيير، وكان بداية الوقوع في المخالفة، وإشارة إلى ارتكاب الخطأ، وأن هالةَ النور الساترة قد زالت بفعل ما ارتكباه من خطأ وعصيان للأمر الإلهي، وكان بالقرب منهما شجرة تين فطفِقا يقطعان من ورقها؛ لكبره، ويستتران به؛ أي: يلصقانه فوق العورة، ﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ﴾ [الأعراف: 22]، عن الأكل منها، وعدم الاقتراب منها؛ حتى لا تقعا في المحظور، وفوق هذا حذَّرهما من الشيطان ومكره وكيده، وأنه مسلَّط عليهما، ولا يعصمهما منه إلا الالتجاء إلى الله باتباع ما أمر، والبُعد عما نهى عنه، ﴿ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [الأعراف: 22]، وهكذا خرَج آدم وزوجه من الجنة بسبب الشهوة والنسيان، وإغواء الشيطان، ليعيشا في دار الكدح والعمل والامتحان، تتنازعه الأهواء والشهوات، ونوازع الخير ونوازع الشر، فأمامه طريقان: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 10]، ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3]، فيحيَا في صراع حقيقي لا هوادة فيه إلى أن ينتهي صراعُه بالموت؛ ﴿ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ﴾ [الواقعة: 88 - 94]، فتغيَّرت الدارُ، فلم يعُدْ كل شيء ميسرًا لخدمة آدم بلا كدح أو تعب، فلا بد من العمل وبذل الجهد؛ لتحصيلِ الرزق، واستمرار الحياة، وبدأت مسيرة الإنسان فوق الأرض بآدم وحواءَ، وولدت حواءُ البنين والبنات: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، وقبل أن نتابعَ حياة آدم على الأرض لا بد مِن وقفات: • ابتداء خلق آدم لم يكن على الأرض، وإنما كان في الجنة؛ ففي الحديث الشريف الذي يرويه مسلم عن أنس رضي الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما صوَّر الله آدم في الجنة، تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو، فلما رآه أجوفَ، عرَف أنه خلق خَلْقًا لا يتمالك))، أما طينته فهي من الأرض، وكما ورد أنها ليست من مكان واحد؛ فتنوَّعت لذلك أشكال ذرية آدم، وآدم هو أبو البشر، ولا يوجد آدم غيره؛ فهو أولُ مَن سكن الأرض من البشر، وهؤلاء الناس ينتسبون له، ويروي البخاريُّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة، فرفع إليه الذِّراع - وكانت تعجبه - فنهس منها نهسةً، وقال: ((أنا سيدُ القوم يوم القيامة، هل تدرون يوم يجمع الله الأوَّلين والآخرين في صعيد واحد، فيُبصرهم الناظر، ويُسمعهم الداعي، وتدنو منهم الشمس، فيقول بعض الناس: أبوكم آدم، فيأتونه، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلَقك الله بيده، ونفَخ فيك مِن رُوحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! فيقول: ربي غضِب غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، ونهاني عن الشجرة فعصيتُه، نفسي نفسي))، ومن حديث طويل عند البخاري ومسلم: أن المؤمنين يدخلون الجنة على خَلْق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعًا في السماء، فهذا صريح أن آدم هو أبو البشر؛ فالجنة التي عاش فيها آدم وحواء - التي خلقها الله من ضلعه - هي الجنة الحقيقية التي وُعد بها المتقون؛ ليحيَوْا فيها حياة السعادة الأبدية، هي دار الخلود، وليست جنة في الأرض، أو على ربوة في الأرض؛ لأنه لا توجد على الأرض جنة بهذه المواصفات، ولكن هل مُتِّع آدم وزوجه بكل الجنة؟ فجنة الخلد كما ورد هي جنان مساحاتها واسعة جدًّا، ولعل آدم قد عاش فترة مكثه بالجنة بالقسم المخصص له في الجنة التي سينالها في الآخرة، وهذا ليس ببعيد؛ لأن المسلم يعطى مساحة من الجنة تزيد عن مساحة الأرض أضعافًا، فما بالنا بالأنبياء؟! كما أن الجنة فيها أماكن عامة وأخرى خاصة، كحالة الدنيا التي فيها مساكن خاصة، ومساجد، وأسواق، وحدائق عامة؛ قال الله تعالى يصف حال المؤمنين في الجنة في جلسة عامة: ﴿ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ﴾ [الواقعة: 15 - 18]، وفي سورة الغاشية: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ﴾ [الغاشية: 8 - 16]، وفي الحديث الذي يرويه مسلم عن أنس: ((إن في الجنة لسوقًا يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشَّمال فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنًا وجمالًا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالًا، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالًا، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم حسنًا وجمالًا))، وفي الحديث عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنةِ لشجرةً يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها))؛ أخرجه البخاري، فهي في مكان عام، وفي الحديث الذي أخرجه مسلم: ((سَيْحان وجَيْحان والفرات والنيل كلها من أنهار الجنة))، وهذه الأنهار - كما ورد في الحديث الصحيح - تنبع من الفردوس، وتجري في الجنان كافة، وعندما سألت أمُّ حارثة النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن مصير ابنها الذي استشهد في بدر وهو غلام، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أمَّ حارثة، إنها جنان، وإن ابنَكِ قد أصاب الفردوس الأعلى))، فهذا مثَلٌ عن الأماكن العامة في الجنة؛ فآدم عندما كان في الجنة لم يسكنها كلها، وإنما كان في الجزء المخصص له، خصوصًا وأن إقامته في الجنة كانت ساعة من نهار، صحيح أنها تعدل من سِنِي الدنيا - كما ورد - مائة وثلاثين يومًا، لكن يبقى الزمن حسب المكان؛ أي بالنسبة لآدم لم يكمل فيها يومًا، وهذا يرجح أنه أقام في مكان محدود، فالجنة أوسع من أن يجول فيها كافة، وأكبر من أن ينالها شخص واحد، فلو قارنَّا هذا بقصر كبير في الدنيا، فهل بإمكان شخص واحد أن يستعمل كافة غرف القصر ومرافقه أم أنه سيستعمل جزءًا منه؟ وأما ما كان خاصًّا، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة، قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ((بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر، فذكرت غيرته، فوليتُ مدبرًا))، فبكى عمر، وقال: أعليك أغار يا رسول الله، وفي رواية: ((فأردتُ أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك))، كما أخرج مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن للمؤمن في الجنة لخيمةً من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلًا، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم من بعض))، فهذا للمؤمن، فكيف تكون المساحة للنبي؟! * وأخرج أحمد في مسنده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنني لأعرف آخر أهل النار خروجًا من النار، رجل يخرج منها زحفًا، فيقال: انطلق فادخل الجنة، قال: فيذهب يدخل فيجد الناس قد أخذوا المنازل، قال: فيرجع، فيقول: يا رب، قد أخذ الناس المنازل، قال: فيقال له: أتذكر الزمان الذي كنت فيه؟ فيقول: نَعم، فيقال له: تَمَنَّ، فيتمنى، فيقال: إن لك الذي تمنيت وعشرة أضعاف الدنيا، فيقول: أتسخر بي وأنت الملِك؟!))، قال الراوي: فلقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه، وفي رواية: ((عبدي، أيُرضيك أن أعطيك من الجنة الدنيا ومثلها معها))، هذا الخاص بهذه المساحة لهذا العبد الذي غلبت سيئاته حسناته فعُذِّب بالنار، ثم خرج منها، فكيف تكون الجنة التي خصصت لآدم عليه السلام إذًا؟ وماذا يفعل آدم بكل الجنان التي خلقها الله وهي كما رأينا عامة وخاصة؟! * فعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((في الجنة مائةُ درجة، ما بين كل درجتين مائة عام))، وفي حديث آخر: ((ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفِردوس أعلى الجنة))، وأخرج الترمذيُّ عن أبي سعيد قال: ((إن في الجنة مائة درجة، لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم))، فهذه هي جنان الله، فهل استعمل آدم هذه الجنان كلها؟ فعند البخاري عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أهل الجنة يتراءَوْن أهل الغرف من فوقهم كما يتراءَوْن الكوكب الدريَّ الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب؛ لتفاضل ما بينهم))، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: ((بلي، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله، وصدَّقوا المرسلين))، فهذه جنة آدم، وكل نبي أو صالح ممن يشملهم هذا الحديث له جنته، التي تبدو لأهل الجنة - من غير هؤلاء - كما يبدو لنا القمر أو الكوكب الدري، وعندئذ نقول: إن الله أسكن آدمَ جنته؛ أي: الجنة المخصصة له في الآخرة، وهي الجنة الحقيقية، وليس جنة في الدنيا، أو مكانًا آخر، كما يزعم بعضهم. * • ويبقى السؤال: إذا كانت جنة آدم هي جنة الخلد، فكيف دخل إليها إبليس وهي محرمة على الكافرين؟ فالجواب أن إبليس لما طلب من ربه أن ينظره إلى يوم يبعثون وأن يسلطه على بني آدم، استجاب الله تعالى لطلبه، وبدأ الصراع بين إبليس وآدم، وأصبح آدم عرضة لوسوسة إبليس وإغوائه، وآدم لم يكن محميًّا من الله إلا بقدر ما يلتزم بتعاليم الله، ولم يكن قد أحاطه بحاجز مادي يمنع إبليس من التأثير فيه، وإلا فكيف يكون الصراع؟ وعندئذ يستحيل على إبليس أن يحقق ما أذن له الله به من الوسوسة والإغواء، ويكون حاله كما قال الشاعر: ألقاه في اليَمِّ مكتوفًا وقال له: ♦♦♦ إياكَ إياكَ أن تبتلَّ بالماء * فدفاع الإنسان ضد إبليس هو بوسائله الذاتية التي تستمد العون من الله، وعليه فإبليس له القدرة على النفاذ والاختراق بما أعطاه الله من القدرة على ذلك، ولو لم تكن له هذه المقدرة لكان وعيده للإنسان بلا قيمة، فهناك إذًا الوعيد النافذ، وهناك من الإنسان الدفاع النافذ المعتمد على اتباع تعاليم الله: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [الحجر: 42]، فأية ثغرة عند الإنسان لا يقوم بسدها سيستغلها إبليس للنفاذ منها إلى إيذائه والتأثير عليه، فهي حرب شرسة بكل ما للحرب من خططٍ وخدع، والإنسان القوي الذي يغلِب إبليس ويهزمه هو المعتمد على الله، الحافظُ لتعاليمه، فإذا عرفنا هذا فإننا لا نستغرب من إمكانية وصول إبليس إلى آدم في أي مكان كان، نعم، فبعد انتهاء الدنيا عندما تقوم الساعة ينتهي معها إبليس وعمله، ويكون قد أُنظِر كما وعده الله، وعمل عمله ببني آدم حتى أرضى غروره، لكنه بعد ذلك يهلِك في النار بأشد العذاب، وليس له ولا لغيره أن يحلم بالجنة، أو أن يدلف إلى بابها، ومن استعراض الآيات التي ذكرت صراع آدم مع إبليس نرى الآتي: ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 20، 21]؛ أي: خدعهما. * ﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ﴾ [طه: 120]. * ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الأعراف: 16]. * ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الحجر: 39]. * مِن هذه الآيات يتبين أن إبليس استعمل الوسوسة من آدم للإغواء، كما استعمل الحوار؛ حيث يظن الذين نفَوْا أن تكون جنة آدم هي الجنة الحقيقية؛ لأن إبليس التقى به في الجنة، وجعل نفسه محبًّا لآدم ناصحًا له، مدللًا على صدقه بالأَيمان المغلَّظة، وأنه ناصح له ولزوجه، وأن المنع والنهي من الله لكما كيلا تكونا ملَكين، أو تكونا من الخالدين، وقالوا: هذا مستحيل على كافر أن يدخل الجنة، أو أن يجد ريحها؛ لذلك فهي غير جنة الرضوان، وإلا كيف وصل إلى آدم وكيف التقى به وبزوجه؟ * ويقول المثبِتون للجنة بأنها هي جنة الرضوان: لقد وجد إبليس أن التأثير على آدم بالوسوسة عديم الجدوى؛ لأن الوسوسة شيء خفي يحدُثُ في النفس، فتحولها عن عمل الصواب، وأنها تقوم بعمل منكرٍ فيه مخالفة الفطرة السليمة والتعاليم الدينية التي أمر الله باتباعها عن طريق الرسل والكتب المنزلة عليهم؛ لذلك فإن القلب النابض الواعي يكتشف هذه الوسوسة فيتخلص منها؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201]، فيعُوذون بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ﴾ [المؤمنون: 97، 98]، وقال تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 200]، وأمام هذا لم يكن أمام إبليس سوى الاحتيال لمقابلة آدم؛ فبالمقابلة يتحقق ما لا يتحقق بالوسوسة عن بعد، فسعى لدخول جنة آدم ومكان سكناه، وذكرت التفاسير أن إبليس حاول دخول الجنة فمنعه خزنتها فعاد أدراجه، لكنه لم ييئَس؛ فهو مسلَّط على آدم، ثم طلب من الحية أن تدخله على آدم؛ فإن معه نصائح له، فدخل جوفها وكلم آدم من جوفها فلم يحفل به آدم، فخرج من جوفها، فما زال يغريه ويقسم له إنه ناصح له، وقال: ﴿ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ﴾ [طه: 120]. * أقول: إن ما جرى بين آدم وإبليس مِن حوار لم يكن عن طريق المقابلة، ولا عن طريق دخول إبليس الجنة عن طريق الحية أو غيرها، فهذا لم يحصل، وليس ثابتًا، وإن الجنة فعلًا محرمة على الكافرين؛ لذلك كان هذا الحوار بين آدم وإبليس على طريقة الحوار بين المؤمنين الذين في الجنة والكفار الذين في النار، الذي صوره لنا القُرْآن الكريم: ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 44]، فكان حوارًا لم يدخل أحدُ الطرفين مكان الآخر، وكذلك: ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [الأعراف: 50]، الآيتان من سورة الأعراف، وهكذا كان الحوار وأهل الجنة في جنتهم، وأهل النار في نارهم، ومحرم عليهم دخول الجنة، فعلى مثل هذا التصور حصل الحوار بين آدم وإبليس، وحصولُ الإغواء دليل الضعف البشري أمام شهوة النفس. * وورد في التفسير أن آدم امتنع عن الأكل، لكن الحيلة انطلت على حواء، فتقدمت وأكلت من الشجرة، ثم قالت: يا آدم، كُلْ؛ فإني أكلت فلم يضرني - وهي صادقة - لأن المنع كان مرتبطًا بهما معًا، فلو أكل أحدهما ولم يأكل الآخر لم تحصل المخالفة؛ لأنها مشروطة بأكلهما معًا، وآيات المنع تنطق بهذا؛ قال الله تعالى: ﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 35]، وفي الأعراف: ﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 19]، وخاطبهما إبليس معًا: ﴿ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴾ [الأعراف: 20]، ﴿ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ﴾ [الأعراف: 22]، وفي سورة طه: ﴿ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ﴾ [الأعراف: 22]، فلما أكلَتْ حواءُ مِن الشجرة وحدها لم يحصل لها التعرية، فاطمأنت لهذا، وأخبرت آدمَ أنها أكلت، ولم يحدُثْ شيء غير مألوف لها، وبهذا خدع آدم، وربما نسي أن المنع كان لكليهما معًا، فإن أكلا معًا وقعت المخالفة، فأكل آدم بعدها، وكان الزلزال؛ فبدَتْ لهما سوءاتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة. * وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس، قال: "قال الله لآدم: ما حملك على أن أكلت من الشجرة التي نهيتُك عنها؟ قال: يا رب، زينته لي حواء، قال: فإني عاقبتُها بألا تحمل إلا كرهًا، ولا تضع إلا كرهًا، وأدميتها في كل شهر مرتين"، وأخرج البخاري ومسلم والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لولا بنو إسرائيل لم يخنَزِ اللحم - يفسد، ولولا حواءُ لم تخُنْ أنثى زوجها))، إشارة إلى سبقها آدم الأكل، أو طلبها منه؛ حيث قالت له: أكلتُ ولم يحدث شيء، فشجعته على الأكل، والخيانة هنا ليست الخيانة في العرض، وإنما ميل الأنثى لفرض رأيها على زوجها، ولو كانت على خطأ، قال ابن حجر: "وفي الحديث إشارة إلى تسلية الرجال فيما يقع لهم من نسائهم بما وقع من أمهن الكبرى، وأن ذلك في طبعهن، فلا يُفرِط في لوم مَن وقع منها شيء من غير قصد إليه"، الحديث الأول ليس بالقوي، ولو صححه الحاكم، وذكر ابن كثير ما يلي: "وكانت حواءُ أكلت من الشجرة قبل آدم، وهي التي حثته على أكلها، والله أعلم"، بَيْدَ أن القُرْآن عاتبهما كليهما، وهذا دليل الثنائية المشتركة في المخالفة، وآدم باعتباره الأصل فهو المسؤول الأول قبل حواء؛ ﴿ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 22، 23]. * فالقُرْآن الكريم لم يتَّهِم حواءَ، ولم يذكر أنها هي البادئة، وإنما كان التركيز على ذكر آدم بأنه هو الذي عصى ربه، وهو الذي تاب، وزوجته كانت تبعًا له، وهذا يذكرنا بقوامة الرجل على المرأة، ومسؤوليته الأولى عن البيت، بينما يذكر القُرْآن الكريم فعل حمَّالة الحطب، زوجة أبي لهب؛ لِما لها من المشاركة الفاعلة في الإيذاء مع زوجها، ويذم زوجتي نوح ولوط؛ لخيانة كل منهما زوجه، ويمدح زوجة فرعون؛ لإيمانها وهي في وسط قوم كفار فلم تتأثر بهم، وظلت متمسكة بإيمانها إلى أن قضت نحبها، ولو كانت حواء هي السبب في جر آدم للأكل من الشجرة، لذُكرت؛ لأن أمر الإخراج أكثر أهمية مما عملته زوجتا نوح ولوط، إضافة إلى أنه عصيان لأمر الله، وانسياق مع متطلبات إبليس اللعين، وإخراج مهين لآدم من الجنة؛ قال الله تعالى: ﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ [البقرة: 36]، ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ [البقرة: 37]، ﴿ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [طه: 121، 122]. * • هناك من يقول بأن آدم سبقه أكثر من آدم، وليس هو أول إنسان على الأرض، وذلك مستندًا إلى العثور على عظام بشرية قُدِّر تاريخها بأكثر من مليون سنة. * • وهذا خطأ فادح؛ فنص الآيات صريح بأن آدم النبي هو أول البشر الذين خلقهم الله تعالى، وخلق له زوجه في الجنة، ومنهما كان نسل الإنسان، ولا توجد إشارات من قريب أو بعيد لوجود إنسان قبل آدم، وهو حديث عهد بالأرض إذا قِيس بغيره من المخلوقات، أما التقديرات الجيولوجية لعمر الإنسان فهي ليست حجة، وهي تقريبية، وقد تحدث هزات أرضية فتنقل العظام إلى طبقات من الصخور قديمة؛ لذلك لا يقاس عمر العظام بعمر الطبقات المتشكلة التي تضم العظام، ولو تتبعنا الآثار التي خلفها الإنسان لدلت على زمن وجوده الحقيقي؛ فالباحثون وجدوا أن الآثار المصرية هي أقدم شيء خلفه الإنسان؛ فالإنسان منذ النشأة الأولى ترك شواهد وبصمات تدل على وجوده أينما حل وأينما ارتحل، وهو منذ أن درج على الأرض إنسان ناطق متعلم؛ ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ [البقرة: 31]، وآدم إضافة إلى أنه أبو البشر فهو أيضًا أول الأنبياء، فكان متعلمًا ناطقًا، له لغته التي يتخاطب بها، عارف بالأسماء ومسمياتها، ومن يظن أن الإنسان الأول على الأرض هو إنسان الكهوف الذي عاش كالحيوان ولم يعرف الحياة المدنية، أو لم يعرف النار والصناعات المناسبة له، فقد أخطأ كثيرًا، أما سكان الكهوف الذين لم يعرفوا اللغة والتخاطب بها، والذين عاشوا كالحيوانات يأكلون النِّيءَ من اللحم - فهم مِن الذين شذوا فيما بعدُ عن المجموعة الإنسانية وتفرَّقوا في الأرض، فأثر فيهم بعدُهم بفقدهم مقومات العيش الكريم، ونسيان ما كان أسلافهم عليه، فعاشوا عيشة الحيوانات، وأكبر المثل ما نجده في أواسط إفريقيا ومجاهل أستراليا من الأقوام البدائية في كل شيء، وحولهم بمسافات ليست بالبعيدة جدًّا أقوام في قمة التقدم، فلو أن غريبًا من الفضاء - على سبيل المثال - حطَّ بمركبته في وسط إفريقيا وشهِد القومَ ومعاشهم، ثم عاد إلى موطنه وأخبرهم بما شاهده، لقالوا: سكان الأرض هم صِنف من الحيوانات التي تحيا حياة متخلفة، ولو حط آخر وسط أوروبا أو الولايات المتحدة وشاهد الناس والعلم لقال: سكان الأرض في أحسن حال من العلم والمعرفة، وهم على درجة كبيرة من التقدم، فمَن كتب عن الإنسان الأول لم يشاهد إلا الأدوات الحجرية، ولكن أنَّى له أن يشاهد العلم والمعرفة، وقد أخبر الله عن قوة الأقوام الغابرين: ﴿ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا ﴾ [التوبة: 69]، ثم ذكَر هؤلاء الأقوام: ﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ ﴾ [التوبة: 70]؟! أليست سفينةُ نوح مختَرَعًا مهمًّا في ذلك العصر؟! ونوح هو الأب الثاني للبشر بعد الطوفان، والمهم في هذه المناقشة أن البشر منذ سكناهم الأرض كانوا عنصرًا ذكيًّا ناشطًا متعلمًا، وسنرى هذا من خلال قصة هابيل وقابيل. د. محمد منير الجنباز
__________________
|
#2
|
|||
|
|||
بارك الله فيك
|
#3
|
|||
|
|||
كل الشكر و التقديــــــر لحضرتك علي هذا الجهـــــد
__________________
Minds, like parachutes, only work when opened
|
العلامات المرجعية |
|
|