الفصل الأول
ثقافة العصر الحجري القديم
الغاية من دراسة ما قبل التاريخ - فتنة الدراسة الأثرية
إننا في حديثنا السابق ، لن نلتزم الدقة في الحديث ، فهذه الثقافات البدائية التي عرضناها كوسيلة لدراسة عناصر المدنيَّة ، لم تكن بالضرورة الأصول التي تفرعت عنها مدنيَّتنا ؛ فليس ما يمنع أن تكون بقايا متحللّةً لثقافات أعلى تدهورت حين تحركت زعامة البشر في إثر الثلوج التي كانت تنزاح عن صدر الأرض ، فانتقلت من المدارين إلى المنطقة الشمالية المعتدلة ، ولقد حاولنا أن نفهم كيف تنشأ المدنيَّة بصفة عامة وكيف يتم تشكيلها ؛ ولا يزال أمامنا أن نتعقب أصول مدنيتنا الخاصة فيما قبل التاريخ ، ونحب الآن أن نبحث بحثاً موجزاً - لأن مجال هذا البحث لا يمس أغراضنا إلا من هوامشها - فنتعقب الخطوات التي خطاها الإنسان قبل التاريخ ، ليمهد السبيل إلى المدنيَّة التي عرفها التاريخ ؛ كيف أصبح إنسان الغابة أو إنسان الكهف هو المعماري المصري ، أو الفلكي البابلي ، أو النبي العبري ، أو الحاكم الفارسيّ ، أو الشاعر اليوناني ، أو المهندس الروماني ، أو القديس الهندي ، أو الفنان الياباني ، أو الحكيم الصيني ؛ لا بد لنا أن نسلك سبيلنا من علم الأجناس البشرية - عن طريق علم الآثار - لننتهي إلى التاريخ .
إن الباحثين ليملأون بطاح الأرض كلها ينقبونها بحثاً : طائفة تريد الذهب ، وطائفة تريد الفضة ، وثالثة تنشد الحديد ، ورابعة تسعى وراء الفحم ، وكثيرون إلى جانب هؤلاء يطلبون المعرفة ؛ فيالها من مهمة عجيبة هذه التي يضطلع بها مَن يستخرجون آلات العصر الحجري من جوف الأرض عند ضفاف السوم ، ويدرسون بأعناق مشرئبة الصور الناصعة المرسومة على أسقف الكهوف من عهد ما قبل التاريخ ، ويخرجون جماجم قديمة من مدافنها عند "تشوكوتين" Chou Kou Tien ويكشفون عن المدائن الدفينة في "موهنجودارو" Mohengo-daroأو "يقطان" Yucaton ؛ وينقلون الأنقاض في سلال تحملها القوافل في مقابر المصريين التي استنزل أصحابها اللعنة على نابشيها ، وينفضون التراب عن قصور "مينوس" و "بريام" ويزيلون الغطاء عن "برسوبوليس" ويحفرون الأرض في إفريقية حفراً ليجدوا بقية من قرطاجنة ، وينقذون من ثنايا الغابات معابد "أنجور" العظيمة ! لقد عثر في فرنسا "جاك بوشيه دي برت" في سنة 1839 على أول أثر من الصوّان مما خلَّفه العصر الحجري ؛ ولبث العالم يسخر منه تسعة أعوام كاملة ، لأنه كان في رأي العالم عندئذ مخدوعاً ؛ وفي سنة 1872 أزال "شليمان"- بماله الخاص ، ويوشك أن يكون قد أعتمد على يديه دون غيرهما في ذلك - أزال التراب عن أحداث مدائن طروادة وإنها لكثيرة ؛ لكن العالم كله ابتسم له ابتسامة المرتاب ؛ ولعل التاريخ لم يشهد من قرونه قرناً اهتم أهله بالتاريخ كالقرن الذي تلا رحلة شامبليون الشاب في صحبة نابليون الشاب إلى مصر (عام 1798) وعاد نابليون من رحلته خالي الوفاض ؛ أما شامبليون فقد عاد وفي قبضته مصر بأسرها ، ماضيها وحاضرها ؛ ومنذ ذلك الحين ، أخذ كل جيل يستكشف مدنيات جديدة وثقافات جديدة ، ويرجع خطوة وراء خطوة بحدود معرفة الإنسان لتطوره ؛ فلن تجد جوانب كثيرة من حياة هذا النوع البشري السافك للدماء ، أجمل من هذا الشغف الشريف بالاستطلاع ، هذه الرغبة القلقة المغامرة في سبيل العلم .