المهمة العاجلة
وكانت المهمة العاجلة والواضحة هى ضرورة ضمان توفير موارد مالية كافية وسريعة ومناسبة لإيقاف النزيف الذى يتعرض له الاقتصاد. فعجز الموازنة ليس فقط مرتفعا، بل إنه معرض للزيادة، وخاصة أننى اكتشفت مبكرا، أن احتياجات قطاع البترول من موارد الموازنة أكبر بكثير مما يظهر فى أرقام الموازنة المنشورة. كذلك فإن هذا العجز المالى المتزايد لن يقتصر على زيادة الأعباء المالية المحلية للموازنة بما قد يؤدى إلى مزيد من الضغوط التضخمية، بل إنه سوف ينعكس على أوضاع ميزان المدفوعات واستنزاف الاحتياطيات الدولية. وقد بلغ متوسط الاستنزاف من موارد الاحتياطى حوالى مليار ونصف المليار شهريا، حيث فقدت هذه الاحتياطيات ما يزيد على عشرة مليارات دولار بنهاية موازنة 2010/ 2011 فى نهاية شهر يونيو2011.
وفى الوقت نفسه، فإنه لا يكفى البحث عن موارد لسد فجوة العجز، بل لابد أن يصاحبها البدء فى إجراءات عملية لمواجهة أسباب العجز. وفى ضوء القراءة السريعة لخصائص الموازنة، والتى أشرت إلى أهمها، فقد وجدت أن المرض الرئيسى فى الاقتصاد المصرى هو التوسع السرطانى فى بند الدعم وما يرتبط به من تزايد فى مديونية الحكومة، وتضخم بند خدمة الدين من دفع الفوائد والأقساط. وهكذا تستحق هذه القضية بداية المواجهة. ومع ذلك فإن قضية الدعم تثير، جانبا حساسا وهو أن الدعم موجه، فى الأصل، لحماية الطبقات الفقيرة وغير القادرة، ولذلك فإن مواجهة هذه القضية الحساسة لا بد أن تتم مع مراعاة أوضاع مستحقى الدعم من الطبقات الفقيرة والضعيفة اقتصاديا.
ولكن لا ننسى أن التطبيق العملى لسياسات الدعم، قد تحول فى العمل، فى كثير من الأحوال، إلى مصدر للكسب السريع لفئات أخرى تستغل الدعم وتحوله لتحقيق أرباح هائلة وغير مشروعة باسم الدعم. وهكذا فإن قضية الدعم لا بد أن تكون فى صلب أى حزمة للإصلاح الاقتصادى السريع، وأن تعالج بكل مسئولية ورؤية لتؤكد جدية المحاولة من ناحية، وتوفير الضمانات لحماية مستحقى الرعاية، وبحيث لا يستخدم الدعم فى غير أغراضه المشروعة من ناحية أخرى.
وأخيرا، فإنه ينبغى الاعتراف بأن أى محاولة للإصلاح الاقتصادى لن تكون بلا ثمن وأنها سوف تنطوى على تحمل التضحيات فى المدة القصيرة، وأن هذا الثمن لا بد أن يدفع لضمان تحقيق فوائد جمة على الاقتصاد فى مجموعه فى المدة الطويلة. ولذلك، فإن أى حكومة راغبة فى الإصلاح لابد لها أن تتمتع بقدر كبير من المصداقية والتأييد الشعبى. فالشعوب تقبل التضحيات ــ إذا كانت ضرورية ــ ولكن بشرط الاطمئنان لمصداقية المسئولين ونزاهتهم وصدق نواياهم، فضلا عن كفاءتهم المهنية. ولكل ذلك، فمن الضرورى أن تقدم الحكومات من المبادرات والإجراءات ما يعيد الثقة والمصداقية إلى القائمين على تولى الأمور. ونظرا إلى أن أحد أهم مظاهر رعاية مصالح المجتمع يتطلب الحرص على المال العام وعدم تسخيره لمصالح كبار العاملين فى الحكومة، فإن موضوع ما يحصل عليه هؤلاء من دخول من المال العام تحت مسميات مختلفة من أجور ومرتبات ومكافآت وبدلات وحوافز وغير ذلك، قد أصبح من أكبر مصادر الشكوى. وقد تواترت فى الآونة الأخيرة الأنباء عن دخول ومرتبات مبالغ فيها يتحصل عليها عدد محدود من كبار العاملين وغيرهم من المحظوظين. لذلك فقد أصبح موضوع وضع بعض الضوابط على الحدود القصوى لدخول العاملين فى الحكومة من أهم المطالبات الشعبية، مما يتطلب من الحكومة اتخاذ إجراءات فى هذا الصدد. بما يعيد الثقة إلى الشارع فى نزاهة الحكم ومصداقيته.
ثلاثة أهداف مرحلية
ولكل ما تقدم، فقد حددت لنفسى منذ اليوم الأول لدخولى الوزارة ثلاثة أهداف مرحلية محددة، إلى جانب متابعة السير اليومى للوزارة، وقد حددت لهذه الإجراءات ستة أشهر تنتهى مع بداية عام 2012، وهذه الإجراءات هى على التوالى:
أولا : النظر فى وضع ضوابط على الحدود القصوى للمرتبات من المال العام للعاملين فى الحكومة، على أن يطبق ذلك من أول يناير 2012.
ثانيا : توفير أكبر قدر من الموارد المالية لدعم الموازنة واستقرار ميزان المدفوعات، وبما لا يعرض الاستقرار المالى والنقدى لأى هزات، وخاصة من الدول العربية الشقيقة والمؤسسات المالية الدولية والإقليمية.
ثالثا : البدء فى برنامج جاد لترشيد الدعم وخاصة فى المواد البترولية والطاقة وتنفيذ المرحلة الأولى منه، بما لا يمس أوضاع الطبقات الفقيرة والضعيفة اقتصاديا.
وبطبيعة الأحوال، فإن هذه الملفات الثلاثة لا تعنى إهمال الجوانب العامة الأخرى للإدارة المالية مثل ترشيد الإنفاق بصفة عامة، وإعادة النظر فى مصادر الإيرادات وتحسين مجالات التحصيل.
وقد يكون من المفيد هنا أن أشير إلى فهمى لطبيعة «اقتصاد السوق» الذى دافعت عنه خلال وجودى فى الحكومة، والذى أثار ــ تلميحا ــ من بعض الزملاء فى الوزارة ما يفيد أنهم يرفضون مفهوم اقتصاد السوق. وقد حرصت طوال وجودى فى الحكومة على التأكيد على أن الحكومة تؤمن بنظام «اقتصاد السوق»، واحترام الحقوق والحريات وحماية الملكية، مع توفير العدالة الاجتماعية والمساواة فى الفرص.