|
#1
|
|||
|
|||
صفات الكافرين في سورة هود
مقدمة عامة:
السورة: طائفةٌ من القرآن لها أولٌ وآخر، مَأْخُوذة من سُور البلد؛ لارتفاع رتبهَا كارتفاعه. والسؤرة بالهمزة لغةٌ فيها. أُضِيفَت إلى هود عليه السلام لذكرِه فيها. وهو اسمٌ لهذه السورة المخصوصة. والسورة قد يكون لها أكثر من اسم واحد وقد يكون لها اسمان أو أكثر. والأصح أن أسماء السور تَوْقِيفِيَّة، أي تَتَوَقَّف على نقلهِا عنه صلى الله عليه وسلم، وليست باجتهادٍ من الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك ترتيب السور والآيات على الأصح، فكان جبريل يعلمه أن هذه السورة بعد هذه السورة وقبل هذه السورة، وكذا الآيات الكريمة. ولم يُثْبِت الصحابة أسماءَ السورِ في مصَاحِفِهم، وإنَّمَا هو ابْتِدَاعٌ من الحجّاج كما ابْتَدَعَ الأعْشَار والأسْبَاع وأثْبِتَها في المصاحف؛ كتب أول عُشر بها من المصحف (عُشر) وكذا فعل بالأسْبَاع. وكَوْن أسماء السور تَوْقِيفِيَّة على الأَصَح إنما هو للأسماء التي ذُكرت واشْتُهِرَت بها، وإلاَّ فقد سَمَّى جماعة من الصحابة والتابعين سوراً بأسماءٍ مِنْ عِنْدهِم واجتهادِهم، كما سَمَّى حُذَيْفة التوبةَ بالفاضحة، وبسورة العذاب؛ وسَمَّى سفيان بن عُتْبَة الفاتحةَ بالواقية؛ وهكذا كثيرٌ مِنْ السور لها أسماءٌ غير الأسماء التي اشْتُهِرَت بها. وهي مكيَّة: وفي المَكْيِّ والمَدَنِيِّ خِلافٌ كثير. والأرجح أَنَّ المَكْيّ ما نَزَلَ قَبْلَ الهجرة ولو في غيرِ مكة، والمَدَنِيّ مَا نَزَلَ بَعْدَهَا ولو في مَكَة أو عَرَفة. ﴿ بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ﴾ اختلف الأئمة في كون البسملة آيةً من الفاتحة وغيرها من السور التي بُدِئت بها: فذهب الشافعيّ وجماعة من العلماء إلى أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة ذُكرت في أولها. وقول كثيرٍ من الصحابة والتابعين وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وقد احْتَجَّ الشافعيّ بأنها كُتِبَت بمِدَادِ المصحف في الوقت الذي كان فيه التَحَرُّج من كتابة شيء بمداد المصحف لغيرِ القرآن؛ وذهب الأوزاعيّ وأبو حنيفة ومالك إلى أنَّ البسملة ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السُوَر، ولكنها للفصل والتبرك، مع القَطْع بأنها بعض آية من سورة النمل. وعلى ذلك قال مالك: ولا يُستفتح بها في الصلاة المفروضة. ﴿ الر ﴾[1]اختلف في المراد من هذه الكلمات ومثيلاتها اللاتي قد ابْتُدِئ بها تسع وعشرون سورة من القرآن الكريم: فقِيلَ إنها أسماءٌ للسور التي ابتُدِئَت بها وعليه كثيرون، سُميت بها إشعاراً بأنها معروفة التركيب، فلو لم تكن وحياً من الله العلى القدير لم تتساقط مقدرتُهم دون معارضتها. وما ورد عليه من أنه يستلزم اتحاد الاسم والمسمى. ﴿ كِتَابٌ ﴾[2]مَصْدَرٌ مَأْخُوذٌ مِنْ الكُتْب ومعناه الضَمُ والجَمْعُ، ومِنْهُ الكَتِيبةُ للجُنْد، لاجتماعها، ومنه يظهر وجه تَسْمِيةُ القرآن بالكتاب. قولُه تعالى ﴿أُحْكِمَتْ﴾[3]من الإحْكَام، وقد عُبِّر عنه بالماضى لبيان الواقع. والمراد منه ومن أمثاله الاستمرار ماضياً أو مضارعاً كما في قوله تعالى ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾[4] قوله تعالى ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾[5]، يتعلق به مباحث: المبحث الأول: في ربط الآيةِ الكريمة بما قبلها وما بعدها، وهو أنَّهُ تعالى لمَّا ذَكَرَ فيما تَقَدَم ما يدلُ على الوِحْدَانِية بقوله تعالى ﴿أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ﴾[6]، وذَكَرَ ما يدل على قدرتِه بقوله ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[7]، وما يدل على علمِه بقولِه ﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾[8]، وفي أثناء ذلك ما يدل على الوَعْدِ والوعيد والترغيب والترهيب - أرْدَفَهُ بما يدل على أنَّهُ تعالى عَالِمٌ بالمعلوماتِ كُلِها بالآيةِ التي قبلها، وبما يدل على كونهِ تعالى قادراً على الممكناتِ بأسرها بالآية التي بعدها وهي قولُه تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾[9]، لِأنَّ الإله الواحد يجب أنْ يكون عِلْمُه مُحِيطاً بالمعلوماتِ كُلِها وأنْ تكون قُدْرَتُه شاملةً للممكنات بأسْرِها، وفي ذلك تقريرٌ للتوحيد فيما تقدم؛ لأن من شمل علْمه وعَمَّت قدرتُه هو الذي يكون إلهاً لا غيره، ممَّا لا يعلم ولا يقدر على ضُرٍ ولا نفعٍ؛ وتأكيدٌ للوعد والوعيد فيما سبق؛ لأن العَالِم القادر هو الذي يُرْجَى ثَوَابُه ويُخْشَى عقابه. هذا هو الربط الأول، وهو وجيه. المبحث الثاني: وقِيلَ في الربط أيضاً إنَّه تعالى أخبرَ برزقِ الجميع وهو يَسْتَدْعِي العِلْمُ بالمَرزُوقِ وأنَّه لا يغفل عن تربيتهِ ورعايتهِ، فكيف تَخفَى عليه أحوالكُم يا معشرَ الكفار وهو يرزقكم؟! المبحث الثالث: ويَجُوز أنْ يُقال في وجه الربط أيضا إنَّ الآية الأولى راجعةٌ لقولِه تعالى ﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾[10]، تقريراً وتأكيداً لها، والثانيةُ راجعةٌ لقولِه تعالى ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[11]، تقريراً وتأكيداً لها، ويكون فيه لف ونشر مشوش؛ حيث رجَعَ الأول للثاني والثاني للأول؛ والوجه هو الأولى... وعلى ذلك تِكُون الثانية معطوفة على الأولى من عطْفِ الجمل لاشتراكِهما في أنَّ كلاً منهما تأكيد لما قبلها، والآيةُ الأولى مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنها جوابٌ عن سؤالٍ نشأ عن الكلام السابق تقديره "ما الذي يدلُ على إحاطةِ علمِه وكمالِ قدرتِه تعالى كما هو شأن الإله؟" فقِيلَ جواباً عنه ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ﴾[12]الآية. والواو لا تمنع الاستئناف والفَصْل؛ لأنَّ الفَصْل معناه ترك العطف لا العاطف. صفات الكافرين: قولُه تعالى ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾[13]الآية: وجه ربط هذه الآية وما بعدها بما قبلها، أنها بيانٌ لأوصافِ الكفار القبيحة الكبيرة المختلفة التي اشتملت عليها، وعددها أربعةَ عشر وصفا: أولها: افتراءُ الكَذبِ على اللهِ تعالى؛ وآخرها: كَوْنُهم في الآخرةِ أخسرُ الخاسِرين، وذلك بعد أنْ ذَكرَ فيما سَبَقَها أوصافاً ذميمة لهم وطرقا مختلفة؛ منها شدة حرصِهم على الدنيا ورغبُتهم في تحصِيلها وإنكارهم الآخرة، فبين هذه الصفة وأبْطَلَها بقولهِ تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا﴾[14]... ومنها أنَّهم كانوا يُنْكِرُون نُبوَّةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ويَقْدَحُون في مُعْجِزَاتِه، وقد بين الله تلك وأبْطَلَها بقولِه تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾[15]ومنها ما معنا، فهى مستأنفة نَحَويَّاً لِبيان صفةٍ من صفاتِهم القبيحة تلى ما سَبَقَها، والمناسِبة للقُبْحِ في السابقِ واللاحق. ويجوز أن تكون معطوفة على الآيةِ التي قَبْلَها وهي قوله جَلَّ شأنه: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ﴾[16]... إلخ، وذلك بنِسْبَتِهم إليهِ سبحانه ما لا يليق بهِ كقولهم: "الملائكة بنات الله" سبحانه وتعالى عما يقولون عُلَّواً كبيرا، وقولِهم لآلِهَتِهم ﴿هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾[17]؛ أو إنْكَارِهم ما أنزل الله... والمُرَادُ من الجُمَلة الاسْتِفهَامِيِّة المُبَالغة في ذمِ هؤلاء الكفار؛ بأنهم مع كَوْنِهِم كافرين بآياتِ الله يفترون عليه سبحانه كَذِبا، أيْ لا أحد أَظْلمُ ممن اخْتَلَقَ على الله كذباً، فكَذَبَ عليه وزعم أنَّ له شريكاً أو ولداً وهى تدلُ على أنَّ الكَذِبَ على اللهِ أعْظَمُ أنواع الظُلْم. والمراد نفى أن يكون هناك أحدٌ أظْلَمَ مِمَنْ افترى على اللهِ كذباً أو مساوياً له في الظلم كما يٌنَبِّئْ عنه ما سَبَقَ إلى قولِه تعالى ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ﴾[18]، لذلك إذا قلت "من أكرمُ من فلان؟" فالمراد أنَّهُ أكرمُ مِنْ كلِ كريم، فـ ﴿مَنْ﴾ في قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ للاسِتِفْهام الإنكاري كما قُدِّر. ويجوز أن يكون هذا التركيب مَسُوقاً مَسَاقَ الكلامِ المُنْصِف؛ أَي لا أحدٌ أظلمُ منكم إنْ جَعَلْتُم ما ليس كلاماً للهِ كلاماً لهُ كما زَعَمْتُم، ولا أحد أظلم منكم إنْ نَفَيْتُم أنْ يكون كلامُه سبحانه مع تَحَقُق كَوْنِه كلامُه جَلَّ شأنه. وفيه من الوَعيد الشديد والتهويل ما لا يَخفى. قولَه تعالى ﴿أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ﴾[19]كلامٌ مُسْتَأْنَف استئنافاً بيانياً جواباً عن سؤال ٍ عنْ جزاء هؤلاء، كأنَّ سائلاً قال "ما جَزَاء هؤلاء"؟ فَقِيلَ ﴿أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ﴾ وليس العَرْضُ خاصاً بهم بل هو عامّ لكلِ العباد كما قال تعالى في سورة الكهف ﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا﴾[20]، وإنَّمَا هو عَرْضٌ خاصٌّ الغَرَضُ منه فَضِيحَتَهم؛ يقول الملائكة عند عَرْضِهم ﴿هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾، وهذا العَرْضُ هو الصفة الثانية من الصفات التي ذُكِرَت لتَقْبِيح الكافرين. والإشارةُ بقولِه تعالى ﴿أُوْلَئِكَ﴾ للمَوْصُوفِين بالظُلمِ البالغِ "الذي هو الافتراءُ على الله تعالى باعتبار معناه لا باعتبار لفْظِه" وهي إشارةٌ إلى ﴿مَنْ أَظْلَمُ﴾ باعتبارِ وَصْفِهم بالظلمِ البالغِ وعلى ذلك لا يحتاج إلى تقدير محذوف كما قَدَّرَهُ بَعْضُهم بقولهم "أي تُعْرَضُ أعمَالُهم" لأن عَرْضَهم من حيث ظُلْمِهم عرضٌ لأعمالِهم على وجهٍ أبْلغ لأنْ عَرْضَ العاملِ مَعَ عَمَلِه أفْظَعُ من عَرْض عَمَلِه مع غَيْبَته. ومعنى ﴿عَلَى رَبِّهِمْ﴾ أي على مَالِكِهِم الحْق المُتَصَرِف فِيهم حيثما يريد وفيه دليلٌ على بُطْلان رأيهم في اتخاذِهم أرباباً مِن دون الله تعالى. وفي عَرْضِهم على ربِهم مع قولِه ﴿الأَشْهَادُ﴾ مِنْ الخِزْيِ والنَكَال ما لا مزيد عليه. وعَرْضُهم على ربِهم إنَّما على أمَاكِن ربِهم المُعَدَّة للسُؤال والحساب في يوم القيامةِ، فيَسْألُهُم عن أعمالِهم التي قَدَمُوها في الدنيا، أو على ملائكةِ ربِهم أو على أنبياءِ ربهم. وعلى ذلك لا يُقَال إنَّ العَرْض على الربِ يَسْتَلْزِم المكان؛ وهو على الله مُحَال، والعَرْضُ على الربِ بِكَيْفية تليقُ به جل شأنه. قولُه تعالى ﴿وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾[21]هو معطوف على قولِه تعالى ﴿يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ﴾ فهو خبر أيضا عن اسم الإشارة في قولِه تعالى ﴿أُوْلَئِكَ﴾ أي يَقول الأشهادُ أولئك "مُشِيِرين إليهم": ﴿هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾، وهي جملة في محل نصب مقول القول. والمراد بالأشهاد؛ قِيلَ الملائكة مُطْلَقا؛ وقِيلَ الملائكة مِن الحَفَظَة الذين يَحْفَظُون أعمال بني آدم؛ وقِيلَ الملائكة والأنبياء والمؤمنون؛ وقِيل جَميع أهلِ المَوْقِف حتى جَوَارِحَهم؛ لأنَّ المراد بهذا القَوْل فَضِيحَتَهُم عَلى رؤسِ الأشهاد يوم القيامة وخِزْيهم. والأشْهَاد جَمْعُ شَاهِد كأصحاب جمع صاحب أو كشريف وأشراف. والمراد بهم الحَاضِرون في المَوْقِف عِنْد العَرْض، أي يَقُول الحَاضِرون عِنْد العَرْض في المَوْقِف ﴿هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾ بالافْتَراءِ عليه وهيَ شهادةٌ بتَعْيِيِنْ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ ذلك لِفَضِيحَتِه، لا شهادةً بِصُدُورِ ذَلك مِنْهُم، كأن صُدُورُهُ مِنْهُم وَاضِحٌ غَنىٌ عَن الشهادةِ بِوُقُوعِه، وإنما المُحْتَاج إلى الشهادة تَعْيِيِن مَنْ صَدَرَ مِنْهُ ذلك، فلذلك لا يقولون هؤلاء كَذَبُوا على ربِهم بدون الموصول. ويُحْتَمَل أنْ يَكُون ذلك ذَمَّاً لهم بهذه المقالة الشنعاء لا شهادةً عليهِم بتَعْيِيِنِهم كَمَا يُشْعِر بذلك التعبير بقوله تعالى ﴿وَيَقُولُ الأَشْهَادُ﴾ دون يَشْهَد، والمراد المبالغة في فَضِيحَتِهِم، وهذه هي الصفة الثالثة من صفات الكافرين المذمومة. قولُه تَعَالى ﴿أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾[22]يُحْتَمل أن يَكونَ مِنْ كِلامِه تعالى، أي أنَّه مُبْتَدأٌ مِنْ جهتِه سبحانه ويقعً جَوَاباً عن سؤالٍ مُقَّدر تقديرُه: "ماذا كانَ مِن اللهِ تعالى بعد قَوْلِ الأشهاد؟" قال: ﴿أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، أي يقولُ اللهُ لهم ذلكَ يومَ القيامة، فيَلْعنُهم ويَطردهم مِنْ رحمتِه. وقِيلَ يَقُولُه لهم في الحال؛ لأنه لمَّا أخْبَرَ عَنْ حَالِهم في عقابِ يومِ القيامة أخْبَرَ عَنْ حَالِهم بقولِه تعالى ﴿أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ فَبيَّن أنَّهم مَلْعُونُون مِن الله تعالى في الحال. ويُحْتَمَل أنْ يكونَ مِنْ كلامِ الأشهاد، ويكون قوله تعالى ﴿هَؤُلاَءِ﴾ مبتدأ، و﴿الَّذِينَ﴾ صفةٌ لهم، والخَبَر جملة ﴿أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ ويَكُون فِيه الإظْهَار في مَقَامِ الإضْمِار، أي ألا لعنة الله عليهم، وذلك لذمهم.. مع الإشارة إلى علةِ الحكم أيْ لظلْمِهم. والمراد بالظالمين الظالمون بالإفتراء، وقِيلَ بما هو أَعرُ من الإفتراء وغيره. وعلى كل حالٍ سواءً أكان مِن كلامِ اللهِ تعالى أو من كلامِ الأشهاد فهذه هي الصفة الرابعة من صفات الكفار المذمومة. وممَّا يُؤكِد أنٌّه من كلام الأشهاد ما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَيَقُولُ: أَيْ عَبْدِي! تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ! حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، قَالَ: إِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ الْيَوْمَ، قَالَ: ثُمَّ أُعْطِيَ كِتَابَ حَسَنَاتِه، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ، فَيَقُولُ: الأشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ " قولُه تعالى ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾[23]هذه هي الصفة الخامسة من صفات الكافرين المُنْكِرِين الجاحدين، وهي كَوْنُهم صَادِّينَ الناسَ عن سبيلِ الله، مَانِعِيهم عَنْ متابعة الحق، فهي إمَّا متعدية والمفعول محذوف كما قُدِّر، أي يَصدون كل مَنْ يَقْدِرُون على صَدِّه، وإمَّا لازمة أيْ يفعلون الصَّدَّ عن سبيلِ الله، كيعطى ويمنع وهو أبْلَغ في الذم، يعنى أنَّهم ظَلَموا أنفسَهم بالتزامِ الكفر والضلالِ؛ فقَدْ أضافوا إليه المَنْعَ من الدين الحق وإلقاء الشبُهات وتَعْوِيج الدلائل المستقيمة، وبذلك ظَهر كَوْن ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ﴾ صفةٌ للظالمين أي الظالمين الصَادِّين عن سبيل الله. والمراد مِنْ ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الدين القويم، فإطْلاقِه عليه كالصراطِ المستقيم من باب المجاز بالاستعارة حيث شَبَّهَ الدين القويم بالسبيل وبالصراط بجامع الوصول إلى المطلوب في كلٍ. قولُه تَعَالى ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾[24]معطوفٌ على قولِه تعالى ﴿يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وهي الصفة السادسة من صفات المنكرين الجاحدين وهي أَنَّهُم يَطْلُبُون لدينِ الله الاعْوِجَاج، أي الانحراف بإلْقَاء الشُبُهَات وتَعْوِيج الدلائل المستقيمة، والمراد أنَّهم يصفُونَها بالاعْوِجَاج والانحراف وهي أَبْعَدُ شيء عَنْه. وإطْلاقُ ﴿يَبْغُونَهَا﴾ وإِرَادُة الوَصْف مِنْها من باب المجاز المُرْسَل لعلاقة السَبَبِيَّة والمُسَبَّب لهُ فإِنَّ طَلَبَ الإعْوِجَاج نَشَأَ عَنْهُ الوصف به. وقِيلَ إنَّ الكلامَ عليهِ حَذْفٌ مُضَافٌ، أي يَبْغُونَ لأهلِها العوجَ أي ينحرفوا عنها ويَرْتدوا عن الإسلام وهذا شامل لتَكْذِيبِهم بالقرآن وقولِهم أنَّه ليسَ مِنْ عِنْدِ الله تعالى. قولَه تعالى ﴿وَهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾[25]هذه هي الصفة السابعة وهي كَوْنُهم كافِرِينَ بالآخرة، وهيَ جملة حَاليَّة مِنْ ضَمِير ﴿يَبْغُونَهَا﴾ أي يَصِفُونَها بِالعِوَج والحَالُ أنَّهُم كافرون بالآخرة. والمُرَادُ "أنَّهم يُنْكِرُونَ البَعْثَ ولا يُقِرُّونَ به". وتكرير الضمير لتأكيدِ كُفْرِهِم واخْتِصَاصِهم بهِ؛ كأنَّ كُفْرَ غَيْرِهِم بها بجَانِبِ كُفْرِهِم لَيْسِ بِكُفْر، والمُرَادُ المَبَالَغَةُ في كُفْرِهِم بالآخرة. وتَقْدِيم ﴿بالآخِرَةِ﴾ للتَخْصِيص، أيْ كأنَّ كُفْرهُم مَقْصُورٌ على الآخرة لا يتعداها إلى غيرها. وقِيلَ قُدِّمَ مراعاةً لرُءوسِ الآي. قولُه تعالى ﴿أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ﴾[26]هذه هيَ الصفة الثامنة وهي كَوْنُهم عَاجِزِين عن الفِرَارِ مِنْ عَذَابِ الله تعالى. واسم الإشارة مُشَارٌ بِه إلى مَنْ وُصِفُوا بالصِفَاتِ المُتَقَدِمَة التي تُوجِب تَدْمِيرَهم. والإعْجَازُ مَعْنَاهُ المَنْعُ مِنْ تَحْصِيلِ المُرَاد، يُقَالُ أَعْجَزَنِي فلان أي مَنَعَني مِنْ مُرَادِي، وعلى ذلك فمعنى ﴿مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ﴾ أي لَمْ يَكُونُوا مُفْلِتِينَ أَنْفُسَهُم مِنْ أَخْذِه تعالى لهم لِأَنهُم لا يُمْكِنَهُم الهَرَب مِنْ عَذَابِهِ، فإنَّ ذَلِكَ مُحَال فَهُوَ سْبَحانَه قَادِرٌ على كل المُمْكِنَاتِ ولا تَتَفَاوَت قُدْرَتُه بالقُربِ والبُعْدِ والقُوةِ والضعْفِ. والتصْرِيح بِذكِرِ الأرْض للدلالة على أنَّها مَعَ سِعَتها لا يمكنهم الهَرَبُ مِنْ العذاب فيها وإنْ هَرَبُوا فيها كُلَ مَهْرَبٍ إذا طَلَبَهم جَلَّ شَأْنُه. وقِيلَ إنَّهَا مجاز عَنْ الدنيا والعلاقة الكُلِية والجُزْئية. قولُه تعالى ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾[27]هذه هي الصفة التاسعة وهِي أنَّهم ليس لهم أولياءَ يَدْفَعون عنهم عذاب الله، والمُراد منه الرَدُّ عليهم في وَصْفِهم الأصنام بأنَّها شفعاؤهم عند الله تعالى؛ والمقصود منه ومِمَّا قبله إِقْنَاطُهم مِنْ رحمة الله حيث نَفَى عنهم قُدْرَتهم على الفرار من العذاب بأنفسهم بالأول، وأنَّه لا قدرة لأحدٍ على تَخْلِيصِهم من ذلك العذاب بالثاني، فجمع الله تعالى بين ما يَرجِع إلى أنفسِهم وما يَرجِع إلى غيرهم؛ وبَيَّنَ بذلك انقطاع حَبْلِهم في الخَلاص منْ العذاب إذا أراده الله تعالى. ومِنْ في قولِه تعالى ﴿مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾ زائدة في اسم كان لاسِتِغْرَاق النفى. وجَمْع أولياء من باب مقابلة الجمع بالجمعِ، أي مَا كانَ لأحدٍ منْهم مِنْ وَلىّ، أو يكون باعتبار تَعدد ما كانوا يعبدون مِنْ دون الله تعالى؛ وعلى ذلك يكون بياناً لحال آلهتهم وسقوطِها عَنْ رُتْبة الوِلاية، يعني ومَا كان لهؤلاء المشركين مِنْ أنصار يَمْنَعُونَهم مِنْ دون الله إذا أراد بهم عذاباً. ومِنْ هذا يَتَبَيْنُ موقع قولِه سبحانه ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾ وهو إمَّا العطفُ على خَبَر ﴿أُوْلَئِكَ﴾ وإمَّا حالٌ مِنْ ضميرهم؛ أَي لمْ يكونوا مُعْجِزِين في حال انْتِفَاءِ الأولياء عنهم. وإنما لم يُنْزِل العذاب بِهم - بعد ما بَيَّنَ أَنَّهُ لا دَافِعَ لِلعذابِ مِنْ جهتهم ولا مِنْ غَيْرِهم - لِيُمْهِلَهُم كيْ يتوبوا مِنْ كُفْرِهم، فإنْ أَبَوّْا إِلَّا الثَبَاتَ عَلى الكُفْر فلابدَّ مِنْ مُضَاعَفة العذاب لهم في الآخرة، ولهذا قالَ تعالى ﴿يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ﴾[28]- هذه هي الصفة العاشرة - وهي جملة مُسْتَأنفة جواب عن السؤال عَمَا يَحِلُ بهم، كأنَّه قِيلَ سَبب مضاغفة العذاب كفرهم بالمَبْدَأ والمعاد، إذْ كفروا بالله خالقهم ومُبْدِئهم، وباليوم الآخر الذي أُعِدَّ فِيه جَزَاءُهم. والأرجَح أنْ يكون السبب هو أنَّهم ضلوا ضلالاً بعيداً وأَضَلوا الناس عن الدين الحق وصَدُّوا عن سبيل الله؛ فعَليهم عذابهم وعذاب مَنْ أَضلوهم. وقُرِئَ ﴿ يُضَعَّفُ ﴾ بالتشديد، ولذلك قِيل إنَّ هذه الجملة الكريمة مُتَضمِنةً لحكمةِ تأخير العذاب وهي المضاعفة التي لا تكون إلا في هذه الآخرة. قولُه تعالى ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُون﴾[29]وهذه هي الصفة الحادية عشرة، وهي اسْتِثْقَالِهم لسماع الحق كما جاء به صلى الله عليه وسلم وكراهيتهم له إلى أقصى الغايات؛ حتى كأنهم لا يستطيعونه. وهي جملة مُسْتَأْنَفة جواباً عن سؤالٍ مُقَّدَر عَنْ سبب مضاعفة العذاب، كأنُّه قِيل ما لهم اسْتَوْجَبوا تلك المضاعفة؟ فَقِيل جَوَاباً: لأنهم كَرِهُوا الحق فاسْتَثْقَلوا سَمَاعَه أعظَم اسْتِثْقَال، وتَعَامُّوا عن آيات الملك المتعال، الواضحة في الأَنْفُس والآفاق. والمراد أنَّهم أهملوا مُقْتَضَى السِمْع ونَفَروا منه، كما يقول القائل (هذا كلام لا أستطيع أن أسمعه، أو هذا كلام يمُجُه سمعى) ففيه استعارة تَبَعية، حيث شبه اسْتِثقَالهم للحق ونفورهم منه وعدم قَبولهم له، بعدم السمع، بجامع مطلق عدم العمل في كل أو عدم التأثر به. قولُه تعالى ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ﴾[30]هذه هي الصفة الثانية عشرة، وهي كَوْنُهم خَسروا أنفَسهم في الدنيا والآخرة؛ في الدنيا، بسبب افترائهم على الله الكَذِبَ ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ وقولِهم لآلِهَتِهم ﴿هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾[31]؛ وإنْكَارِهم ما أَنْزَلَ اللهُ وأنَّهم كَرِهوا الحق فاسْتَثْقَلوا سَمَاعَه، وتَعَاموا عن آيات الله تعالى ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُون﴾ كما تقدم، فحَقَّ عليهم العذاب في الآخرة مضَاعفا ﴿يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ﴾[32]. وقِيل الذين خسروا أنفسهم بسبب تبديلهم الهدايةَ بالضلالةِ والآخرةَ بالدنيا، وضاع عنهم ما حصلوه بذلك التبديل من متاع الحياة الدنيا والرياسة وهذه هي التجارة الخاسرة. ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾[33]؛ من دون الله من أولياء؛ فلم يهتدوا إليهم ولم يجدوهم ليَدْفعوا عنهم عذاب الله في الأخرة؛ وهذه هي الصفة الثالثة عشر من صفات الكافرين، كما لم يستطع أولياؤهم من دون الله تعالى أن يدفعوا عذاب الله عنهم فِي الأَرْضِ إذا أراد الله بهم العذاب ﴿أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾[34]، كما تقدم. ووجه ربط هذه الآية بما قبلها وهو قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾[35].. الآية، بزعمهم أن لله تعالى شركاء، كما تقدم، فلم يجدوا أولياءَهم مِنْ دونِ الله تعالى ليَرُدُوا عنهم عذاب الله في الآخرة في قوله تعالى﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾[36]، وقِيل وجه ربط هذه الآية بما قبلها قوله تعالى ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ﴾[37]في الدنيا والآخرة بأنهم كرهوا الحق فاستثقلوا سماعه وتعاموا عن آيات الله بعد قوله تعالى في الآية السابقة ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُون﴾[38]. وجه ربط هذه الآية بما بعدها قوله تعالى ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ﴾[39]في الدنيا والآخرة ثم خُتِمَتْ الآيات بقولِه تعالى ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ﴾[40]وهذه هي الصفة الرابعة عشر والأخيرة، وهي نتيجة ما تَقَدَم من وصفهم بالصفات القبيحة؛ أيْ هم أخسر من كلِ خاسرٍ وأظلم من كلِ ظالمٍ. وفي ﴿لاَ جَرَمَ﴾ أربعة أوجه: الأول: أنَّ ﴿لاَ﴾ نافية لمَا سَبَق ورَدٌّ له، أيْ لا يَنفعُهم قولهم: هذه الآلهة تشفع لنا عند الله، و﴿جَرَمَ﴾ فعلٌ ماضٍ بمعنى حَقَّ، و﴿أَنَّ﴾ وما دَخَلَتْ عليه في تأويل مصدر فاعله، أي ثَبُتَ وحَقَّ خُسرانهم، وهذا مذهب سيبويه. الثاني: أنَّ ﴿جَرَمَ﴾ فعل ماض بمعنى كَسَبَ والمصدر مفعوله، وفاعله ما دلَّ عليه الكلام السابق، أيْ كسب ذلك القول المتقدم خُسْرانهم، أي ما حَصَّل ذلك القول إلا ظهور خُسرانهم. الثالث: أنَّ ﴿لاَ﴾ مع ﴿جَرَمَ﴾ كلمتان رُكِّبَتَا تركيب (خمسة عشر) وصار معناها (حقاً)، والمصدر المنسبك بعدها فاعله؛ لأنه صفةُ مُشَبِهُهُ، وهو منصوب على المفعول المطلق (لَحَقَّ)، أي حَقَّ حَقاً أي الآخرةِ خُسرانهم. الرابع: وقِيلَ إنَّ ﴿لاَ﴾ نافية لل*** و﴿جَرَمَ﴾ اسمها، وخبرها المصدر المنسبك مِنْ (أنَّ) على تقدير حذف حرف الجر (في)؛ أي (لا جَرَمَ في أنَّهُمْ الأخسرون). ويعنى ﴿لاَ جَرَمَ﴾ لامَحَالة في خسرانهم. وعلى كلٍ فالمراد أنهم أَخْسَرُ مِنْ كلِ خَاسِرٍ. وهذه الآيات الكريمة المتقدمة إلى هُنَا مُقَّرِّرَةٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ المُمَاثَلَة بين كلٍ مِنْ ﴿مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾[41]و﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا﴾[42]، أبلغَ تقرير، فإنَّهُم حيث كانوا أظلمَ مِنْ كلِ ظالمٍ وأَخْسَرَ مِنْ كلِ خَاسِرٍ؛ لَمْ يُتَصَّوَر مُمَاثَلَةً بينهم وبين أحدٍ من الظَلَمُة الخَاسِرِين، فما ظّنُّكَ بالمُمَاثَلَةِ بينهم وبَيْنَ مَنْ هُمْ في أعلى درجات الكمال؟ قولُه تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[43]وجه اتصالِها بما قبلها أنَّها واقعةٌ جواباً لسؤالٍ نشأ مِمَّا قَبْلَها تقديرهُ "إذا كان هذا حال الكفرة فما حال المؤمنين؟" فقال ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.. الآية، لأنه جل شأنه لما ذَكَرَ فريقَ الكافرين وأعمالهم وبَيَّنَ مصيرَهم ومَآلَهم، اقتضى ذِكْرُ حال أضَّدَادِهم وهم المؤمنون، لِأنَّ الضِّدَ أَقْرُب خُطُوراً بالبالِ عند ذكر ضِّدِه، فشَرَعَ يُبَيِّن حالَهم ومِمَّا يَؤُلُ إليه أمرُهم مِنْ العواقب الحميدة تَكْمِلَةً لمَا سَلَف مِنْ محَاسنهم المذكورة في قولِه تعالى ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾[44]- - الآية لِيَتَبَيَّنَ ما بينهما من التَبُايُن البَيِّن، حالاً ومَآلاً، فقِيلَ ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي صَدَّقُوا بكل ما يجب التصديق به فيندرج فيه ما نحن بصدده من الإيمان بالقرآن الذي عُبِّرَ عنه بالكذب في الآية الكريمة ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾، وذلك لا يكون إلا باسْتِمَاع الحق ومشاهدة الآيات الآفاقِية والأنْفُسِية والتَدَبُّرِ فيها، وهذا مع ملاحظة المتعلق، ويصح ألا يَلْحَظ، ويكون المراد (فعَلِمُوا الإيمان واتصَفوا بهِ) وعملوا الأعمال الصالحات؛ والمراد بها ما يشمل الترغيب في سُلوك سبيل الله تعالى ونحوه مما على ضده فريق الكفار. ﴿وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾ الإخْبَات في اللغة هو الخُشُوع و الخُضُوع وطُمَأْنِينة القلب، وهو يتعدى بإلى وباللام، فإذا قُلْتَ "أَخْبَتَ فلان إلى كذا" فمعناه اطْمَأَّن إليه، وإذا قُلْتَ "أَخْبَتَ له" فمعناه خَشَعَ وخضع له، فقولُه تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ إشارة إلى جميع أعمال الجوارح، وقولُه ﴿وَأَخْبَتُوا﴾ إشارة إلى أعمال القلوب، وهي الخشوع والخضوع لله عزَّ وجَل، فإذا فسرنا الإخْبَات بالطُمَأْنِينة؛ كان معنى الكلام "أنَّهم يأتون بالأعمال الصالحة مطمئنين إلى صِدْقِ وَعْد اللهِ بالثواب والجزاء على الأعمال ويكونون مُطْمَئنين إلى ذكره سبحانه وتعالى، وإذا فسرنا الإخْبَات بالخُشُوع والخُضُوع؛ كان معناه "أنَّهم يأتون بالأعمال الصالحة خائفين وَجْلِين ألا تكون مقبولة، ومثل هذا أو قريب منه قولُه تعالى ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾[45]. [1]سورة هود آية 1 [2]سورة هود آية 1 [3]سورة هود آية 1 [4]سورة فصلت آية42 [5]سورة هود آية 6 [6]سورة هود آية 2 [7]سورة هود آية 4 [8]سورة هود آية 5 [9]سورة هود آية 7 [10]سورة هود آية 5 [11]سورة هود آية 4 [12]سورة هود آية 6 [13]سورة هود آية 18 [14]سورة هود آية 15 [15]سورة هود آية 17 [16]سورة هود آية 15 [17]سورة يونس18 [18]سورة هود آية 22 [19]سورة هود آية 18 [20]سورة الكهف آية 48 [21]سورة هود آية 18 [22]سورة هود آية 18 [23]سورة هود آية 19 [24]سورة هود آية 19 [25]سورة هود آية 19 [26]سورة هود آية 20 [27]سورة هود آية 20 [28]سورة هود آية 20 [29]سورة هود آية 20 [30]سورة هود آية 21 [31]سورة يونس18 [32]سورة هود آية 20 [33]سورة يونس 21 [34]سورة هود آية 20 [35]سورة هود آية 18 [36]سورة يونس 21 [37]سورة هود آية 21 [38]سورة هود آية 20 [39]سورة هود آية 21 [40]سورة هود آية 22 [41]سورة هود آية 17 [42]سورة هود آية 15 [43]سورة هود آية 23 [44]سورة هود آية 17 [45]سورة المؤمنون آية 60 الشيخ طه محمد الساكت
__________________
|
العلامات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|