عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 31-03-2015, 09:54 PM
abomokhtar abomokhtar غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,687
معدل تقييم المستوى: 29
abomokhtar is just really nice
New


الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فقد اختلف أهل العلم في معنى الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض ومقدار هذه الأيام؛ فمنهم من قال: هي أيامٌ كأيام الدُّنيا، ومنهم مَن قال: إن تلك الأيامَ مقدارُها ستةُ آلافِ يومٍ، وهذا مرويٌّ عن ابن عباسٍ، ومجاهدٍ، والضحاكِ، واختاره ابن جريرٍ الطبريُّ؛ كما في "تفسيره" (12/ 482):
"قال مجاهد: "بدءُ الخلق: العرشُ، والماءُ، والهواءُ، وخُلِقت الأرضُ من الماء، وكان بدءُ الخلق يومَ الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وجُمع الخلق في يوم الجمعة، وتهوَّدت اليهودُ يوم السبت، ويومٌ من الستة الأيام كألف سنة مما تعدُّون".
ومنهم من توقَّف في مقدار هذه الأيام؛ لأنه لم يأتِ نصٌّ قاطعٌ في تحديد مقدارها؛ لأن الزمان هو نسبة الحوادث إلى بعضها؛ كما ذكر ابن القيم - رحمه الله - فالأيام في الدنيا مقدرةٌ بحركةِ الشمس والقمر، ولم تكن الشمسُ ولا القمرُ موجودين قبل خلْق السموات والأرض، حتى يُصار إلى التقدير بهما.

قال ابن كثير في "تفسيره" (3/ 426):
"والستة الأيام هي: الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، وفيه اجتمع الخلقُ كلُّه، وفيه خُلِقَ آدم - عليه السلام - واختلفوا في هذه الأيام: هل كلُّ يومٍ منها كهذه الأيام، كما هو المتبادر إلى الأذهان؟ أو كلُّ يومٍ كألف سنة، كما نص على ذلك مجاهد، والإمام أحمد بن حنبل؟".

وقال البغوي في "تفسيره" (3/ 235):
"أراد به في مقدار ستة أيام؛ لأن اليوم من لدنْ طلوع الشمس إلى غروبها، ولم يكن - يومئذٍ - يومٌ، ولا شمسٌ، ولا سماءٌ، قيل: ستةُ أيامٍ كأيام الآخرة، وكلُّ يوم كألف سنة، وقيل: كأيام الدُّنيا، قال سعيد بن جبير: كان الله - عز وجل - قادرًا على خلق السموات والأرض في لمحة ولحظة، فخلقهن في ستة أيام؛ تعليمًا لخلقه التثبُّت والتأني في الأمور، وقد جاء في الحديث: ((التأني من الله، والعجلةُ من الشيطان))".

وقال ابن عطية في "تفسير المحرر الوجيز" (ج3 ص152):
"قال أكثرُ أهل التفسير: الأيامُ هي من أيام الدُّنيا".

وقال الشوكاني في "تفسيره" (ج2ص482):
"ولا يستقيمُ أن يكون المرادُ بالأيام - هنا - الأيامَ المعروفةَ؛ لأنه لم يكن - حينئذٍ - لا أرضٌ، ولا سماءٌ".

وقال الألوسي في "ما دل عليه القرآن" (ج1ص46):
"المفسرون قالوا: المراد ُبالأيام: الأوقاتُ".
فالتعبيرُ - إذًا - تمثيلٌ؛ والمراد أزمنةٌ متتابعةٌ كالأيامِ، تميِّزها ثلاثُ مراحل، وأما إتيانُ الأرض وما يحيط بها، فهو مشهدٌ يكشف تلازُم حركةِ الجوِّ مع الكوكب، وَفق تقديرٍ بعد مرحلة معدومة التلازم؛ مما يعني تَبَدُّد الكثير من الجوِّ، وتلك حقيقةٌ علميةٌ باهرةٌ جسَّدها التعبيرُ بالتصوير، وترتيبُ الأحداث مطابقٌ - تمامًا - لما كشَفه العلمُ؛ كما في قوله - تعالى -: ﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾ [النازعات: 27 - 33].
أمَّا الحكمةُ من خلق السموات والأرض في كل هذه المدة - وكان الله قادرًا أن يخلقها في لحظة - فمنها: أن الله - عز وجل - أرادَ أن يؤدِّب عبادَه؛ فخَلَقَ السمواتِ والأرضَ في ستة أيام؛ ليعظ عباده، وليعلمهم التأني، والتثبُّتَ في أمورهم؛ فإن الإنسان مجبولٌ على العجلة، فأراد الله - عز وجل - أن يضع له مثالًا يظهر فيه التأني والتثبُّت؛ حتى يكون ذلك أدعى للمخلوق بأن يتأنى ويتثبت؛ ولذلك كان من عجيب الإشارات في كتاب الله - عز وجل - أنه لما ذكر خلق السموات والأرض في سورة الأنبياء؛ كما قال - تعالى -: ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنبياء: 30]، ثم ساق - جل وعلا - تفصيلَ شيءٍ من ذلك - قال - جل وعلا - بعدها: ﴿ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ﴾ [الأنبياء: 37].
فبيَّن - جل وعلا - للإنسان لشدة عَجَلتِهِ كأنه خُلِقَ من مادةِ العَجَلة نفسِها؛ كما قال في موضع آخر: ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ﴾ [الإسراء: 11]، فهذا فيه إشارةٌ وتعليمٌ للعباد في الرفق، والتثبُّت، والتأني في الأمور.
ومن عظيم الحِكَم في هذا أن الله - جل وعلا - أراد إظهار عَظَمَة خَلْقِه؛ فإن خلْقَ الشيءِ شيئًا بعد شيء أوقعُ في النفس، وأعوَنُ لها على التدبُّر؛ فإنها قد يأتيها من عظيم الخِلْقة ما قد يبهرُها، ويجعلها حائرةً لا تستطيعُ إدراك ذلك، فإن جاءها الأمرُ متدرِّجًا على هذا النحو، حَصَلَ لها من التعظيم والفهم ما لا تحصِّله دفعة واحدة، ومن ذلك الحكمة العظيمة - ونود أن تنتبه لها انتباهًا عظيمًا - وهي أن الله - جل وعلا - تارةً يُظْهِرُ قدرته، فيخلُق الشيءَ دفعة واحدة، ولو كان عظيمًا جليلًا، وتارةً يريد أن يُظهِر حكمته، فيخلقه متدرِّجًا؛ درجةً درجةً، فالحكيمُ يختارُ إظهار هذا مرةً، وذاك مرةً أخرى، وكلُّ ذلك يُتَمِّمُ المعنى الذي يَظهَر لك.
ومن هذا المعنى الإشارةُ إلى الإمهال، وأن الله - عز وجل - يُمهِل خلقَه، فكما أنه - جل وعلا - قد خلق هذا الخلقَ متدرِّجًا؛ يومًا بعد يوم، فكذلك هو يُمهِلهُم، ويضع لهم الآجال، فيفتح بابَ التوبة للمنيب، ويُعذِر للكافر من الحكم الجليلة العظيمة، التي لو تأمل فيها الإنسانُ، لانبَهَرَ من عظيم حكمته - جل جلالُه.

قال الشيخ عبدالعزيز بن باز:
"ذكر العلماءُ - رحمهم الله - أنه خلَقَها في ستة أيام؛ ليُعَلِّم عباده عدمَ العَجَلة، وأن يتدبروا الأمور ويتعقَّلوها، فربُّهم الذي يعلم كلَّ شيء، وهو القادر على كل شيء، لم يَعْجَل في خلق السموات، ولا في خلق الأرض، بل جَعَلَها في ستة أيام، ولم يعْجَل في خلق آدم، ولم يعْجَل في خلق الأشياء الأخرى، بل نَظَّمها ودبَّرها أحسنَ تنظيم، وأحسنَ تدبير، ليُعَلِّم عباده التريُّثَ في الأمور، وعدم العجلة في الأمور، وأن يعْمَلوا أمورهم منظمةً، موضحةً، تامةً، على بصيرةٍ، وعلى علمٍ، من دون عجلةٍ وإخلالٍ بما ينبغي فيها، وهو - سبحانه - مع كونه قادرًا على كل شيءٍ، وعالمًا بكل شيء، مع ذلك لم يعْجَل، بل خلقها في ستة أيام، وهو قادرٌ على خلقها في لمحةٍ، أو دقيقةٍ؛ ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82] - سبحانه وتعالى - فجعلها منظمةً، مدبرةً في أيام معدودات؛ ليُعَلِّم عباده كيف يعملون، وكيف ينظمون أمورَهم، وكيف يتريَّثون في الأمور ولا يعْجَلون؛ حتى تنتظِم مصالِحُهم، وحتى تستقيمَ أمورُهم على طريقةٍ واضحةٍ، وطريقةٍ يطمئنُّون إليها، فيها مصالِحُهم، وفيها ما ينفعُهم، ويدفعُ الضرَرَ عنهم.
وقد أشار الله - سبحانه - إلى هذا المعنى في آيات؛ قال - عز وجل -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [هود: 7]، فأخبَرَ أنه خلقها هكذا؛ ليبلونا، وليختبرنا، أيُّنا أحسنُ عملًا، وأتقنُ عملًا، وأكملُ عملًا؛ فالعَجِلُ الذي لا يتدبر الأمور قد يُخِل بالعمل، فالله خلقها في ستة أيام؛ ليبتلي العباد بإتقانِ أعمالهم، وإحسانِ أعمالهم، وعدم العَجَلة فيها؛ حتى لا تختلَّ شؤونهم ومصالحهم؛ ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [هود: 7]، قال - سبحانه -: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 7]، وجَعَل ما على الأرض من جبالٍ وأشجارٍ، ونباتٍ، وحيواناتٍ، ومعادنَ، وغيرِ ذلك؛ ليبلوَ العباد؛ ليختبرهم أيُّهم أحسنُ عملًا في استخراج ما في هذه الأرض، والاستفادةِ من ذلك، والانتفاعِ بذلك، وقال - سبحانه -: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2].
ففي هذه الآيات وما جاء في معناها؛ الدلالةُ على أنه - سبحانه - خلق هذه الأشياء بهذا التنظيم، وبهذه المدة المعيَّنة؛ ليبلوَ عباده، ويختبرَهم أيُّهم أحسنُ عملًا، ما قال: أكثرُ عملًا، قال: أحسنُ؛ فالاعتبارُ بالإتقانِ، والإكمالِ، والإحسانِ، لا بالكثرةِ"؛ اهـ.
ولْتعلمْ - رعاكَ الله - أن الإحاطة بحكمة الله الكاملة لا سبيلَ إليها، ولا ينبغي للإنسان أن يدَّعيَها؛ وإنما غايةُ المرادِ أن نتلَمَّس من حِكَمِ الله - عز وجل - في هذا الأمر.


__________________