عقيدته:
كان الإمام رضي الله عنه مقتديًا بالسنة المطهرة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وأهل بيته، وكان مولده بالمدينة المنورة وتفقهه على علمائها سببًا في اضطلاعه بالسنة النبوية المطهرة وأحوال أهل مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم فكان على عقيدة التنزيه لله عن مشابهة الخلق وعن المكان وعن الهيئة والصورة والحركة والانتقال والتغير.
وثبت أن مالكًا أول الاحاديث المتشابهة التي يوهم ظاهرها التجسيم والحركة والانتقال والسكون، ففي تأويل مالك لهذه الأحاديث نقل البيهقي بإسناده عن الأوزاعي ومالك وسفيان والليث بن سعد أنهم سئلوا عن هذه الاحاديث فقالوا: "أمروها كما جاءت بلا كيفية" ذكره في كتابه الأسماء والصفات، وثبت عنه ما رواه البيهقي بإسناد جيد من طريق عبد الله بن وهب قال: كنا عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله، الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فأطرق مالك فأخذته الرحضاء [أي كثرة العرق] ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع وما أراك إلا صاحب بدعة، أخرجوه فقول مالك: وكيف عنه مرفوع أي ليس استواؤه على عرشه كيفًا أي هيئة كاستواء المخلوقين من جلوس ونحوه.
وروى البيهقي من طريق يحيى بن يحيى أحد تلاميذ مالك رواية أخرى عن الإمام مالك وهي قوله: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول"، أي أن الاستواء معلوم وروده في القرءان، والكيف غير معقول أي أن الاستواء بمعنى الكيف أي الهيئة كالجلوس لا يعقل أي لا يقبله العقل لكونه من صفات الخلق لأن الجلوس لا يصح إلا من ذي أعضاء أي ألية وركبة وتعالى الله عن ذلك.
وأما رواية "والكيف مجهول" فهي غير صحيحة لم تصح عن أحد من السلف ولم تثبت عن مالك ولا غيره من الأئمة رواية.
وثبت عن مالك التأويل في حديث النزول أنه قال: "نزول رحمة لا نزول نقلة"، وروي عنه كذلك في تأويل هذا الحديث: "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول هل من داع فأستجيب له" أي حديث النزول، أنه على سبيل الاستعارة ومعناه الإقبال على الداعي بالإجابة واللطف والرحمة وقبول المعذرة، ليس على معنى الانتقال الحسي من مكان إلى ءاخر.
الموطأ:
هو أول كتا وُضعت فيه الأحاديث مصنفة ومبوبة، ومعناه الممهد كما أنه أول كتاب ألف في الحديث والفقه معًا، واستغرق تأليفه أربعين سنة. وقد اشتمل على الكثير من الأسانيد التي حكم المحدثون بأنها أصح الأحاديث.
فقد قال الشافعي في الموطأ: ما ظهر كتاب على الأرض بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك، وفي عصره قيل فيه: "أيفتى ومالك في المدينة".
علمه:
سئل مالك رحمه الله عن طلب العلم فقال: "حسن جميل ولكن انظر إلى الذي يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فالزمه". وكان رحمه الله في تعظيم علم الدين على درجة عالية، حتى إذا أراد أن يحدّث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرّح لحيته واستعمل الطيب وتمكن من الجلوس على وقار وهيبة ثم حدّث، فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظِّم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإرادته وجه الله تعالى بالعلم، فقد جاء عن مالك رضي الله عنه أنه سئل ثمانية أربعين سؤالاً فأجاب عن ستة وقال عن البقية لا أدري.
زهده:
أما زهده في الدنيا فكبير، فقد روي أن الرشيد سأله: هل لك دار فقال: لا، فأعطاه ثلاثة ءالاف دينار وقال: اشتر بها دارًا، فأخذها ولم ينفقها، عندها قال الرشيد لمالك رحمه الله: ينبغي أن تخرج معنا فإني عزمت على أن أحمل الناس على الموطأ. فقال له: أما حمل الناس على الموطأ فليس إليه سبيل، لأن أصحاب الرسول افترقوا في الامصار فحدثوا، فعند أهل كل مصر علم، وأما الخروج معك فلا سبيل إليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون" متفق عليه. وقال عليه الصلاة والسلام: "المدينة تنفي خَبثها كما ينفي الكير خبث الحديد" متفق عليه. وهذه دنانيركم كما هي إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها. يعني أنك إنما تكلفني مفارقة المدينة لما اصطنعته إليَّ، فلا أوثر الدنيا على مدينة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
لقد كان الإمام مالك زاهدًا في أمر الدنيا، وقد أفلح الزاهدون، ولما حُملت إليه الأموال الكثيرة من أطراف الدنيا لانتشار علمه وأصحابه، كان يفرقها في وجوه الخير. ودلّ على زهده سخاؤه وقلة حبه للدنيا، وليس الزهد فقد المال، وإنما الزهد فراغ القلب عنه، ومما يدل على استحقاره للدنيا ما روي عنه أنه قال: "دخلت على هارون الرشيد فقال لي: يا أبا عبد الله ينبغي أن تختلف حتى يسمع صبياننا منك الموطأ، قال: فقلت: أعزّ الله مولانا الأمير، إنَّ هذا العلم منكم خرج، والعلم يؤتى ولا يأتي. فقال: صدقت، اخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا مع الناس.
وفاته:
كانت وفاته في المدينة المنورة لعشر خلون من ربيع الأول سنة مائة وتسعة وسبعين للهجرة، ودفن في البقيع بجوار إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم ورثاه العديد من الشعراء منهم جعفر بن أحمد السراج بقوله:
سقى جدثًا ضمَّ البقيعُ لمالك ***** من المزن مرعاد السحائب مبراقُ
إمام موطاه الذي طبقت به ***** أقاليم في الدنيا فساح وءافاق
أقام به شرع النبي محمد ***** له حذر من أن يضام وإشفاقُ
له سند عال صحيح وهيبة ***** فللكل منه حين يرويه إطراقُ
وأصحاب صدق كلهم علم فسل ***** بهم إنهم إن أنت ساءلت حذاقُ
ولو لم يكن إلا ابن إدريس وحده ***** كفاه ألا إن السعادة أرزاق
رحم الله الإمام مالك بن أنس ونفعنا بعلمه.*