ما أروع سيرتك يا خير البرية!
ثم يقول عدي بن حاتم: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعدي بن حاتم، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، ثَلَاثًا».. قُلْتُ: إِنِّي عَلَى دِينٍ.. قَالَ: «أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ».. فَقُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِدِينِي مِنِّي؟..! قَالَ: «نَعَمْ، أَلَسْتَ مِنَ الرَّكُوسِيَّةِ؟ وَأَنْتَ تَأْكُلُ مِرْبَاعَ قَوْمِكَ؟» قُلْتُ: بَلَى.. قَالَ: «فَإِنَّ هَذَا لا يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ»، قَالَ: فَلَمْ يَعْدُ أَنْ قَالَهَا فَتَوَاضَعْتُ لَهَا. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَمَا إِنِّي أَعْلَمُ مَا الَّذِي يَمْنَعُكَ مِنَ الْإِسْلَامِ؛ تَقُولُ: إِنَّمَا اتَّبَعَهُ ضَعَفَةُ النَّاسِ، وَمَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ، وَقَدْ رَمَتْهُمُ الْعَرَبُ. أَتَعْرِفُ الْحِيرَةَ؟».. قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا، وَقَدْ سَمِعْتُ بِهَا. قَالَ: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ، حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَيَفْتَحَنَّ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ»، قُلْتُ: كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ؟..!! قَالَ: «نَعَمْ، كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، وَلَيُبْذَلَنَّ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ» !!
هكذا وفي بساطة شديدة قَبِل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القائد الكبير، والزعيم المعروف، في صفوف المسلمين، ولم يقل في نفسه لعله يحرِّك جموعَ طيئ ضد الإسلام، ولم يذكر حربه للمسلمين، ولا كرهه لهم، إنما تعامل معه في منتهي الحلم والرفق والتقدير..
وقد قال عديٌّ رضي الله عنه بعد ذلك: فَهَذِهِ الظَّعِينَةُ تَخْرُجُ مِنَ الْحِيرَةِ فَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارٍ، وَلَقَدْ كُنْتُ فِيمَنْ فَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةُ؛ لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَهَا!!
ثانيًا: أخلاقه صلى الله عليه وسلم مع عبد ياليل بن عمرو زعيم قبيلة ثقيف:
وهذه - والله - شخصية عجيبة، ما توقَّع أحدٌ قطُّ أن يُحْسِنَ إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد تركت هذه الشخصية جروحًا عميقة في نفسه صلى الله عليه وسلم لعدة سنوات، بل إنه عندما أتى للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأته راغبًا في الإسلام كما أتى الآخرون، إنما جاء يجادل ويناور!!
إنها شخصية من أهم الشخصيات في الجزيرة العربية بكاملها!! إنه عبد ياليل بن عمرو الثقفي.. زعيم قبيلة ثقيف المشهورة!! وتاريخه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد السواد!!
وتبدأ قصته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أُغْلِقَتْ أبوابُ الدعوة في مكة بعد وفاة أبي طالب عمِّ النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مدينة الطائف؛ ليدعو قبيلة ثقيف إلى الله، لعلها تقف موقفًا مشرِّفًا معه، فالتقى مع زعماء ثقيف، وكانوا ثلاثة على رأسهم "عبد ياليل بن عمرو"، وعرض عليهم الأمر، فوجد منهم ما لم يتخيله من الجحود والإنكار والصد عن سبيل الله، بل وجد منهم السخرية والاستهزاء والاستخفاف- كما مرَّ بنا - حتى قال زعيمهم "عبد ياليل بن عمرو": إنه ليمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسله !! ثم كان من هذا الزعيم وأصحابه ما يَعرف الجميع من حثٍّ للغلمان والسفهاء أن يطاردوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه زيد بن حارثة رضي الله عنه بالحجارة والسباب، حتى أخرجوهما تمامًا من منطقة الطائف..
إن هذا الموقف السفيه لمن أشدِّ مواقف الدعوة ألمًا على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وظلَّ الوضع على هذه الصورة القاتمة لسنوات متصلة.. فلم يؤمن أحد من ثقيف إلا قليل القليل، بل لعلَّه لم يؤمن منهم قبل الفتح إلا الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
وفي العام الثامن من الهجرة قامت ثقيف بالتحالف مع هوازن لتكوين حزب ضخم يهدف إلى استئصال المسلمين، وذلك في غزوة حنين، ولكنهم هُزِموا بفضل الله، وبعد هزيمتهم فرَّت جيوشهم إلى حصونهم في الطائف، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لمدة شهر كامل، ولكنه لم يقدر على إخراجهم من الحصون، ومن ثم غادر المنطقة دون أن يفتح الطائف.. وكانت هذه صدمة للصحابة رضي الله عنهم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم هَوَّنَ عليهم الأمر، بل دعا لثقيف بالهداية كما تقدم بنا في هذا البحث. ولكن تفاقم أمر ثقيف عندما قَتَلت زعيمَها عروة بن مسعود رضي الله عنه، عندما أسلم ودعاهم إلى الإسلام، فأثَّر ذلك جدًا في رسول الله صلى الله عليه وسلم..
ومرَّت الأيام، وفي رمضان من العام التاسع من الهجرة وجدت قبيلة ثقيف أن قوة المسلمين أصبحت هي القوة الأولى في الجزيرة العربية، وبخاصة بعد فرار الجيوش الرومانية منها في تبوك، ففكَّرت أن تأتي المدينة لتبايع على الإسلام!! وكان واضحًا من كلامهم وترتيبهم أنهم ما جاءوا حُبًا للإسلام، ولا اقتناعًا به، ولكن لرؤيتهم أنهم لا طاقة لهم بحرب المسلمين، ومن ثَمَّ كوَّنوا وفدًا يُحاور ويفاوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليصل معه إلى أفضل ما يمكن أن يصلوا إليه، وجعلوا على رأس هذا الوفد "عبد ياليل بن عمرو" الزعيم القديم الذي سَخِرَ في يومٍ ما من رسول الله صلى الله عليه وسلم سخريةً شديدة، ولكن دارت الأيام دورتها، وجاء زعيم ثقيف منكسرًا أمام الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، الذي مُكِّن له في الأرض، وأصبح في مركز القوة..
وبرغم كل هذا التاريخ الأسود استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف - وعلى رأسه "عبد ياليل" - خير استقبال، ولم يُذَكِّرْهُمْ بماضيهم أبدًا، ولم يقل لهم شيئًا عن سخريتهم منه يوم ذهب إليهم صلى الله عليه وسلم طالبًا نصرتهم، ولم يقل: هذه بتلك، أو: اليومَ باليومِ الذي سخرتم فيه مني.. بل قابلهم صلى الله عليه وسلم بالترحاب وبالبسمة وبالكرم وبالضيافة وبالهدية.. بل جلس معهم يستمع لمفاوضاتهم ومقترحاتهم التي كانت في غاية السفاهة، ومع ذلك لم ينفعل عليهم، أو يغضب منهم، بل ناقشهم في هدوء، وتكلَّم معهم في رَويَّة!!
لقد طلبوا أن يُسْلِموا ولكن بشروط منها: أن يأذن لهم في الربا والزنا وفي الخمر، وأن يُعْفَوْا من الصلاة، وأن تُتْرَكَ لهم اللات دون أن تُكسر.. !!
لقد كانت مطالب سفيهة تدل على عدم فقهٍ لمعنى الإسلام، ومع سفاهة تلك المطالب إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفقد أعصابه أو يتركهم، إنما أخذ يُفَسِّرُ لهم ويشرح، ورفض مطالبهم هذه في منتهى الأدب، وبأسلوب يَغْلِبُ عليه الرفق واللين، وكان يُحاورهم كل ليلة بعد صلاة العشاء، ويُكثر من الحديث معهم، وكان قد ضرب لهم قُبَّة (خيمة) في المسجد النبوي تكريمًا لهم، وتعظيمًا لقَدْرِهِم.. هذا مع أنهم لم يُسلموا بعد..
وفي نهاية الأمر، قَبِلَ وفد ثقيف بالإسلام كاملاً دون انتقاص ولا تفريط، ودخلت بعد ذلك قبيلة ثقيف في الإسلام، وكانت من أكثر الناس ثباتًا على الإسلام حتى في زمان الردة..
وليس من شكٍّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو سلك معهم مسلكًا عنيفًا، أو أظهر فيهم تشفيًا وشماتة لكانت حالهم غير هذه الحال، ولأصبحوا حَجَرَ عَثْرَةٍ في طريق الأمن والأمان في الجزيرة العربية كلها، ولكنه صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا ما دأب على تذكيرنا به حين قال: "إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ".
ولقد رأينا الخير الواسع الذي عمَّ الجزيرة بكاملها، بل عمَّ العالم بهذا النهج الذي انتهجه في التعامل مع الناس، وفي التعامل مع المخالفين له، والمعترضين عليه، والطاعنين فيه، والساخرين منه، وقد صدق صلى الله عليه وسلم حين وصف قيمة الرفق بقوله المختصر المبدع: "من يُحرَم الرفق يُحرَم الخير".
وصلِّ اللهم وسلِّمْ وبارِكْ على مَنْ عَلَّمَ الناسَ الخيرَ، وهَدَاهم إلى الرُّشد.. رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلِّم.
المصدر: كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية) للدكتور راغب السرجاني.
__________________
فكري إبراهيم الكفافي
مدير التعليم الابتدائي
بإدارة الجمالية التعليمية
دقهلية
أمين اللجنة النقابية للمعلمين
|