عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 11-09-2014, 11:50 PM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 35
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

* ثانياً : ضوابط تغير الفتوى :
1 - اختلاف العوائد والأعراف :
من الأمور التي تتغير بسببها الفتوى تغير العوائد والأعراف التي تُبنى عليها الفتوى ، سئل الإمام القرافي - رحمه الله - عن الأحكام المدونة في الكتب المرتبة على العوائد والأعراف التي كانت موجودة زمن جزم العلماء بهذه الأحكام ، هل إذا تغيرت العوائد وصارت لا تدل على ما كانت تدل عليه أولاً ، هل يُفتي بما تدل عليه العوائد والأعراف الجديدة ، أو يفتي بما هو مدون في الكتب ؟ فأجاب - رحمه الله - بقوله : « إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد ، خلاف الإجماع وجهالة في الدين ، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة » ، ثم شرع يفصل فقال :
« ألا ترى أنهم لما جعلوا أن المعاملات إذا أطلق فيها الثمن يحمل على غالب النقود ، فإذا كانت العادة نقداً معيناً حملنا الإطلاق عليه ، فإذا انتقلت العادة إلى غيره عيَّنا ما انتقلت العادة إليه ، وألغينا الأول لانتقال العادة عنه » ، إلى أن يقول : « بل ولا يشترط تغيير العادة ، بل لو خرجنا نحن من تلك البلد إلى بلد آخر عوائدهم على خلاف عادة البلد الذي كنا فيه ، وكذلك إذا قدم علينا أحد من بلد عادته مضادة للبلد الذي نحن فيه ؛ لم نفته إلا بعادته دون عادة بلدنا ، ومن هذا الباب ما روي عن مالك : إذا تنازع الزوجان في قبض الصداق بعد الدخول ؛ أن القول قول الزوج مع أن الأصل عدم القبض ، قال القاضي إسماعيل : هذه كانت عادتهم بالمدينة أن الرجل لا يدخل بامرأته حتى تقبض جميع صداقها ، واليوم عاداتهم على خلاف ذلك ، فالقول قول المرأة مع يمينها لأجل اختلاف العوائد ، وينبغي أن يعلم أن معنى العادة في اللفظ أن ينقل إطلاق لفظ واستعماله في معنى حتى يصير هو المتبادر من ذلك اللفظ عند الإطلاق مع أن اللغة لا تقتضيه ، فهذا هو معنى العادة في اللفظ ، وهو الحقيقة العرفية ، وهو المجاز الراجح في الأغلب ، وهو معنى قول الفقهاء إن العرف يقدم على اللغة عند التعارض ، وكل ما يأتي من هذه العبارات » [21] .
وقد نقل الإمام علاء الدين الطرابلسي الحنفي كلام القرافي وأقره [22] .
ومن بعد القرافي قال ابن القيم الحنبلي : « فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد » [23] .
وهنا يظهر أمران :
الأول : أن الفتوى هي التي تتغير وليس الحكم الشرعي .
الثاني : أن الفتوى التي تتغير يكون حكمها الشرعي مرتباً على العوائد والأعراف .
ومن الأمثلة التي يذكرها الفقهاء على ذلك : ما يخرج في صدقة الفطر ، فإن الحديث جاء بإخراج صاع من تمر أو شعير أو زبيب أو أقط ، فرأى العلماء أن هذه الأقوات كانت هي غالب القوت عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث في ذلك الزمان ، فكأنه قال : أخرجوا صاعاً من غالب قوت البلد التي أنتم فيها ، وعلى ذلك أفتى العلماء بجواز إخراج صاع من الأرز والذرة ونحوه إذا كان هذا هو غالب قوت البلد في زمنهم ، فبالنظر المجرد إلى الفتوى بجواز إخراج الأرز والذرة يقول القائل : قد حدث تغير في الحكم ، وبالنظر إلى حقيقة الأمر وأن المطلوب هو إخراج الصاع من غالب قوت البلد ، فليس هناك تغير في الحكم الشرعي ، كل ما هنالك أن الذي تغير هو غالب قوت البلد ، والحكم باق على ما هو عليه ، وهذا المثال ونحوه قد ينظر إليه على أنه تغير للفتوى بتغير الزمان ، والحقيقة أن الزمن بمجرده ليس مسوّغاً لتغيير الفتوى لأن هذا هو النسخ الذي لا يملكه أحد إلا الشارع وإنما نسب التغيير لتغير الزمان في كلام بعض أهل العلم ؛ لأن الزمان هو الوعاء الذي تجري فيه الأحداث والأفعال والأحوال ، وهو الذي تتغير فيه العوائد والأعراف ، فنسبة تغير الفتوى لتغير الزمان من هذا الباب ، وإلا لو ظل العرف كما هو عدة قرون لم يكن أحد مستطيعاً أن يغير الفتوى .
2 - وجود السبب وتحقق الشرط وانتفاء المانع أو عدم بعض ذلك :
من المعلوم أن الأحكام مرتبة على وجود سببها ، فإذا وجد سبب الحكم وتحقق شرطه وانتفى المانع ، انطبق الحكم على الواقع ، فإذا تخلف أحد الشروط أو وجد أحد الموانع انطبق حكم آخر على الواقع .
والناظر من بعيد يرى أن الواقعتين متشابهتان ، ولهما حكمان متغايران ، فيظن أن الحكم قد تغير ، والحقيقة أن الواقعتين وإن كانتا متشابهتين لكنهما غير متماثلتين ، فهما واقعتان مختلفتان لكل منهما حكم يخصها ، ونضرب مثلاً لذلك ، لو أن رجلاً ملك نصاب الزكاة ، ثم استفتى أهل العلم عن وجوب إخراج الزكاة ؛ فإن المفتي يسأله : هل حال على النصاب الحول ؟ فلو قال : نعم . وسأله : هل عليك دين ؟ فقال : لا . هنا يجيبه المفتي بقوله : نعم تجب عليك الزكاة . ويحدد له المقدار الواجب إخراجه حسب نوع المال الذي يملكه ، فلو بعد فترة من الزمان جاءه الرجل نفسه وسأله : هل عليَّ زكاة ؟ فإذا سأله المفتي : هل عليك دين ؟ وقال :
نعم ، علي دين يستوعب أكثر مالي حتى لا يبقى منه قدر النصاب . هنا يقول المفتي : ليس عليك زكاة . والرائي غير المتبصر يرى أن الحكم تغير ، والأمر ليس كذلك ، فالحالة الأولى وجد السبب وتحقق الشرط وانتفى المانع ، وأما الحالة الثانية فقد وجد المانع وهو الدين ، فهنا حالتان مختلفتان ، لكل حالة حكم في الشرع ، وليس في هذا اختلاف ، وفي مثل هذا يقول الشيخ عابد السفياني - وفقه الله - :
« إن تلك الواقعة التي تغير حكمها ؛ إما أن تكون هي هي عند تغير الحكم بجميع خصائصها والحيثيات التي تكتنفها ، وإما أن تختلف في بعض خصائصها وحيثياتها ، فإن كانت الأولى فنحن ننازع أشد المنازعة في تغير حكمها ؛ لأن ذلك هو النسخ والتبديل المنهي عنه كما سيأتي بيانه ، وإن كانت الثانية فليست في موضع النزاع ؛ لأنها حينئذٍ حادثتان ، وحادثتان متميزتان من حيث خصائصهما والاعتبارات التي تحفهما لهما حكمان ليس غريباً ولا عجيباً ، ولا يقال له تغير ولا تبدل » [24] .
وبالمثل لو أن شخصاً سرق ثم تبين أن شروط إقامة الحد غير مستوفاة ، فلم يحكم عليه القاضي بالقطع ، فإنه لا يقال هنا قد تغير الحكم ولكن شروط إقامة الحد هي التي لم تكتمل ، وهذا هو الذي حدث في عهد عمر - رضي الله عنه - عام المجاعة عندما قُحط الناس ، وتعرضوا للهلاك بسبب الجدب ، أصبح كثير ممن يسرق إنما يسرق لاضطراره إلى ذلك ليدفع عن نفسه الهلاك ، وهذه حالة تدرأ عن صاحبها الحد ، ونظراً لأن الأمر كان منتشراً واختلط من يسرق للضرورة ومن يسرق لغير ذلك ولم يمكن تمييزهما من بعض ، فصار ذلك شبهة درأ بها عمر - رضي الله عنه - الحد في عام المجاعة ، فلله دره ! ما أفقهه وما أعلمه ، ولما زالت المجاعة زالت الشبهة فكان من يسرق يقام عليه الحد ، فليس في هذا أيضاً تغيير للحكم الشرعي ؛ لأن ما فعله عمر - رضي الله عنه - في عام المجاعة كان هو الواجب في مثل تلك الحالة .
3 - الضرورة الملجئة :
هناك أحوال اضطرار يقع فيها العبد المسلم مما يكون معه مضطراً لفعل ما حرم الله ، ومن رحمة الله بالعباد أنه في هذه الأحوال لم يجعل عليهم إثماً فيما فعلوه ، والناظر غير المتبصر يظن أن الحكم اختلف ، وهما في الحقيقة حالان مختلفان ، لكل حال حكم ، فحال الاختيار له حكم ، وحال الاضطرار له حكم ، وحالان مختلفان لهما حكمان متغايران لا يقال له تبدل ولا تغير ، ولنضرب المثل لذلك ، من المعلوم أن الله حرم أكل الميتة ، فيحرم على العباد أكل لحوم الميتات ( إلا ميتة البحر ) ، فمن أكل منها يقال له : هذا حرام ، وقد فعلت ما يستوجب عقاب الله .
فلو تغير حال أحد الناس وصار في حالة اضطرار بحيث إذا لم يأكل من الميتة هلك ؛ هنا يصدق عليه وصف المضطر ، وهنا يباح له الأكل من الميتة ، والحكم تغير هنا في الظاهر ، ولكن في الحقيقة الحكم لم يتغير ، وإنما الذي تغير هو الحال التي ترتب عليه الحكم .
ومن أمثلة ذلك ما حصل من غلمان حاطب الذين سرقوا ناقة ، ولم يقطعهم عمر ، فإنه أحضر عبد الرحمن بن حاطب وقال له : « والله ! لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له ؛ لقطعت أيديهم » [25] ، فهذا يبين أن عمر رأى أن هؤلاء في حالة اضطرار تدرأ عنهم الحد ، وأن عقوبتهم القطع لو كانوا غير مضطرين ، وقد عاقب عمر حاطباً على ذلك وأضعف عليه الغرم .
4 - تغير الوصف أو الاسم :
هناك أحكام رُتبت على أوصاف أو أسماء ، فإذا تغيرت تلك الأوصاف أو الأسماء تغير الحكم تبعاً لذلك . مثال : رجل تزوج امرأة ، حل له منها ما يحل للرجل من امرأته ، فلو طلقها حرم عليه منها ما كان حلالاً له ، هنا تغيرت صورة الحكم لأن ما كان حلالاً جائزاً للرجل تغير وصار حراماً ، وفي الحقيقة فإن المتغير هو الصفة أو الاسم وليس الحكم الشرعي ؛ إذ الحكم باقٍ على ما هو عليه ، وهو أن الرجل تحل له زوجته ، وأن الرجل تحرم عليه غير زوجته .
ومن أمثلة تغير الاسم أو الوصف الدال على تغير الحقيقة ، تغير الخمر بحيث تصير خلاً ، فالخمر من أحكامها النجاسة ، فإذا تغيرت حقيقة السائل المسكر وصار خلاً ، فقد تغير وصف السائل وتغير اسمه وصار خلاً ، والخل ليس بنجس ( سواء قلنا بجواز تخليل الخمر أم لا ) ، وحكم الخمر لم يتغير ، وإنما الخمر نفسها هي التي تغيرت .
وكمثال على ذلك أيضاً أمر الله تعالى بصرف الزكاة إلى مستحقيها بقوله :
{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ( التوبة : 60 ) . فالله بعلمه وحكمته وزع الزكاة على هذه الأصناف الثمانية ، فإذا كان عام ولم نجد فقيراً يستحق الزكاة فمنعنا سهم الفقراء لعدم وجودهم ، فهذا لا يُعد تغييراً ، وإنما فقدنا المستحق ، وكذلك إذا كان فلان من الناس يعطى من الزكاة لأنه فقير ، ثم وسع الله عليه وصار غنياً ومنعنا عنه الزكاة فلا يقال إن الحكم تغير ، بل صفة هذا الشخص التي يستحق عليها الزكاة هي التي تغيرت ، وهكذا فعل عمر - رضي الله عنه - في سهم المؤلفة قلوبهم ، فالمؤلفة قلوبهم هم من يعطون من الصدقات لأجل تألف قلوبهم على الإسلام ، أو لأجل ضعف المسلمين حتى يأمن المسلمون شرهم ، فهو حكم معلق على وصف وليس على أشخاص بأعيانهم ، فإذا تحقق هذا الوصف في شخص أو عدة أشخاص فأعطيناهم سهم المؤلفة قلوبهم ، ثم جاء العام الذي يليه وقد فقدوا وصف المؤلفة ( كأن حسن إسلامهم ، أو قوي المسلمون فلم يعد بهم ضعف ) فمنعنا عنهم سهم المؤلفة قلوبهم ؛ فليس في هذا تغير للحكم ، وإنما الذي حدث أن هؤلاء الأشخاص استحقوا السهم في المرة الأولى لانطباق الوصف عليهم وليس لأشخاصهم ، ثم فقدوا الوصف في العام الذي يليه ، ففقدوا ما كان مترتباً على الوصف ، وهذا إعمال للحكم الشرعي وليس تغييراً له .
5 - تدافع المأمورات أو المنهيات :
قد يكون هناك أمران مطلوب تحصيلهما ولكن لا يمكن تحصيل أحدهما إلا بتفويت الآخر ، فهما على ذلك متدافعان ، كما أنه قد يكون هناك أمران مطلوب اجتنابهما ولا يمكن اجتناب أحدهما إلا بفعل الآخر ، فهنا تُحَصَّل أعظم المصلحتين ، وتُدفع أقبح المفسدتين ، فمثلاً : الشهادة يُطلب فيها العدول ، فإذا لم نجد العدول صرنا بين أمرين : إما ضياع الحقوق ، وإما قبول شهادة غير العدول ، أمران أحلاهما مر ، وقد أفتى أهل العلم في مثل ذلك أن لكل قوم عدولهم ، وعلى القاضي أن يتوسم فيهم ويقبل أكثرهم صلاحاً وأقلهم فجوراً ، فقد ينظر هنا إلى أن هذا من قبيل تغيير الحكم ، وذلك بقبول شهادة من لا يعرف بعدالة ، والحقيقة أن هذا من باب التعارض وأنه لا يمكن تحصيل أحدهما إلا بتفويت الآخر ، وهي فتوى وليست حكماً ، وهي فتوى خاصة بمثل هذه الحالة ؛ بمعنى أنه إذا وجد العدول في هذا المكان لم تُقبل شهادة غيرهم .
قال الإمام علاء الدين الطرابلسي الحنفي : « قال القرافي في باب السياسة :
نص بعض العلماء على أنه إذا لم نجد في جهة إلا غير العدول ؛ أقمنا أصلحهم وأقلهم فجوراً للشهادة عليهم ، ويلزم ذلك في القضاة وغيرهم لئلا تضيع المصالح ، قال : وما أظن أحداً يخالف في هذا ، فإن التكليف شرط في الإمكان ، وهذا كله للضرورة لئلا تهدر الأموال وتضيع الحقوق ، قال بعضهم : وإذا كان الناس فساقاً إلا القليل النادر قبلت شهادة بعضهم على بعض ، ويحكم بشهادة الأمثل فالأمثل من الفساق ، هذا هو الصواب الذي عليه العمل ، وإن أنكره كثير من الفقهاء بألسنتهم » [26] .
6 - وجود العارض وزواله :
قد يكون هناك شيء محبوب شرعاً لكن يخشى من فعله أن يترتب عليه تكليف قد لا يقوم به الناس ، فيترك هذا الشيء لذلك العارض ، فإذا زال العارض رجع الأمر إلى حاله الأولى ، وقد يظن أن هذا تغيراً للحكم وإنما هو من باب زوال العارض ، مثال ذلك امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن قيام الليل في رمضان في المسجد بعدما فعل ذلك عدة ليال ، وذلك خوفاً من أن يفرض قيام الليل على المسلمين رحمة منه صلى الله عليه وسلم بالمسلمين ، فلما زال هذا الأمر بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأُمن عدم فرض قيام الليل ؛ جاز الاجتماع في المسجد في رمضان لقيام الليل ، وليس في هذا تغيير للحكم الشرعي .
7 - تغير الآلات والوسائل :
هناك من الأحكام الشرعية ما يكون تنفيذها عن طريق آلة أو وسيلة ، والشريعة لم تحدد في كثير من الأمور الآلات والوسائل التي يتحقق بها الحكم الشرعي ، بل تركتها ليختار المسلمون في كل زمان ومكان ما هو أنفع لهم وأصلح وأفضل في تنفيذ الحكم الشرعي ؛ إذ ربما لو ألزم المسلمون بآلة أو وسيلة معينة لتعسر عليهم ذلك ، ووجدوا في ذلك من المشقة والحرج الشيء الكثير لا سيما أن الوسائل والآلات تتعدد وتتباين ، وقد يكون بعضها ميسراً وبعضها غير ذلك ، وقد يختلف العسر واليسر بالنسبة للآلة أو الوسيلة نفسها باختلاف الزمان والمكان ، والله يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر ، فله الحمد والمنة .
مثال ذلك : أمر الله تعالى المسلمين بالجهاد في سبيله وقال : { وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ } ( الأنفال : 60 ) ، وقد كانت القوة المستطاعة في ذلك الزمان هي السيف والرمح والترس ونحو ذلك ، فإن المفتي والعالم في ذلك الزمان : يقول يجب على المسلمين إعداد السيوف والرماح والحراب وما أشبه ذلك ، ثم بعد الزمن المتطاول الذي أوصل إلى عصرنا يقول المفتي والعالم الآن يجب على المسلمين إعداد المدفع والدبابة والصاروخ والطائرة ، ولا يجب إعداد السيف ولا الرمح ولا الحربة ، فقد وجب اليوم ما لم يكن قبلُ واجباً ، وسقط وجوب ما كان قبلُ واجباً ، وهذا قد ينظر إليه على أنه تغير في الحكم الشرعي ، والحقيقة أن الحكم لم يتغير ؛ لأن الحكم الشرعي هو وجوب إعداد القوة المستطاعة ، وكانت القوة المستطاعة في الزمن الأول : السيف والرمح ونحوه ، وصارت اليوم المدفع والصاروخ ، ونحوه ، وقد تكون بعد فترة من الزمن شيئاً آخر فالحكم الشرعي لم يتغير ، وإنما الذي تغير هو الآلة أو الوسيلة التي يتحقق بها الحكم الشرعي في الواقع ، وهذه الآلات والوسائل والأساليب المستجدة ، لا يكفي فيها أن تكون محققة للحكم الشرعي بل هي محكومة بشروط هي :
1 - ألا تعارض قاعدة كلية من قواعد الشريعة .
2 - ألا تخالف دليلاً من أدلة الشرع التفصيلية .
3 - ألا يترتب عليها مفسدة تربو على المصلحة المتحصلة منها [27] .
من كل ما تقدم يتبين أن مسألة تغير الفتوى ليست مسألة متعلقة بالزمان المجرد ، أو المكان المجرد ، وكأن الزمان والمكان هما سبب تغيير الفتوى ، ولكن لما كان الزمان والمكان أوعية للأحداث والأفعال والتغيرات والعوائد والأعراف نُسب التغير للزمان والمكان ، وهذا يطلق عليه في عرف البلاغيين مجاز مرسل علاقته الظرفية ، وقد تبين بما تقدم أيضاً أن الموضوع منضبط وله قواعد تحكمه ، وليس هو مجرد استجابة أو إذعاناً لضغط الواقع ، وهذه الأمثلة المتقدمة يمكن أن تندرج تحت قسمين كبيرين :
الأول : فتاوى مؤسسة من أول أمرها على العرف أو المصلحة المرسلة ، ثم يتغير العرف أو المصلحة بتغير الزمان والمكان ، فتتغير الفتوى تبعاً لذلك .
الثاني : فتاوى مؤسسة على نصوص ، لكن هذه النصوص كانت معللة بعلة أو راعت عرفاً قائماً ، أو كانت مرتبة على صفة أو مقيدة بحالة ونحو ذلك ، فإذا زالت العلة أو تغير العرف أو الصفة أو الحالة ؛ فإن الفتوى تتغير أيضاً لذلك [28] .
__________________
رد مع اقتباس