|
المواضيع و المعلومات العامة قسم يختص بعرض المقالات والمعلومات المتنوعة في شتّى المجالات |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
من أجمل ما قرأت ( مقالات للدكتور زكى نجيب محمود )
نمل ونحل الدكتور : زكى نجيب محمود النملة تدَّخِرُ القوت لفصل الشتاء ، وهي إذ تخزِن القوت الذي جمعته ، تتركه كما وجدته ، فحبة القمح تظل حبة قمح وقطعة السكر تبقى قطعة سكر ، فكل ما على النملة أن تؤديه في هذا السبيل ،هو أن تجمع ما تصادفه صالحا لطعامها ، وترصه في بيتها رصاً على مستوى الأرض ، أو تكومه فوق بعض ،، وقد شهدت في صباي شيئا عجيباً وكان ذلك في أعقاب مطر غزير ،إذ شهدت جماعة من النمل تُخرج مخزونها من جُحرها ، وتنشره متفرقاً تحت أشعة الشمس ، ولا بد أن تكون قد وجدته مبللاً بما تسرب إليه من ماء المطر ،وليس مخزون النمل دائما جزيئات صغيرة من مختلف المواد التي تراها صالحة ، بل قد يحدث أن تقع على صيد جسيم فتبقيه على جسامته ، وتحفر له مخزناً خاصاً يسعه بكل حجمه ، وراقبتُ ذلك بنفسي ذات يوم ، رأيت في الحديقة أمامي نملة كبيرة تناور صرصاراً ، وتداوره ثم تلدغه في أم رأسه لدغة رأيته يجمُد بعدها فبعُدَتْ النملة عنه مسافة قصيرة ،حيث أخذت تحفر جحراً ،وبسرعة ًالبرق تم لها ما أرادت ،فعادت إلى فريستها ،وجرته إلى حيث الجحر ، واعجباه ! ! كيف أخذت تقيس الصرصار طولاً وارتفاعا بخطوات سريعة أخذت تخطوها بجانبه ،ومتسلقة على جسده ،ثم تدخل الجُحر بعد ذلك وحدها ،ولعلَّها وجدت الجحر أصغر من أن يسع الفريسة ، فراحت توسعه بحفر جديد ،وأعادت عملية القياس ،فلما اطمأنت ،شدت صيدها حتى أدخلته في محبسه ،وردمت من تراب الحفر حتى أغلقت فتحة الدخول ، وذهبت إلى حال سبيلها ،، ذلك هو النمل وما يصنعه في تخزين قوته ، فهو ماهر كل المهارة في جمعِه لكنه لا يغيِّر شيئاً ، وأما النحل فأمره آخر ، لأنه ما إن يمتص من الزهور رحيقها ،حتى يدير لها معامِلَه الداخلية ، فتخرجه في الخلية عسلاً ،، وعلى طريقة النمل ،وطريقة النحل يكون الإنسان في جمع معارفه وعلومه : فتارة يصنع صنيع النمل ، وطورا يُجري عليها طريقة النحل ، وبين الطريقتين تختلف الشعوب ، وكذلك تختلف العصور فشعب ما أو عصر ما قد تسوده عملية الجمع والتخزين ، حتى إذا ما أراد أحد أن ينتفع بشيء من المعرفة المخزونة في حياته العملية أخرج من المخازن ما يريد ؛ ليستخدمه كما كان قد تلقاه وحفظه ، لكننا في الوقت نفسه قد نجد شعباً آخر ،وعصراً آخر لا يستريح إلا إذا تحولت المواد المجموعة على يديه خلقا جديداً ، وبمثل هذا الإبداع يتقدم الإنسان ، ولعلك تلحظ عملية الجمع مشتركة في الحالتين ، لكن بينما يوقف عندها في الحالة الأولى ،يتخطاها المبدع إلى مرحلة تُبنى عليها في الحالة الثانية فالنمل والنحل كلاهما يجمع مواده ،فأما النمل فيخزن ما تجمَّع كما هو ،أما النحل فيصير مما جمعه شيئا جديدا ،، تعالوا نستعرض معاً مسرعين أمثلة من أقوى النهضات الثقافية التي شهدت التاريخ لنرى على أي منهج سارت فأبدعت ،وسنرى أنها جميعاً قد تشابهت في مراحل السير : فخطوة نملية تجمع بها ما قد وصل إلى الدنيا من أمهات الحقائق ،، تتلوها خطوة نحلية ،يمتص فيها أصحاب المواهب رحيق المعارف المجموعة ، لا ليخزنوها في ذاكرتهم لتبقى على صورتها ،بل ليحولوها في معامل المواهب ابداعاً جديداً ،أما في مراحل الإنطفاء والركود ،فإن الدارسين يحفظون عن ظهر قلب ما يتلقونه من مأثورات الأولين ليخرجوها في المناسبات المختلفة "تسميعا" فتخرج وكأنها مومياوات محنطة خرجت من توابيتها لتوضع في المتاحف ،ولنجعل مثلنا الأول ذلك المد الثقافي الزاخر في تاريخ المسلمين ، فلم يكد يمضي على ظهور الإسلام ما يزيد قليلا على قرن واحد ،اشتغل فيه العلماء باللغة وما يتصل بها من قواعد وشواهد حتى بدأت حركة الجمع من مصادر الآخرين ،وأعني حركة الترجمة عن اليونانية والفارسية والهندية ،ولقد سارت تلك الحركة على مرحلتين : كان المترجمون في المرحلة الأولى منهما يعملون فرادى كل بحسب مزاجه ،ودون أن يكون للدولة شأن بهم ،وأما في المرحلة الثانية ،فقد كان للدولة شأن عظيم ،إذ أنشأ المأمون ما يُسمى ببيت الحكمة ،حيث يجتمع القائمون على الترجمة تحت رعاية الخليفة ،وكانت حصيلة ذلك كله أن أصبح بين أيدي الدارسين ترجمات لمعظم مؤلفات أرسطو وما كتبه الشارحون للإفلاطونية المحدثة وبعض محاورات أفلاطون ومعظم مؤلفات جالينوس ،وأجزاء مما كتبه غير جالينوس في الطب ، فضلاً عن المؤلفات في ميادين العلوم ،ومنها كتاب إقليدس وكتاب أرشميدس ، فما ان بلغ القرن التاسع ( الثالث الهجري) نهايته إلا وقد شهدت العربية محصولا طيباً مما أنتجه السابقون في ثقافات أخرى ،ولك أن تتخيل نفسك وقد دخلت بيت الحكمة في بغداد ،لترى جماعة المترجمين مُنكبَّة على صحائفها ،تنقل من لغة أخرى إلى اللغة العربية ،وبين هؤلاء ثلاثة من أسرة واحدة هم أبو يزيد حنين بن اسحاق وابنه إسحاق وابن أخته حنين ،فهل يسعك وأنت ترى هؤلاء يترجمون ما يترجمونه ،إلا أن تدرك من فورك إنما تشهد شيئا يشبه جهود النمل في الجمع والتخزين ،وأن تلك المادة المنقولة إلى العربية لن تكون هي الثقافة العربية ولكن الذي سيجعلها كذلك رجال آخرون ،يتلقون تلك المترجمات ليرشفوا رحيقها ،ثم ليُخرجوا ما قد رشفوه خلقا جديدا ،هو الذي نشير إليه اليوم،إذا ما تحدثنا عن التراث العربي وهو في عزه وذروة مجده ،، وانتقل من التاريخ العربي إلى القرن العاشر ( الرابع الهجري) وخذ ما اتفق ليديك أن تصلا إليه في خزانة الكتب التي عاش أصحابها في ذلك العهد ،ثم انظر إلى محتواها ،لترى كيف تحولت الأزهار إلى عسل ،فاقرأ -مثلا- لأبي حيان التوحيدي ، تجدك أمام فكر عربي جديد ،فلا هو شبيه بما قد كان عند أسلافه العرب من فكر ،ولا هو يشبه كل الشبه ما نقل إلى العربية من مؤلفات اليونان ،وليس ذلك المذاق الجديد مقصورا على رجل أو رجلين بل هو طابع شامل لعصر كامل امتد حقبة طويلة من الزمان في المشرق العربي ،وفي المغرب العربي على السواء ،وفي تلك الحقبة الطويلة لمعت أسماء كالنجوم الساطعة ،من فلاسفة كالفارابي وابن سينا ،وابن رشد، وشعراء الحكمة كأبي العلاء المعري ،ونقاد مثل : عبد القاهر الجرجاني ، وعلماء في الرياضة والفلك والكيمياء والطب وغير ذلك من شتى جوانب الفكر والأدب ،،وننتقل إلى المثل الثاني من النهضات الثقافية الزاهرة وهو مثل أوروبا في نهضتها التي وُصفت بأنها ولادة جديدة ،فها هنا أيضا كانت المرحلة الأولى شبيهة بما يصنعه النمل بطعامه المُدَّخر ،جمعاً وتخزيناً ،حتى يحين له الحين ،فما انفكت أوروبا في أواخر عصورها الوسطى تجمع بين أهم ما أنتجه العقل البشري ،،في ثقافة اليونان وثقافة الرومان وثقافة العرب ،وترجم هذا كله ،وأخذت دائرة انتشاره تتسع حتى بات في متناول الدارسين في الأديرة والجامعات ،وتحت أيدي رجال الفن والأدب، ثم جاء دور النحل والعسل ،فإذا الدنيا أمام روح جديد وعقل جديد ،ولم تكن تلك الجِدة مقصورة على علماء من أمثال جاليليو وكوبرنيق ،ولا على رجال فن أمثال رُفائيل ومايكل أنجلو وليوناردو دافنشي ، ولا على أدباء وشعرا مثل شكسبير ، بل الجِدة شملت روح الحياة نفسها ،وسادت في الناس فرحة غريبة كفرحة الطفل بكل شيء جديد ،انطلق الرحالة يجوبون البحار المجهولة والأرض البعيدة ويصعدون الجبال بعد أن لم تكن تلك الجبال قبل ذلك إلا مصدراً للخوف والتخويف ، دبَّتْ الحياة كلها روح المغامرة والبحث عما وراء الأستار ،وما اختفى في الظلمات فكان من كل ذلك أن دخل العالم عصره الجديد : علماً واكتشافاً وأدباً وفناً واهتماماً بالإنسان الذي هو بشر تقله الأرض وتظله السماء ،لا بالإنسان من حيث هو زاهد يكفيه القليل ،،وهذا الموضوع من سياق الحديث ،هو موضع ملائم لذكر "سير فانتيز" ورائعته الكبرى (دونكيشوت) فوقفة منا عند هذا الكتاب ضرورية لنا ضرورة المُنبِّهات القوية إذا ما أخذت الإنسان سِنة من نوم وهو بحاجة إلى يقظة واعية ،فليس كل شيء في ( دونكيخوت)أنه يحارب طواحين الهواء ظناً أنها فرسان معادية ،وأن يهاجم قطعان الخراف على أنها جيوش الأعداء مداهمة ومهاجمة لا بل هنالك ماهو أعمق أثراً فيمن يحيا ركوداً ثقافياً كالذي نحياه نحن اليوم ،، فذلك الرجل (دون كيخوت) قرأ كتب السلف عن حياة الفرسان ،وحفظ ما قد قرأ ،لم يُغيِّر منه شيئا ،ولم يضف إليه شيئا ،ثم رسم حياته على نموذجه ،فهو بمثابة نملة كبيرة وقعت على صيد كبير فخزنته لتجعله وليمتها ذات يوم شتاء ،كالنملة التي حدثتك عما رأيته منها ،، حين جمدت صرصارا ضخما بالنسبة إلى حجمها ، وحفرت له وخزنته ولو كان ( دون كيشوت) فعل ذلك في عصر سابق لعصره ،أيام كانت حياة الفرسان أمرا شائعاً مألوفا بل وكانت موضع تبجيل واحترام لما كان في أمره ما يلفت النظر ،إذن ماذا يلفت النظر في فارس يعيش في عصر الفرسان ؟ لكن عصر الفرسان قد ذهب وولى وتأهبت الدنيا للدخول في عصر جديد هو عصر النهضة الأروبية التي أشرنا إليها ثم ظهر (دون كيشوت) لا ليتنفس مع الناس الهواء الجديد بل ليتنفس هواءاً مخزوناً بين صفحات كتب قرأها عن عصر قديم ،فإذا كان سائر الناس من لحم ودم فقد كان هو انساناً من كلمات محفوظة وكانت دماؤه من مداد المحابر ،وهل تظن أن ( دونكيخوت) كان أعجوبة بشرية ظهرت واختفت ؟ أمعِن النظر فيما حولك ومن حولك ،تجد من طرازه مئات يدبون على ظهر الأرض بأجساد من ورق ،ودماء من مداد ،وأدمغة مشحونة بكلمات السابقين ،لا لتكون مصدر إلهام جديد ،بل ليعيشوها كرةً أخرى كما لو لم تمض بيننا وبين أصحابها مئات السنين ،، فنحن بعد أن قضينا مائة وثمانين عاماً ، منذ انفتحت أبوابنا على أوروبا فبدأت بذلك الإنفتاح نهضتها الحديثة ،لو اثتثنينا قلة قليلة مما أنتجناه خلال تلك الفترة لوجدنا إنتاجناً أشبه شيء ببيوت النمل ،فهو إنتاج يمكن أن يلخص في هذه الصيغة ،قال أسلافنا كذا ،وقال الغرب عن أسلافه ومعاصريه كيت ،، فلا نزال حتى في الموسيقى والشعر ،اللذين لا يكونان شيئا إذا لم ينبثقا من صميم الموسيقى والشاعر ، وأقول : إننا حتى في هذا الميدان لا نزال بين رجلين : أحدهما يقول : هكذا يكون الفن كما عرفه أسلافنا ، والآخر يقول : بل هكذا يكون الفن كما عرفه الغرب ،، ولا أقول شيئا عن موقفنا في ميادين الفكر والعلم ،والنظم على اختلافها ،فواضح أننا في ذلك كله ننحصر في إطار الصيغة التي أشرتُ إليها وهي أن صوتا ينادي بما أخذ السلف فيرد عليه صوت آخر بما يسود الغرب ، ولم تتبلور لنا بعد وجهة ،، إنه لا بأس في أن نصغي بآذان مرهفة لما قاله أسلافنا ،وما قاله العرب من أسلافه إلى معاصريه بل هو أمر ضروري محتوم لمن أرادوا لنهضتهم أن تعتدل على ساقين ،ولكن البأس كل البأس هو في أن نقف من ذينك المصدرين موقف النمل في الجمع والتخزين وكفى ،، إذ يبقى بعد ذلك دور النحل في التمثيل والتحويل ليتاح لنا أن نقول : هذا كتابنا بيميننا ،وعلى أساسه يكون الحساب ، ولقد تحقق لنا هذا بالفعل في كثير من الإبداع الأدبي ،وفي قليل من الفن ، ولكنه لم يتحقق في الفكر بشتى جوانبه ،لا كثيرا ولا قليلا ،اللهم إلا قطرات لا تطفىء ظمأ العصفور " آخر تعديل بواسطة aymaan noor ، 26-12-2013 الساعة 09:42 PM |
#2
|
||||
|
||||
جهد مشكوووووووووور
ليتنا نكون نملا ربما نصير نحلا |
#3
|
||||
|
||||
موضوع اكثر من رائع
نحن بحاجه مثل هذه المواضيع للتثقيف والتذكير والتعريف لهذا الجيل والتي غابت عنه معطيات كثيرة وفعلا اننا نعيش حالة ركود ثقافي كبير ارجو من حضرتك المشاركة الفعالة بمواضيع لها فائدة وقيمة لنستقيد من قراءة حضرتك القيمه جزاك الله خيرا استاذي الفاضل ايمن نور تحياتي |
#4
|
||||
|
||||
اقتباس:
جزيل شكرى و تقديرى لحضرتك على هذا التعليق الموجز و الذى أتفق معه تماما فللأسف لم نعد نمل و لم نعد نحل جزاك الله خيرا و بارك الله فيك اقتباس:
جزيل شكرى و تقديرى لحضرتك أستاذتى الفاضلة أم فيصل
أتفق مع حضرتك اننا فى حاجة الى مثل هذه المقالات التى تثقف العقول و تحلل واقعنا لنعرف أين مكاننا بين الأمم و أين نحن من الحضارة و التقدم جزاك الله خيرا و بارك الله فيك |
#5
|
||||
|
||||
قراءة قيمه وموضوع رائع
شكرا جزيلا |
#6
|
||||
|
||||
جزيل شكرى و تقديرى لحضرتك أستاذتى افاضلة
جزاك الله خيرا و بارك الله فيك |
#7
|
||||
|
||||
أخلاق العبيد د / زكي نجيب محمود سأقول وأعيد، ثم أقول وأعيد ، إننا نتخلق بأخلاق العبيد مهما بدا علينا من علائم الحرية وسمات السيادة، سأقول ذلك وأعيده ألف ألف مرة، لعله يطنُّ في الآذان فيرن صداه في الرؤوس، فتقر آثاره في النفوس، ولو كان جزائي من ذلك كله أن أحول رجلاً واحداً، استغفر الله، بل لو كان جزائي من ذلك كله أن أحول نفسي من العبودية إلى الحرية، ومن الذل إلى العزة والسيادة، لعددت ذلك جزاء وافياً شافياً، ولاستقبلت منيتي بعدئذ مطمئناً راضياً. لقد زعمت لك* أيها القاريء الكريم أننا عيال على العالم المنتج، لا نكاد نخلق شيئاً واحداً جديداً في الأدب أو العلم أو الفلسفة أو الفن، لا أقول اليوم، ولا أقول أمس ، ولكني أقول إننا لم نكد نخلق جديداً من أول الزمان إلى يومنا هذا ، لقد كنت أتحدث منذ أيام إلى إمام من أئمة الأدب في الشرق العربي ، فقال: إن مصر في كذا ألفاً من السنين لم تنجب أديباً عطيما، فرددت عليه في ابتسامة الخجل: بل إن مصر يا سيدي في كذا ألفاً من السنين لم تنجب عظيما، لا في الأدب، ولا في غيره من شتى نواحي الفكر والحياة. زعمت لك ذلك وعللته بما "نتحى" به من أخلاق العبيد، لأن الخَلْق عندي لا يكون إلا بعد عزة وسيادة وطموح، فلاحظت لك أننا عبيد في فلسفتنا الأخلاقية، لأننا نصدر فيما نفعل عن طاعة لأمر سلطان خارج نفوسنا، ولاحظت لك أننا عبيد في فلسفتنا الاجتماعية، لأننا نقيم نظام الأسرة ونظام المجتمع على أساس من سيد ومسود، ثم لاحظت لك أننا عبيد في بطانتنا الثقافية، لأننا ننصاع في يسر يشبه الانزلاق نحو الإيمان والإعجاب بما قاله الأولون. ولو كنا عبيداً ناقمين ساخطين على ما نحن فيه، جاهدين ساعين نحو إعزاز النفس وتحريرها، لهان الخطب وخف البلاء، لأن أول مدارج الإصلاح نقمة وسخط على الحاضر، ورغبة في التغيير وسعي نحو تحقيقه، لكن الخطب –فيما أرى- فادح، والبلاء جسيم، لأننا نجد من العبودية مرتعاً خصيباً نسرح فيه ونمرح، مغتبطين أشد الغبطة، راضين أكمل الرضى، وقد عبرت عن ذلك في مقال "الكبش الجريح" إذ عجبت لهذا "الخروف" – وقد وثب عليه الذئب فمزق منه وانتهش- عجبت له كيف استمرأ ضرب المخالب، واستلذ وقع الأنياب، دماؤه تسيل وعلى شفتيه ابتسامة، ويلغ الذئب فيه ويلعق وفي عينيه نظرة استسلام ورضى! لكن لما زعمت أننا عبيد، عجب فريق مما زعمت، وأخذ كل يتلفت حوله لعله يرى في جاره مصداق ما أقول.... واعجبا! كيف نكون عبيداً وليس في أرجلنا أصفاد ولا في أيدينا أغلال؟ بل كيف نكون عبيداً وقد حفظنا في المدارس أن أمهاتنا قد ولدتنا أحراراً، ولا يجوز لأحد أن يستعبد أحدا؟ ... كلا! أنت أنت العبد لا تتلفت، والأغلال والأصفاد في طوية فؤادك ودخلية نفسك، ولو كانت في يديك أو قدميك، لكان الخطب أيسر، لأن تحطيمها عندئذ يهون، أنت أنت العبد لا تتلفت، فلست تستطيب لنفسك عيشاً بغير سيد إن لم تجده في الأرض ألتمسته في السماء. لقد رأيت بعيني رأسي – إذ كنت في لندن- وزيراً في الوزارة الانجليزية الحاضرة – مستر نويل بيكر - كان يمثل حكومته في جمعية الأمم المتحدة ، رأيته بعيني رأسي ذات يوم، حين آن أوان الشاي في العصر، ينزل إلى طابق البناء الأسفل ليقف في صف كان بين أفراده صغار الكتبة والخدم! وقف هناك ينتظر دوره ليشتري فنجاناً من الشاي وقطعة من الكعك، وما فكّر هو، ولا فكّر أحد ممن وقفوا أمامه أن تكون له أسبقية بحكم منصبه، فسألت نفسي: هل يمكن أن يحدث ذلك في مصر؟ وأجبت نفسي: أن حدوث ذلك في بلادنا مستحيل لسببين: الأول – وهو أخف السببين شراً وأقلهما وبالاً، هو أن الوزير المصري لا يرضى لنفسه أن يكون في جمهرة من الناس تضم بين أفرادها عدداً من صغار الكتبة والخدم، لأنه – كغيره من البشر- يريد لنفسه سطوة وسيادة، وهاتان شرطهما "الترفع" و "التعالي" . الثاني- وهو المأساة الحقيقية التي تمزق النفوس كمدا، لو كان لنا نفوس يمزقها الكمد – الثاني هو أنه حتى لو فرضنا حدوث المستحيل، ففرضنا أن الله قد هيأ لنا الوزير الذي يجد نفسه " رفعة" لا تحتاج إلى "ترفع" و "علواً" لا يعوزه "التعالي" ، فلم يجد مضاضة في الوقوف في صف الكتبة والخدم ساعة العصر، ليأخذ في دوره فنجانه من الشاي، أقول إننا لو فرضنا حدوث هذا المستحيل، لأبَى الناس أنفسهم على الوزير أن يكون مثلهم، وأن يقف معهم على قدم المساواة في شئون حياته الخاصة التي لا يكون فيها وزيرا، لو تنازل الوزير المصري ووقف في الصف مع الكتب والخدم، لأبى عليه ذلك هؤلاء الكتبة والخمدم، وتسابقوا إلى التنحي للوزير الخطير عن مكان الصدارة في الصف، بل لتسابقوا إلى دفع القرش أو القرشين نيابة عنه، بل لتسابقوا إلى حمل فنجانه إلى حيث يطيب للوزير الجلوس. ولو حدث ذلك وقلت لأحد ممن وقفوا في الصف: هذه منك عبودية وذلة، لدهش من قولك وأخذه العجب ونظر إلى يديه وإلى رجليه، حتى إذا لم يجد بها أغلالا وأصفادا، صاح في وجهك محتجاً غاضباً: واعجبا! كيف أكون عبداً وليس في قدمي أصفاد ولا في يدي أغلال؟ وأعود فأستعير شيئاً مما قلته في مقالة " الكبش الجريح" : "قل في ذلك ما شئت يا "خروف" ، قل إنها وداعة الحملان ، أو قل إنه التواضع ، وإن للتواضع عند الله رفعة الشأن، أو قل إنه كرم النفس، وليس الكرم بغريب على بني القطعان، قل في ذلك ما شئت يا خروف، لكنه عندي علامة لا تخطيء على مافي نفسك من ذل العبيد ، الذي يستمريء ضرب المخالب، ويستلذ وقع الأنياب". وأحب أن أذكر لك على سبيل الموازنة بالوزير الإنجليزي الذي وقف في صف الكتب والخدم، مصرياً كبيراً – إذا قيس الكبر بدرجات الوظائف، كما تقاس حرارة الماء بالترمومتر- أعرفه حق المعرفة، ويعرفني حق المعرفة كذلك، لقيته بعد غيبتي أعواما، وشاءت الظروف أن نلتقي في ديوان حكومي، فأرادات له أوضاع المجتمع أن يسلم عليّ تسليم الذي لا يعرفني كثيراً أو قليلاً، وأنا لا أتهمه هو، لأني موقن أنه طيب النفس كريم العنصر، إنما أتهم المجتمع بأسره الذي هو عضو فيه، لأن هذا المجتمع – فيما يظهر- هو الذي وسوس له ألا يسلم على الناس أما الناس في شيء من الترحيب، خشية أن يظن الناس أنه أمسى وبات مساوياً للناس!! وعندئذ ابتسمت لنفسي ، أعني أنني ابتسمت ابتسامة أحسها دون أن يراها الناس – وأنا كثير الابتسام لنفس هذه الأيام- ابتسمت لنفسي لما أدركت أن المصري الكبير قد فوّت الغرض على نفسه وهو لا يدري، وإليك البيان: أراد المصري الكبير أن يكون كبيراً – مع إنه كبير – فاتخذ لغايته سبيلا يعرفها علم النفس ودارسوه، ألا وهي اصطناع القوة ليمتاز من سائر الناس، ولا شك أن من دواعي القوة أن يسلم عليك النسا فلا تأبه للناس! وهذا في ذاته من المصري الكبير جميل جد جميل، لأن هذا هو ما أراده الله لعباده، وليس في وسع مصري كبير أو صغير أن يعصي ما أراده الله لعباده، لكن الذي غاب عن المصري الكبير فلم يدركه، هو أن القوة المنشودة لها سبيلان: إحداهما حقيقة تؤدي إلى القوة بمعناها الصحيح، وأما الأخرى فسبيل زائفة تخدعه وتخدع أمثاله ممن لا يتعمقون الأمور إلى لبابها، وسيلا القوة هما المقدرة والسيطرة، المقدرة هي السبيل التي لا زيف فيها ولا خداع، والسيطرة لذاتها هي السبيل المضللة الخادعة ، وهي مضللة خادعة، لأنها تؤدي بسالكها إلى عكس ما أراد لنفسه، إذ تؤدي به إلى الضعف والعجز، وإنما أراد لنفسه قوة وسلطانا. والعجيب في هاتين السبيلين، سبيلي القدرة والسيطرة أنهما نقيضان لا يجتمعان، فإن كنت قويا بسبب قدرتك فيستحيل أن تلجأ إلى بسط سيطرتك على الآخرين، وإن كنت راغباً في بسط سيطرتك، فيستحيل أن تكون قادرا ماهرا، وقد يبدو هذا الكلام عجيبا، لكنه فيما أعتقد كلام صواب، فهل تتصور – مثلا- عالماً متبحراً في علمه متملكا نواصيه، يعمل في معمله بغية الوصول إلى نتائج في العلم جديدة، هل تتصور مثل هذا العالم راغبا في بسط نفوذه على الناس؟ لا أظن ذلك، لأنه ليس بحاجة إلى مثل ذلك، فهو يتجه بأمله ومجهوده نحو الطبيعة يريد أن يملك زمامها، لا نحو عباد الله يبتغي إذلال رقابهم، هو لا يريد بغياً ولا طغيانا، لأنه قادر ماهر، مكتف بنفسه، والعكس صحيح، أي أن الإنسان إذا ما شعر بخواء نفسه وعجزها وهي وحدها، التمس القوة عن طريق الآخرين، فبطش وتعسف. الطاغية في صميم طبيعته عبد يذل للقوة حيث يراها، كما إنه يبطش بالضعف إينما رآه، الضعف عند الإنسان القوي القادر يستثير العطف والإشاف، أما الضعف عند الذي الصاغه الله طاغية بطبعه، فيغري بالاعتداء، وكلما إزدادت الفرية ضعفاً، أزداد الطاغية بطشاً وعسفاً وطغياناً، والعبودية والطغيان وجهان لشيء واحد. والرأي عندي هو أننا عبيد لأننا طغاة، وطغاة لأننا عبيد. وأما الإنسان الحر القادر المكتفي بنفسه في عزة وكبرياء، فلا هو يطغى بالضعيف، ولا هو يعنو بوجهه ذلا لطاغية. |
#8
|
||||
|
||||
موضوع جمييييل بصراحه
ومجهود رائع من حضرتك استاذنا الفاضل جزاكم الله خيرا وجعله الله في ميزان حسناتكم تحياتي واحترامي وتقديري |
#9
|
|||
|
|||
رائع استاذ ايمن يعطيك الف عافية ومشكور على هذا النور الذى أومضت به سبيلا لهذا الكلام القيم
|
العلامات المرجعية |
|
|