الفصل السادس عشر
إياس : آهـ من تلك الأيام .. أرجو الله أن يعفو عني ويغفر لي ، فقد كنت حينها مجنوناً حقاً لا أدرك مالذي أفعله ، كنت واقعاً تحت ضغط نفسيٍ رهيب أفقدني صوابي .. أفقدني حسن التدبير .. أفقدني فهم حقيقة ما أفعله إن كان صحيحاً أو خاطئاً ، وما أكثر ما نعيش تحت الضغوط ونعيش في دوّاماتها التي تفسد بوصلة اتجاهاتنا وتجعلنا نسير من غير هدى .. دون وعي .. ولا أدنى استشراف للمستقبل ، كم كنتُ اتمنى لو أنني خرجتُ من المكتب مبتعداً عن ضغط الحب الذي أعماني لأفكّر في الأمور وأقيّمها بشكل صحيح بدل أن أجاري التيار في نفسي والذي لم يترك لك فسحة لأن أفكر بغير الحب ( ! ) ، تعلمتُ من تلك الأيام أن أبتعدَ دوماً عن مركز التأثير النفسي قبل اتخاذ قراراتي حتى لا أصاب بالعمى فأقدم على أمور أدرك لاحقاً أنها خاطئة .. بل هي محض جنون !
ريّان : ألمس من حديثك ندمك على محبة " رؤى " ...!؟
إياس : حب رؤى ؟ هـه ! لم أندم علي محبتي لتلك الإنسانة يوماً ، لكني ندمتُ على الذي أسرفت به نفسي باسم " حب رؤى " ، فضيّعت حقوقاً وارتكبتُ أخطاءاً ودمّرتُ حياتي وجرحتُ كبريائي وشوّهت صورتي .. وآذيتُ رؤى !
ريّان : طيب ومالذي قمتَ به ؟ يبدو فظيعاً !
إياس : ألا ألتمس منك العذر بأن تقيلني عن أن أخبرك إبقاءاً على كبريائي وصورتي عندك ؟
ريّان : صورتك عندي ؟ كلنا نرتكب الأخطاء يا إياس ، من منّا ذاك الذي لم يرتكب خطاً ؟ المهم هو تصحيح المسار بعد الانحـراف وأن لا يبقى الإنسان مداوماً على نفس الخطأ الذي ارتكبه سابقاً ، أن لا يبقى أسيراً له .. فكلما أراد الخروج من مستنقع الخطأ إلى واحة الراحة والطمأنينة .. تذكّر أن ثيابه نتنة وجسده متسخ بالأوحال .. فيعود مرة أخرى وكله يأس إلى ما كان يفعله سابقاً ، هاه .. ستكمل أم ستكمل ؟
إياس : الله المستعان .. لمّا أخبرني سلمانُ بما أخبرني به ؛ بدأت أفكّر بطريقة جدّية بأن أتواصل مع رؤى بأي وسيلة كانت وأرى إن كان ثمة موانع تمنع من إتمام ما أريده ، فكثير من الزيجات توأد من البداية عند وجود بعض العراقيل أو الغموض عن أحد الأطراف ، خشيت أن يكون هناك سرٌ ما في ذهنها ولذا أقدمت لأن أكتشفه ، بقيت أفكّر لأسبوع متردداً أأقدم أم أحجم .. ولو أقدمت .. فما هي الطريقة الأكثر قبولاً .. وهل ستقبل هي تصرفي هذا أم لا .. إلخ من الأسئلة .
أتصوّر أنك تفكّر الآن بنفس ما كان يفكّر أهلي به يوماً ، وهو : ما هذه الثقة لديك بأنها ستوافق ؟ ما الثقة التي لديك بأنك ستتزوجها ؟ ولا أخفيك أني كنت أسأل نفسي كثيراً أسئلة من هذا النوع ، فأقنع نفسي أني دعوت الله كثيراً .. وأنا أثق بالله .. ومهما كان من عراقيل فسيستجيب الله دعائي .. كل ما عليّ أن لا أتعجل في طلب استجابة دعائي .
ريّان : يا إياس .. لا تناور مبتعداً .. ما الذي فعلته ؟
إياس : ذات ليلة .. بقيت في المكتب وتأخرتُ عن الانصراف ، صحيح أن أنجزتُ أعمالي لكني بقيتُ أفكرّ في وسيلة أتواصل فيها مع رؤى ، وبينما أنا كذلك إذ سمعتُ صوت الباب يُغلق من المكتب المجاور ، فرفعتُ رأسي وأنا على مكتبي لأنظر من خلال الزجاجة الصغيرة المجودة طرف الباب فإذا رؤى خارجة .. والتقت عيني بعينيها وهي تنظر إلى مكتبي في لمحة عابرة !
استعذت بالله وصرفتُ نظري سريعاً وكانت قد ولّت وذهبت ، جاءني الشيطان مستعيناً بنفسي الأمّارة بالسوء ليُزينا لي أمراً محرماً ، حيث صرتُ أشعر باللوم والتأنيب مما جرى - رغم كونه عابراً - ، كنتُ أشعر وكأن أحداً ما يُحدثني .. ( أما تخاف الله ؟ كيف تنظر إلى امرأة أجنبية لا تحل لك ؟ وكيف تفكّر أن تكلّمها ؟ لا .. لا .. يجب أن تبحث عن أمرٍ مباح تستخدمه .. وأنت نيتك الخير والزواج .. وليست تنوي فعل الحرام .. ولذا ما رأيك لو كتبت لها ورقة صغيرة وتذكر فيها ما تريد .. في هذه الحالة لن تكلمها .. لن تسمع صوتها .. لم تراها .. ولن تشم عطرها لو كانت متعطرة .. ولن تخلو بها أيضاً ! .. كل ما في الأمر ورقة .. مجرد ورقة .. ألست تقرأ لها في المجلة الأسبوعية ؟ أليست هي تقرأ لك أيضاً ؟ ما المانع إذاً لو أرسلت لها ؟ ولا تدري .. ربما يوفقك الله للزواج منها فيرزقكما الله ذرية صالحة ترفع راية الإسلام عالياً ! )
ريّان : هذا شيطان محنّك يذكّرني ببعض الكتاب ممن يزينون المنكرات .
إياس : جلستُ في مكتبي حتى منتصف الليل متظاهراً أني أنهي أعمالي حتى خرج معظم من في قسمنا من موظفي الشركة ، أخرجتُ ورقة من درجي وبدأتُ أكتب .. تحية وسلام .. ثم إظهار لاستحيائي من مراسلة فتاة .. ثم ثناء على عملها .. ثم التماس لأن تعيد النظر في موضوع ردها لي وعدم قبولها بي زوجاً ، كتبت كل ذلك بأسلوب رصين وجادٍ ليس فيه أي تمايع أو لين ، بعد ذلك ثنيتُ الورقة ووضعتها في مظروف ، ثم تسللت إلى مكتبها بخفّة ووضعتها في درجها الأوّل لتقرأها في الصباح .
خرجتُ وقلبي ينبض بين زوايا تلك الورقة ، كنتُ آمل أن تُحـدث فرقاً أو تسرّني بنتيجة إيجابية ، أشغلني التفكير بها في كل وقت .. كيف ستتقبلها ؟ هل ستقرؤها ؟ ماذا ستكون نظرتها لي ؟ هل ستكرهني ؟ هل .. هل .. هل ؟؟؟ لم أتناول طعاماً ولا شراباً في ذلك .. إي وربي .. قلقي كان مذهلاً لي عن أي شيء ، كنت أنتظر عقارب الساعة أن تتحرك .. كنت أرقبها أن تلدغ موعد ذهابي ليصرخ بي أن أسرع وانظر ماذا جرى !
ذهبت ُ مبكراً للعمل ولم أنتظر عقاربي .. كنت آملُ أن أنهي أعمالي سريعاً حتى أخرج من مكتبي سريعاً لتتمكن رؤى إن أرادت أن ترد عليّ من وضع ما ستكتبه ، وقد حصل أن خرجتُ سريعاً حقاً ثم انتحيت بسيارتي نحو إحدى النواحي ونمتُ بها منتظراً نصف الليل والجوع والقلق قد فعلا بي الأفاعيل .
ولمّا تأكدتُ أن الجميع قد ذهب عُدتُ إلى مكتبي كلي أمل وشوق لحرف ستخطّه رؤى .. لكنها لم تفعل ، أصبتُ بصدمة وألم .. ليس فقط من عدم ردها .. بل لخشيتي أن ما فعلته ربما أسقطني من عينها وبغّضني إليها فهي فتاة صالحة طاهرة تقيّة نقيّة عفيفة لا تحسن التعامل مع تلك السخافات .. وتحتقرها ، لكني - رغم ظني - ظللت أسلّي نفسي وأرقب ردها أسبوعاً ، فلربما أرادت أن تفكر في الموضوع ملياً .