الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
ما هي البلاد التي فتحها الربيع بن زياد الحارثي, وما اسم القائد الذي شاركه في فتح هذه البلاد, وما هي المكافأة التي كافأ بها الربيع هذا القائد ؟
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الرابع عشر من دروس التابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، والتابعيّ اليوم هو ربيعة الرأي .
تبدأ قصة هذا التابعي في السنة الواحدة والخمسين للهجرة، وكتائبُ المسلمين تضرب فجاجَ الأرض مشرِّقةً مغرِّبةً، حينما نفَّذ المسلمون قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾
[سورة التوبة الآية: 123]
إلى أن عمَّ الهدى بقاعَ الأرض، لقد كان المسلمون رعاةً للبقر، فأصبحوا قادةَ الأمم، وحينما انكمشوا وآثروا الراحة والسكون غُزُوا في عقر دارهم، فكتائب المسلمين في السنة الواحدة والخمسين للهجرة كانت تغزو مشارق الأرض ومغاربها، وتحمل للإنسانية العقيدة البانية، وتمدّ إليها المصلحة الحانية، وتجعل الولاءَ وحده لله تعالى .
والصحابي الجليل الربيع بن زياد الحارثي أمير خراسان، وفاتح سجستان، والقائد المظفر، يمضي على رأسِ جيشه الغازي في سبيل الله، ومعه غلامه الشجاع فروخ .
هذا الصحابي الجليل عزم بعد أن أكرمه الله بفتح سجستان وغيرها من الأصقاع أن يختم حياته الحافلة بعبور نهر سيحون، ورفع رايات التوحيد فوق ذرا تلك الأصقاع، والتي كانت تسمى وقتها بلاد ما وراء النهر .
فهل من عمل أعظم من أن تنشر الهدى في الأرض؟ نحن هنا في الشام لولا سيدنا خالد ما كنا مسلمين في شمال هذه البلاد، وسيدنا عمر جاءه رسول عامله على أذربيجان، فمن يحكم أذربيجان في عهد عمر؟ عمر، من عاصمة المدينة النبوية، وهي إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي، وكان سيدنا عمر عملاق الإسلام قد وصلتْ فتوحاتُه إلى أذربيجان .
فهذا الصحابي الجليل أراد أن يفتح بلاد ما وراء النهر، فأعدّ للمعركة الموعودة عدتها، واتخذ لها أهبتها، وفرض على عدوه زمانها ومكانها فرضاً، ودائماً الأمم الضعيفة والمخذولة تُفرَض عليها المعاركُ فرضاً، تُفرض عليها أمكنتُها وأزمنتُها وأسلحتُها، لكن الأممَ الظافرةَ تفرض على أعدائها المكانَ والزمانَ والسلاحَ، ولما نشَبَ القتالُ أبلى هذا القائد الربيع وجنده بلاءً ما يزال يذكره التاريخ بلسان نديٍّ بالحمد، لطيف بالإكبار، وأظهر غلامه فروخ في ساحات الوغى من ضُروب البسالة، وصنوف الإقدام ما زاد الربيع إعجابًا به، وإكباراً له ، وانجَلَت المعركة عن نصر مؤزَّرٍ للمسلمين، فزلزلوا أقدامَ عدوهم، ومزّقوا صفوفه، وفرّقوا جموعه.
أخواننا الكرام, كلمة حق؛ المعركة بين حق وباطل قصيرة جداً، لأن الله مع الحق، والمعركة بين حقين لا تكون، بل هي مستحيلة، والمعركة بين باطلين تدوم كثيراً، فبين حقين مستحلية، وبين حق وباطل قصيرة، وبين باطل وباطل طويلة، لأن الله مع المؤمنين، وأكبر دليل المسلمون فتحوا الأندلس، فلما مالوا للراحة والغناء والموشحات والجواري أُخرِجوا منها ، وكان آخر ملك خرج من الأندلس اسمه: عبد الله الصغير، وقد قالت له أمه عائشة:
ابكِ مثلَ النساء مُلكاً مُضاعاً لم تحافظْ عليه مثلَ الرِّجال
فهناك قوانين، إذا كنتَ مع الله كان الله معك، وإذا أردتَ نشر الهدى يعينُك الله، إذا أقمتَ شرعَ الله يحفظك الله .
ثم عبَروا النهر الذي كان يحول دونهم ودون الانسياح في بلاد الترك، ويمنعهم عن الاندفاع نحو أرض الصين، والإيغال في مملكة الصغد، فلما اجتازوا النهر وصلوا إلى معاقل الأتراك في أصل موطنهم، وإلى بلاد الصين، وامتدَّت الفتوحات إلى أقصى المشرق، وما إِنْ عبَر القائدُ العظيمُ النهرَ، واستقرَّتْ قدماه على ضفته الثانية, حتى بادر وتوضأ هو وجنوده من مائه، فأحسنوا الوضوء، واستقبلوا القبلة، وصلوا ركعتين شكراً لله واهب النصر .
أخوانا الكرام, إذا حققتَ إنجازَ في الحياة، وتزوجتَ زوجةً صالحةً، وتوظَّفتَ، أسَّستَ عملاً، فقد أُزِيلَتْ عقبة، وانحلتْ عقدة، وزال خطر، وتبدَّد شبح المرض، وأثبت التحليلُ أنَّ الجسمَ سليمٌ، والنبي علّمنا أن نصلي لله ركعتي الشكر، فطبِّقْ هذه السنة كلما حققت إنجازاً، أو ارتقيت مكانة، أو نلت مكسباً، أو وصلت إلى هدف، أو زال من أمامك عقبة، أو تبدّد شبح مصيبة، بادرْ إلى صلاة الشكر، فلها معانٍ كثيرة، أنت موحِّد، ولن تغفل عن فضل الله، ولن تعزو أمرًا إلى بَشَرٍ، ولن تشرك، فأنت وفيٌّ لمَن أنعم عليك, قال تعالى:
﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾
[سورة إبراهيم الآية: 7]
فهذا القائد الربيع بعد أن عبر النهر، وفتح هذه البلاد, توضأ من ماء النهر هو وجنوده، وصلَّوا لله ركعتان, شكرًا على نعمة النصر، ثم كافأ هذا القائد غلامه فروخاً على حسن بلائه فأعتق رقبته، وأصبح حراً، وأعطاه نصيبَه من الغنائم الكثيرة الوفيرة، ثم زاده من ماله الخاص شيئاً كثيراً، ولم تَطُلْ حياةُ هذا الصحابي الجليل كثيرا، إذْ وافاه الأجلُ المحتومُ بعد سنتين اثنتين من تحقيق حلمه الكبير، فمضى إلى ربه راضياً مرضياً .
أخوانا الكرام, واللهِ إني لكم لناصح: إنّ الدنيا تافهة، ولا قيمة لها، فقد أوحى ربك إلى الدنيا أنه مَن خدمك فاستخدميه، ومَن خدمني فاخدُميه، واللهِ ليس في الدنيا إلا عمل يرضي اللهَ، هذا الذي يموت، وقد أرضى اللهَ قبل أن يموت، فهذا لم يَمُتْ .
أنا زرت قبل أيام رجلاً له باع طويل في تعليم القرآن، منذ خمسين عاماً وهو يعلِّم كتاب الله، أُصيب بمرض عضال، قلت لأولاده: واللهِ ليست هذه مصيبة، المصيبة أن يُمْضِيَ الإنسانُ أيامَه بالمعاصي، ثم يأتيه مرض عضال، ماذا يفعل؟ انتهى، المصير واضح، لكن هذا الإنسان أمضى حياته في طاعة الله، وفي الدعوة إليه، وفي خدمة الخلق, وطلب العلم وتعليمه ، وفي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وخدمة أهل الحق، هل هذا يعد خاسرًا؟ الموت حق، ولا بد أن يأتي .
وصل إلى بلاد ما وراء النهر، ثم وافته المنية، فهنيئاً له، هذا ليس موتاً، هذا عرس ، هذه تحفة .
أين كان مقر القائد فروخ, وكم كان عمره حينما تزوج, وما اسم مولوده الذي رزق به, وإلى ماذا يشده الحنين دائماً, وهل تابع سيرته في الجهاد ؟
أما الفتى الباسل الشجاع فروخ فقد عاد إلى المدينة المنورة، يحمل معه سهمه الكبير من الغنائم، والهبة السخية التي وهبها له القائد العظيم، ويحمل فوق ذلك حريَّته الغالية، لقد أصبح حراً، وذكرياته الغنية بروائع البطولات المكللة بغبار المعارك، أمّا هذا الغلام الحر الغني فعاد إلى المدينة دفّاق الحيوية، ممتلئاً فتوةً وفروسية، وكان يخطو نحو الثلاثين من عمره .
وقد عزم فروخ أن يتخذ لنفسه منزلاً يستقر فيه، وزوجةً يسكن إليها، فاشترى داراً في أوسط دور المدينة، واختار امرأة راجحة العقل .
أخوانا الكرام, أول حق لأولادك عليك, وأقدس حق لأولادك عليك؛ أن تحسن اختيار أمهم، فالمرأة العاقلة لا تقدَّر بثمن، إنك إن اخترتَ امرأة عاقلةً ضمنتَ أسرة ناجحة، وضمنتَ أولاداً مهذبين، يكونون أعلامَ المجتمع، فاختار فرُّوخ امرأة راجحة بالعقل، كاملة الفضل، صحيحة الدين، تقاربه في السن، واقترن بها .
لقد نَعِمَ فروخ بهذه الزوجة، وبهذه السكينة، ورأى في صحبة امرأته هناءة العيش، وطيبة العشرة، ونضارة الحياة، وفوق ما كان يرجو ويأمل، إلا أنه هنا بدأت العقدة، فالإنسان الذي يعرف لماذا خلق في الحياة، والذي يعرف قيمة الوقت، لا يركن للنعيم في الدنيا؟ خذوا هذا الكلام، التافهون وحدهم الذين يركنون إلى الدنيا، بيت واسع، مفروش بأحدث الأثاث، دخل كبير، شاب في رَيعان الشباب، زوجة شابة، مركبة فخمة، مكان آخر بالمصيف، ماذا فعلت؟ أقول لك: ما فعلت شيئاً، هذا وقت ثمين، هذا الوقت يجب أن ينفق إنفاقًا استثماريًّا، لا إنفاقًا استهلاكيًّا، أكلنا، وشربنا، ونمنا، وعملنا، واستمتعنا، وتنزهنا، هذا استهلاك لرأس مالك الثمين.
كنتُ مرة في مكان جميل، فرأيت بيتًا جميلاً جداً، والمهندس الذي صممه على مستوى عالٍ جداً من الذوق، والأناقة، والإبداع، قلت في نفسي: لو أن هذا البيت لك، وسكنت فيه، وتمَتَّعْتَ بهذه المناظر الجميلة يوم بعد يوم، إلى أن يأتي الأجل، ثم تذهبي إلى الله مفلسة، أمّا إذا جلست في المدينة، وعملت الأعمال الصالحة، وتأتي عند الله عز وجل لعله يرحمك بهذه الأعمال، فالإنسان لا يستمرئ النعيم في الدنيا إلاّ إذا كان ضيق الأفق، ضعيف العقل، فحينئذ يستمرئ نعيم الدنيا لأنه مؤقت، دققوا في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((يا أيها الناس, إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ودار ترح لا دار فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشدة، ألا وإن الله تعالى خلق الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلـوى الدنيا لثواب الآخرة، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ويبتلي ليجزي، فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها، واحذروا لذيذ عاجلها لكربة أجلها، ولا تسعَوْا في عمران دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها وقد أراد منكم اجتنابها، فتكونوا لسخطه متعرضين، ولعقوبته مستحقين)) .
فهذا فروخ رغم أن البيت في المدينة، والزوجة كاملة وصالحة، وحياة مريحة، ومعه ثروة طائلة، على الرغم من كل هذه الشروط الرائعة التي توافرت له، بعد أن أعتقه سيده، وبعد أن أبلى بلاءً حسناً في القتال، وتلك الزوجة الصالحة، على كل ما حباها الله من كل كريم الشمائل، وجليل الخصائل, لم يستطِع أن يغلب فروخاً على حنينه إلى خوض المعارك، وإنّ خوض المعارك فيه رقيّ، وأضرب مثلاً:
لو جلس رجلٌ في حوض سباحة، حيث الماء دافئ، فارتاح بالجلوس في هذا الحوض ، فهل يجعله عالماً؟ لا, إنه استمتاع رخيص، واستهلاك للوقت، فلما يميل الإنسان إلى الراحة ، والقعود للتمتع، واستهلاك جهود الآخرين، والأخذ من طيبات الحياة الدنيا، معنى ذلك أنه يستهلك رأس ماله، ألا وهو عمره الثمين، وهذا سيجعله يوم القيامة فقيراً، لهذا قيل: الغنى غنى العمل الصالح، والفقر فقر العمل الصالح، والغنى والفقر بعد العرض على الله .
فاشتاق فروخ إلى سماعِ وقعِ النصالِ على النصالِ، وولعَ لاستئناف الجهاد في سبيل الله، فكان كلما ترددتْ في المدينة أخبارُ انتصارات الجيوش الإسلامية الغازية في سبيل الله، تأجَّجت أشواقُه إلى الجهاد، واشتدّ حنينُه إلى الاستشهاد .
وذات يوم من أيام الجمع, سمع فروخ خطيبَ المسجد النبوي الشريف, يزفّ للمسلمين بشرى انتصارات الجيوش الإسلامية في أكثر من ميدانٍ من ميادين الحرب، ويحضّ الناسَ على الجهاد في سبيل الله، ويرغِّبهم في الاستشهاد إعزازاً بدينه، وابتغاءً لمرضاته، فعاد إلى بيته، وقد عقَد العزمَ على الانضواء تحت راية من رايات المسلمين المنتشرة تحت كل نجم ، وأعلن عزمه لزوجته، فقالت: ((يا أبا عبد الرحمن! لمَن تتركني, وتترك هذا الجنين الذي أحمله بين جوانحي, فأنت هنا رجل غريب، ولا أهل لك فيها ولا عشيرة؟ فقال: أتركك لله، -أمّا علّمنا النبي عليه الصلاة والسلام دعاء السفر؟ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ, قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَافَرَ, يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ, وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ, اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا, وَاخْلُفْنَا فِي أَهْلِنَا, اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرَ, وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ, وَمِنْ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْنِ, وَمِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ, وَمِنْ سُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ)) .
وَيُرْوَى الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ أَيْضًا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْنِ أَوْ الْكَوْرِ, وَكِلَاهُمَا لَهُ وَجْهٌ, يُقَالُ: إِنَّمَا هُوَ الرُّجُوعُ مِنْ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ, أَوْ مِنْ الطَّاعَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ, إِنَّمَا يَعْنِي مِنْ الرُّجُوعِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ مِنْ الشَّرِّ- .
ثم إني خلفت لك ثلاثين ألف دينار، جمعتها من غنائم الحرب, فصونيها وثمّريها، وأنفقي منها على نفسك, وولدك بالمعروف, حتى أعود إليك سالماً غانماً، أو يرزقني الله الشهادة التي أتمنّاها، ثم ودّعها ومضى إلى غايته، وضعت السيدة الرزان حملّها بعد رحيل زوجها ببضعة أشهر، فإذا هو غلام مشرق الوجه، حلو القسمات، ففرحت به فرحاً عظيماً، كاد ينسيها فراق أبيه، وأطلقت عليه اسم ربيعة)) وهذا الغلام الصغير موضوع درسنا اليوم .
ما هي العلامات التي ظهرت على ابن القائد فروخ, وماذا فعلت أمه بهذا الولد, وما هي الأخبار الذي وصلت عن زوجها الغائب ؟
بدت على هذا الغلام الصغير علامات النجابة منذ نعومة أظفاره، وظهرت أمارات الذكاء في أفعاله وأقواله، فأسلمته أمُّه إلى المعلِّمين، وأوصتهم بأن يحسنوا تعليمه، واستدعت له المؤدبين، وحضَّتهم على أن يحسنوا تأديبه .
فأنا لا أرى أعقل من أبٍ يعطي كل جهده لتربية أولاده، إنهم كسبه الحقيقي، إنهم استمراره من بعد موته، إنهم الصدقة الجارية التي لا تنقطع بعد الموت، فما لبس هذا الغلامُ حتى أتقن الكتابة والقراءة، ثم حفظ كتاب الله عز وجل، وجعل يرتِّله ندياً طرياً كما أنزل على فؤاد محمد صلوات الله عليه، ووَعَى ما تيسّر من أحاديث رسول الله، واستظهر كلام العرب، وعرف من أمور الدين ما ينبغي أن يعرف، وقد أغدقت أمُّ ربيعة على معلمي ولدها ومؤدبيه المال والجوائز إغداقاً، فكانت كلما رأته يزداد علماً, تزيده براً وإكراماً .
بالمناسبة أرى من الحكمة البالغة أن تكون علاقتك طيبة جداً بمعلمِي أولادك، لأنه بين أيديهم فلذة كبدك، إن أحسنوا تعليمه فزت فوزاً عظيماً، وهناك آباء يقسون في تعاملهم مع معلمي أولادهم، أو يكيلون لهم كلاماً قاسياً في غيبتهم على مسمع من أولادهم، هذا ليس من الحكمة في شيء .
إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يكرما
المعلم بين يديه أثمن شيء عندك، وأنت أحياناً تقدِّم جهازًا للتصليح، تخاف عليه أنْ يصيبه شيء، فأيهما أغلى جهاز في بيتك أمْ ابنك؟ فيجب أن تختار له أفضل مدرسة، وأفضل معلم، والنفقات الباهظة التي تنفقها من أجل تعليم ابنك، هذه النفقات ليست استهلاكاً، إنما هي استثمار.
أنا أقول لكم كلامًا دقيقًا، وهذا الكلام موجّه لمن عنده أولاد: شعور الأب حينما يرى ابنه في أعلى مرتبة أخلاقية، وعلمية، ودينية، شعور لا يوصف، بل يمتلئ قلبه سعادة، وقد قال الله عز وجل:
﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً﴾
[سورة الفرقان الآية: 74]
وأحيانًا يلمح الأب ابنه وهو يصلي، وقد تكون هذه الصلاة جوفاء، فكيف إذا كان ابنه عالماً مصلحاً؟ سيدنا إبراهيم قال تعالى في حقّه:
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾
[سورة الصافات الآية: 102]
يعني من سعادتك الكبرى العظيمة: أن يكون ابنك صالحاً .
كانت تترقب عودة أبيه، وتجتهد في أن تجعله قرّة عين لها وله، لكن فروخاً طالت غيبته، ثم تضاربت الأقوال فيه، قال بعضهم: إنه وقع أسيراً في أيدي الأعداء، وقال آخرون: إنه ما زال طليقاً يواصل الجهاد، وقال فريق ثالث عائد من ساحة القتال: إنه نال الشهادة التي تمناها، فترجح هذا القول الأخير عند أم ربيعة لانقطاع أخبار زوجها، فحزنت عليه حزناً أمضى فؤادها، ثم احتسبته عند الله .
هناك قصص للتابعين فيها مواقـف، لو سألتني: هل هي وافق الشرع؟ أقول لك: هذه مواقف شخصية، وليست مواقف شرعية، يا ترى هل يجوز للإنسان أن يغيب عن زوجته عشرين عاماً؟ هذا الموقف ليس موقفاً شرعياً، هذا موقف شخصي، ولكل مجتهد نصيبٌ من اجتهاده، والله تعالى رب النوايا، أنا لا أقر ما فعله فروخ حينما ترك امرأته وهي حامل، وغاب أمداً طويلاً، يا ترى هكذا الشرع يأمرنا؟ نحن نقرأ قصة، نأخذ منها الإيجابيات، ونتغافل عن السلبيات .
ما هي الحرفة التي اختارها ربيعة حينما كبر, وعمن أخذ العلم, وكيف قسم وقته ؟
أيفع ربيعة، ودخل مداخل الشباب، واستكمل ما ينبغي لفتًى مثله أن يستكمله من القراءة والكتابة، وزاد على أقرانه, فحفظ القرآن وروى الحديث، فلو تخيَّرتِ له حرفة من الحرف, فإنه لا يلبث أن يتقنها، وينفق عليك، هذه هي النصيحة، فماذا اختار ربيعة؟ اختار لنفسه العلم .
أنا ألاحظ أبًا يرسم لابنه خطة، أن يكون معه في المحل التجاري، لكن أحياناً هناك أبناء مشغوفون بالعلم، فالأب العاقل إذا رأى من ابنه إصراراً على اختصاص معين, فينبغي أن يفسح له المجال، لأنه لا ينبغي إلا مسايرته في ميله هذا .
فاختار ربيعة أن يكون عالماً، وعزم على أن يعيش متعلماً ومعلماً ما امتدت به الحياة، وكلكم يعلم أنه يظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل، لذلك أقبل ربيعة على حلقات العلم، يرى الإنسان أحيانا عالمًا، متى صار؟ حينما كان في مجالس العلم أمضى سبعة عشر عاماً جالساً على ركبتيه في بيوت الله، وحينما كان يتلو كتاب الله، ويحفظ كتاب الله، ويفسر كتاب الله، ويدعو إلى الخير، أين كنت أنت؟ كل إنسان له مسعى, قال تعالى:
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾
|