|
التنمية البشرية يختص ببناء الانسان و توسيع قدراته التعليمية للارتقاء بنفسه و مجتمه |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
المفاهيم السوسيولوجية عند بيير بورديو
المفاهيم السوسيولوجية عند بيير بورديو
د.جميل حمداوي[1] المقدمــــة: أغنى الباحث الفرنسي بيير بورديو(Pierre Bourdieu) (1903-2002م) السوسيولوجيا المعاصرة بمجموعة من المصطلحات والمفاهيم الإجرائية التي لا يمكن تجاوزها أثناء ممارسة البحث السوسيولوجي، أو مقاربة الظواهر المجتمعية والثقافية والتربوية نظرية وتطبيقا ورؤية، مثل: ال*** الرمزي، وإعادة الإنتاج، والحقل الاجتماعي، والهابيتوس، والرأسمال الثقافي، والبنيوية التكوينية، والمدى الحيوي، والتمايز، وسوق الخيرات الاجتماعية... ومن جهة أخرى، يعد بيير بورديو من أهم ممثلي المقاربة الصراعية ذات التوجه الماركسي، وكذلك من أهم رواد البنيوية التكوينية [2] (Structuralisme constructiviste) الذين جمعوا بين الفهم والتفسير، بين الذاتية والموضوعية، بين الماكرو والميكرو، بين الحتمية والفاعلية... علاوة على ذلك، تنبني نظريته السوسيولوجية على دراسة المجتمع باعتباره فضاء للصراع والمنافسة والهيمنة، مع تحليل تراتبية مختلف الطبقات الاجتماعية، وتبيان الدور الذي تقوم به الممارسات الثقافية داخل الصراع الذي يحدث بين هذه الطبقات الاجتماعية بشكل واع أو غير واع، ثم استجلاء الكيفية التي تعيد بها المدرسة إنتاج اللامساواة المجتمعية، وإعادة الطبقات الاجتماعية نفسها. إذاً، ما تصور بيير بورديو للسوسيولوجيا؟ وما المنهجية التي تمثلها في مقارباته السوسيولوجية النظرية والتطبيقية؟ وما أهم المفاهيم السوسيولوجية التي اعتمد عليها في بناء أبحاثه المجتمعية؟ وكيف يربط الهابيتوس بين الفرد بالمجتمع ؟ تلكم هي أهم الأسئلة التي سوف نحاول الإجابة عنها في موضوعنا هذا. مفهوم السوسيولوجيا: يعد بيير بورديو من أهم السوسيولوجيين الفرنسيين الملتزمين في منتصف القرن العشرين، وهو من طبقة اجتماعية عمالية عادية، يحمل رؤية ماركسية نقدية جديدة، تعري واقع الهيمنة والسلطة والتمركز الطبقي. وقد ألف أكثر من أربعين كتابا، وأكثر من مائة مقال. وقد انصب اهتمامه كثيرا على الطريقة التي يعيد بها المجتمع إنتاج التراتبية الطبقية نفسها، بالتركيز على العوامل الثقافية والرمزية، بدل التشديد على العوامل الاقتصادية التي كانت لها أهمية معتبرة في المقاربة الماركسية الكلاسيكية. ويعني هذا أن السوسيولوجيا عند بورديو هي سوسيولوجيا علمية انتقادية، تسعى إلى تعرية واقع الهيمنة والقوة والنفوذ، وانتقاد المجتمع الليبرالي المعاصر الذي يتميز بالظلم واللامساواة وصراع الحقول والطبقات الاجتماعية. بمعنى أن السوسيولوجيا هي أداة فعالة للنقد الجذري، وكشف المضمر، واستنطاق المسكوت عنه، وفضح لعبة التنافس والهيمنة، كالعلاقة الترابطية الموجودة - مثلا- بين النجاح المدرسي والأصل الاجتماعي والرأسمال الثقافي الذي ترثه الأسرة، بعد أن كان هذا النجاح مرتبطا بالذكاء الوراثي. بل إن الحقل العلمي هو أيضا مجال للتنافس والسيطرة والسعي لتحقق الأرباح، والحصول على الجوائز المادية والمالية (جائزة نوبل)، وتحقيق السبق العلمي، والظفر بالمجد والشهرة. وتتحقق علمية السوسيولوجيا بالتركيز على الفرضيات، والانطلاق من المفاهيم الموضوعية، واستعمال المناهج الكمية والكيفية للتحقق من النتائج المتوصلة إليها، والتأرجح بين منهجيتي الفهم والتفسير معا. أما إذا اتخذت السوسيولوجيا طبيعة سياسية، فلايمكن- آنذاك - الحديث عن سوسيولوجيا علمية. علاوة على ذلك، يرى بيير بورديو أن موضوع السوسيولوجيا هو دراسة حقول التنافس والصراع والهيمنة ليس على صعيد الطبقات فقط، بل حتى في المجال العلمي نفسه. ويعني هذا أن بيير بورديو ينطلق من سوسيولوجيا نقدية صراعية أو مقاربة صراعية. ومن ناحية أخرى، يطرح بورديو ميتاسوسيولوجيا أو سوسيولوجيا السوسيولوجيا، من خلال الإشارة إلى ضرورة حياد عالم الاجتماع عندما يبحث في مشكلة مجتمعية ما قوامها التنافس والصراع والهيمنة، بأن يكون واعيا بموقعه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. ومن ثم، فالسوسيولوجيا الحقيقية هي سوسيولوجيا المضمر والمسكوت عنه. هذا، وقد تأثر بيير بورديو، في تصوراته النظرية والتطبيقية، بمجموعة من المفكرين والعلماء الرواد أمثال: ماكس فيبر(Max Weber) (البعد الرمزي)، وكارل ماركس(Karl Marx) (الرأسمال)، وإميل دوركايم (Émile Durkheim) (التفسير السببي)، وكلود ليفي شتروس(Claude Lévi-Strauss) ومارسيل موس (Mauss) (البنيوية)، وموريس ميرلوبونتي(Maurice Merleau-Ponty) وهوسرل(Husserl) (الفينومينولوجيا وفكرة الجسد الخاص)، وفيتجنشتاين ( Wittgenstein) (الطبيعة)، وباسكال(Pascal) (قواعد الفاعلين المجتمعيين). وعليه، تتميز السوسيولوجيا عند بيير بورديو بالطابع العلمي المنطقي، والابتعاد عما هو سياسي وإيديولوجي، ودراسة ال*** الرمزي وفق مقاربا ت علمية دقيقة وصارمة، دون إدخال ما هو شخصي وسياسي في البحث العلمي. ويعني هذا أن بورديو يدعو إلى تأسيس سوسيولوجيا علمية. وفي هذا الصدد، يقول:" لا يمكن لعلم الاجتماع أن يقوم إلا إذا رفض الطلب الاجتماعي الذي يلتمس وسائل لإضفاء المشروعية وأدوات للتحريض. وعالم الاجتماع، ليس له مهمة يسخر لها ولا غاية انتدب من أجلها، اللهم تلك التي يفرضها عليه منطق بحثه."[3]. ومن ثم، تعنى السوسيولوجيا بدراسة الهابيتوس (Habitus) الذي يربط الفعل ببنية المجتمع في إطار بنيوية تكوينية، تعطي الأهمية الكبرى للفاعل والبنية المجتمعية على حد سواء. هذا، وقد كرس بورديو جل جهوده لإرساء سوسيولوجيا النظام التعليمي، وسوسيولوجيا الميدان الثقافي أو سوسيولوجيا المثقفين، وفهم ال*** الرمزي، وتحليل الصراع المجتمعي في علاقته بعلاقات القوى والآليات المتحكمة في تطورها، وفق رؤية علمية موضوعية. ومفاد تصوره أن اللعبة الاجتماعية، مهما كان الحقل والمجال الذي تمارس فيه، مرتبطة بآليات بنية التنافس والهيمنة والصراع. وقد أصبحت هذه الآليات متجذرة لدى الأفراد عن طريق التنشئة الاجتماعية، فينتجونها بدورهم بطريقة غير واعية كهابيتوس معياري. ومن ثم، تعد المدرسة فضاء لإعادة إنتاج هذه اللامساواة الناتجة عن وجود طبقة مسيطرة، وطبقة مسيطرة عليها، حيث يساهم النظام التربوي في ممارسة ال*** الرمزي ضد الفاعلين المجتمعيين المرتبطين بالمدرسة. ويلاحظ أن آليات التنافس والسيطرة تنتقل من جيل إلى آخر. ومن ثم، فنحن لانعرف مجتمعات بدون تراتبية طبقية أو ***ية أو نوعية، أو مجتمعات بدون سلطة أو هيمنة. لذلك، فهدف السوسيولوجيا عند بورديو هو تحليل آليات السيطرة التي تتحكم في البنيات الموضوعية للحقول المجتمعية. أما الفاعلون المجتمعيون، فهم مجرد منفذين لآلية السيطرة بطريقة غير واعية. لذلك، لا يشكلون حقيقة واقعية يمكن أن يستكشفها السوسيولوجي. ومن ثم، يعيد هؤلاء الأفراد الإنتاج الطبقي نفسه، عبر الهابيتوس الذي يعني مجموع الإستراتيجيات التي يمتلكها الفرد لمواجهة وضعيات مفاجئة أو جديدة. ولكن كيف يمكن القول، مع بورديو، بأن الأفراد ينتجون أشكالا مختلفة من الهيمنة بطريقة غير واعية. فهذا الحكم غير صحيح، والدليل على ذلك أن هؤلاء يقومون باحتجاجات اجتماعية وسياسية تعبر عن موقفهم الواعي والرافض لكل أشكال السلطة والهيمنة. وإذا أخذنا - على سبيل التمثيل- الهابيتوس الذكوري، فإن النساء واعيات بسلطة الذكورة وهيمنتها.لذلك، فقد ظهرت حركات نسائية متعددة منذ بداية القرن العشرين في شكل احتجاجات صارخة، وقد شارك فيها الرجال إلى جانب النساء مدافعين عن حقوقهن، ورافضين لكل أشكال الهيمنة الذكورية. ومن ناحية أخرى، لا تقتصر المجتمعات على إعادة الإنتاج الطبقي نفسه فحسب، بل تسعى إل التطور والتغيير والتقدم وتحقيق الازدهار. فوضعية المرأة - الآن- قد تغيرت بشكل كبير، إذ تمتعت بحريات أكثر مقارنة بالرجل. بل يمكن الحديث، في المستقبل القريب، عن هيمنة الأنوثة التي استولت على مختلف الامتيازات والمناصب الإدارية والاقتصادية والاجتماعية. في حين، أصبح الرجل عرضة البطالة والتهميش والانزواء والإقصاء. المنهجية السوسيولوجية: يتبنى بيير بورديو، في أبحاثه السوسيولوجية، المقاربة الماركسية ذات الأساس الجدلي، على أساس أن التنافس والصراع وظيفتان أساسيتان للمجتمع. ومن ثم، يرتبط بورديو بالمقاربة الصراعية التي تستند إلى التحليلات الماركسية. لكن هذا الصراع والتنافس يتشكلان، قبل كل شيء، في مختلف الحقول والفضاءات المجتمعية الفرعية الأصلية، قبل أن يتحددا على صعيد المجتمع الماكروسوسيولوجي. ومن ثم، تتميز هذه الحقول بوجود تفاوت طبقي واجتماعي خاص، ووجود مسيطرين ومسيطرين عليهم. وبتعبير آخر، إذا كان المجتمع - حسب المقاربة الماركسية- قائما على صراع الطبقات الاجتماعية، فإن هذا الصراع- حسب بيير بورديو- يتشكل أولا ضمن حقول وفضاءات مجتمعية فرعية، قبل أن يتحول إلى ظاهرة اجتماعية عامة. هذا، وقد بلور ببير بورديو نظرية الفعل التي ترتبط بمفهوم الهابيتوس. بمعنى أن الفاعلين المجتمعيين يطورون مجموعة من الإستراتيجيات التي يتمثلونها عن طريق التنشئة الاجتماعية، بطريقة غير واعية، بغية التكيف مع ضرورات العالم الاجتماعي.أي: إن الهابيتوس عبارة عن مجموعة من المواقف والموارد والمكتسبات والقيم والعادات والأعراف والخبرات والتجارب والمعايير التي يكون الفرد قد استضمرها عن طريق التنشئة الاجتماعية، بطريقة لاشعورية، بغية استدماجها أثناء مواجهة الوضعيات الصعبة والمعقدة في العالم الاجتماعي. وبهذا، يكون الهابيتوس وسيطا بين الفعل والمجتمع، أو بمثابة الأنا الأعلى الذي يتوسط الذات أو الأنا والمجتمع بالمفهوم السيكولوجي. علاوة على ذلك، فالهابيتوس هو بمثابة الأفعال غير الواعية التي يصدر عنها الأفراد المجتمعيون أثناء تكيفهم وتأقلمهم مع المجتمع مماثلة واستيعابا، كما يقول جان بياجيه (Jean Piaget) في منظوره التكويني. وبهذا، يوحد الهابيتوس بين الفرد والمجتمع، بين الفعل والبنية، والذات والموضوع، والضرورة والحرية... وتأسيسا على ما سبق، يتبنى بيير بورديو البنيوية التكوينية («Structuralisme constructiviste » ou constructivisme structuraliste) على المستوى السوسيولوجي[4]. بمعنى أنه يوفق بين الفعل والبنية، أو يجمع بين دور الفاعل المجتمعي وبنية المجتمع. فكل واحد من هذين العنصرين يؤثر في الآخر. بمعنى أن هناك تفاعلا وتماثلا بين الفاعل والمجتمع، أو تفاعلا بين الفهم والتفسير، بين الضرورة والحرية. وبهذا، يكون قد وفق بين التصور الدوركايمي التفسيري، والتصور الإنساني الذاتي عند ماكس فيبر.أي: لا ينكر بيير بورديو أهمية المجتمع في التأثير في الأفراد سلبا أو إيجابا؛ لأن ثمة ضرورة أو حتمية مجتمعية تمارس تأثيرها على الفاعلين المجتمعيين. وفي الوقت نفسه، يثبت أن للإنسان دورا مهما في تغيير المجتمع وخلقه وإبداعه. وبهذا، يكون بورديو قد تأثر بالبنيوية التي تعتبر الإنسان نتاج بنيات وقواعد حتمية. وفي الوقت نفسه، تأثر بماكس فيبر الذي يعتبر الإنسان فاعلا وبانيا للمجتمع. وبذلك، يتجاوز بورديو ثنائية الذاتية والموضوعية، وثنائية الميكرو والماكرو، وثتنائية الفعل والبنية، مع تحكيم الهابيتوس في كل هذه الثنائيات باعتباره عنصرا وسيطا وجامعا وموحدا. يتبع |
#2
|
||||
|
||||
المفاهيم السوسيولوجية عند بيير بورديو
د.جميل حمداوي[1] المفاهيم السوسيولوجية: وظف بيير بورديو مجموعة من المفاهيم السوسيولوجية في أبحاثه ودراساته وكتبه، وقد كان لها تأثير في كثير من النظريات والمدارس السوسيولوجية المعاصرة، على الرغم من تعقيدها وغموضها [5]. ومن بين هذه المفاهيم نذكر ما يلي: إعادة الإنتاج: لقد تناول بيير بورديو مفهوم إعادة الإنتاج بالتحليل والدراسة والتقويم، حينما ركز اهتمامه السوسيولوجي على النظام التربوي الفرنسي مع صديقه جان كلود باسرون(Jean-Claude Passeron)، في كتابهما (إعاة الإنتاج)، منذ سنوات الستين من القرن الماضي[6]، إذ كانت هذه الفترة مرحلة التطور والازدهار العلمي والمنهجي لسوسيولوجيا التربية. ويمكن القول بأن بيير بورديو وكلود باسرون هما اللذان أعطيا ولادة ثانية لسوسيولوجية التربية، وقد انطلقا من فرضية سوسيولوجية أساسية، تتمثل في كون المتعلمين لا يملكون الحظوظ نفسها في تحقيق النجاح المدرسي. ويرجع هذا الاختلاف إلى التراتبية الاجتماعية، والتفاوت الطبقي، ووجود فوارق فردية داخل الفصل الدراسي نفسه. ومن ثم، فقد قادت الأبحاث السوسيولوجية والإحصائية بورديو وباسرون إلى استنتاج أساسي هو: أن الثقافة التي يتلقاها المتعلم في المدرسة الفرنسية الرأسمالية ليست ثقافة موضوعية أو نزيهة ومحايدة، بل هي ثقافة مؤدلجة تعبر عن ثقافة الهيمنة وثقافة الطبقة الحاكمة. ومن ثم، فليست التنشئة الاجتماعية تحريرا للمتعلم، بل إدماجا له في المجتمع في إطار ثقافة التوافق والتطبع والانضباط المجتمعي. وبالتالي، تعيد لنا المدرسة إنتاج الطبقات الاجتماعية نفسها عن طريق الاصطفاء والانتقاء والانتخاب. ومن ثم، فهي مدرسة اللامساواة الاجتماعية بامتياز. ويعني هذا كله أن سوسيولوجيا التربية النقدية قد عرفت منحى مهما في سنوات الستين إلى غاية سنوات السبعين من القرن العشرين، فقد اتخذت بعدا علميا أكثر مما هو سياسي، بعد أن توسعت الهوة بين النظرية والتطبيق، أو بين المؤسسة التربوية والمجتمع، ولاسيما بعد تحول المدرسة الرأسمالية إلى فضاء للمنافسة والتطاحن والصراعات الاجتماعية والطبقية، أو تحولها إلى مؤسسة هيرارشية أو تراتبية طبقية، تنعدم فيها العدالة الاجتماعية الحقيقية، وتغيب فيها المساواة على مستوى الفرص والحظوظ، حيث يكون الفشل والإخفاق مآل أبناء الطبقات الشعبية. في حين، يكون النجاح حليف أبناء الطبقات الغنية وأبناء الطبقة الحاكمة. أي: أصبحت مدرسة فارقية بامتياز، أو مدرسة للانتقاء والاصطفاء الطبقي والتميز الاجتماعي. وللتوضيح أكثر، ينطلق بورديو وباسرون من فكرة أساسية هي" أن المدرسة تعمل وفق تقسيم المجتمع إلى طبقات. وهي بذلك تكرس إعادة الإنتاج والمحافظة على الوضع القائم الذي أنتجها. وتبعا لهذا، فإن الأطفال، ومنذ البداية - قبل ولوجهم المدرسة- غير متساوين أمام المدرسة والثقافة. أي: غير متساوين في الرأسمال الثقافي (أي امتلاك المهارات اللغوية الملائمة التي تسهل عملية التواصل التربوي). ولكي تحافظ المدرسة على وظيفتها - إعادة الإنتاج - فهي تفرض معيارا ثقافيا ولغويا معينا، وهو أقرب إلى اللغة والثقافة الساريتين في الأسر البورجوازية منه في الأسر والطبقات الشعبية. إن هذا الإيتوس(Ethos). أي: النظام القيمي المستبطن بعمق، والذي هو لصالح الطبقات المسيطرة يؤدي إلى خلق نوع من الاستعداد أو الأبيتوس لدى الأفراد عن طريق العمل التربوي الذي يسعى أساسا لتشريب التعسف الثقافي المفروض من قبل الجماعة المسيطرة. وهذا يعني أن طفل الفئة البورجوازية يعيش استمرارية وتكاملا بين ثقافة فئته وثقافة مدرسته، مما يسهل عليه عملية التوافق، إن لم يكن مسبقا متوافقا. ومن ثمة، يصبح وريثا للنظام المدرسي. أما طفل الطبقة الدنيا، فهو يعيش قطيعة بين ثقافة فئته وثقافة مدرسته. مما يجعل هذه الأخيرة غريبة وبعيدة عنه. ولكي يتوافق دراسيا معها، عليه أن يتخلص من رواسب ثقافته، ويتعلم طرائق جديدة في التفكير واللغة والسلوك. أي: أن يمر، حسب تعبير بيرنو (Perrnoud)، أولا بعملية الانحلال من الثقافة، ثم ثانيا بعملية المثاقفة. وعلى العموم، فإن أطروحة بورديو وباسرون توضح أن الأهداف الضمنية للمدرسة تخدم التكامل بينها وبين الطبقة المسيطرة، مما يجعل أبناء هذه الأخيرة أطفالا ناجحين دراسيا. في حين، إن انعدام التكامل بين المدرسة والطبقة الدنيا، تبعا للأهداف نفسها، يجعل الفشل الدراسي يحصد ضحاياه ضمن أبنائها."[7]. ويعني هذا أن السؤال الذي ركزت عليه سوسيولوجيا التربية، في سنوات الستين، هو سؤال اللامساواة المدرسية التي تعكس اللامساواة الطبقية والاجتماعية، وتعكس مدى اختلاف أبناء الطبقات العمالية عن أبناء الطبقات المحظوظة، واختلاف المستوى التعليمي الطويل الذي يرتاده أبناء الطبقات المحظوظة، والتعليم القصير الذي يكون من حظ أبناء الطبقات الدنيا، ولاسيما أبناء الطبقات العمالية وأبناء المهاجرين على حد سواء.لذا، يغلب النقد الماركسي الجديد على هذه السوسيولوجيا الستينية. والدليل على ذلك الثورة العارمة التي اشتعل أوارها في سنة 1968م؛ بسبب المدرسة الرأسمالية التي كانت - فعلا- مدرسة طبقية بامتياز. ومن ثم، فقد كان الحل يتمثل في دمقرطة التعليم، وتحقيق المساواة الاجتماعية الشاملة، والحد من الفوارق الطبقية والمجتمعية، ومنع ممارسة ال*** الرمزي ضد المتعلمين، وخلق مدرسة موحدة تحقق النجاح لجميع المتعلمين بدون تمييز أو انتقاء أو اصطفاء. وعليه، يمكن اعتبار دراسات بورديو نقدا للدراسات الكلاسيكية حول سوسيولوجيا التربية، إذ اعتمدت على المقاربة الماركسية الجديدة في دراسة المدرسة الفرنسية بصفة خاصة، والمدرسة الرأسمالية بصفة عامة، على أساس أن المدرسة فضاء للتنافس والهيمنة والصراع الطبقي والمجتمعي. ولم تقتصر نظرية إعادة الإنتاج عند بيير بورديو على ما هو تربوي فقط، بل اهتم كذلك بدراسة إعادة إنتاج الهيمنة الذكورية في المجتمع القبائلي التقليدي بالجزائر، في كتابه القيم (الهيمنة الذكورية[8] (masculineLa Domination). ال*** الرمزي: من المعلوم أن ال*** نوعان: *** فيزيائي يكون بإلحاق الضرر بالآخرين جسديا وماديا وعضويا، و*** رمزي مهذب يكون بواسطة اللغة، والهيمنة، والإيديولوجيات السائدة، والأفكار المتداولة. ويكون أيضا عن طريق السب، والقذف، والشتم، والدين، والإعلام، وال*** الذهني. لذا، يعرفه بيير بورديو بقوله:" ال*** الرمزي هو عبارة عن *** لطيف وعذب، وغير محسوس، وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم، وهو *** يمارس عبر الطرائق والوسائل الرمزية الخالصة.أي: عبر التواصل، وتلقين المعرفة، وعلى وجه الخصوص عبر عملية التعرف والاعتراف، أو على الحدود القصوى للمشاعر والحميميات."[9]. وعليه، يرتبط ال*** الرمزي بالسلطة والهيمنة والحقل المجتمعي. بمعنى أن الدولة تمارس، عبر مجموعة من المؤسسات الرسمية والشرعية ( الإعلام، والدين، والتربية، والفن، والصحافة... )، ***ا رمزيا ضد الأفراد والجماعات. ويعني هذا أن المجتمع الحاكم والمسيطر يمارس ***ا رمزيا (violence symbolique) ضد الأفراد. وهذا ال*** أكثر خطورة من ال*** المادي الجسدي. وفي هذا، يقول بيير بورديو:" يمكن أن يحقق ال*** الرمزي نتائج أحسن قياسا إلى ما يحققه ال*** السياسي والبوليسي،...إن أحد أكبر مظاهر النقص في الماركسية هو أنها لم تفرد مكانا لمثل هذه الأشكال اللطيفة من ال*** التي هي فاعلة ومؤثرة حتى في المجال الاقتصادي...وال*** الرمزي هو ذلك الشكل من ال*** الذي يمارس على فاعل اجتماعي ما بموافقته وتواطئه. ولهذه المسألة نتائج كبيرة على النقاش الفكري الدائر حول ما إذا كانت السلطة تنبثق من تحت، وحول ما إذا كان الشخص الخاضع للسيطرة يرغب في هذه الوضعية المفروضة عليه. وبصيغة أخرى، فإن الفاعلين الاجتماعيين يعرفون الإكراهات المسلطة عليهم، وهم- حتى في الحالات التي يكونون فيها خاضعين لحتميات- يساهمون في إنتاج المفعول الذي يمارس عليهم نوعا من التحديد والإكراه. ولعل مفعول الهيمنة إنما ينبثق من هذه التفاعلات والتوازنات بين المحددات الحتمية وكيفيات إدراكها. هناك قدر من الإنكار في التعرف على ال*** الذي يمارس على المرء مع عدم الاعتراف به ك***...فانطلاقا من كوننا نولد في عالم اجتماعي، فإننا نتقبل عددا من البديهيات والمسلمات التي تفرض نفسها علينا بتلقائية وسهولة، ولا تكاد تتطلب تلقينا. ولذلك، فإن تحليل كيفيات تقبلنا التلقائي للآراء والمعتقدات المتداولة في عالمنا الاجتماعي، هو الأساس الحقيقي لنظرية واقعية حول السيطرة وحول السياسة.وذلك بسبب التوافق المباشر بين البنيات الموضوعية والبنيات الذهنية.إن من بين كل أشكال الإقناع الصامت والسري هي تلك التي تتم بكل بساطة بفعل النظام العادي للأشياء."[10]. ويلاحظ أن ال*** الرمزي أكثر خطورة من باقي أنواع ال*** المادي والسلطوي؛ لأنه *** عاد وبسيط ولاشعوري، ولا يعترف به - مجتمعيا- على أنه ***، بل تعود عليه الناس، وقبلوا به ما داموا خاضعين لمجموعة من الحتميات والجبريات المجتمعية التي تتحكم فيهم، ويعملون على تكريسها في واقع حياتهم. ومن ثم، لانرى لدى الناس أي رفض أو مقاومة لهذا ال*** المعنوي والرمزي، بل يعتبرونه فعلا عاديا، على الرغم من خطورته وآثاره الخطيرة نفسيا ومجتمعيا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا. وأكثر من هذا لم يشر كارل ماركس إلى هذا النوع من ال***، بل اكتفى بال*** الطبقي، على الرغم من وجود هذا ال*** على الصعيد الاقتصادي. أضف إلى ذلك، فقد ركز بيير بورديو على التلفزيون باعتباره أداة إعلامية خطيرة تمارس ال*** ضد المواطنين، إذ تقدم لهم ما تشتهيه السلطة المهيمنة التي تستغل وسائل الإعلام لتحقيق مصالحها وأهدافها وأرباحها. ومن ثم، يتلاعب التلفزيون بعقول الناس، وينشر بينهم إيديولوجية الدولة المهيمنة، وأفكار الطبقة الحاكمة. وهذا يهدد - فعلا- الثقافة والفن والديمقراطية الحقيقية[11]. وينطبق هذا الحكم نفسه على الصحافة التي صارت من الوسائل الخطيرة التي تشارك الفئات الحاكمة في ممارسة ال*** الرمزي ضد الآخرين. وفي الأخير، ينتج ال*** الرمزي عن اختلاف أنماط الرأسمال لدى الفاعلين المجتمعيين باختلاف مواقعهم الاجتماعية، ووجود طبقات اجتماعية مسيطرة ومسيطرة عليها، واختلاف مصالح الأفراد والجماعات من حقل إلى آخر، ووجود تفاوت اجتماعي وطبقي بين الجماعات. مفهوم التميز: ألف بيير بورديو سنة 1979 كتابا تحت عنوان (التميز: النقد الاجتماعي للحكم/ La Distinction. Critique sociale du jugement)، حيث يقدم منظورا سوسيولوجيا للأذواق وأساليب الحياة. ويعد هذا الكتاب من أفضل عشرة كتب علم الاجتماع في القرن العشرين، حسب تصنيف الجمعية العالمية للسوسيولوجيا. ويركز الكتاب على الأفراد المجتمعيين الذين يتصارعون ضمن حقول وفضاءات مجتمعية مختلفة، حول مواقع السيطرة والحظوة والتميز الاجتماعي والطبقي، من خلال ما يملكونه من رأسمال اقتصادي وثقافي. إذ تبدأ الاختلافات من شكلها الضعيف نحو الاختلافات الجذرية، فالاختلافات الطبقية. ومن ثم، يعبر الكتاب عن الصراع بين الأفراد داخل بنية المجتمع من أجل الاختلاف والتميز. ويعني هذا لكي يكون الإنسان معروفا في حقل مجتمعي ما، فلابد أن يتميز عن الآخرين إما بالاختلاف عنهم، وإما بالانزياح عنهم ثقافيا واقتصاديا ولغويا ورمزيا واجتماعيا. بمعنى أن هناك ثنائية التوافق والتميز. ومن ثم، فالاهتمام بالموضة، بشكل هستيري، دليل على الرغبة في التميز ثقافيا واجتماعيا ورمزيا، ودليل على فرادة الأسلوب الشخصي[12]. وقد أثبت بورديو أن أنماط الحياة وأساليبها تختلف حسب مواقع الناس الاجتماعية. أي: إن أذواق الناس تعكس طبيعة وضعيتهم المجتمعية. ومن ثم، فالهابيتوس وسيط بين تلك الممارسات والمواقع المجتمعية. وللتمثيل، فقد درس بورديو طبيعة التغذية والملابس عند العمال والأغنياء. فالعمال يهتمون بكل ما هو ضروري وأساسي في حياتهم؛ بسبب حاجتهم إلى الرأسمال الاقتصادي. وبالتالي، فملابسهم عمالية خشنة، وتغذيتهم ذات طابع مضموني، تتسم بالكم من جهة. وتكون دسمة من جهة أخرى. كما أن ذوقهم الفني والجمالي لا يخرج عن الطابع الواقعي الملتزم. في حين، يركز الأغنياء على الشكل، ويتأنقون في ملابسهم وتغذيتهم، بالتركيز الواعي على النوع الكيفي، ولا يهمهم الكم في ذلك. ويهتمون كذلك - فنيا وجماليا- بماهو تجريدي وسيميائي وتخييلي. ويعني هذا أن الأذواق وأساليب الحياة تختلف من طبقة اجتماعية إلى أخرى، حسب طبيعة الرأسمال الموروث، وحسب الحقل الذي تنتمي إليه كل فئة اجتماعية. مفهوم الهابيتوس: يتخذ مصطلح الهابتوس أو الآبيتوس (habitus) دلالات فلسفية وسوسيولوجية مختلفة. ويعني طريقة في الوجود، أو المظهر العام، أو الزي، أو حالة ذهنية أو عقلية. ويعني هذا أن الهابيتوس ثقافة، وحضارة، ونمط من أنماط الوجود والعيش والحضور في العالم. وقد استعمل مصطلح الهابيتوس أو الآبيتوس (Habitus) قديما عند الفلاسفة اليونانيين بمفهوم (hexis)، وخاصة عند أفلاطون وسقراط، وأرسطو؛ ومن بعدهم هيغل، وهوسرل، وماكس فيبر، وإميل دوركايم... بيد أن مصطلح (hexis) قد استبدل، إبان العصور الوسطى، بمصطلح الهابيتوس(habitus) للدلالة على الحالة أو الوضعية أو طريقة العيش. هذا، وقد أخذ بيير بورديو مصطلح الهابيتوس من المفكر السكولائي طوماس أكين (Thomas d'Aquin) الذي استعمل مصطلح هابيتوس لترجمة المفهوم الأرسطي (الهيكسيس)، وقد استلهمه أيضا من إرفين بانوفسكي (Erwin Panofsky) الذي تحدث عن جماليات الاتجاه المدرسي في العصور الوسطى. ومن ثم، فالهابيتوس هو التطبيع الاجتماعي في مجتمع تقليدي، أو هو بمثابة نظام من الإيتوس القيمي المتعالي، يستطيع الفرد عبره أن يتحرك في العالم المجتمعي، بغية فهمه بطريقته الخاصة، أو بطريقة مشتركة مع الطبقات الاجتماعية الأخرى التي يعيش معها. وقد ركز بورديو على بنية الهابيتوس الداخلية، ومكوناته، ووظيفته. فمن حيث البنية، يتكون الهابيتوس من مجموعة من الميول، والتصورات، والمعتقدات، والإدراكات، ورؤى العالم، ومبادئ التصنيف. ومن ثم، يساعد الهابيتوس الذي يكتسبه الفرد في الأسرة والمدرسة على تمثل المجتمع واستيعابه بشكل جيد. هذا، وتقوم التجمعات الأولية (الطفولة والمراهقة)، والتجمعات الثانوية (سن الرشد، بدور هام في بناء الهابيتوس. ويستطيع الأفراد عبر هذا الرأسمال الاجتماعي المحصل عليه، بفعل التنشئة الاجتماعية، أن يخلقوا هابيتوس الطبقة (un habitus de classe)؛ بسبب تشاركهم في مجموعة من الأفعال والتصرفات والسلوكيات المشتركة. وبذلك، يكون الهابيتوس هو مصدر أفعال الأفراد المجتمعيين، وهو الذي يتحكم في توجهاتهم القيمية والأخلاقية والمعيارية. أي: إنه بمثابة الأنا الأعلى السيكولوجي لتجاربهم الحاضرة في العالم. ومن هنا، فالهابيتوس هو بماثة قالب معياري وأخلاقي للشخصية الفردية، بل هو بمثابة ضرورة أو حتمية تتحكم في أفعال الإنسان، فيما يخص هوايته، وثقافته، وتربيته، وعمله، وتغذيته، واستهلاكه... ويبدو أن مصطلح الهابيتوس مصطلح غامض ومعقد، إذ يقصد به بيير بورديو " بعض الخصال المترسخة في داخل عقول البشر وأجسادهم"[13]. ومن هنا، فالهابيتوس بمثابة مجموعة من الاستعدادات أو الملكات الدائمة التي يكون الفرد قد اكتسبها أو تطبع عليها عبر التنشئة الاجتماعية. وبالتالي، فالاستعدادات هي مجموعة من الميول والاتجاهات والمواقف المتعلقة بالتفكير والإدراك والإحساس، فيستبطنها الأفراد حسب ظروفهم الموضوعية لوجودهم، وتوظف هذه الاستعدادات بطريقة لاشعورية. وتتمثل هذه الاستعدادات المستضمرة في القيم والتصرفات والسلوكيات والمكتسبات المعرفية والذهنية. ويعني هذا أن الهابيتوس عبارة عن مجموعة من البنى المعرفية والإدراكية المستدمجة، ويتم إنتاجها في بيئة اجتماعية محددة. ويعاد إنتاج هذه البيئة من خلال قدرة الهابيتوس على التوليد. وعليه، لا يقتصر الهابيتوس على توجهات الأفراد وتصوراتهم وملكاتهم الشخصية فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى الاستعدادات الجمعية، مثل: أنماط التفكير والإدراك والتقدير والممارسة. ومن ثم، يؤثر الهابيتوس في الأفعال اليومية، كالتذوق، والملابس، والأثاث، والفن، وعادات الاستهلاك، وأوقات الفراغ... ومن هنا، فالهابيتوس نتاج ظروفه الموضوعية ذاتها[14]. وعليه، فالهابيتوس بمثابة مجموعة متنوعة "من التوجهات المستمرة والمهارات وأشكال من المعرفة الفنية التي يلتقطها الناس ببساطة من معاشرة أناس من ثقافات وثقافات فرعية معينة.ويمكن أن تتراوح هذه من أشكال السلوك الجسدي، والحديث، والإيماءة، والملبس والأخلاق الاجتماعية، من خلال مجالات المهارات المحركة والعملية إلى أنواع معينة من المعرفة والذاكرة المتراكمة.[15]" إذاً، يكتسب الفرد أو الفاعل الذاتي مجموعة من الموارد التي تجعله قادرا على إدماجها، حينما يتفاعل مع بنية المجتمع، بواسطة عملية الاستيعاب الخارجي. أي: إن ثمة تجانسا وتطابقا وتماثلا بين البنية الذاتية والبنية المجتمعية اللتين يتحكم فيهما الهابيتوس. وفي هذا، يقول جون سكوت:" أكد بورديو التطابق والتجانس القريب بين التنظيم الاجتماعي وديناميكيات العالم الخارجي والترتيبات المجسمة الداخلية للأفراد. ويرى أن هذا يأتي عن طريق ما يسميه بالاستيعاب الخارجي. ولقد أخذت أو استوعبت العوامل البشرية بالتدريج على مدار السنين أنواع الأمور التي تحتاج إلى معرفتها عن بيئتها الخارجية الاجتماعية والمادية حتى يمكنها المشاركة بنجاح في مجالات معينة من ممارساتها الاجتماعية. تترسخ هذه المعرفة الفنية حتى تصبح في معظمها طبيعة ثانية.إنها توفر مجموعة من الموارد الكامنة في الشكل الذي يسميه بورديو بالمخططات التوليدية التي يمكن الاعتماد عليها كلما اقتضت الظروف.[16]". ومن هنا، ليس الهابيتوس مجرد تمثل أو إدماج عاد وبسيط، ينبني على ممارسات تقليدية أساسها التكرار والتنميط والتطبيق الآلي، بل هو إدماج إبداعي يتجاوز المماثلة إلى الاستيعاب ومواجهة وضعيات جديدة. كما أن الهابيتوس هو بمثابة بنيات خاضعة لعامل التكيف والتـأقلم مع العالم المجتمعي الموضوعي. وفي الوقت نفسه، هو بمثابة أفعال محركة لبنية المجتمع، أو بمثابة ممارسات جديدة تهدف إلى حل مشكلات الواقع الموضوعي، وتجاوز حتمياته الجبرية. أي: يتضمن الهابيتوس التطبع بالمجتمع من جهة، والتحكم فيه بالفعل الفردي الإبداعي من جهة أخرى. ويعني هذا أن الفرد يستطيع أن يولد مجموعة من الخطط والإستراتيجيات، حينما يواجه وضعيات مجتمعية جديدة، مثل الذي يستعمل لغته الأم، فإنه يستطيع من خلال قواعد محددة أن يولد جملا لامتناهية العدد. ويعني هذا أن الهابيتوس هو مولد إبداعي وتطبيقي.أي: إن الفرد يستعمل كل إستراتيجياته وموارده وخططه، حينما يجابه وضعيات مجتمعية جديدة، إما بطريقة واعية، وإما بطريقة غير واعية. ومن ثم، لايقف مكتوف الأيدي، بل يجتهد ويتصرف وفق القواعد والمعايير التي استضمرها سابقا، عن طريق التنشئة الاجتماعية المستمرة أو التي انتقلت إليه من الآخرين. وإذا كان إميل دوركايم (E.Durkheim) يدرس الظواهر المجتمعية على أنها أشياء وموضوعات، من خلال التركيز على المجتمع، فإن ماكس فيبر يدرس الذوات الفاعلة التي تؤثر في المجتمع من خلال المعاني والمقاصد التي ترتبط بها أفعالهم السلوكية. ويعني هذا أن ثمة ثنائية الذاتية والموضوعية. بينما يرفض بيير بورديو هذه الثنائية، ويعتبرها حالة مصطنعة ومشوهة. لذا، يحاول الجمع بينهما بتوليد مجموعة من المفاهيم السوسيولوجية، منها: مصطلح الهابيتوس. ويعني هذا المفهوم الدمج بين البنى المجتمعية الموضوعية والأدوار الفردية الذاتية التي تحمل معنى أو دلالة أو مقصدية ما. ومن ثم، فالهابيتوس هو مجموعة من الاستعدادات وصور السلوك التي يتمثلها الأفراد أثناء التفاعل مع المجتمع. ويعكس المفهوم مختلف الأوضاع التي يشغلها الناس في مجتمعهم. ومن ثم، فالهابيتوس بمثابة وسيط بين البنية المجتمعية والممارسة الفردية. وأكثر من هذا، فالهابيتوس مجموعة من الاستعدادات الجسدية والذهنية الناتجة عن التنشئة الاجتماعية للفرد التي تجعل منه فاعلا اجتماعيا داخل حقل أو مجال اجتماعي معين. بمعنى أن الهابيتوس يتجاوز التعارض الموجود بين الوعي واللاوعي، فيوحد بين الفعل المجتمعي والبنية المجتمعية، ويعبر عن انفتاح الذات على المجتمع الخارجي. وفي الوقت نفسه، يحيل على خضوع الذات للجبرية أو المؤثرات المجتمعية الخارجية. فيما مضى، لم يكن الهابيتوس سوى تأقلم وتكيف عاديين وبسيطين مع الأوضاع، بتوظيف المكتسبات السابقة بطريقة آلية، بل يمكن - اليوم- أن يتحقق الهابيتوس بطريقة إبداعية خلاقة، بإيجاد الحلول الناجعة لمختلف الوضعيات المعقدة والصعبة والمركبة. ويعني هذا أن الهابيتوس يسمح للفرد بتوليد مجموعة من الممارسات الجديدة التي تتلاءم مع العالم المجتمعي الذي يعيش فيه. ومن هنا، فالهابيتوس بمثابة محرك قوي ودينامي، يتخذ طابعا تطبيقيا. أضف إلى ذلك، فالهابيتوس نتاج البنيات الجبرية والأفعال الحرة على حد سواء. ومن هنا، ليس الهابيتوس تطبعا اجتماعيا عاديا، بل هو محرك لممارسات مجتمعية جديدة لامتناهية العدد. وتشكل هذه الأحكام نسقا أو نظاما. وبالتالي، فالهابيتوس مصدر وحدة الأفكار والأفعال لدى الفرد. ولا يقتصر الهابيتوس على ما هو فردي، بل يتعدى ذلك إلى الجماعات المجتمعية التي تعيش التطبعات نفسها. ويعني هذا وجود أنماط مختلفة من التفكير والإحساس والعمل، ضمن طبقة اجتماعية واحدة ومتجانسة. ومن خصائص الهابيتوس أيضا ديمومة أحكامه، وقابلية نقلها من فرد إلى آخر، ومن جيل إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى. وللتمثيل بحقل العمل، يرتبط هابيتوس العمال بالمفيد والضروري. ومن ثم، فلباسهم وظيفي، ويهتمون بالفن الملتزم الواقعي. ويكون أكلهم دسما ومشبعا. أي: لهم نمط حياة مشتركة تشكل ما يسمى بالهابيتوس العمالي. ويتميز هذا الهابيتوس عن باقي الهابيتوسات الأخرى مضمونا وشكلا. في حين، يقوم هابيتوس البورجوازي على التجريد، وحب الفن الجميل، والبحث عن الجديد من الموضة. وتكملة لما سبق، يعني الهابيوس مبدأ الفعل لدى الأفراد داخل العالم المجتمعي، أو هو بمثابة الأنا الأعلى الذي يوجه سلوك الأفراد داخل المحيط المجتمعي بطريقة لاشعورية، أو هو نسق من الاستعدادات والملكات والقيم والأفكار والمواقف والاتجاهات التي تطبع عليها الفرد في المجتمع، بغية التمثل بها أثناء مواجهة المواقف والوضعيات المختلفة. وأكثر من هذا، فهو الذي يوجه سلوك الفرد أثناء مواجهة وضعية قديمة أو جديدة. لذا، يعتبر الهابيتوس منتج السلوكيات والتصرفات والأفكار والعواطف والقيم التي يمتلكها الفرد أثناء التفاعل مع موقف مجمتعي معين.أي: هو بماثة موجه لماهو فكري وذهني، وما هو وجداني وقيمي، وما هو فعلي وسلوكي. أما موقعه فهو الوسط بين العلاقات المجتمعية الموضوعية والسلوكيات الفردية، أو هو حلقة وصل بين بنية المجتمع والفعل الفردي، أو هو بمثابة استبطان للممارسات الفردية والشروط الموضوعية. وعلى العموم، يتكون الهابيتوس من شقوق ثنائية: فردي ومجتمعي، ذاتي وموضوعي، وفاعل ومنفعل. ويرتبط الهابيتوس برأسمال معين، كالرأسمال المادي، أو الرأسمال الثقافي، أو الرأسمال الاجتماعي، أو الرأسمال الرمزي. وليس الصراع الطبقي هو الوحيد الذي يتحكم في الطبقات الاجتماعية، بل يكون ال*** الرمزي أيضا عاملا من عوامل الصراع وأشكاله. ومن ثم، فلكل طبقة اجتماعية هابيتوس خاص، ورأسمال معين، وحقل معين، مثل: طبقة العمال، وطبقة المثقفين، وطبقة الفقراء، وطبقة الأغنياء... ويعني هذا أن الهابيتوس يرتبط من جهة بالفعل وبنية المجتمع. ومن جهة أخرى، يقترن بالرأسمال والتميز ال***ي أو الثقافي أو الاقتصادي أو المجتمعي... وفي الحقيقة، واعتمادا على الهابيتوس، يمكن تعيين مظاهر التميز الاجتماعي بلا حدود حتى في السلوك اليومي للفرد في: الشارع، والمؤسسة، والبيت، والمشي، والجلوس، والنوم، والعمل، والقيم، والإتيكيت، والمسكن، ونمط العيش، والسفر، وقضاء أوقات الفراغ، والتسوق، والدراسة، والهوايات... إلخ. مفهوم الحقل: يرى بيير بورديو أن العالم المجتمعي، في مجتمعاتنا المعاصرة، مقسم إلى مجموعة من الحقول (Champs).بمعنى أن تقسيم العمل في مجتمعنا أوجد مجموعة من الحقول والفضاءات المجتمعية الفرعية، مثل: الحقل الفني، والحقل السياسي، والحقل الاقتصادي، والحقل الثقافي، والحقل التربوي، والحقل الرياضي، والحقل الديني... ويتميز كل حقل فضائي باستقلالية نسبية عن المجتمع ككل. وتتميز هذه الفضاءات بالتراتبية الطبقية والاجتماعية، وباشتداد الصراع الدينامي والتنافس الشديد بين الأفراد حول الامتيازات المادية والمعنوية، والصراع حول مواقع السلطة والهيمنة، حسب طبيعة الرأسمال الذي يملكه كل فرد داخل المجتمع. ويكون الصراع في كل حقل حول مصالح مشتركة أو مصالح خاصة بكل فرد على حدة. ويخضع الحقل لمجموعة من القواعد، مثل: الصراع المحتدم بين الجيل القديم والجيل الجديد. ومن ثم، يخضع الحقل لمنطق التنافس والصراع والهيمنة والعيش المشترك. مفهوم الرأسمال: إذا كان كارل ماركس يرى أن أساس الصراع بين الطبقات الاجتماعية، ولاسيما بين البورجوازية والبروليتارية قوامه الرأسمال الاقتصادي، فبيير بورديو، على غرار ماكس فيبر، يرى أن الصراع لا يتخذ دائما طابعا اقتصاديا، فقد يكون صراعا ثقافيا. ومن ثم، فثمة رأسمالان مهمان في تحريك مجتمعاتنا المعاصرة هما: الرأسمال الثقافي والرأسمال الاقتصادي. وبناء على ما سبق، فقد حدد بيير بورديو أربعة أنماط مختلفة من الرأسمال الذي يملكه الفاعل المجتمعي، وهي: • الرأسمال الاقتصادي هو الذي يقيس موارد الفرد المادية والمالية، ويرصد ثرواته وممتلكاته، ويحدد دخله الشهري والسنوي. • الرأسمال الثقافي: يقيس موارد الفرد الثقافية، مثل: الدبلومات والشهادات العلمية والمهنية، والمنتوج الثقافي من مقالات وكتب ودراسات وأعمال إبداعية وثقافية وفنية، وما يملكه من مهارات وكفاءات ومواهب وقدرات معرفية ومهنية وحرفية في مجال الثقافة. • الرأسمال الاجتماعي: يقيس ما يملكه الفرد من علاقات اجتماعية ومعارف وصداقات، تعود إلى ذكائه الاجتماعي الذي يستثمره لربط مجموعة من صلا ت الرحم والقرابة والصداقة والزمالة. • الرأسمال الرمزي: ويتضمن الرأسمال الاقتصادي، والرأسمال الثقافي، والرأسمال الاجتماعي، وبهذه الأنماط يتميز الفرد مجتمعيا عن باقي الأفراد الآخرين. وقد أضاف بيير بورديو رأسمالا آخر في كتابه (أسئلة السوسيولوجيا)، سماه بالرأسمال اللغوي ؛ لأن بهذا الرأسمال تستطيع جماعة ما أن تفرض نفسها وإنيتها ووجودها. وبالتالي، تستفيد من السلطة ومن امتيازات مادية ومالية وثقافية ورمزية. وأكثر من هذا، فمن يمتلك الرأسمال اللغوي الأجنبي في الدول العربية، فإنه يستطيع أن يحظى بمكانة ثقافية واقتصادية كبرى في المجتمع. وفي هذا السياق، يقول بورديو:" يعني الرأسمال اللغوي التحكم في آليات تشكل الأسعار اللغوية، وكذا القدرة على جعل قوانين تشكل الأسعار تعمل لصالح صاحبه (أي الرأسمال)، والقدرة على استخلاص فائض القيمة النوعي. إن أي عملية تفاعل، وأي عملية تواصل لغوي، ولو بين شخصين أو بين صديقين أو بين طفل وصديقته، واختصار، إن كل عمليات التواصل اللغوي هي أنواع من الأسواق الصغرى التي تبقى دوما تحت رحمة البنيات الإجمالية.[17]". ويعني هذا أن الرسمأل اللغوي خاضع بدوره لقيم الهيمنة والتنافس والصراع، وله علاقة جدلية بباقي الأنماط الأخرى من الرأسمال الرمزي. بيد أن بورديو يغض الطرف عن رأسمال آخر أكثر أهمية، في مجتمعاتنا الإسلامية، من الأنماط الخمسة المذكورة وهو الرأسمال القيمي أو الديني، فهو الرأسمال المهم للإنسان، إذا تملكه الإنسان ربح الدنيا والآخرة. وبالتالي، فأحسن تجارة ينبغي أن يسعى إليها الفرد جاهدا هي التجارة مع الله في مجال العبادة والتدين والإحسان وفعل الخير. وعليه، يستطيع الفرد بهذه الموارد الرأسمالية المختلفة (الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، والثقافية، واللغوية) أن يحقق أرباحا ومنافع مجتمعية، ولاسيما أن الرأسمالين: الاقتصادي والثقافي هما أكثر أهمية في مجتمعاتنا المعاصرة حسب بيير بورديو. وهما اللذان يشكلان بنية المجتمع، ويتحكمان في أفعال الأفراد، ويجعل كل حقل مجالي فضاء للتنافس والصراع والتطاحن الاجتماعي والطبقي. الخاتمة: وخلاصة القول، يتبين لنا، مما سبق ذكره، بأن بيير بورديو من أهم السوسيولوجيين الملتزمين بالتصور الماركسي في نقد السياسة الرأسمالية. وقد انشغل بتقديم نظرية سوسيولوجية للمجتمع في ضوء المقاربة الصراعية. ومن جهة أخرى، أعطى أهمية كبرى لدراسة الطبقات المجتمعية، وتحليل التراتبية الطبقية والاجتماعية، واستجلاء دور الثقافة في هذا الصراع المجتمعي والطبقي، مع التركيز على المدرسة باعتبارها فضاء للتنافس والتطاحن والصراع واللامساواة الاجتماعية والطبقية. ومن ثم، فقد اتخذ بيير بورديو السوسيولوجيا أداة لنقد العالم الليبرالي الجديد، وفضح مؤسساته الإيديولوجية القائمة على الهيمنة والسيطرة وإخضاع الآخرين، على أساس أن مؤسسات الدولة الشرعية، مثل: المدرسة، والإعلام، والصحافة، والدين، تمارس نوعا من ال*** الرمزي تجاه الآخرين. علاوة على ذلك، فقد تمثل بيير بورديو المنهجية البنيوية التكوينية، من خلال الجمع بين الفعل وبنية المجتمع، وتجاوز مجموعة من الثنائيات التي أخضعت منهجيا للهابيتوس. ومن ثم، فقد وظف بيير بورديو مجموعة من المفاهيم والمصطلحات السوسيولوجية، ما زالت في حاجة إلى سبر، وتوضيح، وتنقيح، وتأويل، ولاسيما الهابيتوس، والحقل، وال*** الرمزي، والتميز، وغيرها من المفاهيم الإشكالية الأخرى. [1] باحث من المغرب (Jamilhamdaoui@yahoo.fr) [2] Pierre Bourdieu, Choses dites, Paris, Les Éditions de Minuit, l. « Le sens commun », 1987, 229 p. [3] بيير بورديو: الرمز والسلطة، ترجمة: عبدالسلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1986م، ص:18. [4] Pierre Bourdieu, Choses dites, Paris, Les Éditions de Minuit, l. « Le sens commun », 1987, 229 p. [5] Bourdieu (Pierre), Questions de sociologie, édition originale de Minuit, Paris, 1984, Cérès Productions Tunis, 1993. [6] Pierre Bourdieu et Jean-Claude Passeron, Les héritiers: les étudiants et la culture, Paris, Les Éditions de Minuit, l. « Grands documents » (no 18), 1964, 183 p. [7] خالد المير وآخرون: أهمية سوسيولوجيا التربية، سلسلة التكوين التربوي، العدد3، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية سنة 1995م، ص:15-16. [8] Pierre Bourdieu, La Domination masculine, Paris, Le Seuil, 1998, l. Liber, 134 p. [9] Pierre Bourdieu, La domination masculine, p:88. [10] Pierre Bourdieu et Loïc Wacquant, Réponses: pour une anthropologie réflexive, Paris, Seuil, 1992,pp:141-143. [11] Pierre Bourdieu, Sur la télévision suivi de L'emprise du journalisme, Paris, Liber, l. « Raisons d'agir », 1996, 95 p [12] Pierre Bourdieu, La Distinction. Critique sociale du jugement, Les Éditions de Minuit, 1979, 670 p. [13] جون سكوت: علم الاجتماع: المفاهيم الأساسية، ترجمة محمد عثمان، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 2013م، ص:42. [14] حسني إبراهيم عبد العظيم: ( الجسد والطبقة ورأس المال الثقافي: قراءة في سوسيولوجيا بيير بورديو)،إضافات، المجلة العربية لعلمالاجتماع، العدد 15، صيف 2011. [15] جون سكوت: علم الاجتماع: المفاهيم الأساسية، ص:42. [16] جون سكوت: نفسه، ص:42. [17] Pierre Bourdieu: Question de sociologie,Minuit,1984. |
العلامات المرجعية |
|
|