المبحث العاشر
الطلاق البدعي
المقصود بالطلاق البدعي هو هذا الطلاق المخالف لما يوصف بالطلاق السني. والمقصود بالطلاق السني هو هذا الطلاق الموافق للطريقة أو السنة التي يرتضيها الفقيه المسلم من خلال فهمه وقناعته لنصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية في وقت إيقاع الطلاق وعدده. وليس المقصود بالطلاق السني أنه المندوب أو المستحب؛ لما أخرجه الحاكم وصححه كما أخرجه أبو داود وابن ماجه بسند ضعيف عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبغض الحلال عند الله الطلاق". وعلى هذا فإن الفيصل في وصف الطلاق بأنه سني أو بأنه بدعي هو اجتهاد الفقيه وفهمه لدلالة النصوص الشرعية في وقت الطلاق وعدده وليس النص الشرعي ذاته، وهذا هو السبب في تعدد الآراء الفقهية في تعريف الطلاق البدعي، كما أن الأثر المترتب على وصف الطلاق بأنه سني أو بأنه بدعي من حيث الحرمة أو الكراهة ومن حيث الاعتبار وعدمه حكم فقهي وليس نصًا شرعيًا حتى لا يتعالى فقيه على آخر متوهمًا وصف اجتهاده بالحق المطلق ووصف اجتهاد غيره بالباطل المطلق، فكلا الاجتهادين يوصف بأنه صواب يحتمل الخطأ، وهذا هو السبب في قول النبي صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد فيما أخرجه أحمد بسند حسن: "استفت نفسك استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك"، فكل اجتهاد فقهي مهما بلغ شأن صاحبه لا يعدو أن يكون اختيارًا فقهيًا لعامة الناس الذين يمتلكون حق انتقاء الرأي الفقهي الذي يحقق مصالحهم وحق الانتقال من رأي فقهي إلى رأي فقهي آخر كلما وجدوا لذلك مسوغًا لتيسير مصالحهم بدون وصاية الفقهاء المجتهدين والذين ينتهي دورهم بتقديم كل منهم اجتهاده للناس، ثم تكون السيادة بعد ذلك لكل الناس سواسية؛ لما أخرجه ابن عدي في "الكامل" بسند حسن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل بني آدم سيد".
وسوف نعالج قضية الطلاق البدعي في فرعين. أحدهما نبين فيه تعريف الطلاق البدعي عند الفقهاء، والثاني نذكر فيه الأثر المترتب على وصف الطلاق بالبدعي عند الفقهاء.
الفرع الأول
تعريف الطلاق البدعي عند الفقهاء
يرجع الفقهاء تعريف الطلاق البدعي والتفرقة بينه وبين الطلاق السني إلى أمرين. أحدهما العدد، والآخر الوقت. ونبين ذلك فيما يلي.
الأمر الأول: العدد في الطلاق البدعي
الأصل في الطلاق أن يقع على الزوجة مرة واحدة، ولا يردفه بطلقة ثانية أو ثالثة حتى تنتهي عدتها وتصير بائنًا منه، وهذا هو الطلاق السني؛ لأنه الموافق لحكمة مشروعية الطلاق. فإن طلقها مرتين أو ثلاثًا بلفظ واحد، أو بألفاظ متفرقات في الطهر الأول للطلاق أو في الأطهار التالية له خلال العدة، فقد اختلف الفقهاء في وصفه بالبدعي على مذهبين في الجملة.
المذهب الأول: يرى أن كل طلاق يقع بلفظ الاثنين أو الثلاثة مجتمعًا قبل الدخول أو بعده، أو يقع متفرقًا للمدخول بها أثناء عدتها سواء في الطهر الأول منها أو في الأطهار التالية له فهو طلاق بدعي. وهو مذهب الحنفية والمالكية ورواية لأحمد في الجملة. واستثنى الحنفية صورة طلاق المدخول بها إذا وقع الطلاق في الطهر الأول ثم أردفه بالطلاق ثانية في الطهر الثاني خلال العدة قبل المساس، ثم أردفه بالطلاق ثالثة في الطهر الثالث خلال العدة وقبل المساس فإن هذا الطلاق الثاني والثالث يكون على وصف السنة عند الحنفية ورواية عند الحنابلة؛ خلافًا للمالكية الذين وصفوه بالبدعة. وحجة أصحاب هذا المذهب في عموم قوله تعالى: "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" (البقرة:229). قالوا: وهذا معناه أن يتم الطلاق الرجعي على دفعتين مرة بعد مرة؛ لأن العرب لا تعقل في لغتها وقوع المرتين إلا متعاقبتين. ثم قال تعالى: "فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره" (البقرة:230). قالوا: فهذه الطلقة الثالثة لم يشرعها الله تعالى إلا بعد الطلاق الرجعي مرتين، فلا يكون طلاقًا سنيًا إلا ما كان بهذه الصفة بحيث يترتب على كل طلقة عدة مستقلة لا تتداخل في عدة طلقة أخرى.
المذهب الثاني: يرى أن كل طلاق يقع بلفظ الاثنين والثلاثة مجتمعًا قبل الدخول أو بعده أو متفرقًا للمدخول بها أثناء عدتها فهو طلاق سني ويقع بعدده. وهو مذهب الشافعية والمشهور عند الحنابلة ومذهب الظاهرية كما نص عليه ابن حزم في "المحلى". وقد ذكر ابن رشد في "بداية المجتهد" عن أهل الظاهر وجماعة أنهم قالوا إن الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الواحدة ولا تأثير للفظ في ذلك. وحجتهم: عموم قوله تعالى: "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" إلى أن قال تعالى: "فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره" (البقرة:229-230). قال ابن حزم: "فهذا يقع على الثلاث مجموعة ومفرقة ولا يجوز أن يخص بهذه الآية بعض ذلك دون بعض بغير نص".
الأمر الثاني: وقت الطلاق البدعي
الأصل في الطلاق أن يقع على الزوجة في زمن حملها أو وقت طهرها الذي لم تمس فيه، وهذا هو الطلاق السني؛ لإنكار العرب بفطرهم السوية طلاق الزوجة في حيضها، واعتبروا ذلك مخالفًا للمروءة التي كانوا يفتخرون بها؛ لما في ذلك من إيذاء مشاعر المرأة بعدم إعذارها في أيام حيضها المكتوب عليها، كما أن طلاقها في الطهر بعد المساس يطيل عدتها بما يضرها لو كانت تريد الخلاص، فضلًا - كما يقول الفقهاء قديمًا - عن أن الطلاق في الطهر بعد المساس يلبس على المطلقة عدتها بالإقراء أو بوضع الحمل، كما أنه يخشى منه ندم الزوج إن ظهر الحمل على مطلقته. ويدل على هذا الأصل عموم قوله تعالى: "إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن" (الطلاق:1)، وقد فسر ابن مسعود وابن عباس ذلك بأن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه. وأخرج مسلم عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا". وأخرجه الشيخان عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء".
ويترتب على ذلك أنه إذا طلق الزوج في حال حيض زوجته أو نفاسها، أو في حال طهرها الذي مسها فيه فإن هذا الطلاق يوصف بأنه طلاق بدعي بالإجماع في الجملة إذا كانت الزوجة مدخولًا بها. ويستثني من ذلك عند الحنفية أحوال الطلاق في الحيض بطلب الزوجة كالخلع، أو وقوعه عن طريق القاضي بأحد أسبابه؛ للحاجة في ذلك. ويرى بعض الشافعية أن هذه الاستثناءات قسم ثالث من الطلاق لا يوصف بأنه سني أو بدعي. ويرى جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية دخول هذه الاستثناءات في الطلاق السني. أما إذا كان طلاق الزوجة بغير طلبها وفي حال حيضها قبل الدخول بها فقد اختلف الفقهاء في وصف هذا الطلاق بالبدعي على مذهبين:
المذهب الأول: يرى أن الطلاق قبل الدخول حال الحيض طلاق سني. وهو مذهب جمهور الفقهاء قال به الحنفية وأحد القولين عند المالكية اختاره ابن القاسم، وهو مذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية. وحجتهم: عدم الإضرار بالزوجة إذا طلقت قبل الدخول في حال حيضها؛ لعدم التزامها بالعدة كما قال سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحًا جميلًا" (الأحزاب:49).
المذهب الثاني: يرى أن الطلاق قبل الدخول حال الحيض طلاق بدعي. وهو القول الثاني عند المالكية اختاره أشهب. وحجتهم: عموم ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجع زوجته التي طلقها في حيضها حتى تطهر.
الفرع الثاني
الأثر المترتب على وصف الطلاق بالبدعي عند الفقهاء
أجمع الفقهاء في الجملة على ثبوت حكم التحريم ديانة إذا وقع الطلاق بوصف البدعة، واستثنى المالكية صورة الطلاق في الطهر بعد المساس فمع وصفهم لها بالبدعة إلا أنهم قالوا بكراهتها وعدم تحريمها كسائر صور طلاق البدعة؛ لأن ضررها أخف ويقتصر على إطالة زمن العدة، وربما كانت تلك الإطالة في صالح الزوجة برجعتها.
واختلف الفقهاء في حكم وقوع طلاق البدعة ووجوب العدة بعده للمدخول بها، على مذهبين في الجملة.
المذهب الأول: يرى أن الطلاق البدعي يقع صحيحًا مع الإثم. وهو قول أكثر أهل العلم، وعليه العمل في المذاهب الأربعة المشهورة في الجملة؛ لحديث ابن عمر في الصحيحين الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجع زوجته التي طلقها وهي حائض. قالوا: والمراجعة لا تكون إلا من طلاق؛ خاصة وأن ابن عمر قال: حسبت علي بتطليقة. ثم اختلف هؤلاء الجمهور في حكم هذا المطلق بصفة البدعة، هل يجب عليه مراجعتها - لتصحيح خطئه - أم يستحب؟ على قولين:
القول الأول: يرى وجوب رد المطلقة على البدعة إن كانت طلقة أولى أو ثانية. وهو الأصح عند الحنفية؛ لأن هذا الطلاق يحرم بالإجماع، ويمكنه رفع الإثم بالرجعة، فكانت واجبة كالكفارة؛ خاصة مع قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "مره فليراجعها". أما الطلقة الثالثة فلا يملك رجعتها؛ لأنها بانت منه.
وبهذا أخذ الإمام مالك في صورة طلاق البدعة حال الحيض. أما طلاق البدعة في الطهر الذي مسها فيه فيستحب رجعتها ولا يجب؛ لأنه لا يرى تلك الصورة من صور طلاق البدعة خلافًا للجمهور.
القول الثاني: يرى استحباب رد المطلقة على البدعة ولا يجب. وهو قول باقي الجمهور أصحاب المذهب الأول.
المذهب الثاني: يرى أن طلاق البدعة لا يقع، فهو لغو. وهو قول ابن حزم الظاهري وأخذ به ابن تيمية (ت728هـ)، وابن قيم الجوزية (ت751)، وهو مذهب الإمامية في الجملة؛ لأن الله تعالى حرمه، والحرام لا يثمر. فقد أخرج ابن ماجه والدارقطني بسند ضعيف عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحرم الحرام الحلال". وأخرج الدارقطني والطبراني بسند فيه مقال عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يتبع المرأة حرامًا أينكح أمها، أو يتبع الأم حرامًا أينكح ابنتها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم الحرام الحلال. إنما يحرم ما كان بنكاح حلال".