|
#1
|
|||
|
|||
عز جارك
هذه الكلمة لها وقْعٌ عجيبٌ في قلبي، أشعُر معها حين أُردِّدها بالرَّوح والريحان والأُنْس والاطمئنان، كلمة عظيمة يَطير معها القلبُ فرحًا حينَ الخوف، ويأمَن معها الفؤادُ حين الفزَعِ، ويسكُن لها الشعورُ حين الوَجَلِ، وتَبرُد عندها المشاعرُ وقتَ الاضطراب.
إن أعظم مَنْ يُستجار به هو الله؛ فاستجِرْ بحِماه تسلَمْ من المخاوف، ولُذْ بجواره تأمَنْ من الكوارث؛ فجارُه لا يَحزَن ولا يشقى ولا يَنصَب، ولا يَهلِك ولا يَضِلُّ. الجار في لغة العرب هو من يُجاورك؛ أي: يسكُن بجوارك، وجِوار مصدر جاوَر؛ أي: سكن بجواره، ومعنى جاوَر الحرم؛ أي: أقام بجواره قريبًا من الكعبة، وتجاوَروا؛ أي: صاروا قريبًا في المسكن، وأسألك حُسْن الجوار؛ أي: أن تكون حَسَنَ الخُلُقِ مع جارك، ومعنى: "هو في جواري"؛ أي: في عهدي، وانتقل إلى جوار ربِّه؛ أي: تُوفِّي وقبَض الله رُوحَه، والجوار: الإقامة قريبًا من الشيء: ومنه: ﴿ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الأحزاب: 60]، ويُستخدَم لفظ الجوار للأمان والعهد؛ ومنه: بينه وبين فلانٍ جوارٌ. وعزَّ: غلَب وقهَر؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴾ [ص: 23]؛ أي: غلبني وقهرني بحجَّته، وعزَّ الأمرُ: قَوِيَ واشتدَّ؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ [التوبة: 128]، وأعزَّه الله؛ أي: قوَّاه؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 26]، وهو سبحانه وتعالى العزيز والمعز؛ أي: القوي المنيع؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 220]، ﴿ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴾ [الفتح: 3]، والعزيز: اسم من أسماء الله الحسنى؛ معناه: الغالب الذي لا يُقهَر، والمعِزُّ معناه: الواهب العِزَّة لمن يشاء من عباده، الممتنُّ عليهم بأسباب القوة والغَلَبة والنصر والتمكين. والعزَّة: هي القوة والعَظَمة؛ كما حكى الله عن سَحَرَةِ فرعون: ﴿ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الشعراء: 44] وعزَّزه: شدَّده وقوَّاه؛ ومنه قول ملك الملوك عز وجل: ﴿ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ﴾ [يس: 14]، واعتزَّ بالشيء؛ أي: صار عزيزًا مكرمًا به. وللجار حقٌّ عظيم، حتى إن العرب كانوا يتقاتلون فيُجِير أحدُهم الآخَرَ، ثم يَعْلَم أنه قاتَل أبيه أو قريبه، فلا يَمَسُّه بسُوءٍ لعِظَم المجاورة عندهم، بل ربما ضحَّى بماله وولده لحماية مَنِ استجارَ به، وكانوا يُكرِمون الجارَ غايةَ الإكرام؛ كما يقول حاتم مخاطبًا زوجتَه: إذا ما عَمِلْتِ الزَّادَ فاتَّخذي له أَكِيلًا فإنِّي لستُ آكِلَهُ وحْدِي وكيف يَسيغُ المرْءُ زادًا وجارُه خفيفُ الْمِعَى بادِي الخَصاصَةِ والْجَهْدِ فهو يُقرِّر قاعدة: أنه كيف يطيب له الشِّبَعُ وجارُه جائعٌ، وهي عينُ تكاليف شرعنا الحنيف ومحاسنه الجميلة؛ فلا يؤمن مَن بات شبعانَ، وبات جارُه جائعًا، بل يصل الحال بحاتم أن ينزل قِدْرَه مباشرة لجاره؛ كما يقول: ناري ونارُ الجارِ واحدةٌ وإليْه قبلي تَنْزِلُ القِدْرُ ما ضرَّ جاري إذْ أُجاوِرُه ألَّا يكُونَ لبَيْتِه سِتْرُ أعْمَى إذا ما جارَتي خَرَجَتْ حتَّى يُوارِي جارَتي الخِدْرُ فهو يُكرِم جارَه غايةَ الإكرام، ويَغُضُّ طَرْفَه عن عَوراته، ويحفَظ أسراره إكرامًا لمجاورته، وهي أبيات جميلة كان يُردِّدها مالك بن أنس، وقال ابن عبدالبر: "حفِّظُوها أبناءَكم"، وكانوا يَحرِصون أشدَّ الحرص على عِزَّة الجار، وأن يبقى عزيزًا كريمًا، فلا تلحَقه مهانةٌ، ولا تنزِل به شِدَّةٌ، ولا يتعرَّض لأي أذًى، وفي هذا يقول عنترة: ألا فَلْيَعِشْ جاري عَزيزًا ويَنْثَني *** عَدُوِّي ذَلِيلًا نادِمًا يَتَحَسَّرُ فالجار عند العرب كريم عزيز مرفوعُ الرأس، لا يلحَقه أذًى ولا ضيمٌ ولا يتعرَّض له مكروه، ولا بدَّ أن يُحاطَ بالحماية والرعاية والصَّون والسَّتْر والِحفْظ، ويُقدِّمون في سبيل ذلك الغالي والرخيص حتى وإن سُفِكَت دماءُ أولادهم لحمايته، وانتُهبتْ أموالُهم صونًا لكرامته، ويُؤكِّد هذه المعاني عروة بن الورد؛ إذ يقول: وَلا يُسْتَضامُ الدَّهْرَ جاري وَلا أُرى كَمَن باتَ تَسْري لِلصَّديقِ عَقارِبُه وإنْ جارَتي أَلْوَتْ رِياحٌ بِبَيْتِها تَغافَلْتُ حَتَّى يَسْتُرَ البَيْتَ جانِبُه فأيُّ أخلاقٍ في حفْظ حقِّ الجار كهذه؟! إنه جمالٌ ما بعدَه جمالٌ! والإسلام أكَّد هذه المعاني النبيلة، فأنت مطلوب بنصِّ القرآن أن تحمي مَنِ استجارَ بِكَ حتى إنْ كان مُشْرِكًا؛ ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ ﴾ [التوبة: 6]، فحماية من استجار بك واجبٌ شرعيٌّ عظيم، وتكليفٌ إلهيٌّ صارمٌ، لا تَمَلُّصَ منه، وقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم دائمًا يتذكَّر مُطْعِم بن عَدِي عندما أجارَه بعد عودته من الطائف، فقد عاد الرسول حزينًا كسيرًا ومكث عدة أيام في وادي نخلة، غير قادر على دخول مكة لشدَّة الأذى الذي لحِقه من كُفَّار قريش، فأرسل للمُطْعِم يريد جواره، فخرج الْمُطْعِم بن عدِي وهو على شِرْكه يُنادي: إني قد أجَرْتُ محمدًا ودخل الرسول مكة وحوله الْمُطْعِم، وأولاده العشرة قد أحاطوا به يحملون سلاحهم، ولم يَجرؤ أحد على الاقتراب منه؛ لمعرفتهم أنه دخل في جُوارِ الْمُطْعِم، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام عقب بدر في شأن الأسارى: ((لو كلَّمَني الْمُطْعِمُ في هؤلاء النَّتْنَى، لوهبتُهم له)) قاصدًا مكافأته على ذلك الموقف العظيم. فيا سبحان الله، مع أن البرد قارسٌ، والجوع شديد، والرسول ينتفض بردًا، ومعلوم أن المبرود مُحبَّب إليه الأكل، وإذا أكل أكَل بِنَهَمٍ، وهو قرص واحد لا يمتلكون غيره، والشاة متعدية، فقد دخلت عليهم وأكلت القُرْص، ومع ذلك يقول لها صلى الله عليه وسلم: ((خُذِي ما أدْرَكْتِ، ولا تُؤذِي جارَك في شاتِه)). وفي كثير من الأسفار تَنزل بقوم يُكرِمونك، فتشعُر كأنك بين أهلك، فلا تشتكي الفَقْدَ، وتنسى الهمَّ والغَمَّ، ويتبدَّل وَعْثاؤك إلى جَمالٍ، وتَعَبُك إلى راحةٍ، وما ذاك إلَّا لأنهم احتفوا بمقدِمكَ، وأشعروك بالأُنْس والرِّضا والبهجة والسرور، حتى قال أحد الشعراء واصفًا جيرانًا نزَل بهم: سَقْيًا ورَعْيًا لجِيْرانٍ نَزَلْتُ بِهِمْ كأنَّ دارَ اغْتِرابي عِنْدَهُمْ وطَني إذا تأمَّلْتُ مِنْ أخلاقِهمْ خُلُقًا عَلِمْتُ أنَّهُمُ مِنْ حِلْية الزَّمَنِ من ذكريات الأيام أن أول رحلة خارج وطني كانت إلى الخرطوم، فسكنتُ حيَّ الفيحاء شرقَ النيل مجاورًا لقاضٍ فاضلٍ كان ولا يزال آيةً في الخُلُق الجميل، تعرفت عليه بعدَ وصولي بثلاث ساعاتٍ وبعد ثلاثة أيام من سفري واستقراري، فقدْتُ أخي وشقيقي الأكبر، فاجتمَعت عليَّ وحشةُ الغُرْبة وموتُ الحبيب، فوجدتُ عند جاري الأُنْسَ والتصبير والحكمة والكرم والرِّضا، فكأنِّي بين أهلي، وكأنَّ مُصابي مُصابُه. وفي كثير من الأحيان تذكُر مواقفَ لجيران كانوا قمَّةً في الخُلُق النبيل، والتَّرحاب الجميل، والذوق الأصيل؛ فتعيش معهم وتأنَس بهم، وتسمع حكاياتهم، وتَطرَب لأَندائهم، ويشدُّك كرمُهم واهتمامُهم بكَ، وتستغرب من متابعتهم لأمرك، وسؤالهم عنك، حتى لكأنَّك تعرِفهم ويعرفونك من زمن بعيدٍ، وما وقت معرفتك بهم إلَّا من أيام أو ساعات، فإذا طلبتَ شيئًا تسارَعُوا لتلبيتك، وإذا فقَدوك في المسجد هُرِعوا للسؤال عنك، وإذا اشتَكيت ألَمًا عرَضوا عليك خبراتِهم وعقاقيرَهم، واستدعوا لك الطبيب، وإذا احتجتَ مالًا أعطوك بلا حسابٍ، وإذا صنعوا طعامًا طيبًا فلأجْلك، وإذا عمِلوا مناسبةً فعلى شرفك، وإذا أرادوا الخروج نزهةً فمَعَك، يَطيب لهم سرورُك، ويَبتهجون لرضاك، ويفرَحون لفرحك، ويَحزَنون لحزنك؛ هذا الحال بالمخلوقين فكيف بالخالق؟ أتُرى مَن استجار به سيَضيع؟! هذا مُحال؛ فهو أكرم الكُرماء، وصاحب العزة والعظمة والكبرياء والجلال. تأمَّل معي آسية امرأة فرعون: ﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [التحريم: 11]، ذكر الإمام الطبري وابن كثير والقرطبي والرازي وغيرهم في تفسير هذه الآية آثارًا كثيرة خلاصتها: أنه لَمَّا تبيَّن لفرعون إسلامُها، أوتَد يديها ورجليها بأربعة أوتاد، وألقاها في الشمس، فكانت تُعذَّب في الشمس، فإذا انصرَفوا عنها أظلَّتها الملائكة، بل وصل بها الحال أنها كانت تَضحَك وهي تُعَذَّب، وكان فرعون يقول: ألا تعجبون من جنونها؟ إني أُعذِّبها وهي تضحك، وعندما سألتِ اللهَ بيتًا في الجنة، كشَف الله لها عن بيتها في الجنة، ثم إن فرعون أمر بصخرة عظيمة لتُلقَى عليها، فلما أتَوْها بالصخرة، جعلت تُردِّد: ﴿ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ﴾ [التحريم: 11]، فأبصرتْ بيتَها في الجنة مِن دُرَّةٍ بيضاءَ، وانتُزِعَتْ رُوحُها، فأُلقِيَتِ الصَّخْرة على جسدٍ لا رُوحَ فيه، ولم تَجِدْ ألَمًا. قال ابن القيم: "انظر إليها، سألت الجار قبل الدار، فسؤال الجار قبل الدار أحقُّ للعبد أن يسألَه من الواحد الغفار"، وقال القشيري في لطائف إشاراته: قالوا: صَغُرتْ هِمَّتُها؛ حيث طلبتْ بيتًا في الجنة، وكان من حقِّها أن تطلُبَ الكثير... ولا كما توهَّموا: فإنها قالت: ﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ ﴾ [التحريم: 11]، فطلبت جوار القُرْبة، ولَبَيتٌ في الجوار أفضلُ من ألف قَصْرٍ في غير الجوار، ومن المعلوم أن العِنْديَّة هنا عنديَّة القُرْبة والكرامة؛ ولكنه على كل حال بيت له مَزيَّة على غيره، وله خصوصية، وفي معناه أنشدوا: إنِّي لأَحسُدُ جارَكُمْ لجُوارِكُمْ طُوبَى لمنْ أضْحَى لدارِكَ جارَا يا لَيْتَ جارَكَ باعَني مِنْ دارِهِ شِبْرًا لأُعْطيَهُ بِشِبْرٍ دارَا قال الزمخشري: "في دعاء امرأة فرعون دليلٌ على أنَّ الاستعاذة بالله، والالتجاء إليه، ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل - من شِيَمِ الصالحين، وسُنَنِ الأنبياء والمرسلين". لما اشتدَّ الأذى بأبي بكر رضي الله عنه في مكة، خرج يريد الحبشة فردَّه ابنُ الدَّغِنَةِ، وقال ارجع إلى مكة فأنت في جواري، ثم بَقِيَ فترةً في مكة يتعبَّد الله في جوار ابن الدَّغِنَة، ثم لم يطِبْ له أن يعيش إلا في جوار الله، فذهب إليه، وردَّ جواره مؤثرًا جوارَ الله على جوار ابن الدَّغِنَةِ رغم المكابدة والإيذاء. فطلَبُ جُوارِ الله عند نزول الكَرْب من شِيَم الصالحين، فقلوبُهم متعلِّقة بالله تستجيرُ به، ترى نصرَه وفتحَه وتوفيقَه وغوثَه، متطلِّعةٌ إلى كرمه وهُداه، وبركته وخيره، لا تتوكَّلُ إلَّا عليه، ولا تطلُبُ إلَّا منه، ولا تعتزُّ إلَّا به، لا تَرتَهبُ إلَّا من خشيته، ولا تقِفُ إلَّا على بابه، ولا تبكي إلَّا في مِحرابه. في جوار الله ستُقْضى حوائجُك، ستُسْتَرُ عيوبُكَ، ستُغفَر ذُنُوبُك، فلا تَقنَطْ من كرمه وسَترِه ومغفرته. ولا تَقنَطْ من الغُفْران يومًا ولو كانَتْ ذُنُوبُك مِلءَ وادي سيَغفِرُها الذي قد قال حقًّا بنصِّ كِتابِه نبِّئ عِبادي تَخيَّل معي شخصًا كان ذليلًا، يعيش في مهانٍة وظُلْمٍ من الناس، في كلِّ يوم يُضرَب ويُهانُ، ويُسْخَر منه، فدُلَّ على مَلِك كريمٍ غنيٍّ، فجاء إليه شاكيًا حالَه، وإهانةَ الناس له؛ فقرَّبه منه، وأمر ببناء بيت له بجوار قَصْره، وأمر جُنْدًا بمرافقته وحراسته، ثم أغدَق عليه من صنوف النعيم، فأصبح عزيزًا قويًّا مهيبًا منيعَ الجَناب، فكان إذا خرج لحاجته في السوق أو مشى بين الناس، يُسلِّمون عليه ويُحيُّونه بأجمل التَّحايا، ويُفسِحون له الطريق، بل صاروا يتقرَّبون منه ليدلَّهم على الملك، وصار الناس في كل مكان يقولون: هذا جارُ الملك، فهو صار في هذه المكانة العظيمة والرفعة العالية بسبب جواره من الملك، ولله المثل الأعلى، فإن من يتقرَّب لمولاه عز وجل ويتذلَّل بين يديه، يصير في حماه وعزِّه، فيُعِزُّه الله، ويرفع قدره ومكانته، ويَحرُسه بجُنْده وملائكته وعينه التي لا تنام، فإن كان عالِمًا فتح الله عليه من أنواع العلوم وأصنافها، فصار يدلُّ الناس على الملك عز وجل؛ لأنه اقترب منه واتَّقاه وعرَف أوامره، وصار ممَّن يخشاه حقَّ الخشية؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، فهم أكثرُ الناس خشيةً؛ لأنهم أكثر الناس معرفةً له، فمثلُ هذا الجار مثلُ ذلك الجار الذي كان يُهان في الدنيا ويناله أذى الناس وسُخريتهم، ثم بمعرفته الملوكَ وجوارِه لهم، صار عزيزًا مهيبًا قويَّ الجناب. في جوار الله ستعيش كلُّك ثقةٌ بوعد الله وخيره الذي ينحدر إليك انحدارًا، فما خاب يومًا راجيه، فمن يقترب منه، ويعرِف كرمه وجُودَه وخيرَه ووعدَه المتحقِّق لعباده، عاش في جوٍّ مُفْعَمٍ بالثقة به عز وجل: على ثِقةٍ بوَعْدِ اللهِ عِشْنا بلا يأسٍ وما زِلْنا نَعِيشُ تَجيشُ قُلُوبُنا حُزْنًا ولكِنْ بِذِكْرِ اللهِ يَهْدَأُ ما يَجيشُ وما غيرُ الدُّعاءِ إذا عَجَزْنا فإنَّ سِهامَهُ ليسَتْ تَطِيشُ احذَر أن يتسلَّل اليأسُ إلى قلبك، فيُدمِّر معالم الثقة، لا تَخشَ أراجيفَ الشيطان، واسمَع لمولاك الذي استجرت به؛ إذ يقول: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268]، واسْمَع وعودَه للمؤمنين الصادقين إلى قيام الساعة: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51]، ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47]، ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 21]. لا تُقلِقكَ كوابيسُ الهمِّ، ولا تَجتاحك جيوشُ الغمِّ، ولا تُسيطر عليك سحائبُ الأرَق، ولا تَملأ مدامعُك الحُدُقَ؛ فأنت في جواره: يا مُسْبِلَ الدَّمْعِ مِنْ هَمٍّ ومِنْ حَزَنِ هوِّن عليكَ وكَفْكِفْ دَمْعَكَ الجاري وارْفَعْ يديكَ وسَلْ رَبَّ الوَرى فَرَجًا وكُنْ على ثِقَةٍ بالواحد الباري أكثر من مناجاته؛ فجواره يتحقَّق بكثرة اللجوء إليه، والهروب من مستنقع الدنيا ووحْلِها الذي يُدنِّس القلوبَ البيضاء، وكلما تذلَّلْتَ بين يديه أَزْلَفَك إليه، وكلما قُلْتَ: يا ربُّ، لبَّى نِداك، فهو سميع عليم، لا تَخفى عليه خافيةٌ. نادِ الإلهَ إذا أحاطَ بِكَ الأسَى ما خاب مَنْ في النائباتِ دَعاهُ لا شيءَ يَجلو الحُزْنَ مِثْل ندائنا مُتَذلِّلينَ بقُولِنا ربَّاهُ تذكرُ لنا كتبُ الأدب أخبارًا عن الشاعر أبي الحسن التهامي، وهو شاعر عربي فصيح؛ إذ تُوفِّي ولده، فرثاه بمرثيةٍ تُبكِي العيونَ؛ يقول ضمن أبياتها: وهِلالَ أيَّامٍ مَضَى لم يَسْتَدِرْ بَدْرًا ولَمْ يُمْهَلْ لوقْتِ سِرارِ عَجِلَ الخُسُوفُ إليه قَبْلَ أوانِه فَمَحاهُ قَبْلَ مَظِنَّةِ الإبْدارِ واسْتُلَّ مِن أتْرابِه ولِدَاتِه كالْمُقْلةِ استُلَّتْ من الأَشْفارِ فكأنَّ قلبي قبرُه وكأنَّه في طيِّه سِرٌّ مِنَ الأسْرارِ يا كوكبًا ما كان أقْصَرَ عُمْرَهُ وكذا تكونُ كواكِبُ الأسْحارِ جاورْتُ أعْدائيْ وجاوَرَ ربَّهُ شَتَّانَ بينَ جُوارِهِ وجُوارِي يقول: أنا بقيت للحُساد والأعداء والشامتين في الدنيا، وهو ذهب إلى جوار الله. ذكر كثيرٌ من المؤرخين ومنهم ابن كثير في (البداية والنهاية) أنه رُئي بعدَ موته في المنام، فقيل له: ما فعَل الله بك؟ قال: غفَر لي، وأدخَلني الجنة، قالوا: بماذا؟ قال: بقولي في القصيدة المشهورة: جاورْتُ أعْدائي وجاوَرَ ربَّهُ *** شَتَّانَ بين جُواره وجُوارِي فيا لنِعم الجوار ومكانته وعزه! فلا يُشبهه ولا يُقارنه ولا يُماثله ولا يُدانيه جوارٌ في الحياة أبدًا، والعاقل هو مَنْ طلب ذلك الجوار، وسعى له على قدمٍ وساقٍ حتى يصِلَ إليه، ولا يحتاج إلى كلفة ومَشقَّة؛ فالله أقربُ إليك من حبل الوريد، متى دعوتَه أجابك، ومتى طلبته أعطاك، ومتى استغثتَ به أغاثك، وانْتَبه أن تَقنَط أو تَيْئَس ما دمتَ في جواره داعيًا له، مُخْبِتًا بين يديه، مُنيبًا إليه، واثقًا فيما عنده، فلو أصابَك ما أصابك، فهو عينُ الخير لك، وقد واجَه الأنبياء، وهم أحبُّ الخَلْق إليه شتى صُنوف البلاء، فأنقَذهم من جحيم المهالك، ودلَّهم على أفضل المسالك، فما ظنُّك فيمن يُلقى في النار، أو تَبتلعه الحيتان في البحار، أو تلعَب به أمواج الأنهار، أو يُلقى في البئر طفلًا بعيدًا عن الأنظار، أو يَهرُب فيُحيط به الأعداء في الغار؟! وفي كل تلك الأخطار كان هِجِّيراهم ولسان حالهم "عَزَّ جارُك"، فلم يخافوا البتةَ؛ لأنهم في أعزِّ جوار، وقد جعل الله قلوبهم مُعلَّقةً به، فشعَروا معه بالأُنْس والراحة والسعادة والطُّمَأنينة والقرار، فلو وُزِّع عُشْر سعادة أحدهم على البشرية لوسعها، فما أكرمَ ما اختاروا من جوارٍ! فما عليك إلَّا أن تطلُبَ جوارَه؛ لتنعَم بسعادةٍ لا يصِفُها قلمٌ، وراحةٍ لا يتخيَّلُها فِكْرٌ، وإيمانٍ لا تَهزُّه عاصفةٌ، واسمَع إلى ما يُرشِدُك إليه الحبيبُ صلى الله عليه وسلم إذا خفتَ ظالِمًا أو جبَّارًا؛ ففي الأذكار للإمام النووي عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خفتَ سُلْطانًا أو غيرَه، فقُلْ: لا إلهَ إلَّا الله، الحليم الكريم، سبحان الله ربِّ السموات السبع، وربِّ العرش العظيم، لا إلهَ إلا أنت، عزَّ جارُك، وجلَّ ثناؤُك)). ونقل الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) ما ورد عند البيهقي وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: "لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم سَفَرًا قَطُّ إلا قال حين ينهَض من جلوسه: ((اللهمَّ بِكَ انتشرْتُ، وإليك توجَّهْتُ، وبِكَ اعتصَمْتُ، وعليك توكَّلْتُ، اللهم أنت ثقتي، وأنت رجائي، اللهم اكْفِني ما أهمَّني، وما لا أهتمُّ له، وما أنت أعلمُ به مني، عزَّ جارُكَ، وجلَّ ثناؤك، ولا إلهَ غيرُك، اللهم زوِّدني التقوى، واغفِر لي ذنبي، ووجِّهني للخير أينما توجَّهتُ))، ثم يَخرُج". وهناك طرق كثيرة لأحاديث ورَد فيها هذا اللفظ؛ فقد ورد عند الترمذي في (جامعه)، والبخاري في (الأدب المفرد)، وابن السُّنِّي في عمل اليوم والليلة، وعند البيهقي في (سننه)، وابن أبي شيبة في (مصنفه)، وعند الطبراني في (المعجم الصغير والكبير)، وأصحُّ ما ورد حديث ابن مسعود رضي الله عنه موقوفًا أنه قال: "إذا كان على أحدكم إمام يخاف تَغَطْرُسَه أو ظُلْمَه... فليقل: اللهم ربِّ السموات السبع ورب العرش العظيم، كن لي جارًا من فلان بن فلان، وأحزابه من خلائقك، أن يَفرُطَ عليَّ أحد منهم، أو أن يطغى، عزَّ جارُك، وجل ثناؤك، ولا إلهَ إلا أنت"؛ رواه البخاري في (الأدب المفرد)، وصحَّحه الألباني. فتأمل معي - رعاك الله - لفظ: "عزَّ جارُك"، ما أجملَه وأروعَه من لفظ! يبعث البُشْرى في قلب المؤمن، ويُبهِج خاطر الرُّوح المسلمة المستسلمة لأمر بارئها عز وجل، فالله وحدَه حسبُك وكافيك، وناصرك ومُلهِمُك ومُؤيِّدك وهاديك، هو وحده مَنْ يُخرِجُك سليمًا من الحوادث، ويُنجِيكَ من هول الكوارث، هو وحده من يبعث الطمأنينة في صدرك، ويُيسِّر لك أمرك، هو وحده من يُغيث لَهفتك، ويقضي حاجتك، ويَفُكُّ كُرْبَتك، ويُنهي أزمتَك. وأنتَ يا سَندِي حَسْبي ومُلتجئِي *** وكلُّ مَنْ لاذَ بالرَّحمَنِ لم يُضَمِ "عزَّ جارُك": لفظة أرقُّ من النسيم، وأعطرُ من الشيح والقيصوم. "عزَّ جارُك": فيها كل الأُنْس لمن شعَر بالوحشة، وفيها جنَّةُ القُرْب لمن تاه في البُعْد. "عزَّ جارُك": تبعث في قلبك رَوْحًا وريحانًا، وتملأ جوارحَك ثباتًا واطمئنانًا. " عزَّ جارُك": تشعُر معها أنك في أكرم جوار، وأنك في أعظم مُستقرٍّ وقرار. " عزَّ جارُك": فلا قلقَ بعد اليوم على مستقبلك، ولا خوفَ من كل شيء يُهدِّدك. هي لفظة تقول لك: أنت بجوار أعظم مَلِك فلْيَطِبْ خاطِرُكَ، ولْيَثْبُت فؤادُك. أكثِرْ من اللجوء إليه، ونادِهِ بقلبٍ مُخْبِتٍ مُحِبٍّ منكسرٍ طامعٍ فيما لديه، واحذَر من الاستعجال في الإجابة، فهو يسمَعك، وهو قريب منك لأنك بجواره؛ فالشاعر يقول: وإذا نظرْتَ إلى السَّماءِ مُناجيًا ورجَوْتَ رَبَّكَ أنْ يُحقِّقَ مَأْمَلَكْ فرأيتَ ما لم تَرْتَجِيه مع الدُّعا وظَنَنْتَ أنَّ الحُزْنَ أطْفَأ مِشْعَلَكْ لا تَجْزَعَنَّ مَنَ الحياةِ وضِيقِها حاشاهُ رحْمان السَّما أنْ يَخْذُلَكْ ولوَ اطَّلعْتَ على الغيوب ولُطْفِها لَعَلِمْتَ أنَّ الخيرَ فيما اخْتارَ لَكْ اقترب من مولاك، ردِّد "عزَّ جارُك"، لُذْ بهذه الكلمة، تحقَّقْ بها، استمسِك بعُراها، تشبَّث بها، كما يتشبَّث الغريقُ بما يُنقِذُه. وتذكَّر أن أعظم الجوار له أن تكون جارًا له في جنة الفردوس، فسقفُها عرش الرحمن، وهناك من أهل الجنة من يزور ربَّه، وينظُر إليه مرةً كلَّ جُمُعَة، وهناك من هو أعلى وأرقى وأعظم، مَنْ يزور الرحمن عز وجل مرتين كلَّ يوم - بُكرةً وعشيًّا - فإذا رأى أهل الجنة ربَّهم نسوا كل نعيم بين أيديهم، وتعلَّقوا بلذَّة النظر لمولاهم، فأيُّ جمال، وأيُّ بهاء، وأيُّ جلال، وأيُّ عظمة - أعظمُ من عظمة ونور وجلال وبهاء ونور مولاهم؟! في جواره يَنسون كلَّ تعبِ الحياة، ومشاقها، ونكدِها، وأغلالها، ينسون الدماء التي سُكِبت، والأرواح التي بُذِلتْ، والحياة التي وُهِبت، ينسون الجهد والكد وطولَ القيام، ينسون الدموع والاعتكاف على العبادات، وطولَ الصيام، ينسون الجوع والفقر والمرض والآلام. يتمتعون بالنظر إلى وجهه، فيرون ما لا يخطر على بالٍ؛ من الحُسْن والبهاء والجمال، متعة ما بعدها متعة! تتضاءل أمام تلك المتعة كلُّ متعة في الوجود، ولذة ما بعدها لذة! ليس لها أبدًا حدودٌ، في ذلك العالم الجميل، والجوار الكريم في جنة الخلود. فإذا طلبتَ جوارًا فكُن ذكيًّا كآسية عندما طلبت جواره، فنالت مُناها، ووصلت إلى مُبتغاها، ولكن قبل ذلك قدَّمَت المهر، قدَّمت إيمانًا كالجبال، لا تهزُّه عواصفُ الريح، وثباتًا حتى الممات عند خروج الرُّوح، ولأنها اختارت جواره، فلم تشعُرْ بألم، بل كانت تضحك عند العذاب، وهل جار يخذل مَنِ استجار به عند انقطاع الأسباب؟! اللهم إن بابك لم يَزَلْ مفتوحًا للسائلين، ورِفْدك ما برح مبذولًا للوافدين، مَنْ عوَّدته مسألتك وحدَك، لم يسأل أحدًا سواك، ومَنْ مَنَحْتَه رِفْدَكَ، لم يَفِدْ على غيرك، ولم يَحْتَمِ إلَّا بحماك، أنت الرب العظيم الكريم الأكرم، قَصْدُ باب غيرك على عبادك محرَّمٌ، أنت الذي لا إله غيرك ولا معبود سواك، عزَّ جارُك، وجلَّ ثناؤك، وتقدَّسَت أسماؤك، لم تزل سُنَّتُك في خَلْقِك جاريةً بامتحان أوليائك وأحبابك، فضلًا منك عليهم، وإحسانًا من لدنك إليهم؛ ليزدادوا لك في جميع الحالات ذِكْرًا، ولأَنْعُمِك في جميع التقلُّبات شكرًا، اللهم أنت العالم الذي لا يُعَلَّمُ، وأنت الكريم الذي لا يَبخَل، قد علِمتَ يا عالم السرِّ والعلانية أن قلوبنا لم تَزَلْ برفْعِ إخلاص الدعاء صادقةً، وألسنتنا في حالتي السرِّ والعلانية ناطقةً، اللهم أدْخِلنا في جوارِكَ، وأَسْبِغْ علينا نِعَمَكَ، وأنزل علينا من خيراتك، وارفَع درجاتنا عندك، فإنا اخترنا جوارك على كل جوار. عامر الخميسي
__________________
آخر تعديل بواسطة abomokhtar ، 18-05-2018 الساعة 11:11 AM |
العلامات المرجعية |
|
|