
09-01-2012, 03:42 AM
|
 |
رئيس مجلس الادارة
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 26,986
معدل تقييم المستوى: 10
|
|
ماذا عن العاجل؟
كل ما تقدم صحيح وضرورى، ولكن مصر تواجه الآن ظروفا خطيرة واستثنائية، تتطلب مواجهة سريعة وحاسمة. ومن هنا، فإن العاجل لا يقل أهمية عن المهم، بل يحتاج إلى تركيز الاهتمام به لأنه مرتبط بأمد قريب ويهدد المستقبل نفسه. ولذلك فإنه من الضرورى، مع وجود نظرة شاملة ورؤية متكاملة للمستقبل، عدم إهمال الواقع القائم والمشكلات العاجلة التى تتطلب حلولا سريعة ومباشرة ولا تتحمل التأجيل. والحكومة الانتقالية تتحمل المسئولية الأساسية فى مواجهة هذه القضايا العاجلة التى لا تقبل الانتظار.
وهكذا بدا لى أن المهمة الرئيسية لدورى فى الوزارة الجديدة هو التركيز على القضايا العاجلة التى تتطلب مواجهة سريعة وحاسمة، على أن يتم ذلك فى إطار نظرة عامة للرؤية الشاملة المستقبلية. وبدأت أتساءل عن عدد من القضايا التى ينبغى التركيز عليها فى فترة الحكومة الانتقالية، والتى لا يمكن تأجيلها لحين الانتهاء من الإعداد لنظام الحكم الدائم بعد الدستور وتكوين المؤسسات السياسية الدائمة. وكانت نقطة البدء هى ضرورة النظر فى أوضاع الاقتصاد المصرى لتحديد نقطة الانطلاق. فهناك وثيقتان لا يمكن إغفالهما عند النظر فى وضع السياسات المالية والنقدية للحكومة. وإذا كانت الموازنة هى الوثيقة الأولى، فإن ميزان المدفوعات هو الوثيقة المكملة، وذلك لتحديد أوضاع الاقتصاد القومى إزاء العالم الخارجى.
المعالم الرئيسية للموازنة العامة: ليس الغرض هنا التعرض لتفاصيل الموازنة العامة كافة، وإنما فقط التركيز على الخصائص العامة التى يمكن أن تؤثر على قدرة الاقتصاد المصرى على الانطلاق فى المستقبل القريب.
تبلغ جملة الإنفاق فى ميزانية 2011/2012 مبلغ 490.6 مليار جنيه، وجملة الإيرادات حوالى 350 مليار جنيه، بعجز حوالى 140 مليار جنيه يخفض إلى 134 مليارا بعد حساب صافى حيازة الأصول المالية. فالخاصية الأولى للموازنة هى أنها تنطوى على عجز يمثل حوالى 27 % من حجم الإنفاق الإجمالى. وبذلك فأكثر من ربع كل جنيه تنفقه الحكومة لا يأتى من موارد مالية حقيقية للدولة، وإنما يتم تمويله إما بالإقراض وبالتالى تحميل الأجيال القادمة عبء سداد هذه القروض، وإما بنوع من أنواع التضخم الذى يرفع الأسعار ويخفض القيمة الحقيقية للنقود.
وعند النظر إلى باقى عناصر الإنفاق، فإننا نجد أن أهم عنصرين هما على التوالى: الدعم ويبلغ حوالى 157 مليار دولار بنسبة تصل إلى 32% من حجم الإنفاق، ثم فوائد خدمة الدين العام وتبلغ حوالى 106 مليارات جنيه بنسبة 22% من حجم الإنفاق. وهكذا يستنفد هذان البندان (الدعم وفوائد خدمة الدين) حوالى 55% من حجم الموازنة، أى إن وزير المالية ليس أمامه لتوزيع الإنفاق على مختلف الحاجات العامة إلا أقل من نصف حجم الإنفاق العام (45%). وفى هذا إخلال بدور الدولة فى القيام بوظائفها الأساسية فى الأمن والدفاع والعدالة وتوفير التعليم والصحة والخدمات العامة وتكوين البنية الأساسية وغيرها من عناصر التقدم. وعند مزيد من التدقيق فى بند الدعم نجد أن أكثر من (60%) من قيمة الدعم يذهب إلى دعم المواد البترولية، والذى بلغ فى ميزانية هذا العام حوالى 95 مليار جنيه، ويتوقع أن يزيد هذا الرقم عند إقفال الحسابات الختامية.
والظاهرة المقلقة هى أن دعم المواد البترولية كان فى عام 1990 ــ 1991 حوالى مليار جنيه، ثم ارتفع خلال العقدين الماضيين إلى أكثر من 95 ضعفا، وتعتبر مصر (ربما باستثناء بعض دول الخليج) أرخص بلد فى العالم فى أسعار الطاقة. والسؤال: هل يذهب هذا الدعم كله إلى المستحقين؟ هناك صناعات مربحة (بعضها يحقق أعلى معدلات للأرباح العالمية) حيث تشترى المواد البترولية المدعمة، لكى تبيع إنتاجها فى السوق وفقا للأسعار العالمية.
وإذا كان رقم دعم المواد البترولية يصل إلى 95 مليار جنيه، فإن دعم السولار وحده يجاوز نصف هذه القيمة. حقا يستخدم السولار فى معظم وسائل النقل، ولكنه يستخدم أيضا فى اليخوت السياحية، كما فى أرقى الفنادق، والأخطر من ذلك هو أنه يُهرب كذلك إلى الخارج.
وماذا عند البند الآخر، وهو الخاص «بفوائد خدمة الدين»؟ والملاحظة الأساسية هنا هى أن هذا البند إنما هو نتيجة لعجز السنوات الماضية. فإذا نظرنا إلى السنة الجارية وحدها، ونقارن الإنفاق والإيرادات لهذه السنة (2011/2012)، فإن العجز الأولى لهذه السنة وحدها لم يتجاوز 28 مليار جنيه. والسؤال: لماذا وصل العجز إلى 134مليار جنيه؟ الإجابة هى أننا ندفع فوائد عن الدين العام المتراكم من السنوات السابقة حوالى 106 مليارات جنيه. ومع ارتفاع أسعار الفائدة، فمن المتوقع أن يزيد هذا الرقم عند نهاية العام الحالى. وهكذا ارتفع هذا العجز الأولى إلى عجز فى الميزانية بلغ 134مليار جنيه بسبب الفوائد المدفوعة عن الدين المتراكم من السنوات السابقة. فمشكلة «بند فوائد خدمة الدين» هو أنه نوع من المرض الوراثى الذى يتنقل من سنة إلى أخرى، ويتضخم بشكل مستمر. فهو أشبه بالمرض الخبيث الذى لا يشفى، وهو مع ذلك يستشرى من عام لآخر حتى يكاد يخنق الموازنة. ولعل أبرز مثال على ذلك هو موازنة الولايات المتحدة الأمريكية حاليا، وهى لا تزال أكبر اقتصاد فى العالم، ومع ذلك فإنها واجهت ما يشبه الإفلاس عند نهاية السنة المالية السابقة، بسبب تزايد عجز الموازنة نتيجة ارتفاع أعباء خدمة الدين الحكومى خلال السنوات السابقة. وعلينا أن نتذكر أن الرئيس كلينتون ترك البيت الأبيض عام 2000، وقد حققت الموازنة فائضا لأول مرة منذ فترة طويلة، ثم جاء الرئيس بوش وحروبه، فبدأ العجز يتزايد حتى كاد يعرض الولايات المتحدة الأمريكية للإفلاس. وتواجه دول أوروبية عديدة مثل هذه المشكلات سواء فى اليونان أو إيطاليا وربما إسبانيا وغيرها.
ويرتبط استمرار عجز الموازنة بتزايد الدين العام. ويقدر حجم الدين العام الإجمالى المتوقع فى نهاية العام بحوالى 1.140 تريليون جنيه (أى ألف مائة وأربعون مليار جنيه) أكثر من 85% منها دين محلى، والباقى دين أجنبى. فمصر من أقل دول العالم من حيث المديونية الخارجية، وتكلفتها عادة منخفضة ومع فترات سداد طويلة الأجل.
وقد صاحب استمرار العجز الحكومى تناقص فى معدلات فائض السيولة فى القطاع المصرفى، نتيجة لزيادة المطروح من أذون الخزانة والذى تكتتب فيه عادة البنوك المحلية. وكان فائض السيولة فى القطاع المصرفى فى ديسمبر 2010 جاوز 100 مليار جنيه، ثم انخفض إلى ما دون نصف المليار فى سبتمبر 2011.
وأخيرا ينبغى التنبيه إلى أن تحديد صافى حجم الدين المحلى الواقعى ليس بالأمر اليسير، فنتيجة للتداخل الشديد بين المراكز المالية للحكومة والعديد من الهيئات الاقتصادية العامة، فإن تحديد صافى الحجم الحقيقى للدين يصبح أكثر صعوبة. فهناك هيئات عامة اقتصادية مدينة للبنوك بمبالغ ليست هينة، فهل تصبح هذه المديونية جزءا من الدين العام أو لا؟ وسوف نشير إلى هذه الظاهرة بصدد مناقشة التشابكات المالية للهيئات الحكومية والعامة.
ميزان المدفوعات:
ليس المقصود هنا تحليل عناصر ميزان المدفوعات بالتفصيل، وإنما الإشارة فقط إلى أهم المعالم التى تميز هذا الميزان، والتى من شأنها أن تقيد من حرية الحركة لواضع السياسة الاقتصادية. وكان ميزان المدفوعات قد عرف تحسنا ملحوظا فى السنوات الأخيرة قبل قيام ثورة 25 يناير، وجاءت هذه الأحداث فأثرت سلبا على بعض عناصر هذا الميزان مثل السياحة والاستثمارات المباشرة والتوظيفات المالية فى الأسواق المالية. وعلى الرغم من أن عناصر الميزان الأخرى ظلت متماسكة أو حتى تحسنت بعض الشىء، فإن الأثر النهائى على الميزان كان سالبا. فبالرغم من تحسن الصادرات وتحويلات العاملين فى الخارج وعائدات المرور فى قناة السويس، فإن الوضع الإجمالى للميزان قد تراجع خلال الفترة الأخيرة، مما أثر على احتياطيات الأرصدة الأجنبية المتاحة للاقتصاد المصرى.
وكانت معاملات الاقتصاد المصرى مع العالم الخارجى خلال السنة المالية 2010/2011 (يونيو 2011) قد أسفرت عن عجز كلى بميزان المدفوعات بلغ نحو 9.8 مليار دولار (مقابل فائض كلى بلغ نحو 3.4 مليار دولار خلال السنة المالية السابقة). وهو ما انعكس فى تناقص صافى الاحتياطيات الدولية للبنك المركزى. ويظهر التحليل أن أسباب هذا العجز ترجع إلى ما ترتب على الأحداث بعد يناير من تأثير، حيث سجل ميزان المدفوعات خلال النصف الثانى من السنة المالية (يناير/ يونيو 2011) عجزا كليا بلغ نحو 10.3 مليار دولار (مقابل فائض كلى خلال النصف الأول من السنة نفسها بلغ 571 مليون دولار).
وقد عرف الحساب الرأسمالى عجزا مقابل صافى التدفقات إلى الخارج قدره نحو 4.8 مليار دولار (مقابل صافى تدفق إلى الداخل قدره نحو 8.3 مليار دولار فى السنة السابقة).
وهكذا أدى تراجع السياحة وانخفاض تدفقات رأس المال للاستثمار المباشر أو التوظيف فى السوق المالية مع خروج بعض هذه الأموال إلى الخارج، أدى كل ذلك إلى تناقص الاحتياطيات من حوالى 36 مليار دولار إلى أقل من عشرين مليار دولار فى نهاية أكتوبر 2011، ويتوقع أن يستمر هذا الاتجاه فى الأشهر القادمة.
ومن الواضح أن هذا التأثير السلبى على ميزان المدفوعات لا يرجع إلى اعتبارات اقتصادية بحتة، بقدر ما هو نتيجة للأوضاع الأمنية غير المستقرة وأجواء عدم اليقين التى تحيط بمستقبل الأوضاع السياسية. ولا يخفى أن اختفاء الأمن وغلبة عدم اليقين حول المستقبل السياسى أمام متخذى القرارات الاقتصادية (خاصة من المستثمرين) هما ألد أعداء الاستقرار والتقدم الاقتصادى.
|