عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 14-06-2015, 01:56 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

قصة أصحاب الأخدود (4)
محمود العشري



سابعًا: التربية:

التربية الإيمانية العلمية الواعية المتدرجة عاملٌ أساسي من عوامل الثبات:

التربية الإيمانية التي تُحيي القلب والضمير بالخوف والرجاء والمحبَّة، المنافية للجفاف الناتج من البُعد عن نصوص القرآن والسُّنة، والعكوف على أقاويل الرجال.



التربية العلمية القائمة على الدليل الصحيح، المنافية للتقليد والإمَّعِيَّة الذميمة.



التربية الواعية: التي لا تعرف سبيل المجرمين، وتدرس خُطط أعداء الإسلام، وتُحيط بالواقع علمًا، وبالأحداث فَهمًا وتقويمًا، المنافية للانغلاق والتقوقُع على البيئات الصغيرة المحدودة.



التربية المتدرِّجة: التي تَسير بالمسلم شيئًا فشيئًا، ترتقي به في مدارج كماله بتخطيط موزون، والمنافية للارتجال والتسرُّع والقفزات المُحطِّمة.



ولكي نُدرك أهميَّة هذا العنصر من عناصر الثبات، فلنَعُد إلى سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونسائل أنفسنا: ما هو مصدر ثبات صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة إبَّان فترة الاضطهاد؟! كيف ثبَت بلال وخبَّاب، ومصعب وآل ياسر، وغيرهم من المستضعفين؟! وحتى كبار الصحابة في حصار الشِّعب وغيره؟! هل يمكن أن يكون ثباتُهم بغير تربية عميقة من مِشكاة النبوَّة صَقَلَت شخصيَّاتهم؟!



لنأخذ رجلاً صحابيًّا مثل خبَّاب بن الأرت - رضي الله عنه - الذي كانت مولاته تحمي أسياخ الحديد حتى تحمرَّ، ثم تَطرحه عليها عاري الظهر، فلا يُطفئها إلاَّ وَدَكُ ظهْره - أي: شَحمه - حين يَسيل عليها، ما الذي جعَله يَصبر على هذا كله؟! وبلال تحت الصخرة في الرَّمضاء، وسُميَّة في الأغلال والسلاسل.



وسؤال مُنبثق من موقف آخرَ في العهد المدني: مَن الذي ثبَت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حُنين لَمَّا انهزَم أكثر المسلمين؟ هل هم حديثو العهد بالإسلام ومُسلِمة الفتح الذين لَم يتربَّوا وقتًا كافيًا في مدرسة النبوَّة والذين خرَج كثير منهم طلبًا للغنائم؟ كلاَّ، إن غالب مَن ثبَت هم أولئك الصفوة المؤمنة التي تلقَّت قدرًا عظيمًا من التربية على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم.



فلو لَم تكن هناك تربية، تُرى هل كان سيَثبت هؤلاء؟!



ثامنًا: الثقة بالطريق:

لا شكَّ أنه كلما ازدادَت الثقة بالطريق الذي يَسلكه المسلم، كان ثباته عليه أكبر، ولهذا وسائل، منها:

استشعار أنَّ الصراط المستقيم الذي تَسلكه ليس جديدًا، ولا وليدَ قَرْنك وزمانك، وإنما هو طريق عتيق - عتيق صفة مدح - قد سارَ فيه مِن قبلك الأنبياء والصِّدِّيقون والعلماء، والشُّهداء والصالحون، فبهذا الشعور تزول غُربتك، وتتبدَّل وَحْشتُك أُنسًا، وكآبتك فرحًا وسرورًا؛ لأنك تشعر بأنَّ أولئك كلهم إخْوَة لك في الطريق والمنهج.



الشعور بالاصطفاء؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [النمل: 59]، وقال: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ [فاطر: 32]، وقال: ﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [يوسف: 6].



وكما أنَّ الله - سبحانه وتعالى - اصطفى الأنبياء، فللصالحين نصيبٌ من ذلك الاصطفاء، وهو ما وَرِثوه من علوم الأنبياء.



ماذا يكون شعورك لو أنَّ الله خلقَك جمادًا، أو دابَّة، أو كافرًا مُلحدًا، أو داعيًا إلى بدعة، أو فاسقًا، أو مسلمًا غير داعية لإسلامه، أو داعية في طريق متعدِّد الأخطاء؟! ألا ترى أنَّ شعورك باصطفاء الله لك، وأنْ جعَلك داعية من أهل السُّنة والجماعة من عوامل ثباتك على منهجك وطريقك؟!



تاسعًا: ممارسة الدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى:

النفس إن لَم تتحرَّك، تأسَنْ، وإن لَم تَنطلق تتعفَّن، ومن أعظم مجالات انطلاق النفس: الدعوة إلى الله؛ فهي وظيفة الرُّسل، ومُخلصة النفس من العذاب؛ فيها تتفجَّر الطاقات، وتُنجَز المهمَّات؛ ﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [الشورى: 15].



وليس يصحُّ شيء يقال فيه: فلان لا يتقدَّم ولا يتأخر؛ فإن النفس إن لَم تَشغلها بالطاعة، شَغَلتك بالمعصية، والإيمان يَزيد وينقص، والدعوة إلى المنهج الصحيح - ببَذْل الوقت، وكَدِّ الفكر، وسَعي الجسد، وانطلاق اللسان؛ حيث تُصبح الدعوة هَمَّ المسلم وشُغله الشاغل - تقطع الطريق على محاولات الشيطان بالإضلال والفتنة.



زِدْ على ذلك ما يحدث في نفس الداعية من الشعور بالتحدِّي تُجاه العوائق، والمعاندين، وأهل الباطل، وهو يسير في مشواره الدعوي، فيرتقي إيمانه، وتقْوَى أركانه، فتكون الدعوة - بالإضافة لما فيها من الأجْر العظيم - وسيلة من وسائل الثبات والحماية من التراجُع والتقهقُر؛ لأن الذي يُهاجم لا يحتاج للدفاع، والله مع الدُّعاة: يثُبتهم، ويُسدِّد خطاهم، والداعية كالطبيب يُحارب المرض بخِبرته وعِلمه، وبمحاربته في الآخرين، فهو أبعدُ من غيره عن الوقوع فيه.



عاشرًا: الالتفاف حول العناصر المُثبتة:

تلك العناصر التي من صفاتها ما أخبرنا به - عليه الصلاة والسلام -: ((إن من الناس ناسًا مفاتيح للخير، مغاليق للشر))، والحديث حسن؛ رواه ابن ماجه عن أنس مرفوعًا، وابن أبي عاصم، وهو في السلسلة الصحيحة.



البحث عن العلماء والصالحين والدُّعاة المؤمنين، والالتفاف حولهم مُعين كبير على الثبات، وقد حدَثت في التاريخ الإسلامي فتنٌ ثبَّت الله فيها المسلمين برجال، ومن ذلك ما قاله علي بن المَديني - رحمه الله -: "أعز الله الدين بالصِّديق يوم الرِّدة، وبأحمد يوم المِحنة".



وتأمَّل ما قاله ابن القَيِّم - رحمه الله - عن دور شَيْخه شيخ الإسلام في التثبيت: "وكنا إذا اشتدَّ بنا الخوف، وساءَت بنا الظنون، وضاقَت بنا الأرض، أتيناه، فما هو إلاَّ أنْ نراه ونَسمع كلامه، فيذهب ذلك كلُّه عنا، وينقلب انشراحًا وقوةً، ويقينًا وطمأنينة، فسبحان مَن أشْهد عباده جنَّته قبل لقائه، وفتَح لهم أبوابها في دار العمل، وآتاهم من رَوحها ونسيمها وطيبها، ما استفرَغ قُواهم لطلبها والمسابقة إليها".



وهنا تَبرز الأخوَّة الإسلاميَّة كمصدر أساسي للتثبيت؛ فإخوانك الصالحون، والقدوات والمربُّون هم العونُ لك في الطريق، والركن الشديد الذي تأوي إليه، فيُثبِّتوك بما معهم من آيات الله - سبحانه وتعالى - والحِكمة.



الْزَمهم وعِشْ في أكنافهم، وإيَّاك والوَحْدة، فتتخطَّفك الشياطين؛ فإنما يأكل الذئبُ من الغنم القاصيةَ.



الحادي عشر: الثقة بنصر الله - سبحانه وتعالى - وأن المستقبل للإسلام:

نحتاج إلى الثبات كثيرًا عند تأخُّر النصر؛ حتى لا تَزل قدَمٌ بعد ثبوتها؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 146 - 148].



ولَمَّا أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُثبِّت أصحابه المعذَّبين، أخبَرهم بأنَّ المستقبل للإسلام في أوقات ال***** والمِحَن، فماذا قال؟



جاء في حديث خبَّاب مرفوعًا عند البخاري: ((وليُتِمَّنَّ الله هذا الأمر؛ حتى يسيرَ الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنَمه)).



فَعَرْضُ أحاديث البِشارة بأنَّ المستقبل للإسلام على الناشئة مهمٌّ في تربيتهم على الثبات.



الثاني عشر: معرفة حقيقة الباطل وعدم الاغترار به:

في قول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ﴾ [آل عمران: 196]، تسريةٌ عن المؤمنين، وتثبيتٌ لهم، وفي قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ﴾ [الرعد: 17]، عِبرةٌ لأُولِي الألباب في عدم الخوف من الباطل والاستسلام له.



ومن طريقة القرآن فَضْحُ أهل الباطل وتَعْرية أهدافهم ووسائلهم؛ ﴿ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأنعام: 55]؛ حتى لا يُؤخذ المسلمون على حين غِرَّة، وحتى يَعرفوا مَن أين يُؤتَى الإسلام.



وكم سَمِعنا ورأينا حركات تهاوَت، ودُعاة زَلَّت أقدامهم، ففَقدوا الثبات لَمَّا أُتُوا من حيث لَم يحتسبوا؛ بسبب جَهْلهم بأعدائهم.



الثالث عشر: استجماع الأخلاق المُعينة على الثبات:

وعلى رأسها الصبر؛ ففي حديث الصحيحين: ((وما أُعطِي أحد عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر))، وأشد الصبر عند الصدمة الأولى، وإذا أُصيبَ المرء بما لَم يتوقَّع، تحصل النكسة ويزول الثبات إذا عُدِم الصبر، تأمَّل فيما قاله ابن الجوزي - رحمه الله -: "رأيت كبيرًا قاربَ الثمانين، وكان يُحافظ على الجماعة، فمات ولدٌ لابنته، فقال: ما ينبغي لأحد أن يدعو، فإنه ما يَستجيب، ثم قال: إنَّ الله يُعاند، فما يترك لنا ولدًا" - تعالى الله عن قوله عُلوًّا كبيرًا.



لَمَّا أُصيب المسلمون في أُحدٍ لَم يكونوا ليتوقَّعوا تلك المصيبة؛ لأن الله وعَدهم بالنصر، فعلَّمهم الله - سبحانه وتعالى - بدرسٍ شديد بالدماء والشُّهداء؛ ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 165]، ماذا حصل من عند أنفسهم؟! ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 152].



الرابع عشر: وصية الرجل الصالح:

عندما يتعرَّض المسلم لفتنة ويَبتليه ربُّه ليُمَحِّصَه، يكون من عوامل الثبات أن يُقيِّضَ الله له رجلاً صالحًا يَعِظه ويُثبته، فتكون كلمات ينفع الله بها، ويُسدِّد الخُطى، وتكون هذه الكلمات مشحونة بالتذكير بالله، ولقائه، وجنَّته، وناره.



وهاك هذه الأمثلة من سيرة الإمام أحمد - رحمه الله - الذي دخل المِحنة ليَخرج ذهبًا نقيًّا، لقد سِيق إلى المأمون مقيَّدًا بالأغلال، وقد توعَّده وعيدًا شديدًا قبل أن يَصِل إليه، حتى لقد قال خادم للإمام أحمد - كما في البداية والنهاية -: يعزُّ عليّ يا أبا عبدالله أنَّ المأمون قد سَلَّ سيفًا لَم يَسلَّه قبل ذلك، وأنه يُقسم بقرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لئن لَم تُجبْه إلى القول بخَلْق القرآن، ليَقْتُلنَّك بذلك السيف.



وهنا ينتهز الأذكياء من أهل البصيرة الفرصة؛ ليلقوا إلى إمامهم بكلمات التثبيت؛ ففي "السِّيَر"؛ للذهبي عن أبي جعفر الأنباري قال: لَمَّا حُمِل أحمد إلى المأمون أُخْبِرت، فعبَرت الفرات، فإذا هو جالس في الخان، فسلَّمت عليه، فقال: يا أبا جعفر؛ تعنَّيت، فقلت: يا هذا؛ أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجَبْت إلى خَلْق القرآن؛ ليُجيبنَّ خَلْقٌ، وإن لَم تُجِب، ليَمْتنعنَّ خَلْقٌ من الناس كثيرٌ، ومع هذا فإن الرجل إن لَم يَ***ك، فإنك تموت، لا بد من الموت، فاتَّقِ الله ولا تُجِب، فجعَل أحمد يبكي، ويقول: ما شاء الله، ثم قال: يا أبا جعفر أعِد، فأعدتُ عليه، وهو يقول: ما شاء الله.



وقال الإمام أحمد في سياق رحلته إلى المأمون: "صِرنا إلى الرَّحبة، ورحَلنا منها في جوف الليل، فعرَض لنا رجل، فقال: أيُّكم أحمد بن حنبل؟ فقيل له: هذا، فقال للجمَّال: على رِسْلك، ثم قال: يا هذا، ما عليك أن تُقتَل ها هنا، وتدخل الجنة، ثم قال: أستودعك الله، ومضَى، فسألت عنه، فقيل لي: هذا رجل من العرب من ربيعة، يعمل الصوف في البادية، يقال له: جابر بن عامر يُذكَر بخيرٍ.



وفي البداية والنهاية: أنَّ أعرابيًّا قال للإمام أحمد: يا هذا، إنك وافدُ الناس، فلا تكن شؤمًا عليهم، وإنك رأس الناس اليوم، فإيَّاك أن تُجيبَهم إلى ما يدعونك إليه، فيُجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنتَ تحب الله، فاصبرْ على ما أنت فيه؛ فإنه ما بينك وبين الجنة إلاَّ أن تُ***.



قال الإمام أحمد: وكان كلامه مما قوَّى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع عن ذلك الذي يدعونني إليه.



وفي رواية أن الإمام أحمد قال: ما سَمِعت كلمة منذ وقَعتُ في هذا الأمر أقوى من كلمة الأعرابي، كلمني بها في رَحبة طوق - وهي بلدة بين الرِّقة وبغداد على شاطئ الفرات - قال: يا أحمد، إن يَ***ك الحقُّ، مُتَّ شهيدًا، وإن عِشت، عِشتَ حميدًا، فقَوِي قلبي.



ويقول الإمام أحمد عن مُرافقة الشاب محمد بن نوح الذي صمَد معه في الفتنة: ما رأيت أحدًا - على حَداثة سِنِّه وقَدْر عِلْمه - أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، إني لأرجو أن يكون قد خُتِم له بخير، قال لي ذات يوم: يا أبا عبدالله، الله الله؛ إنك لست مثلي، أنت رجل يُقتدى بك، قد مدَّ الخَلْق أعناقهم إليك؛ لِمَا يكون منك، فاتَّقِ الله، واثبتْ لأمر الله، فمات وصَلَّيْتُ عليه ودَفَنْتُه.



وحتى أهل السجن الذين كان يصلي بهم الإمام أحمد وهو مُقيَّد، قد أسهموا في تثبيته؛ فقد قال الإمام أحمد مرَّة في الحَبْس، لستُ أُبالي بالحَبْس، ما هو ومنزلي إلا واحدٌ، ولا قتْلاً بالسيف، وإنما أخاف فتنة السَّوط، فسَمِعه بعض أهل الحَبْس، فقال: لا عليك يا أبا عبدالله؛ فما هو إلا سوطان، ثم لا تَدري أين يقع الباقي، فكأنه سُرِّي عنه.



فاحْرِص أيها الأخ الكريم على طلب الوصيَّة من الصالحين، واعْقِلها إذا تُلِيَتْ عليك، اطْلُبها قبل سفرٍ إذا خَشِيت مما قد يقع فيه، اطْلُبها أثناء ابتلاءٍ، أو قبل مِحنة متوقَّعة، اطْلُبها إذا عُيِّنت في منصبٍ، أو وَرِثت مالاً وغنًى، ثَبِّتْ نفسك، وثَبِّت غيرك، والله وَلِيُّ المؤمنين.



الخامس عشر: التأمُّل في نعيم الجنة وعذاب النار، وتذكُّر الموت:

والجنة بلاد الأفراح، وسلوة الأحزان، ومَحط رِحال المؤمنين، والنفس مفطورة على عدم التضحية والعمل والثبات، إلا بمقابل يهوِّن عليها الصِّعاب، ويُذلِّل لها ما في الطريق من عقبات ومشاق.



فالذي يعلم الأجْر، تهون عليه مَشقة العمل، وهو يسير ويعلم بأنه إذا لَم يَثبت، فستفوته جنة عرْضُها السموات والأرض، ثم إنَّ النفس تحتاج إلى ما يرفعها من الطين الأرضي، ويَجذبها إلى العالم العلوي.



وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستخدم ذِكر الجنة في تثبيت أصحابه؛ ففي الحديث الحسن الصحيح أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بياسر وعمَّار وأمِّ عمار وهم يؤذَوْن في الله - سبحانه وتعالى - فقال لهم: ((صبرًا آل ياسر، صبرًا آل ياسر؛ فإنَّ موعدكم الجنة))؛ والحديث رواه الحاكم، وهو حديث حسنٌ صحيح.



وكذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يقول للأنصار فيما رواه عنه البخاري ومسلم: ((إنكم ستلقون بعدي أثْرَة، فاصبروا حتى تَلْقَوْني على الحَوْض))، وكذلك مَن تأمَّل حال الفريقين في القبر والحشر، والحساب والميزان والصراط، وسائر منازل الآخرة.



كما أن تذكُّر الموت يحمي المسلم من التردِّي، ويوقِفه عند حدود الله، فلا يتعدَّاها؛ لأنه إذا عَلِم أنَّ الموت أدنى من شِراك نَعْله، وأن ساعته قد تكون بعد لحظات، فكيف تُسَوِّل له نفسه أن يَزلَّ، أو يتمادى في الانحراف؛ ولأجل هذا قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي وصححه الألباني: ((أكْثِروا من ذِكر هادم اللذات)).



إذًا كانت هذه هي بعض عوامل الثبات، ففي أي المواضع يكون احتياجنا لهذا الثبات؟ والجواب عن ذلك يكون في معرفة مواطن الثبات، وهي كثيرة تحتاج إلى تفصيل، لكني أكتفي بسَرْد بعضها على وجْه الإجمال في هذا المقام:




أولاً: الثبات في الفِتن:

التقلُّبات التي تُصيب القلوب سببها الفِتن، فإذا تعرَّض القلب لفِتن السرَّاء والضرَّاء، فلا يثبت إلاَّ أصحاب البصيرة الذين عَمَر الإيمانُ قلوبَهم.



ومن أنواع الفتن:

فتنة المال؛ قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [التوبة: 75 - 76].



ومنها: فتنة الجاه؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].



وعن خطورة الفِتنتين السابقتين قال- صلى الله عليه وسلم -: ((ما ذئبان جائعان أُرْسِلا في غنمٍ، بأفسدَ لها من حِرص المرء على المال والشرف لدينه))؛ والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، وهو في صحيح الجامع، والمعنى: أنَّ حِرص المرء على المال والشرف أشدُّ فسادًا للدين من الذئبين الجائعين أُرْسِلا في غنمٍ.



ومنها: فتنة الزوجة؛ قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التغابن: 14].



ومنها: فتنة الأولاد: فـ((الولد مَجْبنة، مَبخلة، مَحزنة))، والحديث رواه أبو يَعْلى، وله شواهدُ، وهو في صحيح الجامع.



ومنها: فتنة الاضطهاد والطُّغيان والظلم، ويُمثِّلها أروعَ تمثيل قولُه - سبحانه وتعالى -: ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [البروج: 4 - 9].



وروى البخاري عن خبَّاب - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسِّد بُردة في ظلِّ الكعبة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((قد كان مَن قبلكم يؤخَذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، فيُجاء بالمنشار، فيُوضَع على رأسه، فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد من دون لَحمه وعَظْمه، فما يصدُّه ذلك عن دينه)).



ومنها: فتنة الدَّجَّال، وهي أعظم فتن المَحيا؛ ففى الحديث: ((يا أيُّها الناس، إنها لَم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرَأ الله آدمَ أعظمَ من فتنة الدَّجال، يا عباد الله، أيها الناس، فاثبتوا؛ فإني سأصِفه لكم صفة لَم يَصِفْها إيَّاه نبيٌّ قبلي))؛ والحديث رواه ابن ماجه، وهو في صحيح الجامع.



وعن مراحل ثبات القلوب وزَيْغها أمام الفتن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام أحمد ومسلم: ((تُعرض الفتن على القلوب، كالحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلب أُشربها، نُكِت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنْكَرها، نُكِت فيه نكتة بيضاء، حتى يَصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضرُّه فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مُرْبَادًّا كالكوز مُجخيًا، لا يَعرف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا، إلاَّ ما أُشرِب من هواه))، ومعنى عَرْض الحصير؛ أي: تؤثِّر الفتن في القلب، كتأثير الحصير في جَنْب النائم عليه، ومعنى (مُربادًّا): بياض شديد قد خالَطه سواد، ومعنى (مُجخيًا): مقلوب مَنكوس.



ثانيًا: الثبات في الجهاد:

قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45]، ومن الكبائر في ديننا الفرار من الزحف، وكان - صلى الله عليه وسلم - وهو يحمل التراب على ظَهْره في الخندق يردِّد مع المؤمنين: ((وثبِّتِ الأقدامَ إنْ لاقَيْنَا))؛ والحديث رواه البخاري.



ثالثًا: الثبات على المنهج:

قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23].



مبادئهم أغلى من أرواحهم، وإصرارهم لا يعرِف التنازل.



رابعًا: الثبات عند الممات:

أما أهل الكفر والفجور، فإنهم يُحرَمُون الثبات في أشد الأوقات كُربة، فلا يستطيعون التلفُّظ بالشهادة عند الموت، وهذا من علامات سوء الخاتمة؛ كما قيل لرجل عند موته: قل: لا إله إلا الله، فجعَل يحرِّك رأسه يمينًا وشمالاً، يرفض قولها.



وآخر يقول عند موته: هذه قطعة جيِّدة، هذه مشتراها رخيص، وثالث يذكر أسماء قِطَع الشطرنج، ورابع يُدندن بألحان أو كلمات أغنية، أو ذِكر معشوق؛ ذلك لأن مثل هذه الأمور أشْغَلتهم عن ذِكر الله في الدنيا.



وقد يُرَى من هؤلاء سوادُ وَجْهٍ، أو نَتنُ رائحة، أو صَرْفٌ عن القِبلة عند خروج أرواحهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.



أما أهل الصلاح والسُّنة، فإن الله - سبحانه وتعالى - يوفِّقهم للثبات عند الممات، فيَنطقون بالشهادتين، وقد يُرى من هؤلاء تهلُّل وَجْه، أو طِيب رائحة، ونوْعُ استبشارٍ عند خروج أرواحهم.



وهذا مثال لواحد ممن وفَّقهم الله للثبات في نازلة الموت، إنه أبو زُرعة الرازي - أحد أئمة أهل الحديث - وهذا سياق قصته: قال أبو جعفر محمد بن علي ورَّاق أبي زُرعة: حضَرنا أبا زُرعة بماشهران - قرية من قرى الري - وهو في السَّوْق؛ أي: عند احتضاره، وعنده أبو حاتم، وابن وارَه، والمنذر بن شاذان وغيرهم، فذكَروا حديث التلقين: ((لَقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله))، واستحيوا من أبي زُرعة أن يُلَقِّنوه، فقالوا: تعالوا نذكر الحديث، فقال ابن وارَه: حدَّثنا أبو عاصم، حدَّثنا عبدالحميد بن جعفر عن صالح، وجعَل يقول: ابن أبي، ولَم يجاوزه، فقال أبو حاتم: حدثنا بُندار، حدثنا أبو عاصم، عن عبدالحميد بن جعفر، عن صالح، ولَم يجاوز، والباقون سكتوا، فقال أبو زُرعة - وهو في السَّوْق، وفتح عينيه -: حدَّثنا بُندار، حدثنا أبو عاصم، حدَّثنا عبدالحميد عن صالح بن أبي غريب عن كثير بن مُرَّة عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخَل الجنة))، وخرَجت رُوحه - رحمه الله - كما في سِيَر أعلام النبلاء.



ومثل هؤلاء قال الله فيهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30].



فاللهمَّ اجْعَلنا منهم، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.



كن داعيًا:

قال الله - سبحانه وتعالى - عن نفسه: ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [يونس: 25]، وقال - جلَّ جلاله - واصفًا رسوله - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45 - 46].



وقال - سبحانه وتعالى - عن صفات المفلحين من عباده: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].



فطريق الدعوة طريق رُسِمت في السماء أعلامه، وزَكَت نفوس رُوَّاده، مَيدانه في الأرض، وغايته في السماء، أئمَّته اصطفاهم الله - سبحانه وتعالى - فكانوا خيرَ البشر، ونالوا من الذِّكر والأجر، أسْبَغ الله عليهم سبيل الهداية، فهم بين الدعوة والبلاء، يتلذَّذون بالدعاء، أعلم الناس بالحق، وأحْرَصهم على هداية الخَلق، كلما عَظُم الخَطْب، لَم يشغلهم إلاَّ مَرضاة الربِّ - سبحانه وتعالى.



أسْعَدهم الله في الدنيا، وبشَّرهم بخيرات الآخرة؛ فأجورهم مضاعَفة، وقُرباتهم لا تَنقطع، آثار دعوتهم في الناس أعمال صالحة، تُرفَع إليهم بُكرة وعشيًّا.



فلله كيف منَّ الله عليهم بأعظم مِنَّة، فرفَع درجاتهم بأعمال لا تَنقطع، ووفَّقهم إلى سبيل الدعوة، فحازوا أجورًا لا تَسعها أعمارهم القصيرة.



فيا ابن الإسلام، إن حَداك الشوق إلى هذا السبيل، وأصبَحت أعلامُه في أرجاء نفسك تردِّد: "كن داعيًا"، فإليك كلمات مُوحية، وجُملاً مُعبرة، ومعالِمَ موجَزة عن هذا السبيل؛ عسى أن نكون جميعًا إخوانًا على طريق الدعوة، فاللهم اهْدنا لأحسن الأعمال والأقوال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصَحْبه أجمعين.
يتبع







رد مع اقتباس