
11-10-2015, 06:33 AM
|
 |
نجم العطاء
|
|
تاريخ التسجيل: Dec 2006
العمر: 68
المشاركات: 8,134
معدل تقييم المستوى: 0
|
|
البنا فى القاهرة
صحت نية حسن على التقدم إلى دار العلوم، وتم إخطاره بالموعد المحدد للكشف الطبى والامتحان. كان عليه أن يسافر إلى القاهرة، وصادف ذلك شهر رمضان، أراد أبوه أن يصحبه فلم ير لذلك موجبا، واكتفى بدعائه وخطاب إلى صديق من كبار تجار الكتب الميسورين بالقاهرة.
رأى القاهرة للمرة الأولى بعد أن تجاوز السادسة عشرة بشهور. نزل فى باب الحديد عصرا، وركب الترام إلى العتبة، ثم ركب السوارس إلى حى الحسين، متوجها إلى التاجر صديق أبيه. لم يكترث الرجل به لكنه صادق عاملاً أهتم لأمره واستضافه حتى الصباح، وفى اليوم التالى اتخذ طريقه إلى دار العلوم.
دار العلوم..
أنشئت عام 1873، كأول محاولة مصرية لتقديم تعليم جديد يتسم بالعصرية، دون إهمال العلوم الدينية التقليدية. لقد أصبحت دار العلوم، من الوجهة الأساسية، مدرسة عليا للمعلمين، لكنها اصطبغت أكثر فأكثر، مع تطور نظام التعليم المدنى للجامعة المصرية، بالصبغة التقليدية السلفية.
اتيحت للبنا فرصة أن يعمل مدرسا، بمؤهله المتوسط، فى قرية قريبة تتيح له أن يعاون أباه ويساند أسرته، لكن الفتى الطموح، بعد تفكير عميق، قرر أن ينبذ الوظيفة المتاحة، فى سبيل الالتحاق بمدرسة عليا تشبع نهمه إلى المزيد من العلم والتفوق.
كيف كانت القاهرة التى سافر إليها البنا؟!
لم تكد الحرب العالمية الأولى تنتهى، حتى اشتد ساعد الحركة القومية المطالبة بحقوق البلاد، على أساس المبادئ التى بشر بها الرئيس الأمريكى ولسن، وكان حزب الوفد هو بطل المرحلة الجديدة.
لقد تغيرت معالم وجه المسألة المصرية، بعد ثورة سنه 1919، تغييرا جوهرياً عميقا. بعد أن كان الاستقلال رهينا بأمر وإرادة الغرب، أصبح للمصريين كلمتهم وطموحهم. وبعد أن كانت غاية الحزب الوطنى لا تتجاوز الاستقلال تحت الراية العثمانية، أصبح الاستقلال التام، عن تركيا وبريطانيا معا، عقيدة راسخة يؤمن بها المصريون من مختلف الطبقات والثقافات. وبعد أن كان العمل السياسي احتكار لمثقفى المدن، أصبح الجميع يتحدثون فى السياسة، ويحلمون بالسيادة والاستقلال والدستور.
لم تكن ثورة 1919 ذات توجه إسلامى، وقد شاركت فيها جميع طوائف الأمة، وترددت شعارات جديدة مثل “,”الوحدة الوطنية“,” و “,”الاستقلال التام“,” و “,”الدستور“,”.
ثورة 1919، بكل شعاراتها الليبرالية العصرية، لم تحقق الأهداف المأمولة، فقد اشتعل الصراع الحزبى بعد إقرار دستور سنه 1923، وانقسمت الأمة بين أغلبية تؤيد الوفد، وأقلية تنتمى إلى أحزاب أخرى. وكان منطقيا أن يزداد القلق والتوتر عند أصحاب الأفكار والتوجهات الإسلامية، بعد أن سقطت دولة الخلافة فى تركيا، وانتشرت الأفكار الليبرالية والعلمانية، التى تدعو إلى الفصل بين الدين والدولة.
توافق وصول البنا إلى القاهرة مع فترة الغليان الفكرى والسياسى التى ميزت العشرينيات، وبعينى ريفى متدين، استطاع حسن البنا أن يميز المشكلات الأكثر خطورة من وجهة نظره : الصراع المحتدم بين الوفد والأحرار الدستوريين على حكم مصر من ناحية، والمجادلات السياسية الصاخبة التى أسفرت عن الانقسام فى أعقاب ثورة 1919 من ناحية أخرى. كان المناخ الجديد يهيئ لبعث الأفكار الإسلامية فى أشكال شتى، ولم تكن جماعة الإخوان المسلمين، التى أسسها البنا بعد سنوات قليلة، إلا أحد هذه الأشكال.
قاهرة العشرينيات..
مصطفى كمال اتاتورك
حراك سياسى وثقافى وفكرى واجتماعى
أفكار جديدة تصطدم مع القديم الراسخ
مصطفى كمال أتاتورك يعلن عن سقوط الخلافة، والشيخ على عبد الرازق يفجر قنبلة فى كتابه الصغير الخطير “,”الإسلام وأصول الحكم“,”، ويعلن أن الخلافة ليست فريضة دينية، لكنها اجتهاد بشرى.
الأزهر يعجز عن التجدد والتطور، والأزهرى القديم المتمرد الدكتور طه حسين، يلقى قنبلة أخرى من خلال كتابه “,”فى الشعر الجاهلى“,”، حيث يبشر بمذهب جديد غير مسبوق فى الثقافة التقليدية، قواعد الشك فيما يظن أنه من الثوابت التى تعلو فوق الشكوك.
فكر جديد ينطلق من قاعات الجامعة المصرية، ومفكرون جدد يتحمسون لكل ما هو عصرى غربى، وانعكاسات اجتماعية وأخلاقية تترتب على هذا المناخ.
المقيمون فى الأقاليم البعيدة عن العاصمة، مثل المحمودية ودمنهور، لا يشعرون بما يحدث من حراك، فهم متقوقعون داخل شرنقة الحياة التقليدية التى اعتادوها وألفوها، ولا تتجلى صدمة التغيير العاصف إلا عند الاحتكاك بالعاصمة، وهذا ما حدث مع حسن البنا عندما هبط إلى القاهرة ليلتحق بدار العلوم.
كان من نتيجة الظروف السياسية الجديدة، بعد ثورة 1919، وما تبعها من صراخ فكرى بين التيار التحديثى والتيار المحافظ، أثر واضح على الحياة الاجتماعية، والمقارنة بين الحياة العامة فى المدن المصرية، قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، تكشف عن بعض أبعاد هذا التغيير.
كان منطقيا أن يسعى التيار المحافظ لنشر أفكاره الدينية والمحافظة عليها، وتوالى ظهور الجماعات والجمعيات الإسلامية، تمثل أهمها فى جمعية “,”الشبان المسلمين“,”، التى ترأسها صالح باشا حرب قرب نهاية سنة 1927، والتى مهدت لظهور جماعة الإخوان المسلمين، التى أسسها البنا فى مدينة الإسماعيلية سنه 1928.
لم يكن البنا سلبيا عند إقامته فى القاهرة، وقادته بوصلته الفكرية الدينية إلى التجمعات التى تناسب أفكاره وتوجهاته، ولذلك ساند جمعية الشبان المسلمين، وعمل مندوبا لمجلة “,”الفتح“,” المعبرة عن الخط الإسلامى المحافظ، وهى المجلة التى أشرف على تحريرها محى الدين الخطيب، مدير المكتبة السلفية وأحد مؤسسى الشبان المسلمين.
كانت القاهرة شيئاً مختلفا عن المحمودية ودمنهور.
يتبع
|