|
حي على الفلاح موضوعات وحوارات ومقالات إسلامية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
|||
|
|||
شبهات تجرنا إلى حقائق تاريخية
شبهات تجرنا إلى حقائق تاريخية
يقول الشاكُّون المشكِّكون: لقد سجلت الدولة الإسلامية أزهى انتصاراتها في عهود غلَب فيها الفساد الخُلقي: الخمر، والنساء، والجواري، والغِلمان، والشِّعر الفاحش، ويتخذون من الدولة العبَّاسية في عهد هارون الرشيد، ومن بغداد في عهده، بل مِن شخصية هارون الرشيد و"لياليه" مثلاً أو أمثلة يؤيِّدون بها دعْواهم أو ادِّعاءهم. وهذه الشُّبهة تجرُّنا إلى إبراز حقائقَ ثلاث: الأولى: هي أن التاريخَ الإسلامي سقَط ضحية مخطط صليبي صِهْيَوني استشراقي مدروس، شوَّه كثيرًا من معالِمِه، وخصوصًا أزهى فتراته؛ حتى يفجعَ المسلم في مُثُلِه العليا، وللأسف أسهَم بعضُ كتَّابنا المُحدَثين - بالغفلةِ أو الانبهار، وبحُسْنِ النِّية أو بسُوئها - في هذا المخطَّط الخبيث. الثانية: أن المؤرِّخين المسلِمين القدامى - على الرغم من دقَّة التحري، وبراعةِ التَّحقيق عند الكثيرين منهم - جعَلوا تاريخَهم يعتمد على نقطتي ارتكازهما: الحاكم والعاصمة؛ فهو تاريخ خلفاء وأمراء ووزراء، وهو تاريخ الأحداث المرتبطة بهؤلاء في بغداد ودِمَشق والفسطاط، ومن ثَمَّ كانت سقطة الأمير - اعتمادًا على هذه الوجهة - تعني سقطةَ نظام بأَسرِه، وأيُّ مظهرٍ من مظاهر الفساد في عاصمة كبغداد مثلاً يعني - اعتمادًا على هذه الوجهة أيضًا - فسادًا ضاربَ الأطناب في كل جوانب الدولة. لم يظفَرِ الريفُ ولم تظفر البادية من المؤرِّخين بنظرة، ولم يظفرِ العامة بكِتاب من كتب هؤلاء المؤرِّخين، إذا استثنينا اهتمامات خاصة لأبي الفرَج الأصفهاني في كتابه الأغاني[1]، ومن هنا وقَع كثيرٌ من مؤرِّخينا في عدة أخطاء منهجية وموضوعية، من أهمها: 1- الاستقراء الناقص: فاستخلَصوا أحكامًا عامة من ظواهرَ ووقائع فردية. 2- الاعتماد على الأسبابِ الظاهرية دون البحث عما وراءها من بواعثَ خفية، فليس من اللازم أن يكون السببُ الظاهر هو أقوى الأسباب، بل قد يكون أضعفَها على الإطلاق. 3- التأثُّرُ بالتيارات السياسية والطوابع المذهبية مما يُبعِد المؤرِّخَ عن الحِياد ورُوح الموضوعية. وأخطرُ هذه السقطات جميعها، هو تعميمُ الحُكم، انطلاقًا من أحداثٍ قليلة، أو ظواهر فردية؛ كالحُكم على الدولة كلها بالفساد، اعتمادًا على المشهود في عاصمةٍ كبغدادَ مثلاً. أما الحقيقة الثالثة، فهي أن شخصيةَ هارون الرشيد لم تكن في واقعها الفعلي بهذه الصورة المشوَّهة التي عرَضها المغرِضون وذوو الأهواء، وقد ردَّ ابن خلدون في قوة على الذين اتهموا هارون الرشيد بالسُّكر والتهتُّك، وتساءل مستنكرًا: وأين هذا من حال الرشيدِ وقيامِه بما يجب لمنصب الخلافة من الدِّين والعدالة، وما كان عليه من صحابةِ العلماء والأولياء، وما كان عليه من العبادةِ والمحافظة على أوقات الصلوات، وشهودِ صلاة الصبح لأول وقتها؟! وقد حكى الطبريُّ وغيره أنه كان يصلي في اليوم مائةَ ركعة نافلة، وكان يغزو عامًا ويحُجُّ عامًا، وقد ثبَت عنه أنه عهِد بحبس أبي نواس لما بلغه من انهماكه في المعاقرة حتى تاب وأقلع، وإنما كان الرشيدُ يشرَب نبيذَ التمر على مذهب أهل العراق، وأما الخمر الصِّرف، فلا سبيل إلى اتهامه بها، فلم يكن الرجلُ بحيث يواقِعُ محرَّمًا مِن أكبر الكبائر عند أهلِ الملَّة[2]. الدِّين الحق بقِيَمه السياسية في مجال الحُكم، وبقيمه الاجتماعية والإنسانية في مجال الأسرة والمجتمع والعالَم، وبقِيَمه التربوية التي تصقُلُ الذات وتُحيي الضمير، وتجعل الإنسان دائمًا موصولاً بالله - هذا الدِّين الحق، بكل هذه الجوانب الثرية فيه، أصبح هو ضرورة الضرورات ليهيمن على حياتنا من جديد نحن المِصريين والعربَ والمسلمين. إنه القادرُ الوحيد على التصدي لكل التيارات الغازية، سواء العسكري منها والسياسي والفكري، وبهذا الدِّين استطاعت الدولة التركية أن تكسر موجات الغزو الصليبي قرابة أربعة قرون، وهي أطولُ مدة في تاريخ البشرية استطاعت فيها دولةٌ أن تصمدَ لعالم ضارٍ منهوم. ولولا غباءُ الإدارة، وسوء السياسة أحيانًا من بعض الحكَّام الأتراك، ولولا ذلك "النخر" الذي قام به بعضُ المخدوعين من حكَّام العرب وساستهم في جسم الدولة التركية، ولولا العُمَلاء الذين صنعتهم الصِّهْيَونية العالَمية على عينِها من أمثال مصطفى كمال أتاتورك، لولا كلُّ أولئك لاستمرَّ الصمود؛ صمودُ الدولة التركية المسلمة قرونًا وقرونًا، بل ربما كان للإسلام شأنٌ آخرُ على مستوى العالَم كلِّه[3]. وحينما نقول: هو القادرُ الوحيد، فإننا لا نغلو ولا نشتطُّ في الحُكم؛ فوقائع التاريخ الذي تؤيده أكثرُ من أن تحصَى وتُعَدَّ، ففي عهود الانحسار العربي والإسلامي، وفي العهود التي تمزقت فيها الدولةُ الإسلامية تحت أقدام التتار والصليبيين - كان الإسلامُ هو "كلمة السر"، و"مفتاح السحر"، الذي فتح مغالقَ الأبواب إلى النصرِ المؤزَّر المبين، وكانت "واإسلاماه" هي القوةَ الصارمة التي غسلت جبينَ الأرض الإسلامية في حِطِّين وعين جالوت. وكان رجلُ الدِّين - في عهود الانحسار - من أمثال: ابن تيمية والعز بن عبدالسلام هو النموذجَ الحيَّ للكفاح النابض، والفِكر المستنير، وكان هو الإمام والملاذَ للجماهير حين يشتد الكربُ ويعظُم البلاء. وكان الإسلامُ وما زال يتمتع بأصالتينِ لا يتمتع بهما أيُّ نظامٍ عَلماني في العصر الحديث على اختلافِ هذه الأنظمة في مشاربِها وركائزها ووجهاتِها، إنه يتمتَّع بالأصالةِ الزمانية؛ فقد سبق زمنيًّا كلَّ هذه الأنظمة التي تتنازع العالَمَ كله، في السياسة والحُكم، والاقتصاد والتربية. ويتمتع بالأصالة الموضوعية؛ فقواعده في شتى المجالات أقوى وأقدَرُ، وأثبَت جذورًا، وأكثر نفعًا، وأقربُ بل ألصقُ بالفطرة الإنسانية من القواعدِ والقوانين الوضعيَّة[4]. [1] وكذلك ابن خلدون في مقدمته وهو يستخلص بعضَ القواعد الاجتماعية في السياسة والحُكم. [2] مقدمة ابن خلدون 18 - 19. ويواجه شفيق جبري في كتابه: "دراسة الأغاني" (288 - 289) دفاع ابن خلدون عن الرشيد معتمدًا على ركيزتين: الأولى: أن ابنَ خلدون لم يورِدْ من الأخبار عن الرشيد ما ينفي عنه معاقرةَ الخمر. والثانية: أن الرشيد مات دون الخمسين، مما يوحي بتأثير الخَمر والتهتُّك والعبَث على صحته فمات في هذه السن. وما ساقه جبري في كتابه لا يستقيم ردًّا منطقيًّا؛ لأن ابنَ خلدون أورد في النص السابق وغيرِه ما يقطَع بتديُّن الرشيد واستقامته. والأعمار بيد الله، وهي لا تخضعُ للاعتبارات المنطقية، ولا المعادلات الرياضية، فمن التقاةِ الصالحين من يموت في سنِّ الشباب أو الكهولة؛ كعمرَ بن عبدالعزيز الذي مات دون الأربعين، ومن الفاسدين المنحرفين مَن يُعمَّر؛ كأبي نواس الذي عاش إلى ما بعد الستين، وأبي الفرج الأصفهاني الذي جاوز السبعين. [3] انظر في توثيق هذه الفكرة وتفصيلها: جلال كشك في مجلة "الرسالة" العدد 1101. ودكتور محمد أنيس: الدولة العثمانية والشرق العربي 4، ودكتور محمد زكي عشماوي: الأدب وقِيَم الحياة المعاصرة 174، ودكتور محمد محمد حسين: "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" 1/3، ومجلة المقتطف عام 1889 (ص724 - 728)، ومقالاً لنا بعنوان: "الدولة المظلومة والخليفة المفترى عليه" بمجلة الرائد الكويتية، 23 من مايو سنة 1974. وانظر كذلك كتاب "الرجل الصنم: مصطفى كمال أتاتورك" بقلم ضابط تركي كبير؛ حيث فضَح أسرار أتاتورك والذين تآمَروا معه على إسقاطِ الخلافة الإسلامية في تركيا. [4] انظر في صحة هذه المقولة: التشريع الجنائي الإسلامي بجزأيه للمرحوم عبدالقادر عودة، و"مصادر الحق في التشريع الإسلامي" للدكتور عبدالرزاق السنهوري، واقرأ في عظمة الحضارة الإسلامية وتفوُّقَها على الحضارة الغربية كتاب المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة: "شمس العرب تشرق على الغرب". أ. د. جابر قميحة
__________________
|
العلامات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|