|
#1
|
||||
|
||||
رمضان والدعاة
رمضان والدعاة
الحمد لله المنعم على عباده بتوفيقهم للقيام بالصالحات, والكف عن الشرور والسيئات، والصلاة والسلام على من بعث بخير الرسالات نبينا محمد بن عبد الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه من الله أفضل صلاة وأزكى سلام، أما بعد: فإن رمضان فرصة العمر السانحة، وموسم البضاعة الرابحة، وأوان الكفة الراجحة، أودع الله - عز وجل - فيه من النفحات العظيمة، والأجور الوفيرة؛ ما هو دافع لكل موحد أن يشمر عن ساعد الجد، ويبذل قصارى الوسع في سبيل اغتنام أنفاسه، واستغلال لحظاته، وإني أختزن هذه المقالة لأولئك القوم الذين حملوا على كواهلهم همَّ الدعوة إلى الله - عز وجل -، ونذروا نفوسهم، وسخروا أوقاتهم وأعمارهم في خدمة الدين والملة؛ إنهم "الدعاة"؛ لأذكرهم بدور رائد ينتظرهم في هذا الشهر الفضيل، ولعلي أصوغ نقاط هذا الموضوع في نقاط ثلاث: أولاً: تأكد أن رمضان فرصة لك قبل غيرك: أيها الداعية: إن أولى الأوليات، وأهم المهمات في شهر رمضان؛ هو أن تعني بنفسك التي بين جنبيك، وذلك بالسعي في إصلاحها، وتقويم اعوجاجها، وبنائها على خير الهدي، وتحرص على تصفية قلبك من جميع الشوائب والأكدار، وتخصص ساعات تنقطع إلى ربك - عز وجل - فيها. فها هو نبيك - عليه الصلاة والسلام - وهو أعظم الدعاة "كان ينزل عليه جبريل في رمضان كل ليلة فيدارسه القرآن"1، وكان - صلى الله عليه وسلم - "إذا دخل العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشدَّ المئزر"2، ولكم أيها الدعاة في رسولكم - صلى الله عليه وسلم - القدوة والأسوة يقول سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}3 يقول ابن القيم: "وكان هديه - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات"4. وعلَّ مما يدفع لتسليط الضوء على إعطاء النفس حقها من التزكية، وتعريض الداعية نفسه لنفحات الرب خاصة في شهر رمضان، واستعراض النصوص في ذلك أمران: أولاً: لما يقع فيه كثير من الدعاة من الخطأ عند تغليبهم الاهتمام بالآخرين على حساب الاهتمام بالنفس، وإغفالهم للاقتداء بأعظم قدوة في هذا الباب كما مرَّ بنا في السطور السابقة. ثانياً: أن النفوس العاجزة عن التأثير في ذاتها ستكون أشد عجزاً عن التأثير في الآخرين، وغرس المبادئ والقيم الخيّرة في نفوسهم، وهذا هو مضمون العبارة التي تقول: "فاقد الشيء لا يعطيه". - إذ كيف يعلق القلوب بالله قلب مقطوع عن الله؟ - وكيف يرقق القلوب ويغذيها بالخوف والخشية قلب لم يتمرغ في طاعة الله، ولم تدمع عين صاحبه من خشية الله، ولم تتغذَّ روحه بالصلاة والقيام، وتلاوة القرآن؟ فلا بد لك أخي الداعية: أن تخصص جزءاً من الوقت لنفسك تنقطع فيه إلى ربك، ضارعاً مخبتاً، منيباً ذاكراً شاكراً؛ ليكون هذا الانقطاع وقودك في طريق دعوتك، ومحفزاً لاستمرار عطاءك، ولتحظى بأسمى النزل، وأشرف المقامات عند ربك وإلهك. ثانياً: الأقربون أولى بالمعروف: أيها الداعية: إن من الأولويات المهمة أيضاً دعوة أسرتك ودائرتك الأولى، فمن الغبن الفاحش أن ينطلق الداعية بدعوة الآخرين في مسجده واستراحته ومنتداه، وأقرب الناس إليه محرومون من الخير الذي يحمله، ومن هنا فمن الخير العميم للداعية أن يخص محيطه الأول بجزء من برنامجه الدعوي في هذا الشهر المبارك، ومن ذلك: - حثهم في بداية الشهر على اغتنامه، وتذكيرهم بذلك، والموعظة من المحب المشفق لها أبلغ الأثر على الجميع. - إعانتهم بتقسيم الوقت، وجدولة سير أعمال الشهر حسب الأهم فالمهم، ابتداء بأوقات قراءة القرآن، وأوقات الحفظ والمراجعة كماً وكيفاً، وسماع الأشرطة، وقراءة الكتب النافعة، وقراءة أذكار الصباح والمساء، وأوقات الدعاء... وهكذا. - تشجيعهم ووضع الحوافز والإكراميات لبعض الأعمال الفاضلة كجائزة مثلاً: من لا تفوته تكبيرة الإحرام في الأسبوع، أو الذي يحافظ على مقدار حزبه من القرآن، أو التي تساعد أمها في تجهيز الإفطار. - وضع المسابقات العامة للأسبوع، ولكامل الشهر. - إعداد برنامج إيماني يشمل: تعويدهم على الدعاء في أوقات الإجابة، وإقامة درس مختصر يومي، أو كل يومين في أحكام الصيام، أو قراءة في رياض الصالحين، أو في تفسير سور جزء عم، أو سماع المحاضرات الوعظية والكلمات التي تترك أبلغ الأثر في قلوبهم إما عبر الوسائل الحديثة، أو بالحضور المباشر، وكذا حفظ بعض الأحاديث من جوامع الكلم، ويخص الذكور بـ: اصطحابهم إلى صلاة التراويح، ونحو ذلك من البرامج المتنوعة، ولكل أسرة خصوصيتها؛ لكن الداعية يجتهد في ذلك غاية الاجتهاد. ثالثاً: دعوة الآخرين: أيها الداعية: لعلك تلمس ما يصنعه أرباب التجارات المختلفة في مواسم البيع والشراء، ألا توافقني أنهم يستفرغون وسعهم في سبيل استغلال هذه المواسم أمثل الاستغلال، والسبب ببساطة هو ما يُدَرُّ عليهم فيها من الربح الجزيل، والعطاء الكبير. وأنتم أيها الدعاة إلى الله - تبارك وتعالى - ألا يفترض أن تكونوا أوْلى وأحرى الناس على استثمار هذا المواسم الربانية، والمنح الإلهية في دلالة العباد على ربهم، والأخذ بأيدهم لما فيه فلاحهم ونجاحهم، خاصة أن شهر رمضان حافل بفرص تفتح أمام الدعاة لا يجدونها في غيره. فالقلوب في شهر رمضان على اختلاف أصنافها تصبح أقل قساوة، وأكثر قرباً إلى الله - تبارك وتعالى - منها في غير رمضان، ويتوافد الناس صغاراً وكباراً، ورجالاً ونساءً؛ بشكل ملفت على المساجد. وفي رمضان يصبح الناس أكثر إصغاءً وإقبالاً على الموعظة، ويؤم الناس بيت الله الحرام؛ لأداء مناسك العمرة، ويقبل الناس على إخراج الزكوات والصدقات. إن مثل هذه الفرص ينبغي أن تدعونا إلى توسيع دائرة الخطاب وموضوعه، فلا يقتصر على مجرد حث الناس على استثمار رمضان، وتلاوة القرآن، وصلاة التراويح فقط، فمع أهمية هذه الأمور، وضرورة الحديث عنها؛ إلا أن هناك ما لا يقل عنها أهمية ووجوباً في حياة المسلمين كالتوبة، وإصلاح القلوب، واجتناب الموبقات، وأداء ما أوجب الله - تبارك وتعالى - وغير ذلك. فيا صُنّاع الحياة! لتعوا أن اهتمامكم بأنفسكم وصلتكم بالله هي من الدعوة ذاتها؛ لأنها المعين الأول لكم بعد توفيق الله على مواصلة جهدكم في دعوة الناس، وتعليمهم، وإصلاح فساد مجتمعاتنا، والتي تحتاج إلى ثقة كبيرة بنصر الله لهذا الدين مهما بلغ حجم الانحراف والفساد في هذه الأمة، وهذا ما تغرسه العبادة والاتصال بالله في النفوس حتى لا تقع ضحية اليأس والإحباط من التغيير. وأخيراً: أؤكد أني لا أقصد بكلامي هذا أن يتفرغ الدعاة والمصلحون لأنفسهم، ويتركوا الميدان للمفسدين والمضللين ودعاة الشر بحجة الاهتمام بالنفس قبل الغير، ولا يعني في المقابل أن يبذلوا كل أوقاتهم، وغاية جهدهم في دعوة الآخرين، بل التوسط مطلوب في كل الأمور، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم كما قيل. والوقت فيه مُتَّسع لهذا وذاك إذا أخلصنا النيات، وجردنا المقاصد، ورتبنا الأولويات، واستبعدنا كثيراً من الأمور التي تُعدُّ من الترف، أو يمكن قضاؤها بعد رمضان. نسأل الله - تعالى - أن يستخدمنا في طاعته، وأن يجعلنا أهلاً لتبليغ دينه، ونشر رسالته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. 1رواه البخاري في كتاب بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برقم (6). 2 رواه البخاري في كتاب صلاة التراويح باب العمل في العشر الأواخر من رمضان برقم (1920)، ورواه مسلم في كتاب الاعتكاف باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان برقم (1174). 3 سورة الأحزاب (21). 4 زاد المعاد لابن القيم (2/29). اللهم اغفر لكاتبها وناقلها,وقارئها واهلهم وذريتهم واحشرهم معا سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم |
العلامات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|