التناقض المصطنع بين العلم والدين
الكـاتب : نايف عبوش
لا جرم أن الإسلام جاء ثورة كبرى على الواقع القديم الفاسد، فكان انقلاباً شاملاً في حياة الناس في جانبها العقدي، حيث حررهم من عبادة الأوثان، ورفض الأساطير والخرافة، باعتماده العقل والعلم، فحررهم من الجهل، وبذلك النهج المتطور، أرسى أساساً صلباً للتعامل مع حقائق الحياة، والظواهر الكونية.
وفي ظل هذا الهدي الإلهي، تمكن الجيل النبوي من الصحابة، والتابعين، ومن تلاهم، ممن استوعبوا النهج الرباني على مراداته الحقيقية، من بناء حضارة إنسانية زاهرة، تخطت ذاتها في المكان والقيم، لتشع بالعطاء والنور على العالمين، حيث لا تزال بصماتها، حتى بعد أن أخذت بالتراجع عن الدور، بعد أن دبت فيها عوامل الضعف والانحلال، تحمل في طياتها خميرة الهام التحضر المعاصر، في الكثير من إرهاصاته العلمية، والفلسفية، والفنية، وعندما تجمد العقل العربي المسلم في وقت لاحق، وتوقف عن العطاء، وعجز عن مسايرة التمدن، وصناعة التقدم، وحاصرته العولمة بعاصفتها الهوجاء، بما تمتلكه من عناصر التأثير، في فضاء مفتوح بكل الاتجاهات، نشأ تصور زائف لدى الكثير من النخب بتأثير الاغتراب، بأن الدين الإسلامي رجعي، ولا يناسب العصر، ولا يفتح الأفاق أمام عقل الإنسان لتطوير علومه، وتنمية قدراته التقنية، متناسية أن دين الإسلام، هو الذي حول العرب من مجرد قبائل تغط في الجهل والوثنية، تعيش على هامش الحضارة، إلى أمة متنورة، قادت العالم، وأسعدت البشرية لقرون طويلة، ولعل من يتلو القرآن الكريم بتدبر، يلاحظ أن لفظة (العلم) وردت فيه أكثر من مرة، للدلالة على النسك التعبدية، والمعاني الدينية، التي نزلت على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - من السماء، باعتباره دين هداية للناس بالدرجة الأولى إضافة إلى الدلالة على القوانين المركزية التي تحكم الظواهر الكونية، حيث يتعايش (العلم) و(الدين)معا في لغة القرآن، بألفة متجانسة، لا تقبل التناقض، كما يتوهم من أصيب من النخب بعمى الاستلاب والانبهار بمعطيات الحضارة المعاصرة، وما أبدعته من منجزات علمية وتكنولوجية، ولا جرم أن هذا التوافق الإيقاعي بين الإسلام والعلم، هو منهج رباني محكم، يراعي حاجة الإنسان الملحة للتوازن بين الروح والمادة، ويكبح جماح النزق المهووس، لترجيح عنصر المادة، تحت وطأة قصور عقل الإنسان عن استيعاب ما وراء المحسوس، بما يفسح المجال للعلم والعقل، بتجاوز حدود طاقتهما، فيقعا في خطأ الحكم بإقحام كل التصورات، لضوابط العلم التجريبي وحسب، خلافا لقاعدة (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).
وبذلك النهج الرشيد، استجاب الإسلام بتوازن تام، إلى متطلبات سعادة الإنسان ببعديها المادي العلمي المحض، والمعنوي العقدي الديني، على حد سواء، وإذا كان الإسلام في جانب الإعجاز العلمي منه، الذي تضمنته الكثير من النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية الصحيحة، قد أشار إلى حقائق علمية، لم تكن معروفة للناس وقت نزول القرآن، بسبب عدم تطور الأدوات العلمية يوم ذاك، وكشفت العلوم الحديثة، ومن خلال تطور التقنيات، وأدوات البحث العلمي، وتراكم الخبرة، والمعرفة الإنسانية، بالصورة التي هي عليها اليوم، صحتها، وأثبتت تطابق حقائق الدين الإسلامي التام، مع النتائج العلمية الحديثة، التي توصلت إليها، فلا جرم أن ذلك التوافق، مقصود قطعاً، وليس محض صدفة، ومن ثم فهو يأتي؛ مصداقاً لقول الله تعالى: ( ويرى الذين أُوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد)، في سياق تراتبية جدلية صارمة، لا انفصام لها، تجعل العلم وسيلة مضافة، للهداية إلى صراط الله العزيز الحميد، وإذا كان الدين الإسلامي قد أحاط بالكليات الغيبية، وألمح إلى الحقائق العلمية بإشارات معجزة، فلا شك انه قد ترك للعقل الإنساني حرية التفكير في الكون، وما خلق الله - تعالى -فيه من عوالم، ليتأملها بعناية، ويبحث فيها، ويكتشف تلك الحقائق، وفقا لمستوى تمكنه العلمي، وبالتالي العمل على تسخيرها لاستخداماته الحياتية، وفقا للناموس المركزي الإلهي (هو الذي سخر لكم ما في الأرض جميعا)، إضافة إلى ما تضيفه له تلك الاستكشافات العلمية، من أدوات محسوسة للتيقن، وتعميق الإيمان بحقيقة الوجود الإنساني، وارتباطه بآفاق الكون، ابتداء من الذات الإنسانية (فَلينظُرِ الإنسان مم خلق)، وانتهاء بآفاق الكون(سنريهم ءآياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق). ومن هنا نلاحظ أن الإسلام قد فضل المتعلمين على غير المتعلمين (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)، في إشارة واضحة لتحقيق هذا الغرض السامي.
وهكذا.. فالإسلام ومن خلال الإيقاعات التوافقية، بينه وبين العلم، يدفع الإنسان بشكل دائم، لكي يتفاعل بشكل مستمر، مع الكون والحياة، بقصد تفجير طاقة الإبداع لديه، لكي يرفد الحضارة بعناصر الاستمرار، ويرفدها بمقومات البقاء، ويؤمن لها مستلزمات التطور والارتقاء، بمنظور مسؤولية استخلافه الرباني في الأرض، وتكليفه بأعمارها، تبعا لموجبات هذا ألاستخلاف..فانه-أي- الإسلام بهذه الحقيقة الساطعة، لا ينطوي، على أي تناقض، بينه وبين العلم، على طول الخط، كما يزعم أولئك المتنطعون.