الدخول في لعبة التنافس الإيراني - التركي
لم يكن بشار الأسد، عند وصوله إلى السلطة، مهتمًا بأي علاقة متميزة مع إيران، وكان اهتمام والده من قبله قد تناقص بالتحالف مع إيران بعد أن اختارت سورية تحسين علاقاتها مع الغرب والولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة، فشاركت في حرب تحرير الكويت وقبلت الدخول في مفاوضات سلام مع إسرائيل، وتشكيل تحالف ثلاثي مع دول "الاعتدال" العربي (مصر والسعودية). وبناء عليه، عندما جاء بشار إلى السلطة كان جل اهتمامه منصرفًا إلى تمتين العلاقة مع الغرب الذي ساعده على وراثة والده، فقد شاركت وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت في مراسم دفن الأسد الأب، واجتمعت مع وريثه في دمشق في إشارة إلى مباركة واشنطن الانتقال "السلس" في سورية. كما كان الرئيس الفرنسي جاك شيراك الزعيم الأوروبي الوحيد الذي شارك في مراسم دفن الأسد الأب، بعد أن كان أيضًا أول زعيم غربي يستقبل بشار الأسد في قصر الإليزيه في عام 1998 بصفته "وريثًا" لوالده. فقد كانت عواصم الغرب محطات بشار الخارجية الأولى، بعد أن تولى الرئاسة في تموز / يوليو 2000 ، فزار باريس ولندن وبرلين. وتمسك بعلاقات والده بالضلعين الآخرين في المثلث العربي الذي هيمن على. المشرق خلال التسعينيات (مع السعودية ومصر) .
لكن حوادث أيلول / سبتمبر غيرت الأمور بصفة كبيرة، إذ قامت الولايات المتحدة بغزو العراق، لتزيل بذلك ومن غير قصد العقبة الكأداء التي كانت تقف حجر عثرة في طريق تمدد إيران نحو المتوسط. وبعكس الموقف الإيراني، قاوم بشار الأسد بشدة الغزو الأميركي للعراق. ومنذ مجيئه إلى السلطة عام 2000 طور بشار علاقات جيدة مع نظام الرئيس صدام حسين، فتدفق النفط العراقي عبر سورية أولمرة، منذ وقف خط الأنابيب عام 1981 ، إبّان دعم سورية لإيران في حربها ضد العراق، كما ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين. واستؤنفت العلاقات الدبلوماسي
وبالنسبة إلى سورية ظلت إيران حليفًا موثوقًا، طالما كان العراق منطقة عازلة معها (Buffer Zone) ، أمّا وقد انهار العراق، وأصبحت إيران جارة مباشرة لسورية، من خلال حلفائها الذين جاؤوا إلى السلطة بعد إطاحة نظام الرئيس صدام حسين، فقد بدأت تظهر في دمشق بعض المخاوف من السياسات الإيرانية. والواقع أنّ سورية وإيران انتهجتا سياسات متعارضة إلى حد كبير في العراق أثناء الاحتلال الأميركي، إذ وقفت سورية إلى جانب قوى النظام السابق واحتضنت بعض قادتها ودعمت مقاومتها للأميركيين، ما شكل تعارضًا كبيرًا مع السياسات الإيرانية التي رحبت بالغزو الأميركي للعراق، ودعمت الأحزاب الدينية الشيعية التي أحلها الأميركيون في السلطة. وقد شكلت سورية ممرًا ومقرًا للقوى السنية التي تقاتل الوجود الأميركي في العراق، مع أنّ الدعم كان يقل أو يزداد، بحسب الضغوط التي كان يمارسها الأميركيون عليها.
زادت حاجة سورية إلى إيران بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في شباط / فبراير ٢٠٠٥ ، وإجبار الأسد على سحب قواته من لبنان في نيسان/ أبريل من العام نفسه، واشتداد الضغط عليه لتغيير سياساته في العراق. وقد تزامنت هذه الضغوط مع صعود التيار القومي الأصولي إلى الحكم في إيران، فقد وصل الرئيس محمود أحمدي نجاد ببرنامج هدفه الرئيسى الاستفادة من التحول الإستراتيجي الذي طرأ على المنطقة، بعد أن أطاح الأميركيون نظام الرئيس صدام حسين. في هذه الفترة، أخذ المشروع الإيراني يتبلور بوضوح (الوصول إلى المتوسط من خلال إخراج الأميركيين من العراق، وربط مناطق النفوذ الإيراني في العراق ولبنان عبر سورية). وكان خروج سورية من لبنان قد أدى إلى اضعافها وزيادة اعتمادها على إيران، في الوقت الذي غدت تملك فيه إيران الكلمة الفصل في لبنان عن طريق حزب الله بعد مغادرة سورية. وقد قامت سورية، نتيجة الضغوط الغربية،بتوقيع معاهدة دفاع مشترك مع إيران عام 2006 ، كانت الأولى بين البلدين منذ نشوء التحالف بينهما عام 1979
في المقابل، كانت تركيا، مثل سورية، قد عارضت بشدة الغزو الأميركي للعراق عام 2003 ، ورفضت بناء عليه، السماح للولايات المتحدة باستخدام أراضيها للهجوم على العراق، وكان موقفها في ذلك أقرب إلى سورية من الموقف الإيراني الداعم لغزو العراق. وقد قام بشار الأسد بزيارته الأولى لتركيا في كانون الثاني / يناير 2004 ، أي بعد أقل من شهر من قيام الكونغرس الأميركي بإقرار "قانون محاسبة سورية"، بهدف معاقبة دمشق على معارضتها للحرب على العراق، وعلى دعمها حركة حماس وحزب الله بصفتهما منظمتين "إرهابيتين". وبعد اغتيال ، رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في شباط / فبراير 2005 انضمت فرنسا إلى الولايات المتحدة في جهدها لعزل النظام في دمشق. خضعت سورية لسيل من قرارات مجلس الأمن الدولي التي وضعتها في عزلة تامة تقريبًا. وجمّد الاتحاد الأوروبي اتفاقية الشراكة التي بدأ العمل بها في تشرين الأول / أكتوبر 2004 ، بعد ست سنوات من المفاوضات الشاقة. وباستثناء شركة ماراتون بتروليوم، أحجمت شركات النفط الغربية عن الاستثمار في قطاع النفط السوري، فيما قام بعضها الآخر، خشية عقوبات محتملة، ببيع ما يملكه من أصول في صناعة النفط السورية وغادر البلاد . في الفترة ما بين 2004 و 2005 ، غادرت سورية كونوكو فيلبس وديفون إنرجي، وفي كانون الثاني / يناير 2006 باعت بترو كندا حصتها البالغة 37 بالمئة في حقول النفط والغاز السورية لشركة البترول الوطنية الصينية وشركة الهند للنفط والغاز الطبيعي . دفعت هذه الضغوط سورية إلى التفكير في تركيا شريكًا اقتصاديًا إستراتيجيًا، فبدأ الانفتاح عليها. وفي كانون الأول / ديسمبر 2004 ، وقع البلدان بالأحرف الأولى على اتفاقية تجارة . حرة في دمشق، أثناء زيارة قام بها رئيس الوزراء التركي أردوغان وقد استمرت العلاقات في التطور حتى غدت تركيا شريك سورية التجاري الأول ، كما ألغى البلدان تأشيرات الدخول، وقاما بإنشاء مجلس التعاون الإستراتيجي عالي المستوى ، عقد أول اجتماعاته في شهر تشرين الأول / أكتوبر 2009 .
كان الميل في اتجاه تركيا جزءًا من مساعي النظام السوري لكسر عزلته والتخلص بالتدريج من تأثير العقوبات، لذلك وأثناء زيارته الأولى إلى أنقرة في كانون الثاني / يناير 2004 ، طلب الأسد من تركيا القيام بدور لاستئناف مفاوضات السلام مع إسرائيل. أظهر طلب الأسد تنامي الرغبة لديه في استقطاب تركيا ودفعها إلى أن يكون لها دور أكبر في سياسات المنطقة، لكن واشنطن وتل أبيب رفضتا دعواته المتكررة لاستئناف محادثات السلام، لكونها مجرد مناورة غايتها إخراج سورية من عزلتها الناتجة عن اتهامها باغتيال الحريري. ولم تبدِ إسرائيل اهتمامًا باستئناف محادثات السلام مع سورية، إلّا بعد حرب ، "تموز 2006 " في لبنان. وأثناء زيارة إلى أنقرة في شباط / فبراير 2007
أعرب رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت عن اهتمام بلاده بوساطة تركية. وبعد ضمان موافقة كل من سورية وإسرائيل، بدأت تركيا مساعي مكوكية سرية بين الجانبين توجت بالإعلان عن مفاوضات غير مباشرة في 21 أيار / مايو 2008 . وعلى الرغم من إحراز تقدم كبير، فقد انتهت خمس جولات من محادثات السلام برعاية تركيا من دون التوصل إلى اتفاقية. توقفت العملية بسبب الحرب على غزة وعودة اليمين إلى الحكم في إسرائيل في انتخابات عام 2009 ، ما أدى إلى تعليق كل المساعي الدبلوماسية. ومع ذلك، فإنّ استئناف محادثات السلام قد خدم سورية بطريقة أساسية، مؤديًا إلى إنهاء عزلتها. وهكذا فقد كان للوساطة التركية دور أساسي في إخراج سورية من حالة العزلة والحصار .
لكنّ بشار الأسد الذي بدأت ثقته بنفسه وبقدراته تزداد، بعد أن تجاوز الحصار والضغط الأميركي – الفرنسي – السعودي، كان يسعى إلى غايات أبعد من مجرد الخروج من العزلة والاستفادة من الروابط الاقتصادية مع تركيا، اذ كان يحاول الاستفادة إلى أقصى حد من موقع بلاده الجيوسياسي المهم وإدارة لعبة توازنات إقليمية ودولية كبرى، ففي الوقت الذي وطد فيه علاقاته الأمنية والعسكرية مع إيران، خاصة بعد حرب تموز 2006 ، اختار الأسد تركيا التي تحولت إلى شريكه التجاري الأكبر لتكون وسيطًا في مفاوضات السلام مع إسرائيل في العام 2008 .
في البداية، كان الأسد ينظر إلى تطوير علاقاته مع تركيا بصفته تعويضًا عن الخسارة الجيوسياسية والاقتصادية التي أصيب بها نتيجة احتلال العراق. ومن المؤكد أنّ تقوية الروابط العسكرية مع إيران كان يجري استخدامه للتخفيف من معضلة سورية الأمنية، لكنّ الأسد كان بحاجة إلى أدوار أخرى لم يكن بمقدور إيران القيام بها، إذ كان يحتاج إلى قناة خلفية مع الغرب وإلى حليف يستطيع ممارسة قدر من النفوذ في واشنطن. وقد نهضت تركيا في الواقع بدور أساسي في نقل الرسائل بين دمشق وواشنطن، ونجحت أحيانًا في تخفيف التوتر بينهما. وإضافة إلى ذلك، فإنّ العلاقات مع تركيا، بوصفها دولة سنّية كبيرة، كانت بالغة الأهمية لجهة تفادي الانتقاد الداخلي القائل إنّ نظام دمشق قد أصبح جزءًا من "القوس الشيعي" الممتد من طهران إلى جنوب لبنان . ونظرًا للتنافس التاريخي بين طهران وأنقرة على النفوذ الإقليمي، فإنّ تمتين العلاقات مع تركيا كان أيضًا أداة مهمة في محاولة سورية تحقيق توازن بين قوتين إقليميتين صاعدتين، هما إيران التي بدأت تمسك بزمام الأمور في العراق عبر حلفائها وتسعى إلى وصل مناطق نفوذها في الإقليم، وتركيا التي بدأت تنهج سياسة شرق أوسطية أكثر فعالية بسبب تنامي مصالحها في المنطقة، وتبدي قلقًا متزايدًا جراء تنامي نفوذ طهران الإقليمي إثر الحرب على العراق
ومثلما أخذت إيران ترى أن العراق يمثّل منطقة نفوذ حيوي لها، بدأت تركيا ترقب سورية من المنظار نفسه، ومن ثمّ كانت سورية بالنسبة إلى تركيا أهم من أن تترك للنفوذ الإيراني الساعي إلى ضمها لقوس النفوذ المتشكل. ومن جهة أخرى، أدت علاقات تركيا السياسية والتجارية والثقافية المتنامية مع سورية إلى نشوء دوائر مصالح مرتبطة بها، سواء داخل مؤسسات الدولة السورية أو في المجتمع السوري خاصة في حلب شمالًا. كما ظهرت دوائر مصالح مرتبطة بإيران داخل مؤسسات الأمن والجيش السوري الذي أخذ يتحول إلى نمط قتالي وتكتيكات خفيفة شبيهة بما يتبناه حزب الله . وهكذا في الوقت الذي كان فيه الإيرانيون يحاولون تنمية نفوذهم في سورية، كان الأتراك يفعلون الشيء نفسه تقريبًا. لذلك فإنّ التنافس التركي - الإيراني كان قائمًا بالفعل في سورية قبل اندلاع الثورة السورية، وغذاه بشار الأسد في محاولة منه للخروج من عزلته، ولتعزيز دوره الإقليمي، وتنويع مروحة الخيارات أمام بلاده. وعلاوة على ذلك، كان بشار يتطلع إلى مرحلة ما بعد الخروج الأميركي من العراق، واستعداد تركيا وإيران (التي أصبح لها هي الأخرى حدود مع سورية) على ملء الفراغ، وكان من ثمّ يحاول أن يلعب لعبة النفوذ التركي ضد النفوذ الإيراني، حتى لا يتمكن أحد الطرفين من الاستفراد به.
يتبع