|
محمد ﷺ نبينا .. للخير ينادينا سيرة سيد البشر بكل لغات العالم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
|||
|
|||
استيقظ فلا تأخذك غفوة عن حلم النبي صلى الله عليه وسلم وعفوه
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102] ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء: 1] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70، 71]. * أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار. أعاذنا الله وإياكم وسائر المسلمين من النار، ومن كل عمل يقرب إلى النار، اللهم آمين. * والذي يقينا من النار، ومن كل عمل يقربنا إلى النار، هو هدي محمد صلى الله عليه وسلم واتباعنا لهديه وسيرنا على سنته، والتمسك في أخلاقه وسلوكه ومعاملاته على قدر الطاقة والاستطاعة، وهذا ما اجتمعنا لأجله؛ وهو بيان شيء من حِلْمه صلى الله عليه وسلم وَعَفْوه، فقد وصفه الله عز وجل فقال: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، وقَالَ تَعَالَى: ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159] وَقَالَ سبحانه وتَعَالَى مؤكدا ذلك: ﴿ خُذْ الْعَفْوَ وَأمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]. * (فَاعْفُ عَنْهُمْ) الْمُرَاد بِالْعَفْوِ هُنَا ضِدّ الْجَهْل، وَالْعَفْوُ التَّسَاهُل فِي كُلّ شَيْء، كَذَا فِي بَعْض التَّفَاسِير. وَفِي جَامِع الْبَيَان: خُذْ الْعَفْو مِنْ أَخْلَاق النَّاس، كَقَبُولِ أَعْذَارهمْ وَالْمُسَاهَلَة مَعَهُمْ. وَفِي تَفْسِير الْخَازِن: الْمَعْنَى اِقْبَلْ الْمَيْسُور مِنْ أَخْلَاق النَّاس، وَلَا تَسْتَقْصِ عَلَيْهِمْ فَيَسْتَعْصُوا عَلَيْك، فَتَتَوَلَّد مِنْهُ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاء. وَقَالَ مُجَاهِد -إمام المفسرين-: يَعْنِي خُذْ الْعَفْو مِنْ أَخْلَاق النَّاس وَأَعْمَالهمْ مِنْ غَيْر تَجَسُّس، وَذَلِكَ مِثْل قَبُول الِاعْتِذَار مِنْهُمْ، وَتَرْك الْبَحْث عَنْ الْأَشْيَاء[1]. (وَأمُرْ بِالْعُرْفِ) أي: المعروف: من طاعة الله، والإحسان إلى الناس. * (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) أَيْ: بالمجاملة، وحسن المعاملة، وترك المقابلة، ولذلك لَمَّا قال عُيينة بن حصن لعُمَر رضي الله عنه: ما تعطي الجزل ولا تقسم بالعدل، وغضب عمر -رضي الله عنه- قال له الحُرّ بن قيس: إن الله يقول: ﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، فتركه عُمر. فأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم هي ما في القرآن هكذا أدبه الله فأحسن تأديبه. وعندما سئلت عَائِشَةَ رضي الله -تعالى- عنها: (كَيْفَ كَانَ خُلُقُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَهْلِهِ؟) قَالَتْ: (كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا؛ لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا، وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَلَا صَخَّابًا بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ)[2]. * وَلا ينتقم لنفسه أبدا بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ولكن ينتقم لله، ولدين الله سبحانه وتعالى، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله -تعالى- عنها قَالَتْ: (مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ)، (وَمَا لَعَنَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ لَعْنَةٍ تُذْكَرُ)، (وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ)، (وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ عز وجل فَيَنْتَقِمَ للهِ)، (وَمَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ)[3]. * يُسْتَفَاد مِنْ هَذَا أَنَّ الْحِلْم لَيْسَ مَحْمُودًا مُطْلَقًا، -الحلم مطلوب دائما لكن مع الفسقة والفجرة، الحلم مع الكفرة لا يكون حلما، والجود كذلك لا يكون مطلقا- كَمَا أَنَّ الْجُود لَيْسَ مَحْمُودًا مُطْلَقًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي وَصْف الصَّحَابَة ﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29][4]. * وَكان صلى الله عليه وسلم يحتمل شدة الأعراب وغلظتهم وسوء معاملتهم، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: (كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ)، -أي غليظا من الداخل- (فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ)، فَقَالَ: (يَا مُحَمَّدُ! أَعْطِنِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ)، (فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ). [5]، وَيوصي الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول بأبيه وهو رأس المنافقين خيرا، وهو والد أحد عظماء الصحابة، وهو رأس المنافقين، سبحان الله!كيف تخرج من المزبلة وردة؟! أوصاه بأبيه المنافق خيرا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله -تعالى- عنه قَالَ: (مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ)، -وهو المنافق- (وَهُوَ فِي ظِلِّ أَجَمَةٍ) -الأَجَمَة: مَنْبت الشجر من القَصَب. [6]- فقَالَ: (قَدْ غَبَّرَ عَلَيْنَا ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ)، -يقول للنبي صلى الله عليه وسلم- فقَالَ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ: (وَالَّذِي أَكْرَمَكَ، وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، لَئِنْ شِئْتَ لآتِيَنَّكَ بِرَأسِهِ)، -الولد الصالح يريد أن يقطع رأس والده من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("لَا! وَلَكِنْ بِرَّ أَبَاكَ، وَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُ")[7]. * وَيُلبس رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول قميصه لخير قدمه هذا المنافق للعباس رضي الله عنه، وهذه قصته؛ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: (لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أُتِيَ بِأُسَارَى، وَأُتِيَ بِالْعَبَّاسِ رضي الله عنه) -أي أسيرا- (وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ)، -والعباس رضي الله عنه كان طويلا فيحتاج إلى ثوب كبير- (فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ قَمِيصًا) -جلبية أو ثوب يلبسه العباس- (فَلَمْ يَجِدُوا قَمِيصًا يَصْلُحُ عَلَيْهِ، إِلَّا قَمِيصَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ) -ابن سلول المنافق؛ لأنه كان جهما ضخما كبيرا- (فَكَسَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُ، فَلِذَلِكَ)، (أَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ) -ابن سلول المنافق عند موته- (فَوَجَدَهُ قَدْ أُدْخِلَ فِي حُفْرَتِهِ)، وفي رواية: (بَعْدَمَا دُفِنَ)، (فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ)، -أي المنافق أمر به أن يخرج- (مِنْ قَبْرِهِ)، (فَوَضَعَ رَأسَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ)، (وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ)، (وَصَلَّى عَلَيْهِ)، (وَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ)، -كل هذا من عفو النبي وصفحه وحلمه مع أنه أساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا- فَأَنْزَلَ اللهُ: ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 84])[8]. * وَعفا صلى الله عليه وسلم وحلم عمن أراد ***ه، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله تعالى عنهما قَالَ: (غَزَوْنا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَفَلْنَا مَعَهُ)، -أَيْ: عاد ورجع رجعنا معه-. (فَأَدْرَكَتْنَا الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ) - (القائلة) أَيْ: النوم بعد الظهيرة. و(الْعِضَاه): كُلُّ شَجَرٍ يَعْظُمُ لَهُ شَوْكٌ، وَقِيلَ: هُوَ الْعَظِيمُ مِنْ السَّمُرِ مُطْلَقًا.- (فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ سَمُرَةٍ، وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنِمْنَا نَوْمَةً)، -أي نومة طويلة- (فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ -وَسَيْفُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُعَلَّقٌ بِالشَّجَرَةِ-)، (فَأَخَذَ سَيْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاخْتَرَطَهُ) -أَيْ: سَلَّهُ، وسحبه من غمده.- ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَتَخَافُنِي؟!) قَالَ: ("لَا!") قَالَ: (فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟!) -أَيْ: يحميك وينصرك مني؟- قَالَ: ("اللهُ عز وجل")، (فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، فَقَالَ: ("مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟!") قَالَ: (كُنْ كَخَيْرِ آخِذٍ). -أي: خَيْرَ آسِرٍ، والأخِيذُ: الأسِيرُ. [9].- * فَقَالَ: ("أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟") قَالَ: (لَا! وَلَكِنِّي أُعَاهِدُكَ أَنْ لَا أُقَاتِلَكَ، وَلَا أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ)، قَالَ جَابِرٌ: (فَبَيْنَمَا نَحْنُ نِيَامٌ، إِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُونَا، فَجِئْنَاهُ، فَإِذَا أَعْرَابِيٌّ قَاعِدٌ بَيْنَ يَدَيْهِ)، فَقَالَ: ("إِنَّ هَذَا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَأَخَذَ السَّيْفَ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأسِي، فَلَمْ أَشْعُرْ إِلَّا وَالسَّيْفُ فِي يَدِهِ صَلْتًا")، -أَيْ: مُجَرَّدًا عَنْ غِمْدِهِ.- ("فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقُلْتُ: اللهُ")، (فَخَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبِيلَهُ)، (وَلَمْ يُعَاقِبْهُ)، فَذَهَبَ الرَّجُلُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: (قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ). [10] أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. * الخطبة الآخرة الحمد لله حمد الشاكرين الصابرين، ولا عدوان إلا على الظالمين، اللهم صلى وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد: ويتحداه أحد المشركين الرعاة؛ إن صرعه -والمصارعة مشهورة، والمصارعة غير الملاكمة، فالمصارعة جائزة، والملاكمة غير جائزة؛ لأن الملاكمة فيها توجيه الضربات إلى الوجه وهذا منهي عنه، والمصارعة قياس القوة، من يثبِّت الآخر يفُز، وما يحدث في المصارعة فيه مخالفات كثيرة، نسأل الله السلامة، والنبي صلى الله عليه في هذا الحديث قد صارع، واستخدم المصارعة كما في هذا الحديث، فهذا الراعي صارع النبي صلى الله عليه، فإن صارعه فغلبه فسيعطي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غنمَه، فمن حلمه وعفوه أنه لما غلبه ردّ عليه غنمه، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (لَقِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ)، -وهو أحد المصارعين تعرفه قريش ومكةُ كلُّها أنه لا يغالب- (وَمَعَهُ أَعْنُزٌ لَهُ)، -أي ماعز- (وَكَانَ أَشَدَّ الْعَرَبِ، لَمْ يَصْرَعْهُ أَحَدٌ قَطُّ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْإِسْلَامِ)، فَقَالَ لَهُ: (يَا مُحَمَّدُ! وَاللهِ لَا أُسْلِمُ حَتَّى تَدْعُوَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ، وَكَانَتْ سَمُرَةً أَوْ طَلْعَةً)، -نوع من الأشجار-، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("أَقْبِلِي بِإِذْنِ اللهِ")، (فَأَقْبَلَتْ تَخُدُّ الْأَرْضَ خَدًّا)، -يعني بقيت كما هي وما ا***عت من جذورها، بل جاءت تخدُّ الأرض أي تشقها شقا- فَقَالَ رُكَانَةُ: (مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ سِحْرًا أَعْظَمَ! فَمُرْهَا فَلْتَرْجِعْ)، قَالَ: ("ارْجِعِي بِإِذْنِ اللهِ")، فَرَجَعَتْ، فَقَالَ لَهُ: ("وَيْحَكَ أَسْلِمْ!") فَقَالَ: (إِنْ صَرَعْتَنِي أَسْلَمْتُ، وَإِلَّا فَغَنَمِي لَكَ، وَإِنْ صَرَعْتُكَ كَفَفْتَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ)، -فلا تدعو الناسَ إلى ما تدعو إليه، فالكفار يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كذاب- (فَصَرَعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رُكَانَةُ: (عَاوِدْنِي)، (فَصَارَعَهُ، فَصَرَعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا)، فَقَالَ: (عَاوِدْنِي فِي أُخْرَى)، (فَعَاوَدَهُ، فَصَرَعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: ("أَسْلِمْ")، قَالَ: (لَا)، قَالَ: ("فَإِنِّي آخُذُ غَنَمَكَ")، قَالَ: (فَمَا تَقُولُ لِقُرَيْشٍ؟!) -إذا أخذتَ غنمي أنت، ماذا ستقول لقريش؟ وماذا ستشيع عني في قريش- قَالَ صلى الله عليه وسلم: ("أَقُولُ: صَارَعْتُهُ فَصَرَعْتُهُ، فَأَخَذْتُ غَنَمَهُ")، قَالَ: (فَضَحْتَنِي وَخَزَيْتَنِي)، -يخاف الفضيحة، العرب قديما يخافون الفضيحة، والمرأة العربية اليوم لا تخاف الفضيحة إلا من رحم الله-، قَالَ صلى الله عليه وسلم: ("فَمَا أَقُولُ لَهُمْ؟!") -أي ماذا أقول لقريش؟- قَالَ: (قُلْ: قَمَرْتُهُ!) -لعبتُ معه القمار، فخسر أعنزه-. * قَالَ صلى الله عليه وسلم: ("إِذًا أَكْذِبُ!") قَالَ: (أَوَلَسْتَ فِي كَذِبٍ مِنْ حِين تُصْبِحُ إِلَى أَنْ تُمْسِيَ؟!) قَالَ صلى الله عليه وسلم -انظروا إلى الصفح والعفو منه صلى الله عليه وسلم-: ("خُذْ غَنَمَكَ، مَا كُنَّا لِنَجْمَعَ عَلَيْكَ أَنْ نَصْرَعَكَ وَنُغْرِمَكَ")، قَالَ: (أَنْتَ وَاللهِ خَيْرٌ مِنِّي وَأَكْرَمُ)، قَالَ أَبُو الْيَقْظَانِ -أحد الرواة-: وَقَالَ رُكَانَةُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَاءَ لِيُسْلِمَ فِي الْفَتْحِ: (وَاللهِ! لَقَدْ عَلِمْتُ إِذْ صَرَعْتَنِي؛ أَنَّكَ أُعِنْتَ عَلَيَّ مِنَ السَّمَاءِ)، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ وَأَقَامَ بِهَا، وَمَاتَ بِهَا فِي أَوَّلِ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ -رضي الله عنه-، وَمَنَازِلُهُمْ فِي دَارِ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه)[11]. * وانظر إلى ردِّ النبي صلى الله عليه وسلم عندما قَالَ له ركانه: (أَوَلَسْتَ فِي كَذِبٍ مِنْ حِين تُصْبِحُ إِلَى أَنْ تُمْسِيَ؟!) فوالله! ما دافع عن نفسه، ولا انتقم لا بلسانه ولا بيده، بأبي هو وأمي بل قَالَ صلى الله عليه وسلم: ("خُذْ غَنَمَكَ، مَا كُنَّا لِنَجْمَعَ عَلَيْكَ أَنْ نَصْرَعَكَ وَنُغْرِمَكَ")، فاعترف ركانة بحلم النبي وخيريته وكرمه قائلا: (أَنْتَ وَاللهِ خَيْرٌ مِنِّي وَأَكْرَمُ). * فالحمد لله الذي جعلنا من أمته، وحشرنا الله على كتابه وسنتِه، إنه رسول الله صلى عليه الله في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ على من انتخبته من أشرف قبيلة، وجعلته إليك أكبر وسيلة، وجعلت الصلاة عليه أكرم فضيلة، وأعليته إلى المرتبة الجليلة، وجعلته بينك وبين عبادك وسيلة. اللهمّ صلّ عليه صلاة تجعلها بيننا وبين عذابك حجابا، وتجعلُها لنا إلى كرامتك مثابا، وتفتحُ لنا بها إلى الجنة العالية بابا. اللهم صلّ على محمد عدد قَطرِ الأمطار، وعدد رمال الأودية والقفار، وعدد ورق الأشجار، وعدد زبد البحار، وعدد مياه الأنهار، وعدد مثاقيل الجبال والأحجار، وعدد أهل الجنة وأهل النار، وعدد الأبرار والفجار، وعدد ما يختلج في الليل والنهار، واجعل اللهم صلاتنا عليه حجابا من عذاب دار البوار، وسببا لإباحة دار القرار. اللهمّ صلّ على محمد النبي المختار، وسيد الأبرار، وزين المرسلين الأخيار، وأكرم من أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار، أبي القاسم النبيِّ الصادق المختار. اللهمّ صلّ عليه، عددَ من صلى عليه، وعدد من لم يصل عليه، كما أمرت بالصلاة عليه، وصل عليه كما تحبُّ أن يصلَّى عليه، وصل عليه كما ينبغي أن يصلَّى عليه. اللهمّ صلِّ على النبيِّ الصادق الأوَّاب، وعلى ذرّيّته وعلى جميع القرابة والأصحاب، وتوفّنا اللهمّ على سنته، واجعلنا من أهل ولايته، وانفعنا بهدايته وعنايته، وأدخلنا الجنة مع صحابته، الأبرار الطيبين الأخيار، آمين آمين يا أرحم الراحمين]. [12] وأقم الصلاة؛ ﴿ ... إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45]. [1] عون المعبود (10/ 308). [2] (حم) 26032، (ت) 2016، مختصر الشمائل: 298، الصَّحِيحَة: 2095 وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح. [3] (خ) 3367، (خ) 6461، (حم) 25965 (م) 77- (2327)، (م) 79- (2328)، (د) 4785، (د) 4786، (جة) 1984، (2) (س) 2096، (حم) 24080، (حم) (25965). [4] فتح الباري. [5] (م) 128- (1057)، (خ) 2980، (خ) 5472، (حم) (12570). [6] لسان العرب. [7] (حب) 428، (طس) 229، انظر الصَّحِيحَة: (3223). [8] (خ) (1211)، (1285)، (2846)، (م) (2773)، (س) (1901)، (1902)، (2020)، (جة) (1524)، (حم) (15028). [9] النهاية في غريب الأثر. [10] (خ) (2753)، (3906)، (3908)، (م) (843)، (حم) (14970)، (14971)، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح. وصححه الألباني في هداية الرواة: (5235). [11] أنساب الأشراف (3/ 267)، (عب) 20909، (هق) 19546، وحسنه الألباني في الإرواء تحت حديث: (1503)، وفي غاية المرام: (37). [12] (بستان الواعظين ورياض السامعين) لابن الجوزي (ص: 286). الشيخ فؤاد بن يوسف أبو سعيد
__________________
|
#2
|
|||
|
|||
جزاك الله كل خير
وجعله في موازين حسناتكك |
#3
|
|||
|
|||
جزاك الله خيرا
|
العلامات المرجعية |
|
|