ماذا يفعل وزير المالية الجديد؟
يمثل الاستعراض السابق ما دار فى ذهنى عند دخولى وزارة المالية لأول مرة، ليس بالألفاظ نفسها، وربما ليس بالوضوح نفسه، ولكن المشكلة كانت واضحة:
هناك أشياء مهمة يحتاجها الاقتصاد المصرى من خلال رؤية متكاملة للمستقبل، ولكن هناك أيضا مشكلات عاجلة لا تتحمل الانتظار، ونحن بصدد حكومة انتقالية مؤقتة. فكيف يكون الاختيار؟ هذا هو السؤال.
حقا لابد لنا من سياسة سكانية واضحة للمستقبل، وكذا إستراتيجية صناعية تعتمد على تطوير التكنولوجيا وتوظيفها، مما يتطلب ثورة تعليمية وإمكانات تدريبية كافية، مع ضرورة توفير الشعور بالعدالة الاجتماعية وتساوى الفرص، وأن يتم ذلك من خلال رؤية قومية تمتد إلى عالمنا العربى فى مجموعه. كل هذا صحيح وضرورى ولا مناص منه.
ولكنَ هناك أزمة طاحنة، وعجزا متزايدا فى الموازنة لابد من ضبطه وتمويله، وإلا انفلتت الأسعار ودبت الفوضى المالية وتهددت المؤسسات المالية والمصرفية. وبالمثل هناك ضغط على ميزان المدفوعات، والاحتياطيات تتآكل كل يوم ونحن بلد يستورد نصف غذائه من الخارج، وتعتمد صناعاته على واردات المواد الخام والسلع الوسيطة والآلات والمعدات من الخارج. هذه معضلة الاختيار بين المهام والعاجل.
بطبيعة الأحوال، فإن الخيار لا يكون مطلقا بالاهتمام الكامل بأحد الجوانب، والإهمال الكلى للجانب الآخر. هذا غير ممكن وغير حكيم. فلابد من التوازن بين الأمرين، مع ضرورة الترجيح وإعطاء الأولوية لأحدهما دون التضحية الكاملة بالأمر الآخر.
فماذا سيكون خيار وزير المالية الجديد، وأين يتم التركيز؟
لم يتطلب الأمر منى وقتا طويلا، فقد شعرت بأننا إزاء اقتصاد وطنى ينزف دما، وأن هناك حاجة عاجلة لإسعافه وبأسرع وقت لتعويضه عما فقده من موارد مالية تمثلت فى عجز الموازنة المتزايد، واختلال ميزان المدفوعات، وبداية تآكل الاحتياطيات من الأرصدة الأجنبية. وكانت مصر قد عرفت وضعا مشابها فى نهاية الثمانينيات حيث كان عجز الموازنة فى حدود 20%، من الناتج الإجمالى، والتضخم بمعدلات قريبة من هذا الرقم، وارتفع الدين الخارجى إلى أكثر من 50 مليار دولار، ثم توقفت مصر عن الوفاء ببعض التزاماتها الخارجية، وأصبح وضعها المالى داخليا وخارجيا مقلقا وغير مستقر.
وجاءت حرب الخليج واحتلال العراق لجارتها الكويت، ثم موقف مصر الموفق فى اختيار جانب الصواب أخلاقيا وسياسيا. وترتب على ذلك أن قام المجتمع الدولى بتوفير حزمة من مبادرات الدعم المالى لمصر. وهكذا قامت دول الخليج بإلغاء ديونها على مصر وكانت تبلغ حوالى 7 مليارات دولار، فضلا عما أرسل لمصر آنذاك من دعم فى شكل معونات نقدية، كما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإلغاء ديونها العسكرية على مصر وكانت تبلغ حوالى 7 مليارات دولار هى الأخرى، ثم قامت دول نادى باريس بإلغاء نصف ديونها العامة مع فترات سماح جديدة للديون الباقية. وهكذا انخفض عبء الدين الخارجى إلى أقل من النصف. واستعادت مصر زمام المبادرة، وبدأ الاقتصاد يتنفس، ونجح فى تحقيق معدلات نمو محترمة واستقطاب رءوس أموال كثيرة، وإن شابه تحيز لصالح طبقات محددة وإهمال تطلعات الغالبية، مع الكثير من مظاهر الفساد والانحراف، فضلا عن الاستخفاف بمستقبل الحياة السياسية، وفرض مشروع التوريث على المجتمع السياسى. وكانت النتيجة، على ما هو معروف، هى الانتفاضة الهائلة لثورة 25 يناير.