|
#1
|
||||
|
||||
رجل من الجنة
افتراضي رجل من الجنة
بسم الله الرحمن الرحي [عمّار بن ياسر (رجـــــل الجنة) لو كان هناك أناس يولدون في الجنة، ثم يشيبون في رحابها ويكبرون.. ثم يجاء بهم إلى الارض ليكونوا زينة لها، ونورا، لكان عمّار، وأمه سميّة، وأبوه ياسر من هؤلاء..!! ولكن لماذا نقول: لو.. لماذا مفترض هذا الافتراض، وقد كان آل ياسر فعلا من أهل الجنة..؟؟ وما كان الرسول عليه الصلاة والسلام مواسيا لهم فحسب حين قال: ' صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة'.. بل كان يقرر حقيقة يعرفها ويؤكد واقعا يبصره ويراه.. نشأته رضي الله عنه خرج ياسر والد عمّار، من بلده في اليمن يطلب أخا له، ويبحث عنه.. وفي مكة طاب له المقام، فاستوطنها محالفا أبا حذيفة بن المغيرة.. وزوّجه أبو حذيفة إحدى إمائه سميّة بنت خياط.. ومن هذا الزواج المبارك رزق الله الأبوين عمارا.. وكان إسلامهم مبكرا.. شأن الأبرار الذين هداهم الله.. وشأن الأبرار المبكّرين أيضا، أخذوا نصيبهم الأوفى من عذاب ;كفار قريش وأهوالها..!! ولقد كانت قريش تتربّص بالمؤمنين الدوائر.. فان كانوا ممن لهم في قومهم شرف ومنعة، تولوهم بالوعيد والتهديد، ويلقى أبو جهل المؤمن منهم فيقول له:' تركت دين آبائك وهم خير منك.. لنسفّهنّ حلمك، ولنضعنّ شرفك، ولنكسدنّ تجارتك، ولنهلكنّ مالك' ثم يشنون عليه حرب عصبية حامية. وان كان المؤمن من ضعفاء مكة وفقرائها، أو عبيدها، أصلتهم سعيرا. ولقد كان آل ياسر من هذا الفريق.. ووكل أمر تعذيبهم إلى بني مخزوم، يخرجون بهم جميعا.. ياسر، سمية وعمار كل يوم إلى رمضاء مكة الملتهبة، ويصبّون عليهم جحيم العذاب ألوانا وفنونا!! ولقد كان نصيب سمية من ذلك العذاب فادحا رهيبا. ولن نفيض في الحديث عنها الآن.. فلنا إن شاء الله مع جلال تضحيتها، وعظمة ثباتها لقاء نتحدث عنها وعن نظيراتها وأخواتها في تلك الأيام الخالدات.. وليكن حسبنا الآن أن نذكر في غير كبالغة أن سمية الشهيدة وقفت يوم ذاك موقفا يمنح البشرية كلها من أول إلى آخرها شرفا لا ينفد، وكرامة لا ينصل بهاؤها..! موقفا جعل منها أمّا عظيمة للمؤمنين في كل العصور.. وللشرفاء في كل الأزمان..!! كان الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج إلى حيث علم أن آل ياسر يعذبون.. ولم يكن آنذاك يملك من أسباب المقاومة ودفع الأذى شيئا.. وكانت تلك مشيئة الله.. فالدين الجديد، ملة إبراهيم حنيفا، الدين الذي يرفع محمد لواءه ليس حركة إصلاح عارضة عابرة.. وانما هو نهج حياة للبشرية المؤمنة.. ولا بد للبشرية المؤمنة هذه أن ترث مع الدين تاريخه بكل تاريخه بكل بطولاته، وتضحياته ومخاطراته... إن هذه التضحيات النبيلة الهائلة، هي الخرسانة التي تهب الدبن والعقيدة ثباتا لا يزول، وخلودا لا يبلى..!!! إنها العبير يملأ أفئدة المؤمنين ولاء، وغبطة وحبورا. وأنها المنار الذي يهدي الأجيال الوافدة إلى حقيقة الدين، وصدقه وعظمته.. وهكذا لم يكن هناك بد من أن يكون للإسلام تضحياته وضحاياه، ولقد أضاء القرآن الكريم هذا المعنى للمسلمين في أكثر من آية... فهو يقول: (أحسب الناس أن يتركوا، أن يقولوا آمنّا، وهم لا يفتنون)؟! (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم، ويعلم الصابرين)؟ ولقد كانت سميّة.. وكان ياسر.. وكان عمّار من هذه الثلة المباركة العظيمة التي اختارتها مقادير الإسلام لتصوغ من تضحياتها وثباتها وإصرارها وثيقة عظمته وخلوده.. بشارة بالجنة قلنا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج كل يوم إلى أسرة ياسر، محيّيا صمودها، وبطولتها.. وكان قلبه الكبير يذوب رحمة وحنانا لمشهدهم وهم يتلقون العذاب ما لا طاقة لهم به. وذات يوم وهو يعودهم ناداه عمّار: ' يا رسول الله.. لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ'.. فناداه الرسول: صبرا أبا اليقظان.. صبرا آل ياسر..فان موعدكم الجنة'.. ولقد وصف ما أصاب عمّار من العذاب الذي نزل به في أحاديث كثيرة. فضائله رضي الله عنه استقرّ المسلمون بالمدينة بعد هجرة رسولهم إليها، وأخذ المجتمع الإسلامي هناك يتشكّل سريعا، ويستكمل نفسه.. ووسط هذه الجماعة المسلمة المؤمنة،أخذ عمار مكانه عليّا..!! كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حبا حمّا، ويباهي أصحابه بإيمانه وهديه.. يقول عنه صلى الله عليه وسلم : إن عمّارا ملئ إيمانا إلى مشاشه'. ((المشاشه رؤوس العظام وقيل اختلاطها بالجلد واللحم والعظم)) وحين وقع سوء تفاهم بين عمار وخالد بن الوليد، قال رسول الله:' من عادى عمارا، عاداه الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله' ولم يكن أمام خالد بن الوليد بطل الإسلام إلا أن يسارع إلى عمار معتذرا إليه، وطامعا في صفحه الجميل..!! عمار رضي الله عنه أول من بنى مسجدا في الإسلام وفي الحديث :انطلقنا إلى أبي سعيد الخدري فاسمعا من حديثه قال فانطلقنا فإذا هو في حائط له فلما رآنا أخذ رداءه فجاءنا فقعد فأنشأ يحدثنا حتى أتى على ذكر بناء المسجد قال كنا نحمل لبنة لبنة وعمار بن ياسر يحمل لبنتين لبنتين قال فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ينفض التراب عنه ويقول يا عمار إلا تحمل لبنة كما يحمل أصحابك قال إني أريد الأجر من الله قال فجعل ينفض التراب عنه ويقول ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار قال فجعل عمار يقول أعوذ بالرحمن من الفتن. وإذا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما الى هذا الحد، فلا بد أن يكون إيمانه، وبلاؤه، وولاؤه، وعظمة نفسه، واستقامة ضميره ونهجه.. قد بلغت المدى، وانتهت إلى ذروة الكمال الميسور..!! وكذلكم كان عمار..لقد كال الله له نعمته وهداه بالمكيال الأوفى، وبلغ في درجات الهدى واليقين ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يزكّي إيمانه، ويرفعه بين أصحابه قدوة ومثلا فيقول: ' اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر... واهتدوا بهدي عمّار'.. وصفه رضي الله عنه ولقد وصفه الرواة فقالوا: ' كان طوّالا، أشهل، رحب ما بين المنكبين.. من أطول الناس سكوتا، وأقلهم كلاما'.. فكيف سارت حياة هذا العملاق، الصامت الأشهل، العريض الصدر، الذي يحمل جسده آثار تعذيبه المروّع، كما يحمل في نفس الوقت وثيقة صموده الهائل، والمذهل وعظمته الخارقة..؟! كيف سارت حياة هذا الحواري المخلص، والمؤمن الصادق، والفدائي الباهر..؟؟ لقد شهد مع معلّمه ورسوله جميع المشاهد.. بدرا، وأحدا، والخندق وتبوك.. ويقيّتها جميعا. ولما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، واصل العملاق زحفه.. ففي لقاء المسلمين مع الفرس، ومع الروم، ومن قبل ذلك في لقائهم مع جيوش الردّة الجرارة كان عمّار هناك في الصفوف الأولى دوما.. جنديا باسلا أمينا، لا تنبو لسيفه ضربة.. ومؤمنا ورعا جليلا، لا تأخذه عن الله رغبة.. وحين كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يختار ولاة المسلمين في دقة وتحفّظ من يختار مصيره، كانت عيناه تقعان دوما في ثقة أكيدة على عمّار بن ياسر'.. وهكذا سارع إليه وولاه الكوفة، وجعل ابن مسعود معه على بيت المال.. وكتب إلى أهلها كتابا يبشرهم فيه بواليهم الجديد، فقال: ' أني بعثت إليكم عمّار بن ياسر أميرا.. وابن مسعود معلما ووزيرا..وانهما من النجباء، من أصحاب محمد، ومن أهل بدر'.. ولقد سار عمّار في ولايته سيرا شق على الطامعين في الدنيا تحمّله حتى تألبوا عليه أو كادوا.. لقد زادته الولاية تواضعا وورعا وزهدا.. يقول ابن أبي الهذيل، وهو من معاصريه في الكوفة: ' رأيت عمّار بن ياسر وهو أمير الكوفة يشتري من قثائها، ثم يربطها بحبل ويحملها فوق ظهره، ويمضي بها إلى داره'..!! يوم اليمامة ويقول له واحد من العامّة وهو أمير الكوفة:' يا أجدع الأذن يعيّره بأذنه التي قطعت بسيوف المرتدين في حرب اليمامة.. فلا يزيد الأمير الذي بيده السلطة على أن يقول لشاتمه:' خير أذنيّ سببت.. لقد أصيبت في سبيل الله'..!! أجل لقد أصيب في سبيل الله في يوم اليمامة، وكان يوما من أيام عمّار المجيدة.. إذا انطلق العملاق في استبسال عاصف يحصد في جيش مسيلمة الكذاب، ويهدي أليه المنايا والدمار..وإذا يرى في المسلمين فتورا يرسل بين صفوفهم صياحه المزلزل، فيندفعون كالسهام المقذوفة. يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ' رأيت عمّار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة، وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين.. أمن الجنة تفرّون..؟ أنا عمّار بن ياسر، هلموا إلى.. فنظرت إليه، فإذا أذنه مقطوعة تتأرجح، وهو يقاتل أشد القتال'..!!! ألا من كان في شك من عظمة محمد الرسول الصادق، والمعلم الكامل، فليقف أمام هذه النماذج من أتباعه وأصحابه، وليسأل نفسه: هل يقدر على إنجاب هذا الطراز الرفيع سوى رسول كريم، ومعلم عظيم؟؟ إذا خاضوا في سبيل الله قتالا اندفعوا اندفاع من يبحث عن المنيّة، لا عن النصر..!! وإذا كانوا خلفاء وحكّاما، ذهب الخليفة يحلب شياه اليتامى ، ويعجن خبز اليتامى.. كما فعل أبو بكر وعمر..وإذا كانوا ولاة حملوا طعامهم على ظهورهم مربوطا بحبل.. كما فعل عمّار.. أو تنازلوا عن راتبهم وجلسوا يصنعون من الخوص المجدول أوعية ومكاتل، كما صنع سلمان..!! ألا فلنحن الجباه تحيّة وإجلالا للدين الذي أنجبهم، وللرسول الذي ربّاهم.. وقبل الدين والرسول، الله العليّ الكبير الذي اجتباهم لهذا كله..وهداهم لهذا كله.. وجعلهم روّادا لخير أمة أخرجت للناس..!! قتال الإنس والجن قال عمّار بن ياسر (قد قاتلت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإنس والجن )000فقيل له(ما هذا ؟ قاتلت الإنس فكيف قاتلت الجنَّ ؟)000قال ( نزلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منزلاً فأخذتُ قِرْبَتي ، ودَلْوي لأستقي ، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-( أما أنه سيأتيكَ آتٍ يمنَعُكَ مِنَ الماء )000فلمّا كنتُ على رأس البئر إذا رجلٌ أسودٌ كأنه مَرَسٌ فقال ( لا والله لا تستقي منها ذَنوباً واحداً )000فأخذته فصرعتَهُ ، ثم أخذتُ حجراً فكسـرتُ به أنفه ووجهـهُ ، ثم ملأتُ قِرْبَتـي فأتيتُ بها رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال ( هل أتاك على الماء من أحد ؟)000فقلتُ ( عبدٌ أسودٌ )000 فقال ( ماصنعت به ؟)000فأخبرته فقال ( أتَدْري مَنْ هو ؟)000قلتُ ( لا )000قال ( ذاك الشيطان ، جاء يمنعُكَ من الماء !!) استشهاده رضي الله عنه كان ابن الثالثة والتسعين، يخوض آخر معارك حياته المستبسلة الشامخة.. كان يلقن الحياة قبل أن يرحل عنها آخر دروسه في الثبات على الحق، ويترك لها آخر مواقفه العظيمة، الشريفة المعلمة.. ولقد حاول رجال معاوية أن يتجنبوا عمّار ما استطاعوا، حتى لا تقتله سيفهم .. بيد أن شجاعة عمار الذي كان يقتل وكأنه جيش واحد، أفقدتهم صوابهم، فأخذ بعض جنود معاوية يتحيّنون الفرصة لإصابته، حتى إذا تمكّنوا منه أصابوه... أمّا عمّار، فقد حمله الإمام علي فوق صدره إلى حيث صلى عليه والمسلمون معه.. ثم دفنه في ثيابه.. أجل في ثيابه الملطخة بدمه الزكي الطهور.. فما في كل حرير الدنيا وديباجها ما يصلح أن يكون كفنا لشهيد جليل، وبطل عظيم من طراز عمّار... ووقف المسلمون على قبره يعجبون.. منذ ساعات كان عمّار يغرّد بينهم فوق أرض المعركة.. تملأ نفسه غبطة الغريب المضني يزف إلى وطنه، وهو يصيح: ' اليوم ألقى الأحبة ، محمدا وصحبة'..!! أكان معهم اليوم على موعد يعرفه، وميقات ينتظره...؟؟!! وأقبل بعض الأصحاب على بعضهم يتساءلون... قال أحدهم لصاحبه: أتذكر أصيل ذلك اليوم بالمدينة ونحن جالسون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وفجأة تهلل وجهه وقال: ' اشتاقت الجنة لعمّار'..؟؟ قال له صاحبه نعم، ولقد ذكر يومها آخرين منهم علي وسلمان و بلال.. إذن فالجنة كانت مشتاقة لعمّار.. وإذن، فقد طال شوقها إليه، وهو يستمهلها حتى يؤدي كل تبعاته، وينجز آخر واجباته.. ولقد أدّاها في ذمّة، وأنجزها في غبطة.. أفما آن له أن يلبي نداء الشوق الذي يهتف به من رحاب الجنان..؟؟ بلى آن له أن يبلي النداء.. فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.. وهكذا ألقى رمحه ومضى.. وحين كان تراب قبره يسوّى بيد أصحابه فوق جثمانه، كانت روحه تعانق مصيرها السعيد هناك.. في جنات الخلق، التي طال شوقها لعمّار...! |
العلامات المرجعية |
|
|