المبحث السادس
طلاق الغضبان
الغضب في اللغة نقيض الرضا، ويطلق في العرف على الانفعال. يقول الجرجاني في "التعريفات": الغضب تغير يحصل عند غليان دم القلب ليحصل عنه التشفي للصدر. وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: الغضب حالة من الاضطراب العصبي وعدم التوازن الفكري تكون غالبًا بسبب الاستثارة بعدو الكلام أو التهييج بعدو الفعل. ويقول ابن القيم (ت 751هـ) في "زاد المعاد": الغضب على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الغضب الذي يزيل العقل فلا يشعر صاحبه بما قال. وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع.
القسم الثاني: الغضب الذي يكون في مبادئه بحيث لا يمنع صاحبه من تصور ما يقول وقصده. فهذا يقع طلاقه بلا نزاع.
القسم الثالث: الغضب الذي يستحكم بصاحبه ويشتد به، فلا يزيل عقله بالكلية ولكن يحول بينه وبين نيته بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال، فهذا محل نظر.
ويرجع سبب اختلاف الفقهاء في حكم وقوع طلاق الغضبان إلى أمرين:
الأمر الأول: تعارض مبدأ "استقرار العقود والمعاملات" الذي يستوجب إنفاذ ألفاظها أو لزوم صيغها بدون عذر الغضب، مع مبدأ "الرضائية في العقود والمعاملات" الذي يستوجب إهدار اللفظ أو إبطال الصيغة التي لا تحقق تمام الرضا في إبرام العقود.
الأمر الثاني: الاختلاف في صحة وفي تفسير حديث: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق". فقد أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارقطني والحاكم وصححه عن عائشة، وضعفه الذهبي. وقال الألباني (ت1999م-1421هـ) هو حسن. وقال ابن حجر العسقلاني (ت852) في "التلخيص الحبير". في إسناده محمد بن عبد بن أبي صالح، وقد ضعفه أبو حاتم الرازي. وفي تفسير الإغلاق خمسة أقوال كما يلي:
(1)أنه الغضب، ومنه قولهم: إياك والمغلق، أي الضجر. وهو قول الإمام أحمد وأبو داود، وأهل العراق.
(2)أنه الإكراه، كأنه يغلق عليه الباب ويحبسه حتى يطلق. هو قول ابن الأثير وأبو حاتم الرازي وابن قتيبة والخطابي وأهل الحجاز.
(3)أنه الجنون، كأن عقله انغلق كالمجنون. وهو ما حكاه المطرزي عن بعضهم واستبعده.
(4)أنه التضييق بجمع الطلاق الثلاث في لفظة واحدة، فهو من التغليق كأن المطلق غلق الطلاق حتى لايبقى منه شيء كما يغلق المدين ما عليه. وهو قول أبي عبيد وطائفة من العلماء.
(5)أنه يعم الإكراه والغضب والجنون، وكل أمر انغلق على صاحبه علمه وقصده. وهو ما حكاه الزيلعي (ت762هـ) عن شيخه.
ويمكن إجمال أقوال الفقهاء في حكم طلاق الغضبان في المذاهب الثلاثة الآتية:
المذهب الأول: يرى أن طلاق الغضبان لا يقع فهو والعدم سواء. وهو قول ابن تيمية (ت728هـ) وابن القيم (ت 751هـ)، كما أنه مذهب المتأخرين من الحنفية الذي نص عليه ابن عابدين في "حاشيته" إلا أنه اشترط في الغضب أن يغلب على صاحبه الهذيان والخلل في أقواله وأفعاله الخارجة عن عادته وإن كان يعلمها ويريدها. وحجتهم: (1) أن الرضا أساس صحة العقود؛ لعموم قوله تعالى: "لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم" (النساء:29)، وعموم ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة إلا الترمذي وصححه الحاكم عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق". والحد الأدنى في الغاضب أن يكون ناقص الرضا ومعيب الإرادة، فلم يصح طلاقه وسائر عقوده كما لا تعتبر عقود الصبي العاقل. (2)عموم ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق"، وهو حديث صححه الحاكم وحسنه الألباني. كما أن المقصود بالإغلاق هو الغضب كما فسره الإمام أحمد والإمام أبو داود وغيرهما. (3) أن الله تعالى رفع حكم يمين اللغو في قوله تعالى: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور رحيم" (البقرة:225). وقد أخرج ابن جرير الطبري في "تفسيره" والبيهقي في "سننه الكبرى" عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان. ويؤكد عدم اعتبار يمين الغاضب أو تصرفه ما أخرجه أحمد والنسائي بسند ضعيف عن عمران بن حصين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين". وما أخرجه البخاري عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان"، وأخرجه أحمد عنه بلفظ: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان".
المذهب الثاني: يرى أن طلاق الغضبان يختلف بحسب استحضار نية الطلاق وإرادة حكمه فيقع، أو بعدم استحضار نية الطلاق وعدم إرادة حكمه فلا يقع ويكون لغوًا. وهو مذهب الظاهرية والإمامية؛ لأنهم يشترطون لصحة العقود استحضار النية، ولا يغني عنها صراحة الصيغة؛ لعموم ما أخرجه الشيخان عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الأعمال بالنيات".
المذهب الثالث: يرى أن طلاق الغضبان صحيح ونافذ في ذاته إلا في غياب العقل بالكلية، فلا أثر للغضب الذي لا يخرج صاحبه عن أدنى الوعي على صيغته. وهو مذهب الجمهور قال به المالكية والشافعية والحنابلة. وحجتهم: (1)أن استقرار العقود والمعاملات من المقاصد الشرعية؛ حتى لا تضطرب مصالح الناس. وهذا يستوجب الحكم بلزوم العقود التي تترتب عليها حقوق للآخرين دون اعتبار لعذر الغضب؛ لأن كل أحد يستطيع أن يدعي الغضب لإبطال تصرفه مما يهز أصول المعاملات. (2)أن حديث "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" الذي صححه الحاكم قد تعقبه الذهبي وقال هو ضعيف الإسناد، كما ضعفه ابن حجر العسقلاني فلا حجة فيه. وعلى التسليم بصحته فإن المقصود بالإغلاق الإكراه كما ذهب إلى ذلك أكثر أهل العلم. (3)أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ ظهار أوس بن الصامت في حال غضبه، فيقاس عليه الطلاق في حال الغضب. فقد أخرج ابن حبان بسند صحيح عن خويلة بنت ثعلبة قالت: في والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله جل وعلا صدر سورة المجادلة، قالت: كنت عنده وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه وضجر، قالت: فدخل علي يومًا فراجعته في شيء فغضب، وقال: أنت علي كظهر أمي، ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ثم دخل علي فإذا هو يريدني على نفسي، قالت: قلت: كلا ونفس خويلة بيده لا تخلص إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه، ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ما لقيت منه، فجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه". قالت: فوالله ما برحت حتى نزل القرآن بأوائل سورة المجادلة وفيها كفارة الظهار. (4)وأخرج الدارقطني والجوزجاني بإسناد صحيح عن ابن عباس، أن رجلًا قال له: إني طلقت امرأتي ثلاثًا وأنا غضبان؟ فقال ابن عباس: لا أستطيع أن أحل لك ما حرم الله عليك، عصيت ربك وحرمت عليك امرأتك. إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجًا ثم قرأ: "إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن" (الطلاق:1).