التاريخ العلمي لجامع السلطان حسن
أوقف السلطان حسن الجامعَ، وألحق به أربع مدارس لتدريس المذاهب الفقهية، وجعل لكل مذهب منها شيخًا ومائة طالب من كل فرقة 25 متقدمون، وثلاثة معيدون، ورتب لكل شيخ 300 درهم في الشهر، ولكل معيد 100 درهم، ولطلبة كل مذهب أربعة آلاف ومائتين وخمسين درهمًا شهريًّا.
وكان يصرف لكل طالب وجبة يومية وكسوة سنوية، وكانت هناك رعاية صحية للطلاب والمدرسين، حيث رتَّب السلطان حسن طبيبًا يباشر معالجة الطلاب والدارسين.
والداخل إلى المدرسة الحنفية القديمة في مدرسة السلطان حسن سيقابله الإمام العلامة نور الدين الحنفي الذي كان يُعرف بجامعة المذاهب الفقهية.
كما سيرى الداخلُ ميزانَ العدل الذي أسسه قاضي القضاة شرف الدين بن أبي العز الحنفي الأذرعي -نسبة إلى أذرعات، وهي اليوم مدينة "درعا" في الجنوب السوري- المتوفَّى سنة (792هـ) والذي نشأ بدمشق، وتفقه بها على علماء عصره، وبرع في الفقه والأصول والعربية والمعاني والبيان، وتصدَّر للإفتاء والتدريس والإقراء عدة سنين، ونزل القاهرة بعد موت قاضي القضاة صدر الدين محمد بن التركماني الحنفي لِيَلي القضاء بها عوضه، ونزل بمدرسة السلطان حسن ودرس فيها.
وإذا دخلت إلى المدرسة المالكية فإنك ستلاحظ زاوية الشيخ العلامة تاج الدين "أبو البقاء الدميري القاهري (805هـ)" من كبار فقهاء المدرسة المالكية بمصر.
كما ستتضح أمامك الجهود العظيمة للإمام العلامة اللغوي بدر الدين القرافي (ت 1008هـ) قاضي المالكية في مصر وشيخهم، وهو صاحب المصنفات ومنها: "القول المأنوس بتحرير ما في القاموس"، وغيرها. كما لا يخفى عليك التراث العلمي العظيم الذي تركه الإمام العلامة علي بن خضر بن أحمد العمروسي (1173هـ) من كبار فقهاء مدرسة المالكية في مصر.
وأما العلامة بدر الدين الكرخي الشافعي نزيل مصر المتوفى سنة 1007هـ، فكان يحاول أن يجدد كتب المذهب الشافعي في هذه المدرسة، ويقدم عليها شروحًا ليثري المذهب، وهو صاحب الحاشية الشهيرة "مجمع البحرين ومطلع البدرين على تفسير الإمامين الجلالين"، كما تظهر جلية الآثار العلمية للإمام الخطيب تاج الدين الزبيري أبو عبد الله المليجي الشافعي مولده بالقاهرة وسمع من علمائها، وحدَّث بها، ووَلِي نظر الحسبة بالقاهرة وخطب بمدرسة السلطان حسن، وكان خيّرًا صالحًا منقبضًا عن الناس، مات في صفر سنة 796هـ.
وللحنابلة وجودهم في مدرسة السلطان حسن، فمن أعلامها المشهورين سواء بمصنفاته أو بجهوده العلمية، العالم الجليل الذي كان يلقب بابن قاضي الجبل وهو أحمد بن الحسن بن عبد الله بن قدامة شيخ الحنابلة في عصره، صاحب كتاب (الفائق) في فروع الفقه، ذهب في آخر حياته إلى دمشق وتولى القضاء فيها حتى وفاته سنة (771هـ).
كما نزل في مدرسة الحنابلة بجامع السلطان حسن ودرَّس فيها العلامة محمد بن سالم بن عبد الرحمن المفتي، حيث كان مقيمًا بالشام ثم توجه إلى مصر واستقر فيها حتى وفاته سنة (777هـ).
ويذكر أن علماء المدارس الأربعة كانوا يقرءون القرآن من الصباح إلى الظهر في داخل قبة المدرسة، وكان من شروط الشيخ المقرئ أن يكون ملمًّا بالقراءات السبع.
وكان تخريج الطلاب في هذه المدارس يتم عن طريق الإجازات، حيث يجلس خمسة أو ستة مشايخ كبار في الحديث وواحد في التفسير وواحد في القراءات وواحد في الفقه من كل مذهب، وكل واحد يلقي مسألة وتبدأ المناظرة بينه وبين الطالب.
الدور الخطير ومحاولة الهدم
أدى الموقع المتميز لجامع السلطان حسن دورًا خطيرًا في تاريخ مصر، فكان إذا ما حدثت ثورة أو فتنة بين الأمراء والسلطة الحاكمة تكون القلعة هي الشغل الشاغل للثوار في محاولة للسيطرة على مقر الحكم بالقلعة، ومن ثَمّ كان جامع السلطان حسن هو الطريق إلى تحقيق هذه الغاية، فكثيرًا ما اعتلى الثوَّار سطح الجامع ونصبوا مجانيقهم لضرب القلعة وهدمها على مَن فيها مثلما حدث في عصر السلطان برقوق عام 791هـ حين نصّب الثوار المؤيدون لبيت أسرة قلاوون المِكحلة على سطح الجامع، وضربوا القلعة، وأدى ذلك إلى عزل السلطان برقوق؛ ولهذا بادر عند عودته للسلطنة مرةً ثانيةً بهدم السلالم الموصلة لسطح الجامع، وسدّ الباب الرئيسي للجامع، وفتح بدلاً منه شبَّاكًا على ميدان القلعة ليكون بابًا للدخول إلى الجامع.
ثم أعاد السلطان الأشرف برسباي ترميم سلالم الجامع، وسمح بالآذان من مآذنه، وأصلح الباب الرئيسي وذلك سنة 825هـ، ولكن عاود الأمراء الثوار سنة 842هـ الهجوم على القلعة مقر الحكم من سطح الجامع، فأمر السلطان جقمق آنذاك بهدم السلالم الموصلة لسطح الجامع. وفي عام 902هـ في عهد الناصر محمد بن قايتباي حوصرت القلعة من جامع السلطان حسن، وضربت من أعلاها وردّت السلطة الحاكمة من القلعة وضُرب الجامع، وتعرض للتخريب، إلا أن الأمير طومان باي أصلح ما حدث من تخريب به.
وحاول الأشرف جنبلاط هدم جامع السلطان حسن بالكليّة؛ حتى لا يستخدمه الثوار لضرب القلعة، ولكنه لم يستطع أن ينقب إلا جزءًا يسيرًا منها خلف المحراب، ومن ثَمَّ أوقف الهدم. فلله الحمد والمنة.
وبعد هذه الأحداث الجسام التي مرَّت على هذا الجامع على مرّ الأيام إلا أنه لا يزال حتى اليوم من الحصون العلمية المنيعة في أرض الكنانة، كما أنه مقصد من مقاصد السياحة لما يتمتع به من عراقة التاريخ وحسن البناء وفخامة المنظر والهيبة.