كان اللقاء مع بني شيبان من أروع لقاءات الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا العام؛ حيث وضحت فيه مكارم أخلاق العرب، ومحاسن شيمهم، وفصاحتهم البالغة، كما وضحت فيه كذلك حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته، وكان في اللقاء من ملامح الذكاء في الحوار، وسرعة البديهة في المناورة، ما يجعله من ألطف ما يُقرأ ويُدَرَّس! ومع أن الحافظ ابن كثير رحمه الله يرى أن سند هذه الرواية ضعيف -والواقع أنه جيد، كما سنتبين من تخريج الرواية- فإنه نقله في كتابه، وعلَّق عليه قائلًا: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا كَتَبْنَاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَمَحَاسِنِ الأَخْلَاقِ وَمَكَارِمِ الشِّيَمِ وَفَصَاحَةِ الْعَرَبِ»[1]!
ولنقرأ النص كاملًا ثم نُعَلِّق بعد ذلك بعض التعليقات عليه إن شاء الله.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لَمَّا أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، خَرَجَ وَأَنَا مَعَهُ وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى مِنًى، حَتَّى دَفَعْنَا إِلَى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْعَرَبِ، فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُقَدَّمًا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَكَانَ رجلًا نَسَّابَةً، فَقَالَ: مِمَّنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: مِنْ رَبِيعَةَ. قَالَ: وَأَيُّ رَبِيعَةَ أَنْتُمْ؟ أَمِنْ هَامِهَا[2] أَمْ مِنْ لَهَازِمِهَا[3]؟ قَالُوا: بَلْ مِنْ هَامَتِهَا الْعُظْمَى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمَنْ أَيِّ هَامَتِهَا الْعُظْمَى؟ قَالُوا: ذُهْلٌ الأَكْبَرُ. قَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ: مِنْكُمْ عَوْفٌ الَّذِي كَانَ يُقَالُ: لَا حُرَّ بَوَادِي عَوْفٍ[4]؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَمِنْكُمْ بِسْطَامُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مَسْعُودٍ أَبُو اللِّوَاءِ[5] وَمُنْتَهَى الأَحْيَاءِ[6]؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَمِنْكُمُ الْحَوْفَزَانُ بْنُ شَرِيكٍ قَاتِلُ الْمُلُوكِ وَسَالِبُهَا أَنْفُسَهَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَمِنْكُمْ جَسَّاسُ بْنُ مُرَّةَ بْنِ ذُهْلٍ حَامِي الذِّمَارِ[7] وَمَانِعُ الْجَارِ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَمِنْكُمُ الْمُزْدَلِفُ[8] صَاحِبُ الْعِمَامَةِ[9] الْفَرْدَةِ[10]؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأَنْتُمْ أَخْوَالُ الْمُلُوكِ مِنْ كِنْدَةَ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأَنْتُمْ أَصْهَارُ الْمُلُوكِ مِنْ لَخْمٍ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: فَلَسْتُمْ بِذُهْلٍ الأَكْبَرِ، بَلْ أَنْتُمْ ذُهْلٌ الأَصْغَرُ. قَالَ: فَوَثَبَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ غُلَامٌ يُدْعَى دَغْفَلَ بْنَ حَنْظَلَةَ الذُّهْلِيَّ، حِينَ بَقَلَ وَجْهُهُ[11]، فَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَةِ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ يَقُولُ:
إِنَّ عَلَى سَائِلِنَا أَنْ نَسْأَلَهْ وَالعِبْءَ[12] لَا تَعْرِفُهُ أَوْ تَحْمِلُهْ
يَا هَذَا، إِنَّكَ سَأَلْتَنَا فَأَخْبَرْنَاكَ وَلَمْ نَكْتُمْكَ شيئًا، وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نَسْأَلَكَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ. فَقَالَ الْغُلَامُ: بَخٍ بَخٍ أَهْلُ السُّؤْدُدِ وَالرِّئَاسَةِ، وَأَزِمَّةُ[13] الْعَرَبِ وَهُدَاتُهَا، مِمَّنْ أَنْتَ مِنْ قُرَيْشٍ؟ فَقَالَ لَهُ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ. فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: أَمْكَنْتَ وَاللَّهِ الرَّامِيَ مِنْ سَوَاءِ الثُّغْرَةِ[14]! أَفَمِنْكُمْ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ الَّذِي قَتَلَ بِمَكَّةَ الْمُتَغَلِّبِينَ عَلَيْهَا، وَأَجْلَى بَقِيَّتَهُمْ، وَجَمَعَ قَوْمَهُ مِنْ كُلِّ أَوْبٍ[15] حَتَّى أَوَطَنَهُمْ مَكَّةَ، ثمَّ اسْتَوْلَى عَلَى الدَّارِ، وَنَزَّلَ قُرَيْشًا مَنَازِلَهَا، فَسَمَّتْهُ الْعَرَبُ بِذَلِكَ مُجَمِّعًا، وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ:
أَلَيْسَ أَبُوكُمْ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا بِهِ جَمَعَ اللهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرِ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا. قَالَ: فَمِنْكُمْ عَبْدُ مَنَافٍ الَّذِي انْتَهَتْ إِلَيْهِ الْوَصَايَا وَأَبُو الْغَطَارِيفِ[16] السَّادَةِ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا. قَالَ: فَمِنْكُمْ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ هَاشِمٌ الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ وَلأَهْلِ مَكَّةَ، فَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ: عَمْرُو الْعُلَا هَشَمَ[17] الثَّرِيدَ[18] لِقَوْمِهِ *** وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ[19] عِجَافُ سَنُّوا إِلَيْهِ الرِّحْلَتَيْنِ كِلَيْهِمَا***عِنَدَ الشِّتَاءِ وَرِحْلَةَ الأَصْيَافِ
كَانَتْ قُرَيْشٌ بَيْضَةً[20] فَتَفَلَّقَتْ***فَالْمُحُّ[21] خَالِصُهُ لِعَبْدِ مَنَافِ[22] الرَّائِشِينَ[23] وَلَيْسَ يُعْرَفُ رَائِشٌ ***وَالْقَائِلِينَ هَلُمَّ لِلأَضْيَافِ وَالضَّارِبِينَ الْكَبْشَ[24] يَبْرُقُ[25] بَيْضُهُ[26]***وَالْمَانِعِينَ الْبَيْضَ بِالأَسْيَافِ لِلهِ دَرُّكَ لَوْ نَزَلْتَ بِدَارِهِمْ *** مَنَعُوكَ مِنْ أَزْلٍ[27] وَمِنْ إِقْرَافِ[28]
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا. قَالَ: فَمِنْكُمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ شَيْبَةُ الْحَمْدِ، وَصَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ، وَمُطْعِمُ طَيْرِ السَّمَاءِ وَالْوُحُوشِ وَالسِّبَاعِ فِي الْفَلَاةِ[29]، الَّذِي كَأَنَّ وَجْهَهُ قَمَرٌ يَتَلأْلأُ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ الإِفَاضَةِ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ الْحِجَابَةِ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ النَّدْوَةِ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ السِّقَايَةِ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ الرِّفَادَةِ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَمَنِ الْمُفِيضِينَ بِالنَّاسِ أَنْتَ؟ قَالَ لَا. ثمَّ جَذَبَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه زِمَامَ نَاقَتِهِ مِنْ يَدِهِ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: صَادَفَ دَرْءَ[30] السَّيْلِ دَرْءٌ يَدْفَعُهُ[31] *** يَهِيضُهُ[32] حِينًا وَحِينًا يَصْدَعُهْ[33]
ثمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ يَا أَخَا قُرَيْشٍ، لَوْ ثَبَتَّ لَخَبَّرْتُكَ أَنَّكَ مِنْ زَمعاتِ قُرَيْشٍ[34] وَلَسْتَ مِنَ الذَّوَائِبِ[35]. قَالَ: فَأَقْبَلَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَبَسَّمُ. قَالَ عَلِيٌّ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا بَكْرٍ لَقَدْ وَقَعْتَ مِنَ الأَعْرَابِيِّ عَلَى بَاقِعَةٍ[36]. فَقَالَ: أَجَلْ يَا أَبَا الْحَسَنِ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَامَّةٍ[37] إِلَّا وَفَوْقَهَا طَامَّةٌ، وَالْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْقَوْلِ. قَالَ: ثمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى مَجْلِسٍ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَإِذَا مَشَايِخُ لَهُمْ أَقْدَارٌ وَهَيْئَاتٌ، فَتُقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَسَلَّمَ -قَالَ عَلِيٌّ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُقَدَّمًا فِي كُلِّ خَيْرٍ- فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ: مِمَّنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: نَحْنُ بَنِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَالْتَفَتَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، لَيْسَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ مِنْ عِزٍّ فِي قَوْمِهِمْ -وَفِي رِوَايَةٍ: لَيْسَ وَرَاءَ هَؤُلَاءِ غُرَرٌ[38] مِنْ قَوْمِهِمْ- وَهَؤُلَاءِ غُرَرُ النَّاسِ. وَكَانَ فِي الْقَوْمِ; مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو، وَهَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ، وَالْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ، وَكَانَ أَقْرَبَ الْقَوْمِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ بَيَانًا وَلِسَانًا، وَكَانَتْ لَهُ غَدِيرَتَانِ[39] تَسْقُطَانِ عَلَى صَدْرِهِ، فَكَانَ أَدْنَى الْقَوْمِ مَجْلِسًا مِنْ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: كَيْفَ الْعَدَدُ فِيكُمْ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّا لَنَزِيدُ عَلَى أَلْفٍ، وَلَنْ تُغْلَبَ أَلْفٌ مِنْ قِلَّةٍ. فَقَالَ لَهُ: فَكَيْفَ الْمَنَعَةُ فِيكُمْ؟ فَقَالَ: عَلَيْنَا الْجَهْدُ[40] وَلِكُلِّ قَوْمٍ جِدٌّ[41]. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَيْفَ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ؟ فَقَالَ مَفْرُوقٌ: إِنَّا أَشَدُّ مَا نَكُونُ غَضَبًا حِينَ نَلْقَى، وَإِنَّا أَشُدُّ مَا نَكُونُ لِقَاءً حِينَ نَغْضَبُ، وَإِنَّا لَنُؤْثِرُ الْجِيَادَ عَلَى الأَوْلادِ، وَالسِّلَاحَ عَلَى اللِّقَاحِ، وَالنَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، يُدِيلُنَا[42] مَرَّةً وَيُدِيلُ عَلَيْنَا مَرَّةً. لَعَلَّكَ أَخُو قُرَيْشٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنْ كَانَ بَلَغَكُمْ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَهَا هُوَ هَذَا. فَقَالَ مَفْرُوقٌ: قَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ يَذْكُرُ ذَلِكَ. ثمَّ الْتَفَتَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِلَامَ تَدْعُو يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ، وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ يُظِلُّهُ بِثَوْبِهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَدْعُوكُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، وَأَنْ تُؤْوُنِي، وَتَمْنَعُونِي، وَتَنْصُرُونِي حَتَّى أُؤَدِّيَ عَنِ اللهِ الَّذِي أَمَرَنِي بِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللهِ وَكَذَّبَتْ رَسُولَهُ، وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنِ الْحَقِّ، وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ». قَالَ لَهُ: وَإِلَامَ تَدْعُو -أيضًا- يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ فَتَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إِلَى قَوْلِهِ: {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام: 151-153]، فَقَالَ لَهُ مَفْرُوقٌ: وَإِلَامَ تَدْعُو -أيضًا- يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ فَوَاللَّهِ مَا هَذَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ كَلَامِهِمْ لَعَرَفْنَاهُ. فَتَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل: 90]، فَقَالَ لَهُ مَفْرُوقٌ: دَعَوْتَ وَاللهِ يَا قُرَشِيُّ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ، وَلَقَدْ أُفِكَ قَوْمٌ كَذَّبُوكَ، وَظَاهَرُوا عَلَيْكَ -وَكَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَشْرَكَهُ فِي الْكَلَامِ هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ- فَقَالَ: وَهَذَا هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ شَيْخُنَا وَصَاحِبُ دِينِنَا. فَقَالَ لَهُ هَانِئٌ: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ، وَصَدَّقْتُ قَوْلَكَ، وَإِنِّي أَرَى أَنَّ تَرْكَنَا دِينَنَا وَاتِّبَاعَنَا إِيَّاكَ عَلَى دِينِكَ -لِمَجْلِسٍ جَلَسْتَهُ إِلَيْنَا لَيْسَ لَهُ أَوَّلُ وَلَا آخِرٌ، لَمْ نَتَفَكَّرْ فِي أَمْرِكَ وَنَنْظُرْ فِي عَاقِبَةِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ- زَلَّةٌ فِي الرَّأْيِ، وَطَيْشَةٌ فِي الْعَقْلِ، وَقِلَّةُ نَظَرٍ فِي الْعَاقِبَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الزَّلَّةُ مَعَ الْعَجَلَةِ، وَإِنَّ مِنْ وَرَائِنَا قَوْمًا نَكْرَهُ أَنْ نَعْقِدَ عَلَيْهِمْ عَقْدًا، وَلَكِنْ تَرْجِعُ وَنَرْجِعُ وَتَنْظُرُ وَنَنْظُرُ -وَكَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَشْرَكَهُ فِي الْكَلَامِ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ- فَقَالَ: وَهَذَا الْمُثَنَّى شَيْخُنَا وَصَاحِبُ حَرْبِنَا. فَقَالَ الْمُثَنَّى: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ، وَاسْتَحْسَنْتُ قَوْلَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ، وَأَعْجَبَنِي مَا تَكَلَّمْتَ بِهِ، وَالْجَوَابُ هُوَ جَوَابُ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ، وَتَرْكُنَا دِينَنَا وَاتِّبَاعُنَا إِيَّاكَ لِمَجْلِسٍ جَلَسْتَهُ إِلَيْنَا، وَإِنَّا إِنَّمَا نَزَلْنَا بَيْنَ صِيرَيْنِ[43]; أَحَدُهُمَا الْيَمَامَةُ، وَالآخَرُ السَّمَامَةُ[44]، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَمَا هَذَانَ الصِّيرَانِ؟» فَقَالَ لَهُ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَطُفُوفُ[45] الْبَرِّ وَأَرْضُ الْعَرَبِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَرْضُ فَارِسَ وَأَنْهَارُ كِسْرَى، وَإِنَّمَا نَزَلْنَا عَلَى عَهْدٍ أَخَذَهُ عَلَيْنَا كِسْرَى أَنْ لَا نُحْدِثَ حَدَثًا وَلَا نُؤْوِيَ مُحْدِثًا[46]، وَلَعَلَّ هَذَا الأَمْرَ الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِمَّا تَكْرَهُهُ الْمُلُوكُ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِمَّا يَلِي بِلَادَ الْعَرَبِ فَذَنْبُ صَاحِبِهِ مَغْفُورٌ، وَعُذْرُهُ مَقْبُولٌ، وَأَمَّا مَا كَانَ يَلِي بِلَادَ فَارِسَ فَذَنَبُ صَاحِبِهِ غَيْرُ مَغْفُورٍ، وَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ نَنْصُرَكَ وَنَمْنَعَكَ مِمَّا يَلِي الْعَرَبَ فَعَلْنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَسَأْتُمُ الرَّدَّ إِذْ أَفْصَحْتُمْ بِالصِّدْقِ، إِنَّهُ لَا يَقُومُ بِدِينِ اللهِ إِلَّا مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ». ثمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ لَمْ تَلْبَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَمْنَحَكُمُ اللهُ بِلَادَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَيُفْرِشَكُمْ بَنَاتِهِمْ، أَتُسَبِّحُونَ اللهَ وَتُقَدِّسُونَهُ؟» فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ: اللَّهُمَّ وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ. فَتَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا }[الأحزاب: 45، 46]، ثمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَابِضًا عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ عَلِيٌّ: ثمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «يَا عَلِيُّ، أَيَّةُ أَخْلَاقٍ لِلْعَرَبِ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مَا أَشْرَفَهَا! بِهَا يَتَحَاجَزُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا!». قَالَ: ثمَّ دَفَعْنَا إِلَى مَجْلِسِ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَمَا نَهَضْنَا حَتَّى بَايَعُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ عَلِيٌّ: وَكَانُوا صُدُقًا صُبُرًا، فَسُرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا رَأَى مِنْ مَعْرِفَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه بِأَنْسَابِهِمْ. قَالَ: فَلَمْ يَلْبَثْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: «ادْعُوا لإِخْوَانِكُمْ مِنْ رَبِيعَةَ; فَقَدْ أَحَاطَتْهُمُ الْيَوْمَ أَبْنَاءُ فَارِسَ». ثمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ فَلَمْ يَلْبَثْ رَسُولُ اللهِ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: «احْمَدُوا اللهَ كَثِيرًا; فَقَدْ ظَفِرَتِ الْيَوْمَ أَبْنَاءُ رَبِيعَةَ بِأَهْلِ فَارِسَ؛ قَتَلُوا مُلُوكَهُمْ، وَاسْتَبَاحُوا عَسْكَرَهُمْ، وَبِي نُصِرُوا». قَالَ: وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ بِقُرَاقِرَ إِلَى جَنْبِ ذِي قَارٍ، وَفِيهَا يَقُولُ الأَعْشَى: فِدًى لِبَنِي ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ نَاقَتِي*** وَرَاكِبُهَا عِنْدَ اللِّقَاءِ وَقَلَّتِ
هُمُو ضَرَبُوا بِالْحِنْوِ[47] حِنْوِ قُرَاقِرٍ[48] *** مُقَدِّمَةَ الْهَامَرْزِ[49] حَتَّى تَوَلَّتِ فَلِلهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِنْ فَوَارِسٍ*** كَذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ بِهَا حِينَ وَلَّتِ
فَثَارُوا[50] وَثُرْنَا وَالْمَوَدَّةُ بَيْنَنَا[51] ***وَكَانَتْ عَلَيْنَا غَمْرَةٌ[52] فَتَجَلَّتِ[53].
هذه الرواية الطويلة يمكن أن تُكتب فيها الكتب والمؤلفات لاستخراج ما فيها من الفوائد والعبر!