|
#1
|
|||
|
|||
سؤال الغاية
من طرائق التشغيب التي يسلكها خصوم الإيمان بالله تعالى من الملحدين وأشباههم أن يطرحوا سؤالاً على الموحدين فيقولوا : لماذا خلقنا الله ؟! فإن أجابهم المسلم بما يعرفه من كتاب الله جل ثناؤه : {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات : 56) رموه بالسؤال التالي: لماذا نعبد الله وهو غنيٌّ عنا وعن عبادتنا ؟!
وهو ما سأدندن حوله في هذا المقال بحول الله.. العزيز المتعال .. وذلك في نقاط تأصيلية : أولا-الجهل بالحكمة لا يعني انتفاءها، ولا الطعن فيها، فضلًا عن التشكيك في وجود الخالق نفسه سبحانه وتعالى !، لأن القضية حيث ثبتت بدليل واحد صحيح، لم يضرّ أن يقع في التفاصيل أشياءُ مجهولة السبب أو العلة أو الغاية أو الكيفية؛ لأجل ما تقرر عند جميع العقلاء أن عدم العلم بالدليل ليس علماً بالعدم، وأن عدم الوجدان ليس نفياً للوجود.. وتأمل هذا المثال: هب أنك ألقيت بقشّة في صحراء شاسعة، ثم طلبت من فريق بحثيّ العثور عليها فقد تفنى الأعمار دونها ولا يجدون إليها سبيلًا، هل يؤثر ذلك على جزمك بوجود القشّة فيها ؟ اللهم لا!.. وللدنو أكثر من محل البحث نقول:هذه مركبة اقتنيتَها، تأملتَ في جنباتها وما فيها من معدّات وأجهزة، فرأيت المحرك، وصندوق التروس ،وخزان الوقود ..إلخ، ثم وقعت عيناك على شيء مصنوعٍ فيها لم تعرف لأي شيء هو ؟! فهل جهلك بذا يمنعك الاستفادة من القيادة؟ وهل تراهُ يقدح في علم الصانع ؟! فضلا عن أن يتسلل إليك شبهة في أن هذه الآلة لا صانع لها أصلا ؟! هذا لا يقول به أحدٌ عنده مسكة عقل أو ذرة فهم ..وعلى ضياء المثال: فلو قيل في جواب سؤالٍ كهذا وأمثاله : لا نعلم، أو الله أعلم، لما كان هذا مؤثرًا على قوة الحق في نفس الأمر وثبوته في العقل الصحيح. -وإنما يكون عدم الجواب دليلًا على ضعف الحجة :فيما يكون فيه السؤال له مدخل بثبوت القضية المدّعاة ، فالعدميّة في هذه الحالة-أي عدم الجواب- مؤثرة على ذات الدعوى عائدةٌ عليها بالنقض أو بالتشكيك الوجيه ، مثاله: كما لو ادعى أحدٌ أنه عالم في الطب فحين يُسأل عما يدعي خبرته فيه لا يردّ جوابًا، أو يسأل النصراني عن وجه التناقض في أناجيله الحالية فيحيل إلى علم الله، ويقول : الله أعلم !، أو يجيب إذا سئل عن التثليث كيف يجتمع مع التوحيد؟ أو كيف يكون 3=1 !؟ فيقول: هو سرٌّ من الأسرار الإلهية !، ففي المثل الأول : جاء الطبيب بدعوى لابد من ثبوتها وهي كونه طبيبًا، فإذا امتنع عن الجواب القاضي بتحصيل الثبوت، كان وجيهًا أن يُشكّ في صدق دعواه على أقل تقدير ..وكذلك المثال الثاني : فهذه الأناجيل يُدَّعى فيها أنه وحي مقدس، وإذا كان كذلك فإنه لا يتأتى أن يكون فيها تناقض واضطراب ، تأمل قول الباري عز وجل: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا }(النساء:82). إذا تقرر هذا،فإن الجواب بقولنا "الله أعلم " أو بقول الله:{ولا تقف ما ليس لك به علم} (الإسراء:36) أو قوله: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} (الأنبياء:23) ليس مما يدخل في الجهل الذي يضر بالحقيقة لأن سؤال الحكمة المتعلق بـ(لم؟) فعل كذا وكذا ، خارج عن ثبوتها.. ولا مانع عندئذ من التعريج على صلب السؤال : ما جواب الكتاب العزيز عن سائلٍ يقول : ما سبب خلق الله البشر ؟ هل يصلح أن (يُجعل) قول الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات:56)، جواباً مطابقاً على هذا السؤال؟ دعنا نقول : اللام في قوله: {ليعبدونِ} تعليلية، فمن المناسب جدًا، أن تكون هذه الآية جواباً على السؤال بلا إشكال، لكن هذا الجواب متعلق بشق الإرادة الشرعية لله عز وجل، وعناية الله في هذا الموضع منصبّةٌ على تقرير هذا النوع من الإرادة وهي ما يحبه الله ويرضاه، فإذا قيل: إن الله يحب أن نعبده، كان هذا جوابًا صحيحًا سليما .وحسبك أن ينتهي تسلسل الأسئلة الغائية إلى الرب المتصف بالحكمة والعلم ليكون وافيا بالمقصود . ولو لم يخلق الله شيئًا ، لكان السؤال عن عدم الخلق مع اتصافه بالخالِقية أولى في حكم العقل بالبحث عنه والتقصي ! -السؤال الثاني : هل عبودية الخلق للحق سبحانه تعني أن الله محتاج لذلك مفتقر إليه ؟! في الحقيقة من يزعم ذلك عليه أن يثبت التلازم بين الأمرين، ولن يمكنه أن يفعل مهما حاول ..وسينتهي بعد التيه في الفِكر إلى أن لازم قوله :أن الله جل ثناؤه حتى يكون كاملًا –وفق تصوره-يمتنع عليه أن يفعل شيئًا قط،فلا يرحم أحدًا ولا يحكم صنعةً ولا يخلق شيئًا ..إلخ حتى يمسك نفسه عن مطلق الفعل ليكون أكمل!، وهذا حجب لآثار الكمال ، في حين أن من الكمال أن تظهر آثار الكمال .. وبقليل من التأمل سيكتشف العاقل أن غنى الله المطلق يقتضي أن يكون معبودًا مطلوبًا، وإنما يطلب الخالقَ الغنيَّ الصمد القيوم : العبدُ الفقير الناقص.. كما قال الإمام الفذ ابن تيميّة : والفقرُ لي وصف ذاتٍ لازمٌ أبدًا ..........كما الغنى أبدًا وصفٌ له ذاتي (1) يقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي : "علم من استقراء القرآن أن العلامة الفارقة بين من يستحق العبادة ومن لا يستحقها هو كونه خالقا لغيره فمن كان خالقا لغيره فهو المعبود بحق ومن كان لا يقدر على خلق شيء فهو محتاج لا يصلح أن يعبد بحال"(2) ولو لم يكن في خارج الذهن أو في الواقع أحد يفتقر إليه سبحانه لما ظهر معنى كونه غنيًا، ولو لم يكن في الخارج من يرحمه لما ظهر معنى الرحمة، ولو لم يكن في الوجود من يتنزه عن ظلمه سبحانه لما ظهر كونه أحكم الحاكمين ولو لم يكن في الكون صنعةٌ محكمة لما ظهر معنى كونه حكيمًا، ولو لم يكن ثمّة مخلوق لما ظهر معنى كونه خالقًا..والحاصل :هذا المخلوق هو وبافتقاره إلى إيجاد فهو ناقص وهو في طول بقائه بعد إخراجه لحيز الوجود مفتقر كذلك للرب جل ذكره، وظهور آثار صفات الله تعالى هو من مقتضى الكمال، وإلا كان معطلًا –سبحانه وتعالى- عن حكم هذا الكمال، والعقل يدرك بداهةً أن الفعل أكمل من العدم، فحيث ترجّح جانب الأكمليّة كان الله حقيقًا بالاتصاف به. إذن :صفة الكمال التي لا أثر لها في الواقع كأنها في حكم المعدوم لكونها مفرغة من نتيجتها الواقعية وهذا قد يحتمل نوع قدح في الكمال، إذ الأكمل في حق الباري أنه فعّال، وأنه خلّاق ..وأنه وأنه ..إلخ، فيقتضي إذن أن يكون لهذه الصفات آثار، منها : الخلق المسؤول عنه في طليعة المقال، ولهذا لو جاء مدع للطب وزعم أن معه شهادات العالم فما قيمة طبه إذا لم يعالج أحدًا قط، ولم يطبّب حالة واحدة ؟..ولم يرفع بذلك رأسًا ؟، طِبُّه في حكم المعدوم !، والله خلق الخلق وابتلاهم وفق مقتضى حكمته فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد .. وليس معنى ذلك أن الله يتحتم عليه أن يخلق، بل هو فعّال لما يشاء سبحانه، وفق ما يشاء متى ما يشاء.. زيادة في إيضاح المسألة أنقل إليك نتفة من كلام العلامة المعلمي اليماني رحمه الله تعالى في "دفع الاشتباه" حيث قال : "الكمال يقتضي التكميل] يعني أن من اتصف بالكمال من شانه أن يكمّل غيره[..ولله تبارك وتعالى الأسماء الحسنى وهو الغني الحميد فاقتضى جودُه-أي كرمه- أن يكمّل غيره إلى الحدِّ الممكن وليس من الممكن خلقهم كاملين لأن الذي يمكن خلقهم عليه من الكمال يكون كله بمنزلة كمال خلقهم في صورهم وليس ذلك كمال للمخلوق يحُمَد عليه المخلوق إذ لا إصبعَ له فيه، فكان لابد أن يخلقوا صالحين لأن يكمُلوا، ثم كمال العبد إنما هو طاعة ربه ] لأن طاعة الكامل كمالا مطلقا: كمال [، ويتأكد هذا في فهمك إذا لاحظت أن الله لا يأمر إلا بالخير الذي يكون كمالًا يحمد عليه فاعله ولا ينهى إلا عن الشر الذي ينافي الكمال والحمد ويقتضي النقص والذم ويزداد ذلك وضوحًا إذا لاحظت أنه سبحانه الغني الحميد فما كان فيما أمرهم من خير فهو لهم، فعبادة ربهم هي كمالهم .ولا يحصل المقصود بأن يخلقهم قابلين للكمال ثم يجبرهم عليه .." يعني لو قهرهم جبرا فهذا ليس كمالا يكون لهم فيه مزية يحمدون عليها، فهذا يقتضي أن يخلقهم مختارين ومعنى ما سبق باختصار : الله جل ثناؤه له الكمال المطلق ، والكامل من شانه أن يكمّل غيره .. ، فلو خلق الإنسان بكمال قهري لما كان فيه ممدحة له ..فخلقه سبحانه وتعالى ، على نحوٍ يكون له فيه مدح بان يحصل هذه الكمالات اختيارًا ، وذلك يكون بالتعلق بالكامل كمالا مطلقا ، والتشبث بالحبل الواصل إليه أي عبادته سبحانه وتعالى وطاعته طاعة مطلقة –ولا طاعة مطلقة إلا لله -، وما يتضمّنه من ابتلاءات وتحمل مشاقّ ، لأن الشيء الذي لا مشقة في تحصيله لا يكون معنى للمدح . تخيل لو قال لك أبوك اذهب فاشتر قطعة "شوكلاطة" من النوع الذي تحبه ، هل يكون ذلك دلالة على برّك به لو ذهبت ؟ لا قطعا ..وأيضا الأكمل في حق من اتصف بالكمال أن تظهر آثار صفات كماله ، فلو تأملت في هذا انكشف لك باب عريض إن شاء الله تعالى.. - هذا معنى ما قاله المحقق المعلمي رحمه الله "فالله عز وجل خلق الخلق ليكملوا :وكمالهم في عبادته =فقد خلقهم لعبادته، -ولا يكون الكمال والعبادة إلا بطريق الابتلاء = فقد خلقهم ليبلوهم والابتلاء يؤدي إلى الاختلاف ولابد " ويمكن إيضاح هذه المسلسلة المنطقية كالآتي الكمال> تكميل> خلق> ابتلاء>اختيار: إما إلى جنّة أو نار تدبر معي الآن كلام الباري واربط ببعضه ببعض مع استحضار كل ما سبق :قول الله جل ذكره {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور }(الملك:2) مع قوله {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون *إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} (الذاريات:56-58) وقوله {هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم }(الحشر:24) وقوله {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده هو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم }(الروم:27) والمثل الأعلى :الوصف الأكمل الأجل . فإذا تبين لك جانب الخلق على نحو ما سبق ، بقي أن يقال : أليس من مقتضى الخلق أن يبين لخلقه ما تستقيم به حياتهم وشؤونهم على نحو صالح ..كما يرفق الصانع مع منتجه دفترا إرشاديًا "كتالوج" ليكون استعماله وفق الطريقة المثلى التي تضمن عمله بسلامة ، وتكشف عن خصائصه بسلاسة ؟ الجواب : بلى قطعًا ..وهي هي حقيقة التشريع الإلهي الذي هو من خصائص الرب جل وعلا كما أن الخلق من خصائصه .. إن حقيقة التشريع الإلهي : إظهارٌ للإرادة الإلهية في صورة منهج حياة متكامل {إن الله يحكم ما يريد }(المائدة:1) ، فكما أن الله هو المتفرد بالخلق فكذلك هو المتفرد بهيمنة الأمر {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين }(الأعراف:54) ومن هنا تدرك أن الجرآء على الله بوضع القوانين الوضعية وتحكيمها إنما نازعوا الله تعالى في خصائصه الإلهية وربوبيته .. والتشريع كالخلق هو مقتضى كمال الله في صفاته وأفعاله وعلمه وحكمته .. ومن طلاقة الكمال الإلهي أنه خلق من الأنواع كلها : -صنف لا شهوة فيه ولكنه ذو عقل =كالملائكة -وصنف لا عقل فيه ولكنه ذو شهوة =كالبهائم -وصنف فيها الخاصتان =كالإنس والجان .. فإذا احتج علينا محتج وقال كان يسعه أن يخلق مكمّلين دون ابتلاء ، قيل له قد فعل فخلق الملائكة ، وإذا قال آخر ذو همة دنيئة يرى نفسه دون مرتبة التكريم بالحرية بالاختيار والعقل : كان يمكن أن يسلبنا العقول فلا يكون بيننا هذا الاختلاف ، قيل له: قد فعل فخلق من الدواب الأصناف ..وهذان نوعان من الكمال الإلهي ظهرا في هاتين الصنعتين ، والأكمل من هذين النوعين أن يخلق نشأة يكون كمالهم فيها لمن شاء منهم أن يستقيم ويكمُل على نحوٍ يكون له فيه محمـدة وفضل ، فكان الاختيار والاختبار : وكان الإنس والجان .. هوامش المقال: 1-(طريق الهجرتين وباب السعادتين 1 / 12) ابن قيم الجوزية , ط1 مؤسسة سليمان بن عبدالعزيز الراجحي الخيرية 1429ه ،حققه محمد الإصلاحي وخرج أحاديثه زائد النشيري بإشراف بكر بن عبدالله أبوزيد 2-(أضواء البيان 7 / 238) محمد الأمين الشنقيطي ط2 دار الكتب العلمية 1424هـ _ 2003م ، تحقيق محمد عبدالعزيز الخالدي
__________________
|
العلامات المرجعية |
|
|