إياس : في صباح اليوم التالي ذهبتُ إلى مكتب البريد وأرسلته إلى عنوان عملنا باسم ( رؤى خالد ) ، وأيضاً ذهبتُ إلى مقر العمل صباحاً أيضاً بخلاف المعتاد وهو دوامي المسائي .. وقدّمت استقالتي من العمل إلى مدير المؤسسة ثم عُدتُ إلى البيت ،
استقبلتني أمي وأنا عائد من جولتي السريعة هذه ، وهي تُزغرد ووجهها يتطاير منه الفرح في كل اتجاه ... تقول ...
أم إياس : أينك يا ولدي ؟ تأخرت البارحة في العودة إلى البيت ، أبشرك .. البارحة اتصل بي أهل خطيبتك يبدون موافقتهم عليك ويرحبون بك زوجاً لابنتهم ، أتصدق .. هؤلاء من ينبغي أن نفرح بمناسبتهم ليس غيرهم .
إياس : خطيبة ؟ وافقوا ؟ عن ماذا تتحدثين يا أمي !؟
أم إياس : ألم تفوضني تفويضاً كاملاً بعد اتصالي الأخير بأم رؤى قبل أشهر بأن أخطب لك تلك الفتاة التي حدثتك عنها ؟ كنت طول الفترة الماضية أستزيد من السؤال عنها وأستخير ربي لنا دون أن أخبرك ، ثم اتصلت بهم أمس ظهراً خاطبة ابنتهم لك فلم يمهلوني ولا حتى عشر دقائق إلا وردوا المكالمة موافقين يرضونك زوجاً لابنتهم !
إياس : ما شاء الله ...
أم إياس : اسمها لينة .. طالبة في السنة الثالثة في كلية العلوم .. ذات دين وخلق وعقل راجح .. حافظة للقرآن .. متفوقة في دراستها .. جميلة جمالاً ساحراً .. كل من حولها في مجتمعها يحبها .. ماذا تريد أكثر ؟
إياس : غشاني صداع فظيع كِدتُ أن أسقط من فرطه على الأرض ، ابتسمتُ مجاملة في وجه أمي شاكراً ثم رميت نفسي بأقوى ما أستطيع على إحدى الكراسي الموجودة في صالة البيت .. وأنا أتعجب من تسارع الأحداث هكذا ، ذهلتُ ودهشتُ مما فعلته أمي بي ومثله من قبول أهل لينة السريع ، تناولت الصحيفة اليومية الملقاة على بجانبي وبدأت أقرأ الأخبار متشاغلاً علّ الصداع الذي استولى على رأسي أن يخف قليلاً .
تريد الحقيقة ؟ لم أعد أستوعب أنني خطبت وأن أهل المخطوبة موافقون وأنهم معجبون بي ، ما زلتُ أعيش وهماً اسمه " رؤى " ، لم تخرج رؤى من ذاكرتي بعد ، ما زلت معششة في رأسي مستولية على عرش قلبي وليس لأحد أن يداني منزلتها .
مرّ اليوم كأي يومٍ من أيامي .. إلا أني لم أذهب إلى العمل الذي استقلت منه ، وكنتُ قد أضمرتُ في نفسي أن أذهب إلى مكتبي آخر الليل لألملم أوراقي وأجمع أغراضي بعد ذهاب الموظفين ، وهذا ما حدث .. فبعد تناولي للعشاء صعدتُ إلى غرفتي ولبستُ ثيابي ثم خرجتُ متخفياً من باب المطبخ كي لا يراني أيّ من والديّ خارجاً .
سرتُ والأيام الخوالي تتبارى في خيالي أيها يستدعي نفسه أولاً .. ليجرحني أولاً ، الأحلام والخيالات والأماني والدعوات تضطرم محترقة في رأسي .. كلها من الماضي ، أسير وأتأمل المدينة والناس نيام .. كانت عيني تهلّ ببعض الدمعات وأنا أذكر الله وأستغفر مما كنت أفعل .. أدعو الله أن يلطف بقلبي الذي ما يزال يحبها .. أسأله أن يرحمني ويجبر انكساري .. آه من أيام السهر تلك التي كنت أتقلب فيها على فراشي مستحضراً ما سأفعله معها من ضحكات ونزهات وسفرات .. من آلام وآمال ستنغص علينا حياتنا .. كنت .. وكنت .. وإلى أنت وصلت إلى المبنى !
ترجلتُ ودخلتُ وتوجّهت إلى مكتبي ، استثارني الضوء المنبعث من مكتب رؤى وأنا أسير في الممر ، اقتربت وأنصتُ فإذا بي أسمعها وهي تبكي .. لا تتكلم .. كانت تبكي فقط ، تألمتُ لحالها كثيراً وبقيتُ هكذا متلصصاً عليها وقد رابني أن تكون بسوء ، وفجأة .. أسمع وقع خطواتها متجهة نحو الباب ، جريتُ سريعاً نحو مكتبي واختبأتُ تحت الطاولة ، فتحت باب مكتبي ودخلت بكامل حجابها وسترها .. وأثناء دخولها رنّ هاتفها .. فأجابت ( حـالاً حالاً يا أبي .. دقيقة فقط وآتيك ) ، تسمرتُ مكاني خشية أن تعلم بي وعندها ستحدث مشكلة ، لم تمضِ ثوانٍ حتى خرجت وأنا أسمع لها نشيجاً .
انتظرت لدقائق حتى أتيقن خروجها من المبنى ثم جلستُ على الكرسي وأوقدت الأضواء ، فإذا هي قد وضعت على طاولتي مظروفاً صغيراً ، استعجلتُ كلّي إليه لأفتحه ، فإذا هو يحوي هذه الرسالة التي بيدي !
ريّان : عجيب .. عجيب .. إذاً ردت عليك في آخر الآمر ! ماذا كتبت فيها ؟
إياس : كتبت لي في ذلك المظروف ...
أجبرتني على الرد حتى أريح قلبي براحة قلبك ..
لعلها الأولى والأخيرة ..
ليتك لم تعتذر .. فمن تقرأ له الآن هو من كان يجب عليه الاعتذار عن كل ألم وهم وضيق سببه لك ،اعلم يا إياس أني لم أعب عليك شي مما مضى ، كنت أشعر بما تشعر به ، وكنت كلما رأيت كتاباتك ؛ تزداد حرارة دعائي وبكائي لك !
إياس .. والله إني أحبك ، ومنزلتك الرفيعة عندي لم تتغير ولن تتغير ،أدعو لك في كل ليلة .. وبين آذان وإقامة .. وأتحيّن قطرات المطر .. وفي وقت رجوعي من العمل ، حيث لا أحد معي في السيارة .. أسبح في دعوات أسأل الله أن يتقبلها ، امتحاناتك .. ومذاكرتك كانت أحد همومي ، صدقات تصدقتها نويتها لك ، مفكرتي .. دفتري .. يحملان الكثير الكثير لكني أخفيها .
اعلم يا إياس علماً يقينيـاً .. إن كتبك الله لي ستأتي رغم كل مانراه عائقاً بمنظورنا نحن البشر ، وإن لم تكن أنت .. فمهما فعلت لن يجدي ، رزقك لن يأخذه أحدٌ غيرك ، ولن تأخذ رزق غيرك ، هذا ما كنتُ أؤمن به في الفترة الماضية ، لذا فعلت ما بوسعي واستسلمت تمااااماً للقدر .
وفي النهاية ..أشكرك على كل شي .. على كل نبضة قلب أهديتها .. على كل حرف كتبته .. على حسن ظنك العظيم العظيم فيّ !
اسمع لتمتمات قلبي ورددها معي :
رب عجل بخير القضاء ..
رب انزع حبي من قلبه إن كنت تعلم في سابق علمك اني لست له ..
الآن وفوررررررررراً !
رب انزع كل ميل له إن كنت تعلم في سابق علمك أنه ليس الشخص الذي اخترته لي ..
الآن وفوررررررررراً !
رب عوضه خيراً مني إلم أكن له، أسعد حياته بفتاة تملأ حياته رضا وسرور ، واجعله ينساني إلى الأبد ، رب عوضه بفتاة تجمع ميزات رآها بي - حسن ظن منه - ، و لا تجعل فيها من عيوبي التي أعلمها شي .
يارؤوف ارأف بقلبين سلما لك الأمر كله ، استسلما وعلما أنه مهما كان و مهما سيكون هو الخير بعينه ، والشر بغيره ومهما فعلا و قالا ، فدعاؤهما سيسّير القدر لما فيه خيرٌ لهما .. ثقة بك .. ونِعم بك ، وأن ماكُتب سيقع .. مهما كانت الظروف !
ربي تعلم مافي نفسيهما ... تعلم طبيعتهما وما يصلح لهما ... فاكتب الخير حيث كان ورضهما به !
أرجوك .. انتبه لدراستك وأشغل نفسك بها ، لا تنقطع عن العمل في المجلة إلى الأبد فالعمل الإعلامي يحتاجك ،أرجو أن تطمأنني على نفسك بعد هذه الرسالة ولو بحضور عابرٍ لك في المجلّة ، لم أستطع النوم بعد رسالتك !!
سامحني سامحني عن كل شيء فهذا آخر شيء بيننا ، إلى اللقاء يا إياس .. وإن لم يكتب في هذه الدنيا ؛ ففي الجنة المتلقى بإذن رب إياس ورؤى .
والله لا أعلم هل ما كتبته لك يرضاه ربي أم لا ؟ فالشيطان يقول لي .. هو ليس رجلاً أجنبياً أجنبياً ، إنما هو خاطب أجنبي .. لكن لعلها الأخيرة ... و خبايا القدر لايعلمها إلا الله !
نبض وفاء لك مادام نبضي لم يقف ...
رؤى ،
ريّان : يا أخي هذه لعّابة .. تريد أن تعلقك بها ولكن لا تريد أن تتزوج بك .
إياس : دعك من كونها لعّابة أو غير لعّابة ؛ لمّا قرأتُ أحرفها ما تمالكتُ نفسي إلا أن سجدتُ شُكراً لله ، أحسست بأن الأمل عاد من جديد ، وأن زواجي من رؤى بات غير مستحيل الآن ، فهي - إن شاء الله - لن تمانع لو تقدمت لأبيها بنفسي .
ريّان : تتقدم لأبيها ؟ يا رجل أمك خطبت لك فتاة أخرى !
إياس : أعلم .. وهذا ما جعلني أتعجل أمر خطبتها مرة ثالثة ، وجعلني لا أنام تلك الليلة منتظراً أذان الفجر لأظفر بأول خيط من الخيوط التي ستقودني إلى رؤى وأبيها ، حيث قررت أن أصلي الفجر في مسجد الدكتور ( مراد ) لأحصل منه على مكان عيادة الدكتور خالد وأوقات تواجده فيها .. ورقم جوّاله أيضاً .
ريّان : اسمح لي أن أقول بأنك متهوّر يا إياس .
إياس : ربما .. ولكني حصلت على ما أريد !